الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث
دفع المعارضاتِ الفكريَّةِ المُعاصرةِ
عن حديثِ الحبَّةِ السَّوداءِ
لا شكَّ أنَّ للحبَّة السَّوداء فوائد عظيمة في علاجِ كثيرٍ من الأمراض والوقاية منها، وسترى مِن البحوث الحديثةِ ما يزخر بالتَّجارب المُثبتة لتأثير هذه النَّبتةِ المُباركةِ في ما يُعجَز عن إحصائه مِن الأدواء المتنوِّعة الَّتي تصيب النَّاس.
لكنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم في حديثِه عن فضلِ الحبَّة السَّوداء في شفاءِ الأدواء، لم يُرد الاكتفاء بها عن التَّداوي لكلِّ مرضٍ بما يناسبه مِن الأدوية الأخرى، فهو نفسُه لم يصِفها لكلِّ مريضٍ اشتكى له! بل كان يُرشد أحيانًا إلى العَسل لِمن استطلق بطنُه، وأحيانًا بالحجامة لمِن أوجعه رأسُه .. إلخ.
وهذا الحديث المشهور لا ريب أنَّه مُتداول في الأمَّة منذ عصر الصَّحابة ثمَّ التَّابعين وأتباعهم إلى يومنا هذا، لم يُنكره أحدٌ منهم بدعوى أنَّ الطِّب والواقع يكذِّبه، كما يدَّعيه مُتعجِّلة المعاصرين، لأنَّ أحدًا مِن عقلاء السَّلف ولا الخَلف فَهِم منه ما فهمِه هؤلاء مِن كفايةِ الحبَّة السَّوداء وحدَها في شفاءِ جميعِ الأمراضِ.
ومَن تأمَّل ألفاظ الحديث، بَان له الخُلف الكبير بين المُراد منها وبين ذاك الفهم المُحْدَث، فإنَّه لو قدَّرنا مَجيء لفظ الشِّفاء بالتَّعريف في الحديث هكذا:« .. هو الشِّفاء لكلِّ داء» لرُبَّما لجعلَنا ذاك الفهمِ المُحدَث نوعَ اعتبارٍ وتأويل؛
أَمَا وقد جاء لفظُ الحديث في «الصَّحيحين» بالتَّنكيرِ: «في الحبَّة السَّوداء شِفاء .. » ، وفي لفظٍ عند مسلم:« .. إلَّا في الحبَّة السَّوداء مِنه شفاء»
(1)
: فلا!
بيان ذلك في تقرير أمرين:
الأوَّل: أنَّ هذه الحروف في لفظِ المتنِ (مِن) و (في)، تُفهِم السَّامعَ معنى التَّبعيض والاجتزاء بالحرفِ الأوَّل، أمَّا الحرف الثَّاني (في) فتجعل الشِّفاء مظروفًا في الحبَّة السَّوداء على وجهِ (الظَّرفية المَجازيَّة)، وتفيد مجرَّد المُلابسة، تصلح للدَّلالة على تخلُّفِ المَظروف عن بعضِ أجزاءِ الظَّرف، لأنَّ الظَّرف يكون أوسع مِن المظروف غالبًا
(2)
، وإنَّما جِيء بهذا الأسلوبِ للدَّلالة على تمكُّن مُلابسةِ الشِّفاء إيَّاها، وإيماءً إلى أنَّه لا يقتضي أن يطَّرِد الشِّفاء بها وحدَها في كلِّ حالةٍ.
ثانيًا: لفظ «شِفاء» جاء في الحديث نكرةً، «والنَّكرة في سياقِ الإثباتِ لا تفيد العموم»
(3)
، بل يفيد ظاهرها الإطلاق فقط، أي مُطلق الشِّفاء، لا الشِّفاء المطلق!
فيكون المعنى بادي الرَّأي: أنَّ الحبَّة السَّوداء يُقال أنَّها (شِفاء): باعتبار شفائِها لكثيرٍ من الأمراضِ لا كلِّها، وهو نظير ما قاله المُفسِّرون في المُراد بكونِ العَسل {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69]
(4)
.
لكنْ لمَّا وجدنا آخر الحديث يؤكدُّ على عمومِ الأدواءِ بقوله صلى الله عليه وسلم فيه: « .. لكلِّ داء»
(5)
، قَرَنَّا بالدَّلالةِ السَّابقةِ دلالةً أخرى تفيد معنى (النِّسبيَّة) في
(1)
أخرجه مسلم في (ك: الآداب، باب: التداوي بالحبة السوداء، رقم: 2215).
(2)
«التحرير والتنوير» لابن عاشور (14/ 209).
(3)
«المقاصد الشَّافية» للشاطبي (8/ 248).
(4)
انظر «الكشَّاف» للزمخشري (2/ 619)، و «البحر المحيط» لأبي حيان (6/ 561).
(5)
الأرجح في نظري من أقوال العلماء ما ذهب إليه ابن أبي جمرة ـ كما في «الفتح» (10/ 145)، والمباركفوري في «تحفة الأحوذي» (6/ 163) وغيرهما: من بقاء هذا اللَّفظ على عمومه، فإن (كلَّ) من ألفاظ العموم لا تُخصَّص إلا بدليل، وتجويز ابن القيم لتخصيصه كما خُصِّص قول الله تعالى:{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} جمع منه بين مفترقين، فإنَّ الآية يمتنع حملها على العموم على ما هو عند كلِّ عاقلٍ معلوم، أمَّا لفظ حديثنا هذا فحمله على العموم متعيِّن لقوله صلى الله عليه وسلم فيها:« .. إلَّا السَّام» ، ومن المقرر في الأصول أن صحَّة الاستثناء معيار العموم.
الدَّواء نفسِه، أي: أنَّ الحبَّة السَّوداء شِفاء كاملٌ لبعضِ الأمراض، أمَّا باقي الأمراض وإن لم تعالجها الحبَّة السَّوداء بمُفردها، ففيها نِسبةٌ مِن شفاءِها، فتدخل في تركيبةِ الشِّفاء بوجه ما، وليس الشِّفاء الكامل الَّذي لا يُحتاج معه إلى غيره.
وهذا ما أشار إليه ابن حجر بقوله: «معنى كونِ الحبَّة شفاءً مِن كلِّ داءٍ: أنَّها لا تُستعمل في كلِّ داءٍ صرفًا، بل ربَّما استُعملت مُفردةً، وربَّما استُعملت مركَّبةً، وربَّما استُعملت مسحوقةً، وغير مسحوقةٍ، وربمَّا استُعملت أكلًا، وشربًا، وسعوطًا، وضِمادًا، وغير ذلك .. »
(1)
.
فعلى هذا؛ لا بأس من حملِ الحديث على عمومِهِ لكن بهذا الاعتبار، بأن يكونَ المُراد بذلك ما هو أعمُّ مِن الإفرادِ والتَّركيب، وهذا لا مَحذور فيه، ولا خروج به عن ظاهر الحديث، بل بهذا التَّأويلِ نكون قد جمعنا بين كِلا الاعتبارين: التَّبعيض في الأدواء، والنِّسبيَّة في الدَّواء، ليتحقَّق كون الدَّواء المذكور في الحديث شفاءً لكلِّ داء في جميعِ الأحوال، سواء كان كاملًا بمفردِه، أو بنسبةٍ منه، مع اشتراك غيره معه.
أمَّا أنَّها الشِّفاء الكامل لكثيرٍ مِن الأمراض: فأمرٌ معروف عند الأطبَّاء بل العامَّة في القديم والحديث، والمُتقدِّمون عدَّدوا كثيرًا مِن العِلل الَّتي تداويها الحبَّة السَّوداء في مؤلَّفاتهم عن الطِّب النَّبويِّ أو الأدويةِ بعامةٍ
(2)
، والدِّراسات الطبيَّة الحديثة طافحة بذكر مزايا هذه النَّبتة في علاجِ كثير من الأمراض
(3)
.
وأمَّا أنَّ الحبَّة السَّوداء فيها نِسبةٌ تدخل في دواءٍ كلِّ الأمراض: فذلك لأنَّ المعلومَ بداهةً أنَّ أيَّ داءٍ يصيب جسد الإنسان يكون لسببٍ خارجيٍّ: مثل
(1)
«فتح الباري» (10/ 144).
(2)
انظر على سبيل المثال: «الحاوي في الطِّب» لأبي بكر الرازي (3/ 412، 418)، و «القانون في الطب» لابن سينا (3/ 409)، وجمع ابن القيم أغلب ما كتبه المتقدمون فيها في «زاد المعاد» (4/ 274 - 276).
(3)
كسكَّرِ البول، وارتفاع ضغط الدَّم، وتليُّف الكَبد، والرَّبو، والقضاء على الالتهابات البكتيريَّة والفيروسيَّة والفطريَّة، بل قدرتها على تخفيضِ نسبة الدُّهون في الجسم، وحماية المعِدة مِن التَّقرح، وعلاج القُرحة، وحماية الكَبد مِن السُّموم، وغير هذا كثير انظر «الحبة السوداء في الحديث النبوي والطب الحديث» لـ د. عبد الله باموسى (ص/24)، و «الحبة السوداء» لـ د. عبد الله السعيد (ص/34).
البكتيريا، والفيروسات، والكيماويات، يصاحب هذا السَّبب الخارجيَّ قابليَّةٌ داخليَّة في الجسم لهذا المؤثِّر، ويتمثَّل في ضعفِ الجهاز المَناعي عن دفعِ تلك الأوبئة.
وللحبَّة السوداء القدرة على مقاومةِ هذه العوامل الخارجيَّة ودفعِها عن الجسم، والتَّقليل من خطرِها، كما أنَّ لها القدرة على دعمِ المقاومةِ الداخليَّة لجميع الأمراض.
وذلك أنَّها تُقوِّي الجِهاز المَناعيِّ في الجسم، وتزيد اللَّمفاويات والمُضادات الحيويَّة، وتحرِّض العَواملِ المضادَّةِ للأكسدةِ الَّتي أكثرَ الأمراض المُستعصية المتفشيَّة في هذه الأزمان، كأمراض السَّرطان، وتلفِ الكبِد والكُلى وتسمُّمِها، ونحو ذلك
(1)
.
وبهذا نفهم كيف أنَّ فيها نسبةً من شِفاءِ كلِّ داء!
ولا يزال الأطبَّاء عاكفين على استكشاف المَزايا العلاجيَّة لهذه النَّبتة المُباركة، وتجريبِها على شتَّى الأوبئةِ، والخلوص إلى مقادير دقيقةٍ مِنها، لخلطِها مع أدويةٍ أخرى مساعدةٍ، تناسبًا مع كلِّ مَرضٍ على حِدة، فليس الشَّأن أن تبلعَ الحبَّاتِ هكذا كما اتَّفق، أو تشربه لوحده، ثمَّ ترجو موافقةَ ما في الحديث مِن موعود الشِّفاء، كما فَعل صاحبُ (نيازي)! والله الشَّافي.
(1)
انظر ما يؤكد ذلك من البحوث المعاصرة في «الطِّب منبر الإسلام» لـ د. قاسم سويداني (ص/79).