الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شهد بكّار بن قتيبة القاضي بمصر والإسكندريّة ونواحيهما على ما سمّي ووصف في هذا الكتاب من أوّله إلى آخره، وعلى إحسان أمير المؤمنين أعزّه الله إلى الناكث أبي أحمد بن جعفر المتوكّل على الله، وتفضّله عليه، وما كان من تعدّيه على أمير المؤمنين وغدره، وأنّ الناكث أبا أحمد قد استحقّ بما كان منه خلعه وترك الدعاء له. وكتب بكّار بن قتيبة بيده.
وصار الخاطب إذا دعا لأمير المؤمنين في أعمال أحمد بن طولون قال بعد الدعاء: اللهمّ أكفه من ظلمه وحصره، واستنقذه ممّن أسره وجار عليه وقهره- يريد الموفّق- ثمّ يدعو للمفوّض لله جعفر بن المعتمد ووليّ عهده ولأحمد بن طولون فقط.
وخرج أمر الموفّق إلى أمصاره بلعن أحمد بن طولون على ما فعله من خلعه [ويقول]: إنّ الله عز وجل قد قرن بطاعته وطاعة رسوله طاعة أولي الأمر الذين انتخبهم الله لإعزاز دينه وإقامة معالمه، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59]. وإنّ عدوّ الله المباين لجماعة المسلمين المعروف بأحمد بن طولون أظهر ما كان منه من معصية وشقاق، وكفر ونفاق، فيما بين أقاصي المغرب إلى أكناف العراق، ومرق عن الدين، وخالف أمير المؤمنين، وأخرب ثغور المسلمين، وقاتل فيها المجاهدين، بأهل الفسق من المخالفين، واستباح حرمهم، وسفك دماءهم. فلمّا تبيّن أمير المؤمنين أمره وعرف كفره وغدره، تبرّأ إلى الله عز وجل منه، ولعنه لعنا ظاهرا، وأمر بلعنه [283 أ] ليلحقه ذلك من خواصّ الأولياء وعوامّ الرعايا. اللهمّ، العنه
لعنا يفلّ حدّه، ويتعس جدّه، ويجعله مثلا للغابرين، إنّك لا تصلح عمل المفسدين، يا ربّ العالمين.
وسار أحمد بن طولون إلى مصر، وبعث إلى بكّار بعد ما أسقط من مصر وغيرها اسم الموفّق وأزاله من على الطراز. فسأله عن امتناعه من لعن الموفّق، وقال: تتوقّف عن خلع رجل حصر الخليفة وحجر عليه وأسره واستبدّ بالأمر دونه؟
مثل هذا أيؤمن على المسلمين أو على خلافة ربّ العالمين؟
فقال بكّار لرسوله: قل له: أنت أوردت عليّ كتابا من الخليفة بتولية الموفّق العهد. فإن أوردت عليّ كتابا منه أنّه خلعه، خلعته، وإلّا لم أقل في هذا شيئا.
قال: صدقت، أتيتك بكتاب منه بتقليده العهد. فلم يرع عهده، وهو نافذ الأمر مطاع القول. وإنّه اليوم محصور مأسور مضيّق عليه.
فقال بكّار: ما أقول في هذا شيئا بغير حجّة.
فقال أحمد بن طولون: أنت شيخ قد خرفت ونقص عقلك وأعجبك قول الناس: بكّار! بكّار!
ثم أمر به فحبس.
[بعض مناقب بكّار]:
ومن مناقب بكّار أنّ أحمد بن طولون بقيت له بقيّة كبيرة من خراج على بعض المتقبّلين فاستتر وتغيّب، وعمد قبل استتاره إلى ربع نفيس في ملكه يفي بما عليه من الخراج ويفضل، فحبسه على ولده وخرج عن مصر. فرفع الخبر إلى ابن طولون فطلبه فلم يدركه. فطلب القاضي بكّار [ا] وقال له:
صاحبك- يعني أبا حنيفة رحمه الله يقول بحلّ بيع الحبس في الدّين. نحلّ حبس هذا الهارب منّا ونأخذ مال السلطان منه.
- القضاء في سنة ستّ وسبعين ومائتين.
فقال له بكّار: لا تفعل، ولا تسنّ سنّة يستنّ بها فيك؛ لأنّ لك أوقافا على وجوه، فإن حللت حلّوا عنك.
فوقف عن ذلك وكفّ عنه وشكر لبكّار مشورته [254 ب] عليه.
وباع مدين دابّة فظهرت بها عيوب فطالبوه بالرّدّ فأبى، وبالتحطيط فأبى. قالوا: فاليمين!
قال: ما حلفت على حقّ ولا باطل قطّ!
فصاروا به إلى بكّار فطالبوه فأنكر. فأرادوه على اليمين فقال: ليس في هذا حيلة.
فطمعوا في الردّ، فقال له بكّار: إمّا أن رددت، وإمّا حلفت.
فقال: أخاف أن حلفت [أن] يعاودوني.
فقال: أضعهم في الحبس.
فحلف بالغموس. ثم قال: وهذه رجحان اليمين: بلغت السماء مع الشيطان وأفنيت كواكب الرحمن، ولعبت بالكعاب في الكعبة، وأعنت عاقر الناقة على صالح، ولقيت الله بذنب فرعون يوم قال: أنا ربّكم الأعلى، وحاسبني الله على مثل مال قارون لا أعلم فيه مثقال ذرّة خير إلّا أنفقته في هدم المساجد، وخراب الثغور، وشرب الخمور، والجمع على الفجور، وضرب العود والطنبور، والقمار بالطيور، والكفر ببعث من في القبور، إن لم أكن قدّمته بعشر دوابّ كانت تخلع أرسانها، فكان هذا الدائن يجيء يصلح أرسانها بفمه قليلا قليلا، فكان السائس يزيد في شعيره لهذا السبب.
فضحك بكّار حتى أمسك بطنه بيده وقال: لو عرفتم صاحبكم لما تعبتم. انصرفوا راشدين!
قال محمد بن موسى سقلاب: سمعت بكّار القاضي، وذكر في مجلسه الوعيد، فقال: الدليل على أنّ الله تعالى يخلف وعيده قوله عز وجل:
* لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب: 60]. والله ما انتهوا، وما أغراه بهم ولقد جاوروه.
ولبكّار عدّة مصنّفات، منها: كتاب الشروط، وكتاب المحاضر والسجلّات، وكتاب العهود والوثائق، وهو كبير، وكتاب نقض فيه على الإمام الشافعيّ في ردّه على الإمام أبي حنيفة (1). وسبب تصنيفه أنّه نظر في مختصر المزنيّ فوجد فيه ردّا على أبي حنيفة، فقال لبعض شهوده: اذهبا واسمعا هذا الكتاب من أبي إبراهيم المزنيّ، فإذا فرغ منه قولا له: سمعت الشافعيّ يقول ذلك؟
- واشهدا عليه به. فمضيا وسمعا من المزنيّ المختصر وسألاه: أنت سمعت الشافعيّ يقول ذلك؟
قال: نعم.
فعادا إلى القاضي بكّار وشهدا عنده على المزنيّ أنّه سمع الشافعيّ يقول ذلك. فقال بكّار:
الآن استقام لنا أن نقول: قال الشافعيّ.
ثمّ ردّ على الشافعيّ بهذا الكتاب.
وكان بكّار قد لقي في قدومه إلى مصر محمد بن أبي الليث قاضي مصر قبله وهو خارج إلى العراق، فقال له: أنا رجل غريب، وأنت قد عرفت البلد، فدلّني على من أشاوره وأسكن إليه.
فقال: عليك برجلين: أحدهما عاقل، وهو يونس بن عبد الأعلى، والآخر زاهد وهو أبو هارون موسى بن عبد الرحمن.
فقال بكّار: صفهما لي.
(1) ذكره البغدادي في هديّة العارفين 1/ 233 بعنوان: الرد على الشافعيّ.