الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقدم قلعة الجبل سحر يوم الأربعاء ثالث عشر ذي القعدة. فلمّا كان الليل استدعاه السلطان.
فلمّا مثل بين يديه قبّل الأرض. فأجلسه وأخذ يعنّفه ويعدّد عليه ما فعل به حتى فرغ، وهو ساكت. ثمّ قال: يا مولانا السلطان، كلّ ما قلته فعلته، وما بقي إلّا مراحم مولانا السلطان.
فقال له [318 أ]: اليوم أنا أستاذك؟ وبالأمس تقول لمّا طلبت إوزّا مشويّا: أيّ شيء يعمل بالوزّ؟
الأكل هو عشرون مرّة في النهار؟
ثمّ أمر فأخرج إلى موضع خال فتوضّأ وصلّى العشاء الآخرة، وأتاه السلطان في خواصّه وقتله (1). ثمّ حمل على جنوية (2) وغسّل من الحوض الذي تحت القلعة. واشترى له بعض الرّكابين قطنا بربع درهم وكفّنه في تربة الفارس اقطاي خلف القلعة في ليلة الجمعة النصف من ذي القعدة سنة تسع وسبعمائة.
وبيعت تركته فوجد له شيء كثير إلى الغاية، منه ثمانون بدلة ثياب كاملة.
ثمّ نقل منها بعد موته إلى تربته بسفح المقطّم.
[مناقبه]:
وكان من خيار ملوك الدولة التركيّة، صالحا، عابدا، معدودا من فرسان الخيل، قويّ (3) الشوكة، عظيم الحرمة، محترما عند الخاصّة والعامّة، إلى أن ولي السلطنة [ف]- زالت حرمته وذهبت مهابته من قلوب جميع الناس. وبقي له دينه وورعه وعفّته وطهارة ذيله وقلّة أذاه وصدق كلامه.
ووفّى للأمير سلّار بما عاهد عليه وثبت، فلم
يتغيّر ولا مال مع من ميّله عنه، ولا أصغى إلى كثرة إغرائهم، حتى إنّ أمره لمّا اضطرب قال في بعض الليالي لمؤذّنه شمس الدين محمد البلخي:
إيش تسمع؟
فقال: الذي أسمعه: أنا أختصر للسلطان بيت شعر من قول المتنبّي [البسيط]:
أيملك الملك، والأسياف ظامئة
…
والطير جائعة، لحم على وضم؟
فقال: ويلك، بس تفسّر أنت والمتنبّي، والله لا لقيت الله تعالى بدم مسلم قطّ!
وكان له في حياته صدقات ومعروف على الأيتام وأرباب البيوت، وكان له وهو أمير سبعمائة مملوك.
1005 - بيبرس الأحمديّ [- 746]
(4)
[318 أ] بيبرس الأحمديّ، الأمير ركن الدين، أحد المماليك المنصوريّة قلاوون ومن جملة البرجيّة.
ترقّى في الخدم إلى أن عمله الملك الناصر محمد بن قلاوون أمير جندار مقدّم ألف بعد قبضه على بكتوت الفتّاح في شوّال سنة تسع وسبعمائة.
ثمّ عمله أمير سلاح، فاستمرّ إلى أن قبض عليه وعلى الأمير سيف الدين أيبك الروميّ المنصوري في رابع عشرين شوّال سنة ثلاث عشرة [وسبعمائة]، وبعث إليه مع الأمير قجليس يقول له: أنت وأيبك خوشداشك قال لكما المنجّمون بأنّه يتسلطن وأنت وافقته على هذا.
فلمّا بلّغه قجليس ذلك قال: اللهمّ إن كان هذا
(1) السلوك 2/ 81؛ والنجوم 8/ 275 أكثر تفصيلا.
(2)
الجنوية: أضلاع من لوح يسيّج بها.
(3)
في المخطوط: بأقوى.
(4)
الوافي 10/ 353 (4848)؛ الدرر 2/ 35 (1372)؛ المنهل 3/ 479 (724)؛ السلوك 2/ 698؛ النجوم 10/ 143.
الأمر صحيحا فقسّ قلب السلطان علينا، وإن كان كذبا فحنّن خاطره علينا! .
فأعاد قجليس قوله على السلطان، فقال: عد وفكّ قيده فإنّه ما يكذب.
ففكّ القيد وأتاه به، فأنعم عليه بإمرته على عادته. ولم يعرف عن السلطان أنّه قبض على أمير وأفرج عنه، غيره.
وما زال على مكانته حتى مات السلطان، وكانت تلك الاختلافات من بعده. [ف] أراد الناصر أحمد أن يقبض عليه فاحترس على نفسه وانقطع عن الخدمة وأظهر أنّه مريض. فأخرج لنيابة صفد. ثمّ كتب لآق سنقر الناصريّ نائب غزّة بالقبض عليه بصفد، فإلى أن يجمع أقسنقر عسكر غزّة ويسير بهم بلغ خبره الأحمديّ. فسار من صفد [318 ب] وقد لبس للحرب هو ومماليكه.
فقاتله عسكر صفد فقتل منهم خمسة ومضى إلى دمشق فقدمها، وبها الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب، والأمير طرنطاي الحاجب، في عدّة من خشداشيّته، فتلقّوه وأكرموه.
فلم يكن غير يومين حتى قدم كتاب الناصر أحمد من الكرك، وقد سار إليها من قلعة الجبل وأقام بها، يأمر فيه بالقبض على الأحمديّ، فأجابوا بالسمع والطاعة، ودسّوا للأحمديّ بأن يركب للحرب، ثم ركبوا حتى واجهوه وكاسروا عن قتاله وأعادوا القاصد بجواب غير طائل.
وكتبوا إلى أمراء مصر، وإلى آي دغمش نائب حلب، وإلى الحاج آل ملك نائب حماة، حتى انتقضت دولة أحمد وتسلطن الصالح إسماعيل بن محمد، فكتب إليه بنيابة طرابلس فتوجّه من دمشق إليها فأقام بها نحوا من شهرين.
ثمّ طلب إلى مصر، وولي طرابلس عوضه الأمير أروم بغا (1)، فلمّا قدم الأحمديّ إلى قلعة الجبل، أنعم عليه بإمرة. وجهّز [هـ] لحصار الناصر أحمد في الكرك، فبالغ في ذلك فلم ينل منه غرضا، وعاد إلى القاهرة.
فأقام بها حتى مات في [
…
] سنة ستّ وأربعين وسبعمائة، وقد قارب الثمانين سنة.
وكان فيه برّ وكرم نفس وإيثار للفقراء، مع الشجاعة، وحسن الشكالة، وقوّة النفس، وشدّة البأس، والديانة والصيانة. وله عناية باقتناء الخيول المسوّمة والمماليك الحشمة، ولم يركب قطّ حجرة، وإنّما يركب الفحولة. وكان يحبّ الشجعان، ولا يزال يأخذ مماليكه بالمواظبة على اللعب بالرمح والرمي بالنشّاب، ويعنى بآلات الحرب، حتى إنّه بعد خروجه من صفد وهو لابس ومماليكه فضل عنه ثمانون قرقلا (2) وثمانون بركصطوان (3) ومائة خوذة ونحو خمسين ألف فردة نشّاب، وغير ذلك من السروج والآلات.
وكان أحد من يسار إليه بعد الملك الناصر محمد في التولية والعزل. وهو الذي قوّى عزم الأمير قوصون على إقام [ة] أبي بكر ابن الناصر في السلطنة وخالف رأي الأمير بشتاك، ثمّ لمّا أخذ أبو بكر في اللعب قال في القصر: إيش هذا اللعب؟ - فانفلّ ندماء السلطان المنصور أبي بكر.
(1) في المنهل: أرنبغا وكذلك في السلوك 2/ 637.
(2)
القرقل: نوع من الدروع تتّخذ من صفائح الحديد المغشّاة بالديباج؛ السلوك 1/ 746.
(3)
البركصطون وهو ما يسمّى أيضا التجفاف: كساء مركزس يلبس للخيل إمّا للوقاية وإمّا للزينة؛ السلوك 1/ 177 (هامش) ودوزي.