الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[باب الأيمان والنذور]
[2453]
حديث عبد الرحمن بن سمرة- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تحلفوا بالطواغى ولا بآبائكم) قيل: إنها جمع طاغية، وليس من الطواغيت، فلعله أراد بها من جاوز الحد في طغيانه من عظماء الكفر ورؤسائه، ويشبه أن يكون أراد بها الأوثان، على ما ورد في الحديث: طاغية دوس، وطاغية فلان، وهي مصدر جاءت على فاعلة، ومعناها الطغيان، سميت الأوثان بها؛ لأنها من أعظم ما يطغى الإنسان بها، فكأنها نفس الطغيان، حتى أن الطغيان لو قدر أن يكون شبحا لكانت الأوثان ذلك الشبح.
وفي بعض الروايات: (ولا بالطاغوت) والطاغوت: عبارة عن كل متعد وكل معبود من دون الله، ووزنه- فيما قيل- فعلوت، مثل جبروت وملكوت، وهو وإن جاء على وزن (لاهوت) فهو مقلوب؛ لأنه من طغا، و (لا هوت) غير مقلوب؛ لأنه من (لاه) وعلى هذا قيل: إنه بمنزلة (الرغبوت، والرهبوت) أصله: (طغووت) لكن قلب لام الفعل، ثم قلب الواو ألفا؛ لتحركه وانفتاح ما قبله.
وأرى أن المراد من النهى في هذا الحديث هو: النهى عن الغفلة عن محافظة اللسان [78/أ] فيجرى عليه ما قد تعوده زمان الجاهلية، فإن القوم كانوا قبل أن أنعم الله عليهم بالإسلام يحلفون بالطواغى، وقد نشأوا على ذلك، وجرت بذلك ألسنتهم، فلم يؤمن عليهم زلة اللسان، فنبهوا على التيقظ في محاوراتهم؛ لئلا ينتهز عنهم الشيطان فرصة. هذا وجه الحديث، ومعاذ الله أن يظن بهم أنهم [كانوا] يتسامحون نفسه ويقاولون به حتى نهوا عنه، فإن ذلك مما لا يظن بأقل المسلمين علما، وأسخفهم رأيا، فكيف بالقرن الذين هم أصدق القرون إيمانا، وأخلصهم طاعة، وأرضاهم سريرة وعلانية.
ومما يبين صحة ما ذهبنا إليه حديث سعد بن أبى وقاص- رضي الله عنه أنه قال: (حلفت باللات والعزى، وكان العهد حديثا، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: (إني حلفت باللات والعزى، وكان العهد حديثا، فقال: قلت هجرا، اتفل عن يسارك ثلاثا، وقل: لا إله إلا الله وحده، واستغفر الله- عز وجل ولا تعد) قوله: (لا تعد) حث على التيقظ وملازمة الحزم، على ما ذكرنا.
وأما النهى عن الخلف بالآباء، فإنهم كانوا يحلفون بآبائهم، لا يرون به بأسا، حتى نهوا عنه. وقد ذهب فيه بعض العلماء إلى النسخ؛ طلبا للتوفيق بين ما نقل فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة، وبين النهى الوارد فيه، ولا أراها إلا زلة من عالم، فإن النسخ إنما يتأتى فيما كان في الأصل جائزا. وروى عن ابن عمر- رضي الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد أشرك) وكل ما
كان راجعًا إلى إخلاص الدين وتنزيه التوحيد عن شوائب الشرك الخفيّ، فإنّه مأمور به في جميع الأديان القويمة، وسائر القرون الخالية، وإنما الوجه فيه - والله أعلم - أن نقول: قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طلحة بن عُبيد الله رضي الله عنه: (جاء رجلٌ
من أهل نجد ثائر الرأس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
) الحديث (أفلح وأبيه إن صدق) وفي حديث فجيع العامريّ: (ذاك وأبى الجوع) وفي حديث أبي هريرة (لتنبّأنّه وأبيك) للرجل الذي سأله: (أي الصدقة خير).
أما قوله - في حديث طلحة -: (أفلح وأبيه) فقد زعم بعضهم أنّه تصحيف (والله) ونحن نرويه عن كتاب مسلم: (أفلح وأبيه) وعلى هذا فإنه ليس بحلفٍ، فإنّه صلى الله عليه وسلم لم يكن ليحاف بغير الله، وقد أخبر أنّه شرك، وإنما هو تدعيم للكلام وصلة له، وهذا النوع [78/ب] وإنْ كان موضوعا في الأصل لتعظيم المحلوف به - فإنمهم قد اتّسعوا فيه، حتى كانوا يُدَعمون به الكلام ويُوصِلونه، وهذا النوع لا يُراد به القسم. ومنه قول ابن ميّادة:
أظنّت سفاهًا من سفاهة رأيها .... لهجوها، لا هجتني محاربُ
فلا وأبيها، إننيّ بعشيرتي .... ونفسي عن ذاك المقام لراغبُ.
فهذا وجه قوله: (أفلح وأبيه) إنّ صحّ وسلم من اختلاف الروايات، وكذلك في حديثي أبي هريرة رضي الله عنه وفجيع، إن ثبتا.
وأمّا غير النبي صلى الله عليه وسلم ممن جمعه زمان النبوة؛ فإنّ بعضهم كانوا يحلفون بآبائهم؛ تعظيمًا لهم، وبعضهم عادة، وبعضهم عصبيَّة، وبعضهم للتوكيد، وقد أحاط بسائرها دائرة للنهيّ، وإن كان بعضها أهونّ من بعضٍ؛ لئلا يلتبس الحقّ بالباطل، ولا يكون مع الله محلوفٌ به، والنبي صلى الله عليه وسلم وإن امتاز عن غيره بالعصمة عن التلفّظ بما يكاد أن يكون قادحا في صرف التوحيد، ولا يُشبه حاله في ذلك حال غيره، فالظاهر أنّ اتساعه في استعمال هذا اللفظ، قد كان قبل النهي ولم يعدْ إليه بعده؛ كيلا يقتدي به من لا يهتدي إلى صرف الكلام.
[2455]
ومنه: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ثابت بن الضحاك الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه: (مَن لعن مؤمنا فهو كقتله، ومَن قَذف مؤمنا بكفر فهو كقتله) ليس معنى قوله: (إنّه كقتلهِ) من سائر الوجوه، بل من وجهٍ دون وجهٍ، وهو أن الله - تعالى - كما حرّم قتل المؤمن، حرّم لعنه وقَذفه بالكفر، فهما في التحريم كقتله، إلاّ أن يكون مستحلا، فيستوي الأمر في سائرها.
[2455]
ومنه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: (والله، لأن يلج أحدُكم بيمينه في أهله - الحديث) لجِجت - بالكسر - أَلَجُّ - بالفتح، من اللج، واللجاجة، ولَجَجت - بالفتح، ألجُّ - بالكسر لغةٌ فيه. أراد به الرجل يحلف على الشيء أن لا يفعله، وقصدُه فيه اللجُّ مع أهله، فإذا سئل أن يفعل تعلّل باليمين، والحديث يقرب في المعنى من قوله - سبحانه -:{ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس} وقوله: (آثم) أي: هو بصنيعه ذلك آثمُ منه، أن لو فعل المحلوف عليه وأعطى الكفارة، ولم يُرد بذلك أن في تكفير تلك اليمين إثمًا، حتى يكون في تركه أشدّ وآكد؛ لأن الشرع ورد بتكفير اليمين في تلك الصورة من غير حرج.
ولكنّه أخرج الكلام مخرج المعارضة فيما يدّعيه من السبرّ، في التعلّل [79/أ] باليمين عند اللجاجة، فكأنّه قال: إن كان يرى في تلك اللجاجة وتكفير اليمين إثما، فهو فيما آتخذه ذريعة إلى الامتناع عن فعل ما هو أسلم وأ [ر له، أشدّ وزرًا وأكثر إثما. ونقل عن بعضهم في تفسيره، أنه قال: استحل فلانٌ متاع فلان وتلجَّجَه: إذا ادّعاه، فذهب في معنى اللج إلى ادّعاء البِرّ. وقد قيل فيه غير ذلك. والوجه فيه ما قدّمنا.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة: (وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها، فكفر عن يمينك.
[2460]
ومنه: حديثهُ الآخر، عن النبي صلى الله عليه وسلم:(يمينك على ما يصدّقك عليه صاحبُك).
المراد منه: اليمين الواجبة في الدعوى الذي يدّعيه من تسعه دعواه على من لا يسعه الجحود، فلا يحلّ له أن يورى فيها، بل يأتي بها في الظاهر على النعت الذي هي عليه في الباطن، وإذا لم يكن المدَّعِى محقاً فالمدَّعَى عليه في سعة من ذلك.
وقد أشار الشيخ أبو جعفر الطحاوي في كتاب مشكل الآثار إلى نحو هذا المعنى، واستدلّ عليه بحديث سُويد بن حنظلة أنّه قال: "خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا وائل بن حُجر الضرميّ، فأخذه عدوّ له، فتحرّج القوم أن يحلفوا وحلفت أنّه أخى، فخلّوا سبيله، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال:(صدقت المسلم أخو المسلم).
(ومن الحسان).
[2465]
حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (مَن حلف بالأمانة فليس منّا) أي: ليس ممن ينضوي إلينا، ولا من ذوى الأسوة بنا لمخالفته هدينا. قيل: إنما كره ذلك؛ لأنه غير داخل
في أسماء الله وصفاته، فلم ير أن يحلف به. ويحتمل أن يكون الحلف بالأمانة من مبتدعات أهل الكتاب، فكرهه، مع ما فيه من العدول في الحلف عن أسماء الله وصفاته، فنفى الحالف عن نفسه بالتبرّى عنه، هذا إذا حلف بالأمانة، أمَّا إذا حلف بأمانة الله، فقد اختلف فيه أقاويل العلماء، والمشهور عن أبي حنيفة - رحمة الله عليه - أنّ يمينه ينعقد، فجعل أمانة الله من أقسام الصفات؛ لأن من أسماء الله الأمين، وأحلّها محل الإرادة من المريد، والقدرة من القدير، ويحتمل أن يقال: إنّه في معنى كلمة الله، على ما يذهب إليه غير واحد من علماء التفسير في تأويل قوله - سبحانه -:{إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال} فقالوا الأمانة: كلمة التوحيد، ولا مخالفة بين قول من يجعل الحلف بأمانة الله [79/ب] يمينا، وبين ما ورد فيه الحديث، فإن النهي ورد في الحلف بالأمانة، لا بأمانة الله، وقد روى عن أبي يوسف خلافهُ.
واختيار الطحاوي: أن اليمين لا تنعقد بأمانة الله، سواء نوى اليمين أو لم ينو.