الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن
كتاب الأقضية والشهادات
[2729]
حديث بن مسعود- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (من حلف على يمين صبر
…
الحديث) يريد يمينا يصبر فيها أي: يحبس فيصير ملزماً باليمين، ولا يوجد ذلك إلا بعد التداغي. والأصل في الصبر الحبس. وقد ذكرنا فيما مر قوله:(على يمين صبر) أقام اليمين مقام المحلوف عليه، أو أراد حلف على تلك الصيغة.
[2730]
ومنه حديث أبي أمامة بن ثعلبة الأنصاري الحارثي- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من اقتطع حق امرئ [مسلم] بيمينه .. الحديث) اقتطع أي: ذهب بطائفة من ماله ففصلها عنه. يقال: اقتطعت من الشيء قطعة. وأما وجه قوله: (أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة) قد ذكرنا فيما تقدم أن ما ورد من الوعيد على هذا المنوال فإنه لا يحكم به في حق المؤمن، إلا أن يحمل على تحريهما في وقت مؤقت دون التأبيد. وإنما يخرجه الشارع هذا المخرج تعظيماً للأمر وتهويلاً منه، ومبالغة في الزجر وذلك؛ لأن المرتكب هذه الجريمة قد بلغ في الاعتداء الغاية القصوى حيث انتهك حرمة بعد حرمة.
إحداهما: اقتطاع مال لم يكن له ذلك. والثانية: الاستخفاف بحرمة وجب عليه رعايتها وهي حرمة الإسلام وحق الإخوة. والثالثة: الإقدام على اليمين الفاجرة. وإذا عدلنا فيه عن هذا التأويل، فلا سبيل إلا أن يحمل على المستحل لذلك ديناً وملة.
[2731]
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة- رضي الله عنها: (ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته) أي: أفطن بها. من اللحن- بفتح الحاء- وهو الفطنة. وإنما ابتدأ في الحديث بقوله: (إنما أنا بشر) تنبيهاً على أن السهو والنسيان غير مستبعد من الإنسان، وأن الوضع البشرى يقتضي أن لا يدرك من
الأمور إلا ظواهرها فإنه خلق خلقاً لا يسلم من قضايا تحجبه عن حقائق الأشياء. ومن الجائز أن يسمع الشيء يسبق إلى وهمه أنه صدق ويكون الأمر بخلاف ذلك، وأنى إن تركت على ما جبلت عليه من القضايا البشرية ولم أؤيد بالوحي السماوي طرأ ما منها [98/ب] ما يطرأ على سائر البشر. فإن قيل: أو لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مصوناً في أقواله وأفعاله معصوماً على سائر أحواله؟
قلنا: غن العصمة تتحقق فيما يعد عليه ديناً ويقصده قصداً. وما نحن فيه فليس بداخل في جملته، فإن الله تعالى لم يكلفه فيما لم ينزل عليه إلا ما كلف غيره، وهو الاجتهاد في الإصابة، يدل عليه ما روى عنه في الحديث الذي ترويه أم سلمة من غير هذا الوجه، وهو في حسان هذا الباب:(إنما أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل على).
فإن قيل: أفيجوز أن يظن به في الحكم غير الحق وفي الاجتهاد سوى الإصابة قلنا: عوذاً بالله مما قدرت أو ما علمت أن كتمان الحق من الشهود واستمرار أحد المتداعيين على الباطل وعجز أحدهما عن تقرير الحق في نصابه لا يعود على الحاكم بخطأ أو جور، فإن ذلك لم ينشأ من قبله، ولم يكن من كسبه.
وجملة القول في هذا الباب أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم اما كان أسوة للعالمين، أخذ به في أحكام الشريعة مسلكاً يتيسر للتابعين سلوكه، ويتضح للمتقدمين نهجه. ولو كشف له الغطاء، وأزيل له الخفاء في الأحكام الجارية بين العباد عن الحق الأبلج والصدق الصراح بالوحي السماوي، لم يدرك المؤتى به شأوه، ولم يعرف الناقل عنه مأخذه ومغزاه، ثم كان ذلك أيضاً سبباً لكشف الأسرار، وذريعة إلى هتك الأستار، وألجئ الخلق فيه إلى الحق من غير اختبار في أخبار الديانات، واختيار موجب للمتوبات والعقوبات، وبغيرهما جرت سنة الله في العباد والبلاد.
وقد كان المنافقون يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول الزور، فيكتفي عنهم بالظاهر منه، إما لأن الله تعالى، زوي عنه علم ذلك، وإما لأن الله تعالى ائتمنه عليه فخصه به، وقد كان القاذف يحد، وربما كان صادقاً في حديثه فلا يبين له، وكذلك المتلاعنان، كل ذلك بعلم الله وأمره وقضائه وقدره في عباده {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة} هذا، ومن تدبر هذا الفصل وتصور هذا القول، سهل له سبيل السلامة عما يكاد يحيك في النفوس، أو يختلج في الصدور من أحاديث هذا الباب، والله الملهم للصواب.
[2732]
ومنه حديث عائشة- رضي الله عنها[99/أ] عن النبي صلى الله عليه وسلم (قضى بيمين وشاهد) وجه هذا الحديث عند من لا يرى باليمين والشاهد الواحد على المدعى عليه أنه محتمل؛ لأن يكون قضى بيمين المدعي عليه بعد أن أقام [المدعي] شاهداً واحداً، وعجز أن يتم البينة، وذلك لأن الصحابي لم يبين في حديثه صيغة القضاء. وقد روي عن ابن عباس بطرق مرضية ان النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع
الشاهد، وهذه الرواية تقوي ذلك الاحتمال، ولا يترك مع وجود ذلك الاحتمال ما ورد به التنزيل قال الله تعالى:{واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} وقال {وأشهدوا ذوي عدل منكم} فلما ورد التوقيف بذلك لم يروا أن يحكموا بأقل من ذلك إلا بدليل مقطوع به. واستدلوا أيضاً بحديث وائل بن حجر الذي يتلو حديث ابن عباس هذا، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم:(ألك بينة) قال: لا قال: (فلك يمينه) فلما أعاد عليه القول قال: (ليس لك منه إلا ذلك) وقد ذكروا في اختلاف الروايات وما روى بخلافه عن بعض التابعين أن القضاء بيمين المدعي وشاهد لم يكن إلا بعد الخلفاء الراشدين ما لم نر التعرض له؛ حذراً عن الإطالة.
[2734]
ومنه حديث وائل بن حجر الحضرمي- رضي الله عنه (جاء رجل من حضر موت ورجل من كندة .. الحديث) الحضرمي هو ربيعة بن عيدان بفتح العين وياء منقوطة بثنين من تحت. ومن الرواة من يكسر العين، والكندي هو امرؤ القيس بن عابس، وهما اللذان عناهما الأشعث بن قيس في حديثه، وهو في الحسان من هذا الباب.
[2736]
ومنه حديث زيد بن خالد- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بخير الشهداء .. الحديث) أراد به الشاهد الذي يكون ذاكراً لشهادته، متربصاً للأداء، متحرجاً عن الكتمان، فإذا علم بالمشهود له حاجة إلى أدائها سبق إعلامه إياها بما عنده سؤاله عنها. وعند كثير من العلماء إقامة الشهادة [99/ب] قبل السؤال غير قادح في العدالة، ولا مفض إلى التهمة، ويرون قول النبي صلى الله عليه وسلم:(ويشهدون ولا يستشهدون) محمولاً على أنه فيمن لم يستشهد في بدء الأمر فشهد بالزور ليتوافق الحديثان.
قلت: ولو حمل قوله: (ويشهدون ولا يستشهدون) على من يأتي بها قبل المطالبة [اعتناء] بالمشهود له، وعناداً مع المشهود عليه، وحرصاً على أذيته، لم يلزم منه اختلاف.
[2737]
قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود- رضي الله عنه: (ثم يجئ قوم تسبق شهادة أحدهم
يمينه)، أشار بذلك إلى أنه يكون ظنيناً في شهادته، مغموضاً عليه في أمور الديانات، لا يعبأ بشهادته لاشتهاره بالزور، فتارة يحلف على شهادته قبل أن يأتي بها، وتارة يشهد فيحلف عليها تزجية للشهادة باليمين.
(ومن الحسان)
[2741]
حديث جابر- رضي الله عنه في حديثه: (أنها دابته نتجها)، أي: ولدها، ومصدرها النتج، وقد بين معنى النتج، والنتاج مستوعباً في باب القدر.
[2745]
ومنه حديث الأشعث بن قيس الكندي- رضي الله عنه: (كان بيني وبين رجل من اليهود .. الحديث) الرجل اسمه معدان أبو الخير، ويقال: جفشيش، والأثبت والأكثر أن معدان هو جفشيش وجفشيش. لقب ومعدان هو اسم. وقيل: هو جرير بن معدان. ويقال: جفشيش بالجيم والحاء وبالخاء والأكثر الجيم.
وقد اختلفت أقاويل الحفاظ في المتحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع الأشعث، فذكر أبو نعيم في كتابه أنه جفشيش، وذكره أيضاً الحافظ المقدسي أبو الفضل، على ما ذكره أبو نعيم فإن كان الأمر على ذلك فلا نراه إلا وقد أسلم يعد أن كان يهودياً؛ لأنه مذكور في كتب المعارف في جملة من يذكر من الصحابة، ذكره ابن عبد البر وغيره، وعلى ما ذكره ابن عبد البر فإنه غير المتحاكم مع الأشعث، فقد روي عن الشعبي عن الأشعث قال:(كان بين رجل منا وبين رجل من الحضرميين، يقال له: الجفشيش خصومة في أرض) فإن كان هذا أثبت الروايتين، فهما غير اللذين ذكرا في حديث وائل بن حجر [والله أعلم].
[2748]
ومنه حديث جابر- رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحلف أحد عند منبري هذا- الحديث) وجه ذكر المنبر فيه، عند من يرى ذلك تغليظاً في اليمين ظاهر، وأما عند من لا يرى التغليظ يتأتى في شيء من الأزمنة والأمكنة، فالوجه فيه أن يقال: غنما جرى ذكر المنبر؛ لأنهم كانوا يتحاكمون ويتحالفون يومئذ في المسجد، فاتخذوا الجانب الأيمن منه، وهناك المنبر محلا للأقضية. وقد وجدت القاضي بالمدينة- عظم الله حرمها وعلى ساكنها الصلاة والسلام- يحكم عند المنبر، فذكر في الحديث على ما كان. وأرى
هذا تأويلاً حسناً، لا نرى العدول عنه، لئلا نفتقر ان نعدل بالحلف بالله شيئاً. واليمين الآثمة موجبة لسخط الله ونكاله على أية صيغة كانت.
[2750]
ومنه حديث عائشة- رضي الله عنه ترفعه يعني: إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة .. الحديث). ذهب بعض أهل العلم إلى أن لا اختصاص للخيانة في هذا الحديث بأمانات الناس دون ما ائتمن الله عليه عبادة من أحكام الدين قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم} . وهذا القول وإن كان حسناً من طريق الاستنباط، مستقيماً من حيث التقرير المعنوي، فإن حمله في هذا الحديث على أمانات الناس أوجه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يتلوه من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده:(ولا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا زان ولا زانية) ولو كان الأمر على ما قدره لاستغنى بذكر الخيانة عن ذكر الزنا، فعلمنا أنه أراد بالخائن: الخائن الذي يخون في أمانات الناس، وعلى هذا وجدنا استعمال هذا اللفظ في الأكثر والأغلب من اللغة العربية، والخيانة- إن كانت من جملة الخفيات التي لا يطلع على حقيقتها إلا عالم الأسرار- فإنها تعرف بالدلالات والأمارات، وأراد بالخائن: الذي لا يكاد يخفي أمره على ذوي المعرفة به، لاشتهاره بالخيانة، وظهور ذلك عنه كرة بعد أخرى.
وفيه: (ولا مجلود حدا) الأقرب أن يكون المجلود هذا الذي جلد في القذف، على ما ورد به التنزيل وإن ذهب ذاهب إلى أن المراد منه الفاسق الذي عرف بالفسق وتبين منه ذلك، بما أقيم عليه من الحد، ولم ير منه فيئة، ولم يعلم له توبة، فله محمل، والوجه هو الأول.
وفيه: (ولا ظنين في ولاء ولا قرابة) قيل: إن الظنين في الولاء هو الذي ينتمي إلى غير مواليه، وعلى هذا، فالظنين في القرابة هو الذي ينتسب إلى غير أبيه، أو إلى غير دويه، والظنين بالظاء- هو المتهم، ولعل العلة في رد شهادتهما التباسهما بما يقبح في الأحدوثة، وانتهاجهما، في ذلك منهجاً لا يرضى به ذو دين ولا مروءة، وذلك إذا كانا مؤثرين للانتماء قصداً منهما، وكل ذلك من نواقض العدالة.
وفيه: (ولا القانع مع أهل البيت) هو كالتابع والخادم. وأصله السائل، وذلك لوجود التهمة في جر المنفعة إليهم، وكل ما وجد أحاديث هذا الباب غير معمول به عند بعض العلماء، فلا يخلو عن وهن في الحديث، أو ترجيح فيما يخالفه من طريق الرواية، أو احتمال تأويل يستقيم معه الجمع بين المختلف فيه من الروايات.
[2752]
ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجوز شهادة بدوي على صاحب القرية) ذهب إلى ظاهره بعض العلماء، والوجه فيه- على قول من يرى خلاف ذلك- أن يقال: يحتمل أن يكون معنى قوله: (لا تجوز) أي لا يحسن ذلك، ولا يرتضى؛ لحصول التهمة ببعد ما بين الرجلين، ثم لتعذر الوقوع بالبدوي عند الحاجة إلى إقامة الشهادة.
[2753]
ومنه حديث عوف بن مالك- رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين، فقال المقضي عليه لما أدبر: حسبي الله ونعم الوكيل .. الحديث) العجز: أصله التأخر عن الشيء وحصوله عند عجز الأمر، وصار في التعارف اسماً للقصور عن فعل الشيء، وأريد به هاهنا التأخر عن الأمر بترك التدبير، والتقاعس عن مظان الطلب، والكيس ضد الأحمق. وأريد به هاهنا: التيقظ في الأمر وإثباته من حيث يرجى حصوله، وقد تبين لنا من نسق الكلام أن الرجل كان متكاسلاً لم يعط خصمه في الجواب حقه، ثم عرض بقوله: حسبي الله ونعم الوكيل أن صاحبه تعدى عليه فيما ادعاه، فبين له نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه سلك في ذلك في سبيل العجز، فصار ملوماً من قبل الله، حيث ترك ما أقام له من الأسباب ويسر عليه من المقال، وإنما كان عليه أن يبذل مجهوده في بيان الحق، وكف المتغلب عن العدوان، ثم إن غلبه الأمر وعز عليه المطلب، فلم يجد إلى الدفع سبيلاً حسن فيه أن يقول: حسبي الله ونعم الوكيل.