المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ كتاب الجهاد - الميسر في شرح مصابيح السنة للتوربشتي - جـ ٣

[التوربشتي]

فهرس الكتاب

- ‌ كتاب النكاح:

- ‌ باب النظر إلى المخطوبة وبيان العورات

- ‌ باب الولي في النكاح واستئذان المرأة

- ‌ باب إعلان النكاح والخطبة والشرط

- ‌ باب المحرمات

- ‌ باب المباشرة

- ‌ باب الصداق [

- ‌ باب الوليمة

- ‌ باب القسم

- ‌ باب عشرة النساء

- ‌ باب الخلع والطلاق

- ‌ باب المطلقة ثلاثا

- ‌ باب اللعان

- ‌ باب العدة

- ‌ باب الاستبراء

- ‌ باب النفقات وحق المملوك

- ‌ باب بلوغ الصبي وحضانته

- ‌ كتاب العتق

- ‌ باب إعتاق العبد المشترك وشراء القريب والعتق في المرض [

- ‌[باب الأيمان والنذور]

- ‌ الفصل الذي في النذر

- ‌ كتاب القصاص

- ‌ باب الديات

- ‌ باب القسامة

- ‌ باب قتل أهل الردة والسعادة بالفساد

- ‌ كتاب الحدود

- ‌ باب قطع السرقة

- ‌ باب الشفاعة في الحدود

- ‌ باب حد الخمر

- ‌ باب ما لا يدعى على المحدود

- ‌ باب التعزير

- ‌ كتاب الإمارة والقضاء

- ‌ باب ما على الولاة من التيسير

- ‌ باب العمل في القضاء والخوف منه

- ‌ باب رزق الولاة وهداياهم

- ‌ كتاب الأقضية والشهادات

- ‌ كتاب الجهاد

- ‌ باب إعداد آلة الجهاد

- ‌ باب آداب السفر

- ‌ باب الكتاب إلى الكفار

- ‌ باب القتال في الجهاد

- ‌ باب حكم الأسارى

- ‌ باب الأمان

- ‌ كتاب قسمة الغنائم

- ‌ باب الجزية

- ‌ باب الصلح

- ‌ باب الفيء

- ‌ كتاب الصيد

- ‌ باب ما يحل أكله أو يحرم

- ‌ باب العقيقة

- ‌ كتاب الأطعمة

- ‌ باب الضيافة

- ‌ باب الأشربة

- ‌ باب النقيع والأنبذة

- ‌ باب تغطية الأواني

- ‌ كتاب اللباس

- ‌ باب الخاتم

- ‌ باب النعل

- ‌ باب الترجل

- ‌ باب التصاوير

- ‌ الطب والرقى

- ‌ باب الفال والطيرة

- ‌ باب الكهانة

- ‌ كتاب الرؤيا

- ‌ كتاب الآداب

- ‌ باب الاستئذان

- ‌ باب المعانقة والمصافحة

- ‌ باب القيام

- ‌ باب الجلوس والنوم والمشي

- ‌ باب العطاس والتثاؤب

- ‌ باب الضحك

- ‌ باب الأسامي

- ‌ باب البيان والشعر

- ‌ باب حفظ اللسان والغيبة

- ‌ باب الوعد

- ‌ باب المزاح

- ‌ المفاخرة والعصبية

- ‌ باب البر

- ‌ باب الشفقة والرحمة

- ‌ باب الحب في الله

- ‌ باب ما ينهى من التهاجر

- ‌ باب الحذر والتأني

- ‌ باب الرفق والحياء

- ‌ باب الغضب والكبر

- ‌ باب الظلم

- ‌ باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌ كتاب الرقاق

- ‌ باب فضل الفقراء

- ‌ باب الأمل والحرص

- ‌ باب التوكل والصبر

- ‌ باب الرياء

- ‌ باب البكاء والخوف

- ‌ باب التغير

الفصل: ‌ كتاب الجهاد

ومن‌

‌ كتاب الجهاد

(من الصحاح)

[2757]

قوله صلى الله عليه وسلم في ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه: (انتدب الله لمن يخرج في سبيله) يقال: ندبه لأمر فانتدب له، أي: دعاه له فأجاب، ولما كان المجاهد في سبيل الله متعرضاً بعمله بسؤال المغفرة والنصر على أعداء الله استجيب بأن يرجعه من وجهه ذلك بما نال من أجر وغنيمة، أو يدخله الجنة، يعني بالشهادة، ويروي:(أو غنيمة) وهو لفظ الكتاب، ويروى بالواو، وهو أوجه الروايتين وأسدهما معنى، وفي بعض طرقه:(يضمن الله) وفي بعضها: (تكفل الله) وكلاهما أشبه بنسق الكلام من قوله: (انتدب الله) وكل ذلك صحاح.

ص: 872

[2760]

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سلمان- رضي الله عنه: (وأمن الفتان) الفتان يروى بفتح الفاء على لفظ الواحد، قيل: أريد به الشيطان يفتن الناس بخداعه وغروره وتزيينه لهم المعاصي.

قلت: والأقرب أن يكون المراد منه الذي يفتن المقبور بالسؤال فيعذبه، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(فيقبض له أعمى أصم) وقال: (ولقد أوحى إلى أنكم تفتنون في قبوركم) ويروى بضم التاء، على الجمع، وفي حديث قيلة:(المسلم أخو المسلم، يتعاونان على الفتان) أي: يعاون بعضهم بعضاً على الذين يفتنون الناس عن الحق، الواحد: فاتن، ويؤيد ما ذهبنا إليه في تأويل هذا ما ورد في بعض طرقه عن سلمان:(ومن مات فيه وقى فتنة القبر)، وما في حديث المقدام بن معدي كرب عن النبي صلى الله عليه وسلم (ويجار من عذاب القبر) يعني: الشهيد.

[2763]

ومنه: حديث أبي هريرة- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من خير معاش الناس رجل ممسك بعنان فرسه .. الحديث) يقال: عاش الرجل معاشاً ومعيشاً وكل واحد منهما يصلح أن يكون مصدراً، وأن يكون اسماً مثل معاب ومعيب وممال ومميل.

وفي هذا الحديث (معاشاً) يصح أن يكون مصدراً، ويصح أن يكون اسماً وفي بعض طرق هذا الحديث:(ألا أنبئكم بخير الناس، رجل ممسك بعنان فرسه) ووجه التوفيق بين الصيغتين أن نقول: معنى قوله: (بخير الناس) أي: من خيرهم معاشاً، وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم:(خيركم ألينكم مناكب في الصلاة) وما يجري مجراه، وقد يكون فيهم من هو خير منه، على غير هذا النعت، وبيان هذا النوع من الكلام قد تقدم فيما سبق من الكتاب.

وفيه: (يطير على متنه) الطيران على متن الفرس عبارة عن المصارعة إلى سداد ما يكاد يتثلم، وصدع ما يكرب يتشعب.

وفيه: (كلما سمع هيعة) الهيعة: كل ما أفزعك من صوت أو فاحشة تشاع والأصل فيها سيلان الشيء المصبوب على وجه الأرض مثل الميعة، والهائعة: الصوت الشديد. ومعنى الفزعة هاهنا الاستغاثة، يقال: فزع إذا زعر، وفزع إذا استغاث.

وفيه: (يبتغي القتل والموت مظانة) الكلمات الثلاث المتواليات منصوبة: (القتل والموت) على المفعولية و (مظانة) على الظرفية، اي: يطلبه حيث يظن أنه يكون: ومظانة جمع مظنة، هي: مكان الشيء ومألفه.

ص: 873

يقال: موضع كذا مظنة من فلان، أي: معلم منه، من قولهم: ظن، أي: علم.

قال النابغة: رضي الله عنه:

فإن مظنة الجهل الشباب

ويقال: هو مظنة (لكذا) أي: حرى أن يكون موضعه. والمظنة أيضاً: الوقت الذي يظن كون الشيء فيه.

قالت قتيلة بنت النضر بن الحارث- رضي الله عنها:

يا راكبا إن الأثيل مظنة

من صبح خامسة وأنت مونق

قلت: وأكثر ظني أني وجدت في بعض كتب أصحاب الحديث: (يبتغي القتل أو الموت) فإن ثبت ذلك، فالوجه في توحيد الضمير ظاهر، غير أن الصحيح منه على ما هو في كتاب المصابيح، كذلك أخرجه مسلم في كتابه، والوجه فيه أن يقال: اكتفى بإعادة الضمير إلى الأقرب كما في قوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله} . وقد سبق القول فيه. والمعنى: انه يخوض الغمرات التي يكون القتل والموت منه بمرصد، ويباشر الأخطار التي يتوقع فيها ذلك.

وفيه: (في رأس شعفة من هذا الشعف) الشعفة- بالتحريك- رأس الجبل، والجمع شعف وشعوف وشعاف، وشعفات.

وقوله: (من هذه الشعف) إشارة إلى الجنس الذي كانوا يعرفونها، لا إلى شعف بعينها.

وفيه: (حتى يأتيه اليقين) أي: الموت: والأصل فيه: العلم وزوال الشك، سمى به الموت لتحققه عند كل أحد، وزوال الشك فيه.

[2764]

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث زيد بن خالد الجهني- رضي الله عنه: (ومن خلف غازياً في أهله) يقال: خلفه في أهله وفي قومه: إذا قام مقامه في محافظتهم، وإصلاح أودهم، وذلك بأن يتولى مصالح الغازي في أهله وماله، وينوب منابه فيما يهتم به في غيبته.

[2765]

] ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة الأسلمي- رضي الله عنه (فما ظنكم) أي: فما ظنكم بمن أحله الله بهذه المنزلة، وخصه بهذه الفضيلة وبما يكون وراء ذلك من الكرامة.

ص: 874

[2769]

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه: [102/أ]: (وجرحه يثعب) ثعبت الماء: فجرته؛ فانثعب. أضاف الفعل إلى الجرح؛ لأنه السبب في فجر الدم وتبجسه و (دماً) يكون مفعولاً، ولو أراد به التمييز لكان من حقه أن يقول: ينثعب دماً، أو يثعب على بناء المجهول، ولم أجده رواية و (دماً) لم يذكر إلا في بعض الروايات، والأكثر (يثعب) من غير ذكر الدم، وكذلك هو في نسخ المصابيح إلا ما ألحق فيها بحاشية الكتاب.

[2771]

ومنه حديث عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه: (وسئل عن هذه الآية: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله} الآية، فقال: قد سألنا عن ذلك فقال .. الحديث).

ص: 875

قلت: المسئول والقائل هو رسول الله، ولم يذكره لمعرفة السامع، ثم للاتكال على كون النبي صلى الله عليه وسلم مختصاً بالإخبار عن الغيب، بحيث لا يعترض لمسلم فيه شك، لاسيما وقد أسند الفعل إلى شخص بعينه، وليس هذا النوع مما يطلق القول في الأخبار عنه أو يتكل الصحابي في على غير النبي صلى الله عليه وسلم. قوله صلى الله عليه وسلم:(أرواحهم في أجواف طير خضر) أراد بذلك- والله أعلم -أن الروح الإنسانية المخصوصة المميزة بالإدراكات بعد مفارقتها البدن، المعنية بجواب المنكر والنكير يهيأ لها طير أخضر فتنتقل إلى جوفه، ليعلق ذلك الطير من ثمر الجنة، فتجد الروح بواسطته لذة النعمة وروح البهجة والسرور، وإلى هذا يشير قوله- سبحانه-:{يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله} . ولعل الروح تحصل لها تلك الهيئة إذا تشكلت وتمثلت بأمر الله سبحانه طيراً أخضر، كتمثل الملك بشراً، وعلى أية حال كانت، فالتسليم واجب علينا، لورود البيان الواضح على ما أخبر عنه الكتاب وروداً صحيحاً من قبل من لا سبيل إلى خلافه صلى الله عليه وسلم.

[2773]

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة- رضي الله عنه: (يكفر كل شيء إلا الدين) أراد بالدين هاهنا: ما يتعلق بذمته من حقوق المسلمين، إذ ليس الدائن أحق بالوعيد والمطالبة عنه من الجاني والغاصب والخائن والسارق.

[2774]

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه: (يضحك الله إلى رجلين) قلت: الضحك في تعارف أهل اللغة انبساط الوجه وتكشر الأسنان من سرور النفس، ويستعار للسخرية، يقال: ضحكت به ومنه، وربما استعمل مكان التعجب، وقولهم: ضحكت إليه أي: انبسطت إليه وتوجهت تلقاءه بوجه طلق، وأسنان مكشورة: من البشر والفرح.

وقد علمنا من أصول الدين: أن الذهاب [102/ب] إلى حقيقة وجه من ذلك الوجوه فيما يوصف به الله سبحانه غير جائز. وإنما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل المجاز؛ تحقيقاً للمعنى الذي أراده، وهو ان الله سبحانه وتلقاهما بالقبول والرضى، وتداركهما بحسن النظر إلى ما توخياه من عملهما.

[2776]

ومنه قول أنس- رضي الله عنه في حديثه: (فأصابه سهم غرب) الراء تسكن وتحرك، والأقوى عند أهل الغريب التحريك، (وسهم غرب): هو الذي لا يعرف راميته، ونقل عن بعض أهل اللغة أنه قال: تسكن الراء إذا أتاه من حيث لا يدري، وتفتح إذا رماه فأصاب غيره.

ص: 876

ونظر غرب: ليس بقاصد. والغرب بالفتح: ضرب من الشجر لا يثمر، سمى به لتباعده من الثمرات، وهو بالفارسية: اسنيذدار، وقد يتخذ من الهام، فيقال: سهم غرب، فيضاف ولا يضاف، والذي ذكرناه في الحديث ليس من هذا في شيء.

[2777]

ومنه قول أنس- رضي الله عنه في حديثه: (حتى سبقوا المشركين إلى بدر) بدر موضع يذكر ويؤنث وهو اسم ماء. قال الشعبي: بدر: بئر كان لرجل يدعى بدراً، ومنه يوم بدر، وفيه (قال عمير بن الحمام: بخ بخ) عمير بن الحمام بضم الحاء، وهو حمام بن الجموح الأنصاري، أحد بني سلمة، قيل: إنه أول من قتل من الأنصار في الإسلام، قتله خالد بن الأعلم، ومما ارتجز به عمير يومئذ قوله:

ركضاً إلى الله بغير زاد

إلا التقى وعمل المعاد

والصبر في الله على الجهاد

فكل زاد عرضة النفاذ

غير التقى والبر والرشاد

وقوله: (بخ): كلمة تقال عند المدح والرضى بالشيء، وكررت للمبالغة، فإذا أفردت وقفت عليها، وإن كررتها وصلت الأولى بالأخرى ونونتها، فأما أصحاب الحديث فإنهم يروونها بسكون الخاء في الوصل والوقف. ومن أهل اللغة من يشدد الخاء فيها، وقد جمع الشاعر بين التخفيف والتشديد فيها فقال:

روافده أكرم الرافدات

بخ لك بخ لبحر خضم

وفيه: (لا والله يا رسول الله) سبق إلى فهم الرجل من قوله صلى الله عليه وسلم: ما يحملك على قولك: بخ بخ)، أنه توهم أن قوله ذلك صدر عنه من غير نية وروية شبيهاً بقول من سلك مسلك الهزل والمزاح، فنفى ذلك عن نفسه بقوله:(لا والله)، أي: ليس الأمر على ما توهمت، وقوله:(إلا رجاء) أي: ما قلت ذلك إلا رجاء (فاخترج تمرات) الأشبه بالصواب (فأخرج) لأنا لو استعملنا في القياس فقلنا: خرج واخترج كقولهم: كسب واكتسب لم يستقم، لأن خرج لازم، واخترج استعمل [103/أ] هاهنا استعمال المتعدي، ثم إن لم نجد هذا اللفظ مستعملاً في كلامهم أصلاً: اللهم إلا أن يكون ورد بمعنى اللازم.

ص: 877

[2778]

ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما تعدون الشهيد فيكم؟ ..) الحديث (ما) استفهامية، ويسأل بكلمة (ما) عن جنس هذا الشيء ونوعه، وعن صفات جنس الشيء ونوعه، وقد يسأل بها عن الأشخاص الناطقين، ولما كانت حقيقة الاستفهام هاهنا السؤال عن الحال التي ينال بها المؤمن رتبة الشهادة، استفهم عنها بكلمة (ما) ليكون أدل على وصفها وعلى المعنى المراد منها، ثم إنها مع ذلك تسد مسد (من)، ولهذا اجابوا عنها بقولهم:(من قتل في سبيل الله). والشهيد في التعارف الشرعي من قتل في سبيل الله، وأما تسميته بذلك من حيث الاشتقاق اللفظي فقد قيل: لأنه يشهد حينئذ الملائكة المبشرين بالفوز والكرامة، ويحتمل أنه سمي بذلك؛ لأنه يشاهد حينئذ ما اعد له من النعيم، أو لأنه يحضر عند ربه، قال الله تعالى:{والشهداء عند ربهم} وقد قيل: سمي شهيداً؛ لأنه تبين مما بذله من نفسه في سبيل ربه استقامته على الإيمان، وإخلاصه في الطاعة، والأصل الشهادة التبيين، وله 1 ايقال للشهادة الشهود: بينة. وقد قيل: لأنه يكون تلو الرسل في الشهادة على الأمم، فيشهد بمثل ما يشهدون به، وكفى بذلك شرفاً ومنزلة. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم:(ومن مات في سبيل الله .. إلى آخر الحديث) أنهم يشاركون الشهداء في نوع من أنواع الثوبات، التي يستحقها الشهداء، ولم يرد به- والله أعلم- المساواة في سائر أنواع الفضيلة، وإنما اخترنا ذلك للفرق الذي عرفناه من أصل الدين بين القبيلين.

[2779]

ومنه حديث عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من غازية أو سرية .. الحديث) أراد بالغازية: الجيش التي تخرج في الجهاد في سبيل الله، والغزو: الخروج إلى محاربة العدو، وهو في تعارف أهل الإسلام الخروج إلى محاربة أعداء الله. والسرية: القطعة من الجيش، وليس (أو) من

ص: 878

قول الراوي، وإنما هو من قول الرسول صلى الله عليه وسلم، أتى بها للتقسيم وغثبات الحكم المذكور في الكثير منهم والقليل. وإنما قال:(إلا تعجلوا ثلثي أجورهم)؛ لأن الناس في الغزو على أحوال ثلاثة: إما أن يغنموا ويسلموا أو يسلموا ولم يغنموا، أو يخفقوا ويصابوا بقتل أو جراحة، فإذا غنموا وسلموا فاتهم أجر الإخفاق والإصابة، وسلم لهم ثلث الأجر بمحاربتهم [103/ب] أعداء الله. والأجر الكامل إنما يستوفيه من أخفق وأصيب، يقال: أخفق الرجل: إذا غزا ولم يغنم، وأخفق أيضاً: إذا رجع ولم يصطد.

[2783]

ومنه حديثه الآخر: _جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد .. الحديث) قد علمنا من استئذان الرجل أنه كان متطوعاً في الجهاد فرأي له النبي صلى الله عليه وسلم خدمة أبويه أهم الأمرين وأفضلهما، لاسيما إذا كان بهما حادة إليه. ويحتمل أنه نبئ أن الرجل ليس ممن يغني في الحرب غناء، فلم ير له مفارقتهما لأمر لا ضرورة به فيه.

وقد أشرنا فيما مضى إلى التفاوت الذي يقع في باب الفضيلة على حسب تفاوت الأشخاص.

[2784]

ومنه حديث ابن عباس- رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح: (لا هجرة بعد الفتح) فإن قيل: كيف التوفيق بين هذا بين هذا الحديث وبين الحديث الذي يرويه معاوية- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة .. الحديث)؟

قلنا: قد تكلموا في سند هذا الحديث، ولكن لم يبلغ به ذلك إلى الرد، وقد ورد في غير ذلك من الأحاديث ما يؤيد معناه، والوجه أن نقول: الهجرتان مختلفتان في الحد والحقيقة، وذلك أن الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد فرضت على من بمكة من المسلمين، وعلى من كان بين ظهراني قوم كفار لئلا يكثر بهم سواد أهل الشرك المحاربة لله ولرسوله، ثم لينصروا دين الله، وليعزروا رسوله، وليتمكنوا من إقامة ما فرض عليهم من الفرائض، فلما فتح الله مكة، وانكسرت شوكة الكفر، وقلت أنصاره، وطهر الله الحرم الشريف عن رجس الجبت والطاغوت، بحيث لم يبق للكفر به معلم- سقط فرض الهجرة عنهم، وعادت الفضائل المجعولة للمهاجرين مختصة بمن هاجر قبل الفتح، هذا ولم يرتفع بذلك فذل الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لنيل شرف الصحبة والتفقه في الدين، والمسارعة إلى مرضاة الله ومرضاة رسوله؛ ألا ترى أنه قال لعكرمة بن

ص: 879

أبي جهل- رضي الله عنه لما قدم عليه، وكان قد فر منه يوم الفتح إلى اليمن:(مرحباً بالراكب المهاجر)؟! وأما الهجرة التي لا تنقطع حتى تنقطع التوبة، فإنها الهجرة لله من الأرض التي يهجر عنها المعروف، ويشيع بها المنكر، ولا يستقيم بها لذي دين دينه، أو الهجرة من الأرض التي أصاب فيها الذنب، وارتكب الأمر الفظيع، وذلك مندوب إليه، وربما بلغ حد الواجب إذا استضر بتركه في دينه، والآن قد ظهرت الفتن في الإسلام فأنها أشد تأكيداً، وإليها يلتفت قوله صلى الله عليه وسلم[104/أ] في حديث عبد الله بن عمرو:(ستكون هجرة بعد هجرة .. الحديث)

(ومن الحسان)

[2785]

قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمران بن حصين: (ظاهرين على من ناوأهم) أي: غاليين على من عاداهم، والمناواة: المعاداة، والأصل فيه الهمز؛ لأنه من النون وهو النهوض، وربما ترك همزه، وإنما استعمل ذلك في المعاداة؛ لأن كل واحد من المتعاديين ينهض إلى قتال صاحبه.

[2786]

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أمامة- رضي الله عنه: (أو يخلف غازياً في أهله بخير) أي ينوب مناب الغازي في أهله، وقد مر تفسيره.

وفيه: (أصابه الله بقارعة) القارعة: الشديدة من شدائد الدهر.

ص: 880

[2791]

ومنه حديث معاذ بن جبل- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من قاتل في سبيل الله فواق ناقة .. الحديث). الفواق بالفتح والضم: ما بين الحلبتين من الوقت؛ لأنها تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر، ثم تحلب، يقال: ما أقام عنده إلا فواقاً، ومنه الحديث:(وفدر فواق ناقة).

وفيه: (ومن خرج به خراج) الخراج بالضم: ما يخرج في البدن من القروح. وفيه: (فإن عليه طابع الشهداء) الطابع بالفتح: الخاتم، والطابع بالكسر لغة فيه.

[2794]

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه (ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً) الشح: بخل مع حرص، والإنسان مجبول عليه، قال الله تعالى:{وأحضرت الأنفس الشح} والنبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من الشح المطاع، ولم يستعذ من الشح لعلمه بأن ذلك أمر جبلي فطر عليه الإنسان، وكل ما كان من هذا القبيل لم يخل من المصلحة. والإنسان إنما جبل عليه ليكون شحيحاً بدينه، وليتمكن به عن الإمساك حيث أمر بالإمساك، والمحمود منه ما كان في سلطان القلب، والمذموم منه المطاع، وذلك إذا غلب سلطانه على القلب، ومركز الشح النفس، فلا يتمكن من القلب ويستقر فيه إلا بعد خلوه من الإيمان؛ باستيلاء سلطان النفس على القلب، فإن النفس ظلمانية والقلب نوراني، واستيلاء كل واحد منهما على الآخر يدل على زوال صفة المضادة، والضدان لا يجتمعان في قلب واحد، والله أعلم.

ص: 881

[2796]

ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه: مر رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بشعب فيه عيينة من ماء عذب

الحديث) وجدنا في سائر النسخ: (فيه غيضة) وليس ذلك بسديد، ولم تشهد به رواية، وإنما هو عيينة تصغير عين (وعذبة)(104/ب) مرفوعة على الصفة لها. ووجدت جمعاً من علماء النقل رووها مجرورة، فتكون مجرورة على الجوار؛ كقولهم: جحر ضب خرب.

[2798]

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه (وعفيف متعفف) أي: عفيف عما لا يحل، متعفف عن السؤال.

[2799]

ومنه حديث عبد الله بن الحبشي- رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: (أي الأعمال أفضل؟

الحديث) سبق بيان ذلك في أول الكتاب، ووجه الجمع بينه وبين ما يخالفه في الترتيب،. وحبشي بضم الحاء على زنة جندي، سمي باسم جبل بأسفل مكة يقال له: حبشي.

ص: 882

[2803]

ومنه حديث أبي أمامة الباهلي- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين ..) الحديث؛ الأثر بالتحريك: ما بقى من رسم الشيء، وحقيقته: حصول ما يدل على وجود الشيء، ومنه يقال للطريق المستدل به على من تقدمه: آثار؛ قال الله تعالى: {فهم على آثارهم يهرعون} .

قلت: يحتمل أن يكون المراد منهما خطوة الماشي في سبيل الله، وخطوة الساعي في فريضة من فرائض الله، ويحتمل أن يكون المراد من أثر المجاهد ما يبقى عليه من أثر جراح أو خراج أو غير ذلك، فقد يقال لما بقى على البدن من ضربة السيف: أثر، بالتحريك، ولما يبقى من أثر الجرح بعد البرء: أثر، وأثر بالضم مثل عشر وعشر، وأن يكون المراد من أثر في فريضة: العلامة التي تبقى عليه مما أصابه في فريضة مثل الذي يتوضأ فتتفطر قدماه، أو يصوم فينحل بدنه وتجف شفتاه، أو يحج فيشحب لونه ويذهب بشر، وكلا الوجهين حسن، والأول أوجه، وقد وجدنا في بعض نسخ المصابيح:(أو أثر فريضة)، وليس بسديد رواية ومعنى، وإنما الرواية:(في فريضة من فرائض الله).

[2804]

ومنه حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تركب البحر إلا حاجاً أو معتمراً أو غازياً في سبيل الله ..) الحديث فيه التهويل عن ركوب البحر، عما يتضمنه من الأخطار، وأن اختيار ذلك لغرض من الأغراض الفانية سفه وجهل؛ لأن فيه تلف النفس،. وبذل النفس لا يحمد إلا فيما يقرب العبد إلى الله.

وفي قوله: (فإن تحت البحر ناراً .. الحديث) إشارة إلى أن راكبه متعرض للآفات المهلكة كالنار والفتن المغرقة كالبحر، إحداهما وراء الآخرى. هذا القول المجمل فيه، وقد فصلت القول فيه في كتاب (مطلب الناسك في علم المناسك) فمن أحب القول [105/أ] المستوعب فليراجعه.

ص: 883

[2807]

ومنه حديثه الآخر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (قفلة كغزوة)، يريد به والله أعلم- أن الغازي مأجور في قفوله كما هو مأجور في خروجه إلى دار الحرب، وذلك لأنه يستجم به نفسه، ويستعد بالحرب باتخاذ أداته، ويرجع إلى أهله وعياله لدفع الضرر عنهم بما أصابهم لغيبته، وقد أشار الخطابي في معناه إلى نحو من ذلك، وذكر فيه وجهاً آخر، وهو حمله على التعقيب، وهو أن يرجح في الوجه الذي جاء منه منصرفاً إلى العدو ليأمن بأسهم، أو يوقع بهم على غرة منهم وذكر كلاماً هذا معناه، والأول أقوم؛ لأن القفول إنما يستعمل في الرجوع عن الوجه الذي ذهب إليه لحاجة إلى حيث توجه منه، والقافلة عندهم هي الرفقة الراجعة من السفر، وقال الطحاوي: يحتمل أن يكون- يعني النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قوم قفلوا لخوفهم أن يكر عليهم من عدوهم من هم أكثر عدداً منهم إلى فئتهم ليزدادوا [عددا] ثم يكروا عليهم، وكان ذلك فرضهم.

[2808]

ومنه حديثه الآخر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (للغازي أجره، وللجاعل أجره، وأجر الغازي) الجعل بالضم: ما يجعل للإنسان من الشيء على الشيء يفعله. وكذلك الجعالة بالكسر والجعيلة مثله.

قلت: لم يرد بالجاعل في هذا الحديث المستأجر، ولا بالمجعول له الأجير، ولهذا ذكره بلفظ الجعل لا بلفظ الإجازة، وعبر عن المجهول له بالغازي لا بالأجير، وإنما أراد بالجاعل الذي يتبرع بشيء يعطيه من ماله كمن يستعين به على الجهاد، ويستنفقه على نفسه وعياله، ثم ذكر أن للمجهول له أجرأ، وهو أجر الغزو وللجاعل أجرين: أجراً على ما بذل من المال، وأجراً على ما حرض وحث عليه من القتال، حيث شارك الغزاة في مغزاهم. وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أيوب- رضي الله عنه بعد هذا الحديث:(ألا وذلك الأجير إلى آخر قطرة من دمه) لا يناقض ما ذكرناه؛ لأنه أراد بقوله هذا من حضر القتال رغبة فيما عقد عليه من المال، لا رغبة في الجهاد، ولهذا سماه أجيراً، وسمي الذي في حديث الجعالة غازياً، وكذلك الوجه في حديث يعلي بن أمية- رضي الله عنه الذي يتلو حديث أبي أيوب، فإنه ذكر أن قد استأجره للخدمة.

وأما قول من ذهب من العلماء إلى أن الأجير يسهم له إذا حضر الوقعة، فإنه محمول على أن حديث يعلي بن أمية إما لم يثبت عندهم، أو رأوه مخصوصاً في الحكم بذلك الأجير؛ لأنه قال قوله ذلك في أجير بعينه، ولم يعم به الأجراء، فلعله اطلع فيه على أمر اقتضى ذلك، وأما حديث أبي أيوب فلا دليل فيه أن الأجير لا يهم له، وإنما فيه أنه لا ينال ثواب الغزاة [105/ب] لأنه عمل عملاً مدخولاً فيه [والله أعلم].

ص: 884

=====

ص: 885