الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
روى عنه ابن صاعد وغيره. وفيها توفى محمد بن مسلم «1» بن عثمان الرازىّ، ويعرف بابن وارة، كان أحد الحفّاظ الرحّالين والعلماء المتقنين مع الدّين والورع والزهد.
وفيها توفّى نصر بن الليث بن سعد أبو منصور البغدادىّ الورّاق، أخرج له الخطيب حديثا يرفعه إلى عثمان بن عفّان.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وثمانى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشرون إصبعا.
ذكر ولاية خمارويه على مصر
هو خمارويه وقيل خمار بن أحمد بن طولون، التركىّ، السّامرّىّ المولد، المصرىّ الدار والوفاة، تقدّم التعريف بأصله في ترجمة أبيه أحمد بن طولون؛ الأمير أبو الجيش خمارويه ملك مصر والشأم والثغور بعد موت أبيه بمبايعة الجند له في يوم الأحد العاشر من ذى القعدة سنة سبعين ومائتين. وعند ما ولىّ إمرة مصر أمر «2» بقتل أخيه العباس الذي كان في حبس أبيه أحمد بن طولون لامتناع العبّاس من مبايعة خمارويه هذا، فقتل. وأمّ خمارويه أمّ ولد يقال لها ميّاس، ولد بسرّمن رأى فى سنة خمس وخمسين ومائتين.
وأوّل ما ملك مصر عقد لأبى عبد الله أحمد [بن محمد «3» ] الواسطىّ على جيش «4» إلى الشأم لستّ خلون من ذى الحجّة سنة سبعين ومائتين المذكورة؛
وعقد لسعد الأيسر «1» على جيش آخر؛ وبعث بمراكب في البحر لتقيم بالسواحل الشاميّة؛ فنزل الواسطىّ فلسطين وهو خائف من خمارويه أن يوقع به، لأنه كان أشار عليه بقتل أخيه العبّاس؛ فكتب الواسطىّ إلى أبى «2» أحمد الموفّق يصغّر أمر خمارويه عنده ويحرّضه على المسير إلى قتاله، فأقبل ابن الموفّق من بغداد، وقد انضم إليه إسحاق بن كنداج ومحمد بن [ديوداد «3» ] أبى السّاج، ونزل الرّقّة فتسلّم قنّسرين والعواصم- وكان خمارويه جميع الشام والثغور داخلة في سلطانه- ثم سار ابن الموفّق حتى قاتل أصحاب خمارويه وهزمهم ودخل دمشق؛ فخرج خمارويه فى جيش عظيم لعشر خلون من صفر سنة إحدى وسبعين ومائتين؛ فالتقى مع ابن الموفّق بنهر أبى فطرس «4» المعروف بالطواحين «5» من أرض فلسطين، فاقتتلا فانهزم أصحاب خمارويه، وكان خمارويه في سبعين ألفا، وابن الموفّق في نحو أربعة آلاف، واحتوى على عسكر خمارويه بما فيه. ومضى خمارويه عائدا إلى مصر مهزوما، فخرج كمين كان له مع سعد الأيسر ولم يعلم سعد أنّ خمارويه انهزم؛ فحارب سعد الأيسر ابن الموفّق حتى هزمه وأزاله عن عسكره اثنى عشر ميلا. [ورجع «6» أبو العباس إلى
دمشق فلم تفتح له] . ثم مضى سعد الأيسر الى دمشق، وطمع في البلاد الشامية واستخفّ بخمارويه وغيره، ثم استولى على دمشق.
ووصل خمارويه إلى مصر في ثالث شهر ربيع الأوّل من السنة، ولم يعلم ما وقع لسعد الأيسر؛ فلمّا بلغه خبره خرج ثانيا إلى دمشق لسبع «1» بقين من شهر رمضان من السنة فوصل إلى فلسطين، ثم عاد بعساكره من غير حرب لأمور وقعت فى ثامن عشر شوّال؛ واستمرّ بمصر إلى أن خرج ثالثا إلى الشام في ذى القعدة سنة اثنتين وسبعين ومائتين. وقد خرج سعد الأيسر عن طاعته من يوم الواقعة، فقاتل سعدا الأيسر المذكور وهزمه وظفر به وقتله، ودخل دمشق وملكها في سابع المحرّم من سنة ثلاث وسبعين ومائتين، وأقام بها أياما؛ ثم سار لقتال ابن كنداج فتقاتلا، فكانت الهزيمة أوّلا على خمارويه وانهزم جميع أصحابه وثبت «2» هو في طائفة [من حماته «3» ] ، وقاتل ابن كنداج المذكور حتّى هزمهم وتبعهم بأصحابه حتى وصلت أصحاب خمارويه إلى سرّ من رأى بالعراق؛ وعظم أمر خمارويه في هذه الوقعة وهابته الناس.
ثم كتب خمارويه إلى أبى أحمد الموفّق طلحة «4» فى الصلح، فأجابه أخو الخليفة الموفّق لذلك؛ وكتب لخمارويه بولايته على مصر والشام جميعه والثغور ثلاثين سنة؛ وقدم بالكتاب بعض خدّام الموفّق إلى الشام في شهر رجب، وعرّفه الخادم أنّ الكتاب كتبه الخليفة المعتمد وأخوه الموفّق وابنه بأيديهم تعظيما لخمارويه، فسرّ خمارويه بذلك، وعاد إلى مصر في أواخر رجب المذكور، وأمر بالدعاء لأبى أحمد الموفّق
المذكور بعد الخليفة وترك الدعاء عليه؛ فإنه كان يدعى عليه بمصر من مدّة سنين من أيام إمارة أبيه أحمد بن طولون من يوم وقّع بين الموفّق وبين أحمد بن طولون، وخلع ابن طولون الموفّق من ولاية عهد الخلافة، وأمر القاضى بكّار بن قتيبة بخلعه فلم يوافقه بكّار على ذلك، فحبسه أحمد بن طولون بهذا المقتضى. وقد ذكرنا ذلك كلّه في آخر ترجمة أحمد بن طولون.
ولما اصطلح خمارويه مع الموفّق عظم أمره وسكنت الفتنة، فإنه كان في كل قليل يخرج العساكر المصريّة لقتال عسكر الموفّق، فلما اصطلحا زال ذلك كلّه؛ وأخذ خمارويه في إصلاح ممالكه، وولّى بمصر على المظالم [محمد «1» بن] عبدة بن حرب. ثم بلغ خمارويه مسير محمد بن [ديوداد] أبى السّاج الى أعماله بمصر، فخرج بعساكره في ذى القعدة ولقيه بثنيّة «2» العقاب في دمشق، وقاتله واشتدّ الحرب بين الفريقين وانكسر عساكر خمارويه، فثبت هو مع خاصّته على عادته وقاتل ابن أبى الساج حتى هزمه أقبح هزيمة، وقتل في أصحابه مقتلة عظيمة وأسروغنم، وعاد الى الديار المصرية فدخلها في رابع عشرين جمادى الآخرة سنة ست وسبعين ومائتين؛ فأقام بمصر مدّة يسيرة وخرج الى الإسكندرية في رابع شوّال، ثم عاد إلى مصر بعد مدّة يسيرة فأقام بها قليلا؛ ثم خرج الى الشام في سنة سبع وسبعين ومائتين لأمر اقتضى ذلك، وعاد بعد أيام إلى الديار المصريّة، فورد عليه الخبر بها بموت الموفّق فى سنة ثمان وسبعين ومائتين؛ ثم ورد عليه الخبر في سنة تسع وسبعين ومائتين بموت الخليفة المعتمد؛ وبويع بالخلافة المعتضد أبو العباس أحمد بن الموفّق طلحة بعد عمّه المعتمد؛ فبعث خمارويه إلى المعتضد بهدايا وتحف، فسأله أن يزوّج
ابنته قطر الندى «1» لولده المكتفى بالله؛ فقال المعتضد: بل أنا أتزوّجها، فتزوّجها فى سنة إحدى وثمانين ومائتين، ودخل بها ببغداد في آخر العام، وأصدقها ألف ألف درهم. يقال. إنّ المعتضد أراد بزواجها أن يفقر أباها خمارويه في جهازها؛ وكذا وقع، فإنّه جهّزها بجهاز عظيم يتجاوز الوصف، حتى قيل: إنّه دخل معها فى جملة جهازها ألف هاون من الذهب. ولما تصاهر خمارويه مع المعتضد زالت الوحشة من بينهما، وصار بينهما مودّة كبيرة. وولّاه المعتضد من الفرات إلى برقة ثلاثين سنة؛ وجعل إليه الصّلاة والخراج [والقضاء «2» ] بمصر وجميع الأعمال، على أنّ خمارويه يحمل إلى المعتضد في العام مائتى ألف دينار عما مضى، وثلثمائة ألف دينار عن المستقبل. ثم قدم بعد ذلك رسول المعتضد إلى خمارويه بالخلع وكانت اثنتى عشرة خلعة وسيفا وتاجا ووشاحا. انتهى ما سقناه من وقائع خمارويه. ولا بدّ من ذكر شىء من أحواله وما جدّده في الديار المصرية من شعار الملك في أيام إمرته بها.
ولما ملك خمارويه الديار المصريّة بعد موت أبيه أحمد بن طولون أقبل على عمارة قصر أبيه وزاد فيه محاسن كثيرة؛ وأخذ الميدان الذي كان لأبيه المجاور للجامع فجعله كلّه بستانا، وزرع فيه أنواع الرياحين وأصناف الشجر، وحمل إليه كلّ صنف من الشجر المطعّم وأنواع الورد، وزرع فيه الزعفران، وكسا أجسام النخل نحاسا مذهبا حسن الصنعة، وجعل بين النّحاس وأجسام النخل مزاريب الرّصاص، وأجرى فيها الماء المدبّر؛ فكان يخرج من تضاعيف قائم النخل عيون الماء فينحدر الى
فساقىّ معمولة، ويفيض الماء منها إلى مجار تسقى سائر البستان؛ وغرس «1» فى أرض البستان من الرّيحان المزروع في زىّ نقوش معمولة وكتابات مكتوبة، يتعاهدها البستانىّ بالمقاريض حتى لا تزيد ورقة على ورقة لئلا يشكل ذلك على القارئ،
وحمل إلى هذا البستان النخل من خراسان وغيرها؛ ثم بنى في البستان برجا من الخشب الساج المنقوش بالنقر النافذ، وطعّمه ليقوم هذا البرج مقام الأقفاص؛ وبلّط أرضه وجعل فيه أنهارا لطافا يجرى فيها الماء المدبّر من السواقى؛ وسرّح في البرج من أصناف الفمارىّ والدّباسىّ «2» والنوبيات «3» وما أشبهها من كلّ طائر يستحسن صوته، وأطلقها بالبرج المذكور، فكانت تشرب وتغتسل من تلك الأنهار؛ وجعل في البرج أوكارا في قواديس لطيفة ممكّنة في جوف الحيطان ليفرخ الطيور فيها؛ وعارض لها فيه عيدانا ممكّنة في جوانبه لتقف عليها إذا تطايرت حتى يجاوب بعضها بعضا بالصياح؛ وسرّح في البستان من الطير العجيب كالطواويس ودجاج الحبش ونحو ذلك شيئا كثيرا. ومل في هذا البستان مجلسا له سمّاه دار الذهب، طلى حيطانه كلّها بالذهب واللّازورد في أحسن نقش؛ وجعل في حيطانه مقدار قامة ونصف صورا بارزة من خشب معمول على صورته وصور حظاياه والمغنيات اللاتى تغنّيه
فى أحسن تصوير وأبهج تزويق؛ وجعل على رءوسهنّ الأكاليل من الذهب والجواهر المرصّعة، وفي آذانها الأخراص «1» الثّقال؛ ولوّنت أجسامها بأصناف تشبه الثياب من الأصباغ العجيبة، فكان هذا القصر من أعجب ما بنى في الدنيا.
وجعل بين يدى هذا القصر فسقيّة ملأها زئبقا. وسبب ذلك أنه اشتكى إلى طبيبه كثرة السهر وعدم النوم، فأشار عليه بالتكبيس، فأنف من ذلك وقال: لا أقدر على وضع يد أحد علىّ؛ فقال له الطبيب: تأمر «2» بعمل بركة من زئبق، فعمل البركة المذكورة، وطولها خمسون ذراعا في خمسين ذراعا عرضا وملأها من الزئبق، فأنفق فى ذلك أموالا عظيمة؛ وجعل في أركان البركة سككا من فضة، وجعل في السكك زنانير من حرير محكمة الصنعة في حلق من فضّة، وعمل فرشا من أدم يحشى «3» بالريح حتى ينتفخ فيحكم حينئذ شدّه، ويلقى على تلك البركة الزئبق ويشدّ بالزنانير الحرير التى فى حلق الفضة المقدّم ذكرها، وينزل خمارويه فينام على هذا الفرش، فلا يزال الفرش يرتجّ ويتحرّك بحركة الزئبق ما دام عليه. وكانت هذه البركة من أعظم الهمم الملوكيّة العالية؛ وكان يرى لها في الليالى المقمرة منظر عجيب إذا تألّف نور القمر بنور الزئبق.
قال القضاعىّ: ولقد أقام الناس مدّة طويلة بعد خراب هذا القصر يحفرون لأخذ الزئبق من شقوق البركة.
ثم بنى خمارويه في القصر أيضا قبّة تضاهى قبة الهواء سماها الدّكة، وجعل لها السّتر الذي يقى الحسرّ والبرد فيسدل حيث شاء ويرفع متى أحبّ؛ وكان كثيرا ما يجلس في هذه القبة ليشرف منها على جميع ما في داره من البستان والصحراء والنيل والجبل وجميع المدينة. ثم بنى ميدانا آخر أكبر من ميدان أبيه. وبنى أيضا في داره المذكورة دارا للسباع وعمل فيها بيوتا كل بيت لسبع لم يسع البيت غير السبع ولبؤته، وعمل لتلك البيوت أبوابا تفتح من أعلاها بحركات، ولكلّ بيت منها طاقة صغيرة يدخل منها الرجل الموكّل بخدمة ذلك البيت لفرشه بالرمل؛ وفي جانب كل بيت حوض من الرّخام بميزاب من نحاس يصبّ فيه «1» الماء، وبين يدى هذه البيوت رحبة فسيحة كالقاعة فيها رمل مفروش، وفي جانبها حوض كبير من رخام يصبّ فيه ماء من ميزاب كبير، فإذا أراد سائس من سوّاس «2» بعض السباع المذكورة [أن] ينظّف بيت ذلك السبع أو يضع له غذاءه من اللحم، رفع الباب بحيلة من أعلى البيت وصاح على السبع يخرج الى الرحبة المذكورة؛ ثم يردّ الرجل الباب وينزل الى البيت من الطاقة ويكنسه ويبدّل الرمل بغيره من الرمل النظيف، ويضع غذاءه من اللحم فى مكانه بعد ما يقطّع اللحم قطعا ويغسل الحوض ويملؤه ماء، ثم يخرج الرجل ويرفع الباب من أعلاه كما فعل أوّلا، وقد عرف السبع ذاك، فحالما يرفع الباب دخل السبع الى بيته وأكل ما هيّئ له من اللحم؛ فكانت هذه الرحبة فيها عدّة سباع ولهم أوقات يفتح فيها سائر بيوت السباع فتخرج الى الرحبة المذكورة وتشمّس فيها ويهارش بعضها بعضا فتقيم، يوما كاملا إلى العشىّ وخمارويه وعساكره تنظر إليها؛ فإذا كان العشىّ يصيح
عليها السّوّاس فيدخل كل سبع إلى بيته لا يتعدّاه إلى غيره. وكان من جملة هذه السباع سبع أزرق العينين يقال له «1» له" زريق" قد أنس بخمارويه وصار مطلقا فى الدار لا يؤذى أحدا وراتبه على عادة السباع، فلا يلتفت إلى غذائه بل ينتظر سماط خمارويه، فإذا نصبت المائدة أقبل زريق معها وربض بين يدى خمارويه، فيبقى خمارويه يرمى إليه بيده الدّجاجة بعد الدجاجة والقطعة «2» الكبيرة من اللحم ونحو ذلك مما على المائدة؛ وكانت له لبؤة لم تأنس بالناس كما أنس هو، فكانت محبوسة فى بيت وله وقت معروف يجتمع بها [فيه «3» ] ، وكان إذا نام خمارويه جاء زريق وقعد ليحرسه، فإن كان [قد «4» ] نام على سريره ربض بين يدى السرير وجعل يراعيه ما دام نائما، وإن نام خمارويه على الأرض قعد قريبا منه وتفطّن لمن يدخل أو يقصد خمارويه لا يغفل عن ذلك لحظة واحدة؛ وكان في عنق زريق طوق من ذهب فلا «5» يقدر أحد أن يدنو من خمارويه ما دام نائما لمراعاة زريق له وحراسته إياه، حتى أراد الله إنفاذ قضائه في خمارويه كان بدمشق وزريق بمصر، ولو كان زريق حاضرا لما كان يصل إلى خمارويه أحد. فما شاء الله كان.
وكان خمارويه أيضا قد بنى دارا جديدة للحرم من أمّهات أولاد أبيه [مع «6» أولادهنّ وجعل معهنّ المعزولات من أمهات أولاده] وجعل فيها لكل واحدة حجرة واسعة، لتكون «7» لهم بعد زوال دولتهم، وأقام لكلّ حجرة من الخدم
والأسمطة الواسعة ما كان يفضل عن أهلها منه شىء كثير؛ وكان الخدم الموكّلون بالحرم من الطبّاخين وغيرهم يفضل لكلّ منهم مع كثرة عددهم الشيء الكثير من الدّجاج ولحم الضأن والحلوى والقطع الكبار من الفالوذج «1» والكثير من اللّوزينج «2» والقطائف «3» والهبرات «4» من العصيدة التى تعرف اليوم بالمأمونية وأشباه ذلك مع الأرغفة الكبار؛ واشتهر بمصر بيع الخدم لذلك؛ فكان الناس يأتونهم لذلك من البعد ويشترون منهم ما يتفكّهون به من الأنواع الغريبة من المأكل؛ وكان هذا دواما في كلّ وقت بحيث إنّ الرجل إذا طرقه ضيف خرج من فوره الى باب دار الحرم فيجد ما يشتريه ليتجمّل به لضيفه مما لا يقدر على عمل مثله. ثم أوسع خمارويه اصطبلاته لكثرة دوابّه فعمل لكلّ صنف من الدوابّ إصطبلا «5» حتى للجمال، ثم جعل للفهود دارا مفردة، ثم للنّمورة دارا مفردة، وللفيلة كذلك، وللزرافات كذلك؛ وهذا كان سوى الاصطبلات التى كانت في الجيزة ومثلها فى نهيا ووسيم وسفط وطهرمس؛ وكانت هذه الضياع لا تزرع إلا القرط «6» برسم الدوابّ؛ وكان للخليفة أيضا إصطبلات بمصر سوى ذلك، فيها الخيل لحلبة السباق
وللرّباط في سبيل الله برسم الغزو، وعلى كل إصطبل وكلاء لهم الرزق السّنىّ والأموال «1» المتّسعة.
وبلغ رزق الجيش المصرىّ في أيام خمارويه في السنة تسعمائة ألف دينار؛ وكان مصروف مطبخ خمارويه في كل شهر ثلاثة وعشرين ألف دينار، وهذا سوى مصروف حرمه «2» وجواريه وما يتعلق بهنّ. وكان خمارويه قد اتّخذ لنفسه من مولّدى الحوف وسائر الضياع قوما معروفين بالشجاعة وشدّة البأس؛ لهم خلق تامّ وعظم أجسام، وأجرى عليهم الأرزاق ووسّع لهم في الغطاء، وشغلهم عما كانوا فيه من قطع الطريق وأذيّة الناس بخدمته، وألبسهم الأقبية من الحرير والديباج وصاغ لهم المناطق وقلّدهم بالسيوف المحلّاة يضعونها على أكتافهم إذا مشوا بين يديه وسمّاهم المختارة؛ فكان هؤلاء يقاتلون أمام جند خمارويه أضعاف ما يقاتله الجند. وكان إذا ركب خمارويه ومضى الحجّاب بين يديه ومشى موكبه على ترتيبه ومضت أصناف العسكر وطوائفه، تلاهم السودان وعدّتهم ألف أسود لهم درق من حديد محكمة الصنعة وعليهم أقبية سود وعمائم سود، فيخالهم الناظر إليهم بحرا أسود يسير على وجه الأرض لسواد ألوانهم [وسواد ثيابهم «3» ] ، ويصير لبريق درقهم وحلىّ سيوفهم والخوذ التى على رءوسهم من تحت العمائم زىّ بهج الى الغاية؛ فإذا مضى السودان قدم خمارويه وقد انفرد عن موكبه وصار بينه وبين الموكب نحو نصف غلوة «4» سهم، وخواصّه تحفّ به.
وكان خمارويه طويل القامة ويركب فرسا تامّا فيصير كالكوكب، إذا أقبل لا يخفى
على أحد كأنه قطعة جبل. وكان خمارويه مهيبا «1» ذا سطوة، قد وقع في قلوب الناس أنه متى أشار إليه أحد بيده أو تكلّم أو قرب منه لحقه ما يكره؛ وكان إذا سار فى موكبه لا يسمع من أحد كلمة ولا سعلة ولا عطسة ولا نحنحة البتّة كأنّما على رءوسهم الطير؛ وكان يتقلّد في يوم العيد سيفا بحمائل، ولا يزال يتفرّج ويتنزّه ويخرج الى المواضع التى لم يكن أبوه يخرج اليها كالأهرام ومدينة العقاب «2» ونحو ذلك لأجل الصيد، فإنه كان مشغوفا به، لا يكاد يسمع بسبع إلا قصده ومعه رجال عليهم لبود فيدخلون الى الأسد ويتناولونه بأيديهم من غابته عنوة وهو سليم، فيضعونه فى أقفاص من خشب محكمة الصنعة تسع الواحد من السباع وهو قائم؛ فإذا قدم خمارويه من الصيد سار القفص [وفيه السبع «3» ] بين يديه. وكانت حلبة السّباق فى أيّامه تقوم عند الناس مقام الأعياد لكثرة الزينة وركوب سائر الجند والعساكر بالسلاح [التامّ «4» والعدد الكاملة] ، ويجلس الناس لرؤية ذلك كما يجلسون في الأعياد.
قلت: والتشبيه أيضا بتلك الأعياد لا بأعياد زماننا هذا، فإن أعيادنا الآن كالمآتم بالنسبة لتلك الأعياد السالفة. انتهى.
وقال القضاعىّ: وكان أحمد بن طولون بنى المنظر لعرض الخيل. قال.
وكان عرض الخيل من عجائب الإسلام الأربع؛ والأربع العجائب: منها كان عرض الخيل بمصر، ورمضان بمكّة، والعيد بطرسوس، والجمعة ببغداد. ثم قال القضاعىّ: وقد ذهب اثنتان من الأربع: عرض الخيل بمصر، والعيد بطرسوس.
انتهى.
وقال المقريزى: وقد «1» ذهبت الجمعة ببغداد بعد القضاعى بقتل هولاكو «2» للخليفة المستعصم ببغداد. وزالت شعائر الإسلام من العراق؛ [وبقيت «3» مكة شرّفها الله تعالى، وليس في شهر رمضان الآن بها ما يقال فيه: إنّه من عجائب الإسلام] .
انتهى كلام المقريزى رضى الله عنه.
قلت: وما زال أمر خمارويه في تزايد إلى أن ماتت حظيّته بوران التى بنى لها القصر المعروف ببيت الذهب المقدّم ذكره، فكدّر موتها عيشه وانكسر انكسارا بان عليه. ثم إنه أخذ في تجهيز ابنته قطر الندى لمّا تزوّجها الخليفة المعتضد، فجهّزها جهازا ضاهى به نعمة الخلافة. وقد ذكرنا سبب زواج الخليفة بابنته قطر الندى المذكور في أوائل ترجمته، ووعدنا بذكر جهازها في آخر الترجمة في هذا المحل.
وكان من جملة جهازها دكّة أربع قطع من ذهب عليها قبّة من ذهب مشبّك «4» فى كل عين من التشبيك قرط معلّق فيه حبّة من جوهر لا يعرف لها قيمة، ومائة هاون من الذهب. وقال الذهبىّ: وألف هاون من ذهب. قال القضاعىّ: وعقد المعتضد النكاح على ابنته قطر الندى فحملها أبو الجيش خمارويه إلى المعتضد مع
أبى عبد الله «1» بن الجصّاص، وحمل معها من الجهاز ما لم ير مثله ولا يسمع به.
ولما دخل إلى خمارويه ابن الجصّاص يودّعه قال له خمارويه: هل بقى بينى وبينك حساب؟ قال: لا؛ فقال خمارويه: انظر حسنا «2» ، فقال: كسر بقى من الجهاز؛ فقال خمارويه: أحضروه، فأخرج ربع طومار «3» فيه ثبت ذكر نفقة الجهاز فإذا فيه أربعمائة ألف دينار، فوهبها له خمارويه. قال محمد «4» بن علىّ الماذرائى: فنظرت فى الطومار فإذا فيه:" [و «5» ] ألف تكّة الثمن [عنها «6» ] عشرة آلاف دينار". قال القضاعىّ:
وإنما ذكرت هذا الخبر ليستدلّ به على [أشياء «7» : منها] سعة نفس أبى الجيش خمارويه؛ ومنها كثرة مال ابن الجصّاص، حتى إنّه قال: كسر بقى من الجهاز، وهو أربعمائة ألف دينار، لو لم يذكّره بذلك لم يذكره؛ ومنها: عمارة مصر في ذلك الزمان لما طلب فيها ألف تكّة من أثمان عشرة دنانير قدر عليها في أيسر وقت بأهون سعى، ولو طلب اليوم خمسون لم يقدر عليها. انتهى كلام القضاعى.
قال المقريزى: ولا يعرف اليوم في أسواق القاهرة تكّة بعشرة دنانير إذا طلبت توجد في الحال ولا بعد شهر، إلا أن يعتنى «8» بعملها. انتهى كلام المقريزى.
ولمّا فرغ خمارويه من جهاز ابنته قطر النّدى أمر فبنى لها على رأس كل منزلة تنزل فيها قصر فيما بين مصر وبغداد. وأخرج معها خمارويه أخاه خزرج «9» بن أحمد ابن طولون في جماعة مع ابن الجصّاص، فكانوا يسيرون بها سير الطفل في المهد؛
فكانت إذا وافت المنزلة وجدت قصرا قد فرش، فيه جميع ما تحتاج إليه. وقد علّقت فيه الستور وأعدّ فيه كلّ ما يصلح لمثلها. وكانت في مسيرها من مصر الى بغداد على بعد الشّقة كأنّها في قصر أبيها، حتى قدمت بغداد في أوّل المحرّم سنة اثنتين وثمانين ومائتين؛ وهى سنة قتل فيها خمارويه المذكور، على ما سيأتى ذكره.
ولمّا دخل بها الخليفة المعتضد أحبّها حبّا شديدا لجمال صورتها وكثرة آدابها.
قيل: إنّه خلا بها في بعض الأيّام فوضع رأسه على ركبتها ونام، وكان المعتضد كثير التحرّز على نفسه؛ فلما نام تلطّفت به وأزالت رأسه عن ركبتها ووضعتها على وسادة، ثم تنحّت عن مكانها وجلست بالقرب منه في مكان آخر؛ فانتبه المعتضد فزعا ولم يجدها، فصاح بها فكلمته في الحال؛ فعتبها على ما فعلت من إزالة رأسه عن ركبتها، وقال لها: أسلمت نفسى لك فتركتنى وحيدا وأنا في النوم لا أدرى ما يفعل بى! فقالت «1» : يا أمير المؤمنين، ما جهلت قدر ما أنعمت به علىّ، ولكن فيما أدّبنى به والدى خمارويه: أنى لا أجلس مع النّيام ولا أنام مع الجلوس؛ فأعجبه ذلك منها الى الغاية. قلت: لله درّها من جواب أجابته به!.
ولمّا فرغ خمارويه من جهاز ابنته قطر الندى المذكورة وأرسلها إلى زوجها المعتضد بالله، تجهّز وخرج إلى دمشق بعساكره، وأقام بها إلى أن قتل على فراشه فى السنة المذكورة.
قال العلامة شمس الدين في تاريخه مرآة الزمان: كان خمارويه كثير الفساد بالخدم، دخل الحمّام مع جماعة منهم فطلب من بعضهم الفاحشة فامتنع الخادم
حياء من الخدم؛ فأمر خمارويه أن يضرب، فلم يزل يصيح حتى مات في الحمّام، فأبغضه الخدم. وكان قد بنى قصرا بسفح قاسيون «1» أسفل من دير مرّان «2» يشرب فيه [الخمر «3» ] ، فدخل تلك الليلة الحمّام «4» فذبحه خدمه، وقيل: ذبحوه على فراشه وهربوا، وقيل غير ذلك: إنّ بعض «5» خدمه يولع بجارية له فتهدّدها خمارويه بالقتل، فاتّفقت مع الخادم على قتله. وكان ذبحه في منتصف ذى الحجة، وقيل: لثلاث خلون منه من سنة اثنتين وثمانين ومائتين. وكان الأمير طغج بن جفّ معه في القصر في تلك الليلة، فبلغه الخبر فركب في الحال وتتبّع الخدم وكانوا نيّفا وعشرين خادما، فأدركهم وقبض عليهم وذبحهم وصلبهم، وحمل أبا الجيش خمارويه في تابوت من دمشق إلى مصر وصلّى عليه ابنه جيش ودفن. ويقال: إنّه دفن بالقصر إلى جانب أبى عبيدة البرانىّ «6» ؛ فرآه بعض أصحابه في المنام فقال له: ما فعل الله بك؟ فقال:
غفر لى بالقرب من أبى عبيدة ومجاورته. انتهى كلام صاحب المرآة. وقال غيره: قتل على فراشه، ذبحه جواريه وخدمه وحمل في صندوق الى مصر.
وكان لدخول تابوته إلى مصر يوم عظيم، استقبله جواريه وجوارى غلمانه ونساء قوّاده بالصّياح وما تصنع النساء في المآتم؛ وخرج الغلمان وقد حلّوا أقبيتهم وفيهم من سوّد ثيابه وشقّها، فكانت في البلد ضجّة وصرخة حتى دفن. وكانت مدّة ملكه