الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر ولاية أبى العساكر جيش على مصر
هو أبو العساكر جيش بن أبى الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون. ولى مصر والشام بعد قتل أبيه خمارويه بدمشق في يوم سابع عشر ذى القعدة سنة اثنتين وثمانين ومائتين، فأقام بدمشق أيّاما ثم عاد الى ديار مصر، ودام بها الى أن وقع منه أمور أنكرت عليه فاستوحش الناس منه؛ وكان لمّا مات أبوه تقاعد عن مبايعته جماعة من كبار القوّاد لقلّة المال وعجزه عن أن ينعم «1» عليهم لأن أبا الجيش خمارويه كان أنفق في جهاز ابنته قطر الندى لما زوّجها للخليفة المعتضد جميع ما كان فى خزائنه، ومات بعد ذلك بمدّة يسيرة. قال بعضهم: فمات حقّا حين حاجته إلى الموت، لأنه لو عاش أكثر من هذا حتى يلتمس ما كانت جرت عادته به لاستصعب ذلك عليه، ولو نزلت به ملمّة لافتضح. انتهى.
ولّما تقاعد كبار القوّاد عن بيعة جيش تلطّف بعض «2» القوّاد في أمره حتى تمّت البيعة، وبايعوه وهو صبىّ لم يؤدّبه الزمان، ولا محنه التجارب والعرفان؛ وقد قيل:«بعيد نجيب ابن نجيب من نجيب» .
فلما تمّ أمر جيش المذكور أقبل على الشّرب واللهو مع عامّة أوباش، منهم:
غلام رومىّ لا وزن له ولا قيمة يعرف ببندقوش، ورجلان من عامّة العيّارين «3» الذين يحملون الحجارة الثّقال والعمد الحديد ويعانون الصّراع، أحدهما يعرف بخضر، والثانى يعرف بابن البوّاش، وغير هؤلاء من غلمان لم يكن لهم حال، جعلهم بطانته؛ فأوّل شىء حسّنوه له أن وثّبوه على عمّه أبى العشائر «4» ، فقالوا له: هذا يرى نفسه أنه هو
الذي ردّ الدولة يوم الطواحين «1» لمّا انهزم أبوك، وكان يقرّع أباك بهزيمته يومئذ ويذيع ذلك عند خاصّته. ويقولون «2» أيضا: إنه هو الذي همّ «3» بالوثوب حتى صنع أهل برقة فيه ما صنعوا، ويتلفّت الى أهل برقة ويرى أنهم أعداؤه، ويتربّص بهم أن تدول له دولة فيأخذ بثأره «4» منهم، فهو يتلمّظ «5» إلى الدولة والى ما في نفسه مما ذكرناه والمنايا تتلمّظ إليه كما قال الشاعر:
تلمّظ السيف من شوق إلى أنس
…
والموت يلحظ والأقدار تنتظر
فعند ذلك قبض عليه جيش هذا ودسّ إليه من قتله، ثم قال عنه: إنه مات حتف أنفه؛ وتحقّق الناس قتله فنفرت القلوب عنه أيضا، لكونه قتله بغيا عليه وتعدّيا. ثم اشتغل بعد ذلك جيش بهذه الطائفة المذكورة عن حقوق قوّاد أبيه وعن أحوال الرعيّة، وكانت القوّاد أمراء شدادا يرون أنفسهم بعينها «6» فى التقديم والرياسة والشجاعة، وإنما كان قيّدهم «7» أبوه خمارويه بجميل أفعاله وكريم مقدّماته اليهم ولسعة الإفضال عليهم، وهم مثل خاقان المفلحى «8» ، ومحمد بن إسحاق بن كنداج «9» ،
ووصيف بن سوار تكين «1» ، وبندقة بن لمجور «2» ، وأخيه محمد بن لمجور، وابن قراطغان «3» ، ومن أشبههم. ثم انتقل من هذا إلى أن صار إذا أخذ منه النبيذ يقول لطائفته التى ذكرناها واحدا بعد واحد: غدا أقلّدك موضع فلان وأهب لك داره وأسوّغك نعمته، فأنت أحقّ من هؤلاء الكلاب؛ كلّ ذلك ومجالسه تنقل إليهم. فعند ذلك بسط القوّاد ألسنتهم فيه، وشكا القوّاد بعضهم إلى بعض ما يلقونه منه، فقالوا:
نفتك به ولا نصبر له على مثل هذا، وبلغه الخبر فلم يكتمه ولم يتلاف القضيّة ولا شاور من يدلّه على مداواة «4» أمره، بل أعلن بما بلغه عنهم وتوعّدهم، وقال:
لأطلقنّ الرجّالة عليهم ولأفعلنّ بهم؛ فاتصلت بهم مقالته فاعتزل من عسكره كبار القوّاد من الذين سمّيناهم، مثل ابن كنداج وطبقته، وخرجوا في خاصّة غلمانهم وهى زهاء ثلثمائة غلام، وساروا على طريق أيلة «5» وركبوا جبل «6» الشّراة حتى وصلوا إلى الكوفة، بعد أن نالهم في طريقهم كدّ شديد ومشقّة، وكادوا أن يهلكوا عطشا، واتصلت أخبارهم بالخليفة المعتضد ببغداد فوجّه إليهم بالزاد والميرة والدوابّ، وبعث إليهم من يتلقّاهم وقبلهم أحسن قبول وأجزل جوائزهم وضاعف أرزاقهم، وخلع عليهم وصنع في أمرهم كلّ جميل. والمعتضد هذا هو صهر جيش صاحب
الترجمة وزوج أخته قطر النّدى المقدّم ذكرها في ترجمة أبيها خمارويه. واستمرّ جيش هذا مع أوباشه بمصر، وبينما هو في ذلك ورد عليه الخبر بخروج طغج بن جفّ أمير دمشق عن طاعته، وخروج ابن طغان «1» أمير الثغور أيضا، وأنهما خلعاه جميعا وأسقطا اسمه من الدعوة والخطبة على منابر أعمالهم، فلم يكر به ذلك ولا استشنعه ولا رئى له على وجهه أثر. فلمّا رأى ذلك من بقى من غلمان أبيه بمصر مشى بعضهم إلى بعض وتشاوروا في أمره، فاجتمعوا على خلعه، وركب بعضهم وهجم عليه غلام لأبيه خزرىّ يقال له برمش «2» ، فقبض عليه وهمّ بقتله ثم كفّ عنه؛ فلمّا كان من الغد اجتمع القوّاد في مجلس من مجالس دار أبيه، وتذاكروا أفعاله وأحضروا معهم عدول البلد، وأعادوا لهم أخباره، وقالوا لهم: ما مثل هذا يقلّد شيئا من أمور المسلمين؛ وأحضروه لأن جماعة من غلمان أبيه- يعنى مماليكه- قالوا: لا نقلّد غيره حتى يحضر ونسمع قوله، فإن وعد برجوع وتاب من فعله أمهلناه وجرّبناه، وإن أقرّ بعجزه عن حمل ما حمل وجعلنا في حلّ من بيعته بايعنا غيره على يقين وعلى غير إثم؛ فأحضروه فاعترف أنه يعجز عن القيام بتدبير الدولة وأنه قد جعل من له فى عنقه بيعة في حلّ، وعمل بذلك محضر شهد فيه عدول البلد ووجوهه ومن حضر من القوّاد والغلمان- أعنى المماليك- وصرفوه؛ وكان قبل القبض عليه ركبوا إلى أبى جعفر ابن أبىّ «3» وقالوا له: أنت خليفة أبيه وكان ينبغى لك أن تؤدّبه وتسددّه؛ فقال لهم: قد تكلمت جهدى، ولكن لم يسمع منّى، وبعد فتقدّمونى إليه فتسمعون ما أخاطبه به،
فتقدّموه وركب من داره فلما جاوز داره قليلا لقيه برمش فضرب بيده على شكيمة فرسه، وقال له: أنت خليفة أبيه وخليفته، ونصف ذنبه لك، وجرّه جرّا؛ وبينما هو في ذلك إذ أقبل علىّ بن أحمد فقبض على الآخر وقال له: أنت وزيره وكاتبه وعليك ذنبه، لأنه كان يجب عليك تقويمه وتعريفه ما يجب عليه، فصعد بالاثنين جميعا الى المنظر وقعد معهما كالملازم «1» ، وبينهما هو على ذلك إذ خطر على قلبه شىء، فقام الى دابته وتركهما ومضى نحو باب المدينة، فوثب من فوره ابن أبىّ «2» الى دابّته وركبها وقال لعلىّ ابن أحمد: اركب والحقنى، وحرّك دابّته فإنه كان أحسّ الموت، ثم جاءه الخلاص من الله؛ وركب بعده علىّ بن أحمد، فلم يتحاوز المنظر حتى لحقه طائفه من الرّجّالة فقتلوه؛ ومرّ ابن أبىّ إلى نحو المعافر «3» فتكمّن هناك واختفى؛ وعاد برمش فلم يجد ابن أبىّ، فمضى من فوره وهجم على جيش وقبض عليه، حسبما ذكرناه من خلعه وحبسه. وورّى جثّة علىّ بن أحمد؛ وسلم ابن أبىّ. فقال بعضهم في علىّ بن أحمد:
أحسن الى الناس طرّا
…
فأنت فيهم معان
واعلم بأنك يوما
…
كما تدين تدان
وقيل في أمر جيش المذكور وجه آخر، وهو أنه لمّا وقع من أمر القوّاد ما وقع خرج أبو العساكر جيش الى متنزّه له بمنية الأصبغ «4» غير مكترث بما وقع له، وبينما هو في ذلك ورد عليه الخبر بوثوب الجند عليه، وقالوا له: لا نرضى بك أبدا
فتنحّ عنّا حتى نولّى عمّك نصر بن أحمد بن طولون؛ فخرج اليهم كاتبه علىّ بن أحمد الماذرائىّ، الذي تقدّم ذكر قتله، وسألهم «1» أن ينصرفوا عنه يومهم فانصرفوا؛ فقام جيش المذكور من وقته ودخل على عمّه نصر وكان في حبسه فضرب عنقه وعنق عمّه الآخر، ورمى برأسيهما «2» الى الجند، وقال: خذوا أميركم؛ فلما رأوا ذلك هجموا عليه وقتلوه وقتلوا أمّه معه ونهبوا داره وأحرقوها وأقعدوا أخاه هارون بن خمارويه فى الإمرة مكانه. ثم طلب علىّ بن أحمد الماذرائىّ كاتبه المقدّم ذكره وقتلوه، وقتلوا أيضا بندقوش وابن البواش، ونهبت دار جيش؛ قوقع في أيدى الجند من نهبها ما يملأ قلوبهم وعيونهم، حتى إنّ بعضهم من كثرة ما حصل له ترك الجنديّة وسكن الريف، وصار من مزارعيه وتجّاره. وقال العلامة شمس الدين يوسف ابن قزأوغلى في مرآة الزمان وجها آخر في قتل جيش هذا، فقال: ولى إمرة دمشق بعد موت أبيه بمدّة يسيرة، ثم خرج الى مصر في هذه السنة- يعنى سنة ثلاث «3» وثمانين ومائتين- واستعمل على دمشق طغج بن جفّ؛ فلما دخل الى مصر لم يرض به أهلها، وقالوا: نريد أبا العشائر هارون؛ فوثب عليه هارون فقتله في جمادى الآخرة، وكانت ولايته خمسة «4» أشهر، واستولى على مصر.
قال ربيعة بن أحمد بن طولون: لما قتل أخى خمارويه ودخل ابنه جيش مصر قبض علىّ وعلى عمّيه نصر وشيبان ابنى أحمد بن طولون، وحبسهما في حجرة معى في الميدان، وكان كلّ يوم تأتينا المائدة عليها الطعام فكنّا نجتمع عليها؛ فجاءنا