الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
***
[ما وقع من الحوادث سنة 317]
السنة السادسة من ولاية تكين الرابعة على مصر، وهى سنة سبع عشرة وثلثمائة- فيها خلع أمير المؤمنين المقتدر بالله جعفر من الخلافة، خلعه مؤنس الخادم ونازوك الخادم وأبو الهيجاء عبد الله بن حمدان، وأحضروا من دار الخلافة «1» محمد ابن الخليفة المعتضد، وبايعوه بالخلافة ولقّبوه بالقاهر بالله؛ وذلك في الثّلث الأخير من ليلة السبت خامس عشر المحرّم من السنة المذكورة. وتولّى أبو علىّ بن مقله صاحب الخط المنسوب [اليه] الوزارة، وقلّد نازوك الحجبة مضافة الى شرطة بغداد، وأضيف الى أبى الهيجاء عبد الله بن حمدان ولاية حلوان والدّينور ونهاوند وهمذان وغيرها مع ما كان بيده قبل ذلك من الولايات، مثل: الموصل والجزيرة وميّافارقين.
ووقع النهب في دار الخلافة؛ وكان لأمّ المقتدر سمّائة ألف دينار في الرصّافة فأخذت؛ واستتر المقتدر عند»
أمّه. وبعد ثلاثة أيّام حضرت الرّجّالة من الجند وامتلأت دار الخلافة وازدحم الناس ودخلوا الى المقتدر وحملوه على رقابهم، وصاحوا: يا مقتدر يا منصور، وخرجوا به وبايعوه ثانيا بالخلافة بعد أمور وقعت بين القوّاد والجند من وقائع وحروب؛ وقتل أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان ونازوك، وخلع القاهر محمد، وأمّنه أخوه المقتدر هذا؛ وسكنت الفتنة بعد حروب وقعت ببغداد وقتل فيها عدّة من الأعيان والجند. قلت: وهذه ثانى مرّة خلع فيها المقتدر من الخلافة؛ لأنه خلع أوّلا بعبد الله بن المعتزّ في شهر ربيع الأول سنة ستّ وتسعين ومائتين، وهذه الثانية.
ثم استقر بعد هذه في الخلافة الى أن مات، حسبما يأتى ذكره في محلّة. وفيها ظهر
هارون بن غريب ودخل الى مؤنس وسلّم عليه، وقلّد الجبل فخرج إليه. وقلّد المقتدر إبراهيم ومحمدا ابنى رائق شرطة بغداد، وقلّد مظفّر بن ياقوت الحجابة. وماتت ثمل القهرمانة وخلّفت أموالا كثيرة. وفيها سيّر المقتدر ركب الحاجّ مع منصور الديلمىّ فوصلوا الى مكّة سالمين؛ فوافاهم يوم التروية عدوّ الله أبو طاهر القرمطىّ فقتل الحجيج قتلا ذريعا في فجاج مكّة وفي داخل البيت الحرام- لعنه الله- وقتل ابن محارب أمير [مكة]«1» ، وعرّى البيت، وقلع باب البيت، واقتلع الحجر الأسود وأخذه، وطرح القتلى فى بئر زمزم، وفعل أفعالا لا يفعلها النصارى ولا اليهود بمكّة؛ ثم عاد الى هجر ومعه الحجر الأسود؛ فدام الحجر الأسود عندهم الى أن ردّ الى مكانه في خلافة المطيع، على ما سيأتى ذكره إن شاء الله تعالى. [وجلس «2» أبو طاهر على باب الكعبة والرجال تصرع حوله في المسجد الحرام يوم التروية، الذي هو من أشرف الأيام، وهو يقول] :
أنا لله وبالله أنا
…
يخلق الخلق وأفنيهم أنا «3»
ودخل رجل من القرامطة الى حاشية الطواف وهو راكب سكران، فبال فرسه عند البيت، ثم ضرب الحجر الأسود بدبّوس فكسره ثم اقتلعه. وكانت إقامة القرمطىّ بمكّة أحد عشر يوما. فلما عاد القرمطىّ الى بلاده رماه الله تعالى في جسده حتى طال عذابه وتقطّعت أوصاله وأطرافه وهو ينظر اليها، وتناثر الدود من لحمه.
قلت: هذا ما عذّب به في الدنيا، وأما الأخرى فأشدّ إن شاء الله تعالى وأدوم عليه
وأعوانه وذرّيته لعنة الله عليهم. وفيها وقعت الوحشة بين الأمير تكين أمير مصر صاحب الترجمة وبين محمد بن طغج أمير الحوف، فخرج محمد بن طغج من مصر سرّا «1» خوفا من تكين ولحق بالشام. وفيها هلك القرمطىّ أبو طاهر سليمان بن أبى سعيد الحسن بن بهرام الجنّابىّ القرمطىّ لعنه الله. ولى أبو طاهر هذا أمر القرامطة بعد موت أبيه- عليهما اللعنة- بوصيّة أبيه إليه، وغلط أبو القاسم السّمنانىّ «2» فى تاريخه، قال: الذي قلع الحجر الأسود أبو سعيد الجنّابىّ «3» ؛ وإنما هو ابنه أبو طاهر هذا، عليهما اللعنة. ولما ولى أبو طاهر هذا أمر القرامطة قوى أمره وحارب عساكر الخليفة، واتسع ملكه وكثرت جنوده ونال من الدنيا ما لم ينله أبوه ولا جدّه؛ وكان زنديقا ملحدا لا يصلّى ولا يصوم شهر رمضان، مع أنه كان يظهر الإسلام ويزعم أنه داعية المهدىّ عبيد الله. وقد تقدّم من أخباره ما فيه كفاية عن ذكره هنا: من قتله الحجّاج، وسفكه الدماء، وأخذه أموال الناس، وأشياء كثيرة من ذلك.
وقد كان هذا الملعون أشدّ ما يكون من البلاء على الإسلام وأهله، وطالت أيّامه.
ومنهم من يقول: إنه هلك عقيب أخذه الحجر الأسود- أعنى في هذه السنة- والظاهر «4» خلافه. وكان أبو طاهر المذكور مع قلّة دينه عنده فضيلة وفصاحة وأدب. ومن شعره القصيدة التى أوّلها:
أغرّكم منّى رجوعى الى هجر
…
فعمّا قليل سوف يأتيكم الخبر
إذا طلع المرّيخ من أرض بابل
…
وقارنه كيوان فالحذر الحذر
فمن مبلغ أهل العراق رسالة
…
بأنّى أنا المرهوب «5» فى البدو والحضر
ومنها:
فيا ويلهم من وقعة بعد وقعة
…
يساقون سوق الشاء للذّبح والبقر
سأصرف «1» خيلى نحو مصر وبرقة
…
الى قيروان الترك والروم والخزر
ومنها:
أكيلهم بالسيف حتّى أبيدهم
…
فلا أبق منهم نسل أنثى ولا ذكر
أنا الدّاع للمهدىّ لا شكّ غيره
…
أنا الصارم الضّرغام والفارس الذكر
أعمّر حتّى يأتى عيسى بن مريم
…
فيحمد آثارى وأرضى بما أمر
ولكنّه حتم علينا مقدّر
…
فنفنى ويبقى خالق الخلق والبشر
وفيها توفّى أحمد بن الحسين الإمام العلامة أبو سعيد البردعىّ الحنفىّ شيخ الحنفيّة في زمانه، استشهد بمكّة بيد القرامطة. وفيها توفّى أحمد بن مهدىّ بن رستم، كان شيخا صالحا ذا مال كثير أنفقه كلّه على العلم، ولم يعرف له فراش أربعين سنة.
وفيها توفّى عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن المرزبان بن شابور بن شاهنشاه أبو القاسم البغوىّ الأصل البغدادىّ، مسند الدنيا وبقيّة الحفّاظ، وهو ابن بنت أحمد بن منيع؛ ولد ببغداد في أوّل شهر رمضان سنة أربع عشرة ومائتين، وسمع الكثير ورحل [الى] البلاد، وروى عنه خلائق لا يحصيهم إلا الله، لأنه طال عمره وتفرّد في الدنيا بعلوّ السند. رضى الله عنه. وفيها توفى نازوك الخادم قتيلا في هذه السنة في واقعة خلع المقتدر. كان نازوك المذكور شجاعا فاتكا، غلب على الأمر وتصرّف في الدولة، وعلم مؤنس الخادم أنه متى وافقه على خلع المقتدر لم يبق له فى الدولة أمر ولا نهى، فوافقه ظاهرا وواطأ الرّجالة على «2» قتله حتى تمّ له ذلك.
وكان لتازوك أكثر من ثلثمائة مملوك.