المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر ولاية أحمد بن طولون على مصر - النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة - جـ ٣

[ابن تغري بردي]

فهرس الكتاب

- ‌[الجزء الثالث]

- ‌[تتمة ما وقع من الحوادث سنة 254]

- ‌ذكر ولاية أحمد بن طولون على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 255]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 256]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 257]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 258]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 259]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 260]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 261]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 262]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 263]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 264]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 265]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 266]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 267]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 268]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 269]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 270]

- ‌ذكر ولاية خمارويه على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 271]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 272]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 273]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 274]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 275]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 276]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 277]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 278]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 279]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 280]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 281]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 282]

- ‌ذكر ولاية أبى العساكر جيش على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 283]

- ‌ذكر ولاية هارون بن خمارويه على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 284]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 285]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 286]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 287]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 288]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 289]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 290]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 291]

- ‌ذكر ولاية شيبان بن أحمد بن طولون على مصر

- ‌ذكر أوّل من ولى مصر بعد بنى طولون وخراب القطائع إلى الدولة الفاطمية العبيديّة وبناء القاهرة على الترتيب المقدّم ذكره

- ‌ذكر ولاية عيسى النّوشرىّ على مصر

- ‌ذكر ولاية محمد بن علىّ الخلنجىّ على مصر

- ‌ذكر عود عيسى النوشرىّ إلى مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 292]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 293]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 294]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 295]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 296]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 297]

- ‌ذكر ولاية تكين الأولى على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 298]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 299]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 300]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 301]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 302]

- ‌ذكر ولاية ذكا الرومىّ على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 303]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 304]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 305]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 306]

- ‌ذكر ولاية تكين الثانية على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 307]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 308]

- ‌ذكر ولاية أبى قابوس محمود على مصر

- ‌ذكر ولاية تكين الثالثة على مصر

- ‌ذكر ولاية هلال بن بدر على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 309]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 310]

- ‌ذكر ولاية أحمد بن كيغلغ الأولى على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 311]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 312]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 313]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 314]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 315]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 316]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 317]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 318]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 319]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 320]

- ‌ذكر ولاية محمد بن طغج الأولى على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 321]

- ‌ذكر ولاية أحمد بن كيغلغ الثانية على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 322]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 323]

- ‌ذكر ولاية محمد بن طغج الإخشيذ ثانية على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 324]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 325]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 326]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 327]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 328]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 329]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 330]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 331]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 332]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 333]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 334]

- ‌ذكر ولاية أنوجور بن الإخشيذ على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 335]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 336]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 337]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 338]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 339]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 340]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 341]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 342]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 343]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 344]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 345]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 346]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 347]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 348]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 349]

- ‌ذكر ولاية علىّ بن الإخشيذ على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 350]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 351]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 352]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 353]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 354]

الفصل: ‌ذكر ولاية أحمد بن طولون على مصر

[الجزء الثالث]

بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحابته والمسلمين.

الجزء الثالث من كتاب النجوم الزاهرة

[تتمة ما وقع من الحوادث سنة 254]

‌ذكر ولاية أحمد بن طولون على مصر

«1»

هو أحمد بن طولون «2» الأمير أبو العبّاس التركىّ أمير مصر، ولى مصر بعد عزل أرخوز «3» بن أولوغ طرخان فى شهر رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين، وقد مضى من عمره أربع وثلاثون سنة ويوم واحد. وكان أبوه طولون مولى نوح [بن أسد «4» ابن سامان السامانىّ] عامل بخارى وخراسان، أهداه نوح فى جملة مماليك إلى المأمون ابن الرشيد، فرقّاه المأمون حتى صار من جملة الأمراء. وولد له ابنه أحمد هذا فى سنة عشرين ومائتين، وقيل فى سنة أربع عشرة ومائتين، ببغداد، وقيل بسرّمن رأى وهو الأشهر، من جارية تسمّى هاشم، وقيل قاسم. وقيل: إن أحمد

ص: 1

هذا لم يكن ابن طولون وإنما طولون تبنّاه؛ قال أبو عبد الله محمد «1» بن أبى نصر الحميدىّ: قال بعض المضريين: إن طولون تبنّاه لما رأى فيه من مخايل النجابة. ودخل عليه يوما [وهو صغير «2» ]، فقال: بالباب قوم ضعفاء فلو كتبت لهم بشىء! فقال [له «3» ] طولون: ادخل إلى المقصورة وأتنى بدواة؛ فدخل أحمد فرأى بالدّهليز جارية من حظايا طولون قد خلا بها خادم، فأخذ أحمد الدواه وخرج ولم يتكلّم؛ فحسبت الجارية أنه يسبقها إلى طولون بالقول، فجاءت إلى طولون وقالت: إنّ أحمد راودنى الساعة فى الدهليز، فصدّقها طولون، وكتب كتابا لبعض خدمه يأمره بقتل حامل الكتاب من غير مشورة، وأعطاه لأحمد وقال: اذهب به إلى فلان؛ فأخذ أحمد الكتاب ومرّ بالجارية؛ فقالت له: إلى أين؟ فقال: فى حاجة مهمّة للأمير فى هذا الكتاب؛ فقالت:

أنا أرسله، ولى بك حاجة؛ فدفع إليها الكتاب فدفعته إلى الخادم المذكور، وقالت:

اذهب به إلى فلان؛ وشاغلت أحمد بالحديث، أرادت بذلك أن يزداد عليه الأمير طولون غضبا. فلما وقف المأمور على الكتاب قطع رأس الخادم وبعث به إلى طولون؛ فلما رآه عجب واستدعى أحمد وقال له: اصدقنى! ما الذي رأيت فى طريقك إلى المقصورة؟ قال: لا شىء؛ قال: اصدقنى وإلا قتلتك! فصدقه الحديث؛ وعلمت الجارية بقتل الخادم، فخرجت «4» ذليلة؛ فقال لها طولون:

اصدقينى فصدقته فقتلها؛ وحظى أحمد عنده.

ص: 2

وقال أحمد بن يوسف: قلت لأبي العباس بن خاقان: الناس فرقتان فى ابن طولون، فرقة تقول: إنّ أحمد ابن طولون، وأخرى تقول: هو ابن يلبخ «1» التركىّ، وأمّه قاسم جارية طولون؛ فقال: كذبوا، إنما هو ابن طولون. ودليله أنّ الموفّق لما لعنه نسبه إلى طولون ولم ينسبه إلى يلبخ، ويلبخ مضحاك يسخر منه، وطولون معروف بالسّتر. وقال أحمد بن يوسف المذكور: كان طولون رجلا من أهل طغزغز «2» حمله «3» نوح بن أسد عامل بخارى إلى المأمون [فيما كان موظّفا عليه من المال والرقيق والبراذين وغير ذلك فى كلّ سنة «4» ] . وولد [له «5» ] أحمد [سنة عشرين «6» ومائتين] من جارية، ومات أبوه طولون فى سنة أربعين ومائتين، وقيل: فى سنة ثلاثين ومائتين، والأوّل أصح. انتهى كلام ابن يوسف.

ونشأ أحمد بن طولون على مذهب جميل، وحفظ القرآن وأتقنه «7» ، وكان من نشأته أطيب الناس صوتا به، مع كثرة الدرس وطلب العلم؛ وتفقّه على مذهب الإمام

ص: 3

الأعظم أبى حنيفة. ولما ترعرع «1» أحمد تزوّج بابنة عمّه خاتون فولدت له العباس سنة اثنتين وأربعين ومائتين. ولما مات أبوه طولون فوّض إليه الخليفة المتوكّل ما كان لأبيه، ثم تنقّلت به الأحوال إلى أن ولى إمرة الثغور وإمرة دمشق ثم ديار مصر. وكان يقول: ينبغى للرئيس أن يجعل اقتصاده على نفسه وسماحته على من يقصده ويشتمل عليه، فإنه يملكهم ملكا لا يزول به عن قلوبهم. ونشأ أحمد بن طولون فى الفقه والصلاح والدين والجود حتى صار له فى الدنيا الذكر الجميل.

وكان شديد الإزراء «2» على الترك وأولادهم لما يرتكبونه فى أمر الخلفاء، غير راض بذلك، ويستقلّ عقولهم؛ ويقول: حرمة الدّين عندهم مهتوكة.

وقال الخاقانىّ «3» - وكان خصيصا عند ابن طولون-: وقال لى يوما (يعنى ابن طولون) : يا أخى [الى «4» ] كم نقيم على هذا الإثم مع هؤلاء الموالى! (يعنى الأتراك) ، لا يطئون موطئا إلا كتب علينا الخطأ والإثم؛ والصواب أن نسأل الوزير «5» أن يكتب «6» أرزاقنا الى الثغر؛ فسأله فكتب له وخرجنا إلى طرسوس؛ فلما «7» رأى ما الناس عليه

ص: 4

من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر سرّ بذلك؛ فأقمنا نسمع الحديث مدّة، ثم رجعت أنا الى سرّ من رأى، فآستقبلتنى أمّه قاسم بالبكاء وقالت: مات ابنى! فحلفت لها إنه فى عافية؛ ثم عدت الى طرسوس فأخبرته بما رأيت من أمّه وقلت له: إن كنت أردت بمقامك فى هذه البلاد وجه الله وتدع أمّك كذلك فقد أخطأت؛ فوعدنى بالخروج من طرسوس؛ ثم خرجنا ونحن زهاء «1» خمسمائة رجل- والخليفة يومئذ المستعين بالله- وخرج معنا خادم الخليفة ومعه ثياب مثمّنة «2» من عمل الروم، فسرنا إلى الرّها «3» ؛ فقيل لنا: إنّ جماعة من قطّاع الطريق على انتظاركم، والمصلحة دخولكم حصن الرّها حتى يتفرّقوا «4» ؛ فقال أحمد: لا يرانى الله فارّا «5» وقد خرجت على نيّة الجهاد! فخرجنا والتقينا، فأوقع بالقوم وقتل منهم جماعة وهرب الباقون؛ فزاد فى أعين الناس مهابة وجلالة؛ ووصل الخادم الى المستعين بالثياب، فلما رآها استحسنها؛ فقال له الخادم: لولا ابن طولون ما سلمت ولا سلمنا وحكى له الحكاية؛ فبعث إليه مع الخادم ألف دينار سرّا، وقال له: عرّفه أننى أحبّه، ولولا خوفى عليه قرّبته.

وكان ابن طولون إذا أدخل على المستعين مع الأتراك في الخدمة أومأ اليه الخليفة بالسلام سرّا، واستدام الإحسان إليه ووهب له جارية اسمها ميّاس «6» ، فولدت

ص: 5

له ابنه خمارويه فى المحرّم من سنة خمسين ومائتين. ولما تنكّر «1» الأتراك للمستعين وخلعوه وأحدروه إلى واسط، قالوا «2» له: من تختار أن يكون فى صحبتك؟ فقال:

أحمد بن طولون، فبعثوه معه فأحسن صحبته. ثم كتب الأتراك إلى أحمد: اقتل المستعين ونولّيك واسطا؛ فكتب إليهم لا رآنى «3» الله قتلت خليفة بايعت له أبدا! فبعثوا سعيدا «4» الحاجب فقتل المستعين، فوارى أحمد بن طولون جثّته. ولما رجع أحمد الى سرّ من رأى بعد ما قتل المستعين أقام بها، فزاد محلّه عند الأتراك فولّوه مصر نيابة عن أميرها سنة أربع وخمسين ومائتين. فقال حين دخلها: غاية ما وعدت به فى قتل المستعين واسط، فتركت ذلك لله تعالى، فعوّضنى ولاية مصر والشام.

فلما قتل والى مصر من الأتراك فى أيّام الخليفة المهتدى صار أحمد بن طولون مستقلّا بها فى أيام المعتمد. وقيل: إنّه ولى الشام نيابة عن باكباك «5» ، فلمّا قتل باكباك استقلّ، وكان حكمه من الفرات الى المغرب. وأوّل ما دخل مصر خرج بغا الأصغر، وهو أحمد بن محمد بن عبد الله بن طباطبا، فيما بين برقة والإسكندريّة فى جمادى الأولى سنة خمس وخمسين ومائتين، وسار إلى الصعيد، فقتل هناك وحمل رأسه «6» الى مصر فى شعبان. ثم خرج ابن الصوفىّ العلوىّ، وهو إبراهيم ابن محمد بن يحيى [بن «7» عبد الله بن محمد بن عمر بن على بن أبى طالب]، وتوجّه إلى إسنا فى ذى القعدة فنهب [وقتل «8» أهلها] ؛ وقيل: إنّ أحمد بن طولون بعث

ص: 6

اليه جيشا فكسر الجيش فى ربيع الأوّل سنة ست وخمسين ومائتين، وأرسل اليه ابن طولون جيشا آخر فواقعوه بإخميم فهزموه الى الواح «1» . ثم خرج ابن طولون بنفسه لمحاربة عيسى بن الشيخ، ثم عاد وأرسل جيشا؛ ثم ورد عليه كتاب الخليفة بأنه يتسلّم الأعمال الخارجة عن أرض مصر؛ فتسلّم الإسكندرية وخرج اليها لثمان خلون من شهر رمضان، واستخلف على مصر طغلج «2» صاحب شرطته، ثم عاد الى مصر لأربع «3» عشرة بقيت من شوّال، وسخط على أخيه موسى وأمره بلباس البياض؛ ثم خرج الى الإسكندرية ثانيا [لثمان «4» بقين من] شعبان سنة تسع وخمسين ومائتين، ثم عاد فى شوّال. ثم ورد عليه كتاب المعتمد يستحثّه فى جمع الأموال؛ فكتب اليه ابن طولون: لست أطيق ذلك والخراج فى يد غيرى؛ فأرسل المعتمد على الله اليه نفيسا الخادم بتقليده الخراج وبولايته الثغور الشاميّة. فأقرّ أحمد بن طولون عند ذلك أبا أيّوب أحمد بن محمد [بن شجاع «5» ] على الخراج، وعقد لطخشىّ بن بلبرد «6» على الثغور، فخرج اليها فى سنة أربع وستين ومائتين، فصار الأمر كلّه بيد أحمد ابن طولون، وقويت شوكته بذلك وعظم أمره بديار مصر.

ولما كان فى بعض الأيام ركب يوما ليتصيّد بمصر فغاصت قوائم فرسه فى الرمل فأمر بكشف ذلك الموضع فظفر بمطلب فيه ألف ألف دينار، فأنفقها فى أبواب

ص: 7

البرّ والصدقات، كما سيأتى ذكرها. وكان يتصدّق فى كل يوم بمائة دينار غير ما كان عليه من الرواتب، وكان ينفق على مطبخه فى كلّ يوم ألف دينار، وكان يبعث بالصدقات الى دمشق والعراق والجزيرة والثغور وبغداد وسرّ من رأى والكوفة والبصرة والحرمين وغيرها؛ فحسب ذلك فكان ألفى «1» ألف دينار ومائتى ألف دينار.

ثم بنى الجامع الذي بين مصر وقبّة «2» الهواء على جبل يتسكر خارج القاهرة وغرم عليه أموالا عظيمة.

قال أحمد الكاتب: أنفق عليه مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار. وقال له الصنّاع: على أىّ مثال نعمل المنارة؟ وما كان يعبث قطّ فى مجلسه، فأخذ درجا من الكاغد وجعل يعبث به فخرج بعضه وبقى بعضه فى يده، فعجب الحاضرون، فقال: اصنعوا المنارة على هذا المثال، فصنعوها.

ولما تمّ بناء الجامع رأى أحمد بن طولون فى منامه كأنّ الله تعالى قد تجلّى للقصور «3» التى حول الجامع ولم يتجلّ للجامع، فسأل المعبّرين فقالوا: يخرب ما حوله ويبقى قائما وحده؛ فقال: من أين لكم هذا؟ قالوا: من قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا

، وقوله صلى الله عليه وسلم:«إذا تجلّى الله لشىء خضع له» .

وكان كما قالوا.

ص: 8

وقال بعضهم: إنّ الكنز «1» الذي لقيه ابن طولون منه عّمر الجامع المذكور. وكان بناؤه فى سنة تسع وخمسين ومائتين. وأما أمر الكنز فانه ذكر غير واحد من المؤرّخين أنّ أحمد بن طولون كان له كاتب يعرف بابن دشومة «2» وكان واسع الحيلة بخيل اليد زاهدا فى شكر الشاكرين، لا يهشّ الى شىء من أعمال البرّ، وكان ابن طولون من أهل القرآن إذا جرت منه إساءة استغفر وتضرّع؛ واتّفق أنّ الخليفة المعتمد أمر ابن طولون أن يتسلّم «3» الخراج حسبما ذكرناه، فامتنع من المظالم لدينه، ثم شاور كاتبه ابن دشومة المذكور، فقال ابن دشومه: يؤمّننى الأمير لأقول له ما عندى؟ فقال أحمد بن طولون: قل وأنت آمن؛ فقال: يعلم الأمير أن الدنيا والآخرة ضرّتان، والشهم من لم يخلط إحداهما بالأخرى، والمفرّط من جمع بينهما؛ وأفعال الأمير أفعال الجبابرة، وتوكّله توكّل الزهّاد، وليس «4» مثله من ركب خطّة لم يحكمها، ولو كنّا نثق بالنصر وطول العمر لما كان شىء آثر عندنا من التضييق على أنفسنا فى العاجل لعمارة الآجل، ولكن الإنسان قصير العمر كثير المصائب والآفات؛ وهذه المظالم قد اجتمع

ص: 9

لك منها فى السنة ما قدره مائة ألف دينار؛ فبات أحمد بن طولون ليلته وقد حرّكه قول ابن دشومة، فرأى فيما يرى النائم صديقا له كان من الزهّاد مات لمّا كان ابن طولون بالثغر قبل دخوله الى مصر، وهو يقول له: بئس ما أشار عليك ابن دشومة فى أمر الارتفاق «1» ، واعلم أنه من ترك شيئا لله عوّضه الله خيرا منه؛ فارجع الى ربّك، وإن كان التكاثر والتفاخر قد شغلاك عنه فى هذه الدنيا. فأمض ما عزمت عليه وأنا ضامن لك من الله تعالى أفضل العوض منه قريبا غير بعيد.

فلما أصبح أحمد بن طولون دعا ابن دشومة فأخبره بما رأى فى نومه؛ فقال له ابن دشومة: أشار عليك رجلان: أحدهما فى اليقظة والآخر فى المنام، وأنت لمن فى اليقظة أوجد وبضمانه أوثق؛ فقال ابن طولون: دعنى من هذا؛ وأزال جميع المظالم ولم يلتفت الى كلامه. ثم ركب أحمد بن طولون الى الصيد، فلما سار فى البرّيّة انخسفت الأرض برجل فرس بعض أصحابه فى قبر فى وسط الرمل؛ فوقف أحمد بن طولون عليه وكشفه فوجد مطلبا واسعا، فأمر بحمله فحمل منه من المال ما قيمته ألف ألف دينار؛ فبنى منه هذا الجامع والبئر «2» بالقرافة الكبرى والبيمارستان «3» بمصر ووجوه البرّ؛ ثم دعا بابن دشومة المقدّم ذكره وقال: والله لولا أنّى أمّنتك لصلبتك، ثم بعد مدّة صادره واستصفى أمواله، وحبسه حتى مات.

وقيل: إن ابن طولون لما فرغ من بناء جامعه المذكور أمر حاشيته بسماع ما يقول الناس فيه من الأقوال والعيوب؛ فقال رجل: محرابه صغير، وقال آخر: ما فيه

ص: 10

عمود، وقال آخر: ليست له ميضأة؛ فبلغه ذلك فجمع الناس وقال: أما المحراب فإنى رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقد خطّه لى فى منامى، وأصبحت فرأيت النمل قد طافت بذلك المكان الذي خطّه لى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وأما العمد فإنّى بنيت هذا الجامع من مال حلال وهو الكنز، وما كنت لأشوبه بغيره؛ وهذه العمد إما أن تكون فى مسجد أو كنيسة فنزّهته عنها؛ وأما الميضأة فإنّى نظرت فوجدت ما يكون بها من النجاسات فطهّرته عنها، وهأنا أبنيها خلفه، وأمر ببنائها.

وقيل: إنه لمّا فرغ من بنائه رأى فى منامه كأنّ نارا نزلت من السماء فأخذت الجامع دون ما حوله من العمران؛ فلمّا أصبح قصّ رؤياه فقيل له: أبشر بقبول الجامع المبارك، لأنّ النار كانت فى الزمن الماضى إذا قبل الله قربانا نزلت نار من السماء أخذته، ودليله «1» قصة قابيل وهابيل «2» .

وكان حول الجامع العمران ملاصقة له، حتى قيل: إن مسطبة كانت خلف الجامع، وكانت ذراعا فى ذراع لا غير، فكانت أجرتها فى كلّ يوم اثنى عشر درهما:

فى بكرة النهار يقعد فيها شخص يبيع الغزل ويشتريه بأربعة دراهم؛ ومن الظهر الى العصر لخبّاز بأربعة دراهم؛ ومن العصر الى المغرب لشخص يبيع فيها الحمّص والفول بأربعة دراهم. قلت: هذا مما يدل على أن الجامع المذكور كان فى وسط العمران.

ص: 11

وهذا الجامع على جبل يشكر- كما ذكرناه- وهو مكان مشهور بإجابة الدعاء، وقيل: إنّ موسى عليه السلام ناجى ربّه- جل جلاله عليه بكلمات. ويشكر المنسوب إليه هذا الجبل هو ابن جزيلة من لخم. انتهى.

وأنفق ابن طولون على البيمارستان ستين ألف دينار، وعلى حصن «1» الجزيرة ثمانين ألف دينار، وعلى الميدان خمسين ألف دينار؛ وحمل إلى الخليفة المعتمد فى مدة أربع سنين ألفى ألف دينار ومائتى ألف دينار. وكان خراج مصر فى أيامه أربعة آلاف ألف وثلثمائة ألف دينار؛ هذا مع كثرة صدقاته وإنفاقه على مماليكه وعسكره.

وقد قال له وكيله «2» فى الصدقات: ربما امتدّت الىّ الكفّ المطوّقة والمعصم فيه السّوار والكمّ الناعم، أفأمنع هذه الوظيفة؟ «3» فقال له: ويحك! هؤلاء المستورون الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، احذر أن تردّ يدا امتدّت اليك.

وقيل: إنه حسّن له بعض التجار التجارة، فدفع له أحمد بن طولون خمسين ألف دينار يتّجر له بها؛ فرأى ابن طولون بعد ذلك فى منامه كأنه يمشمش عظما، فدعا المعبّر وقصّ عليه؛ فقال: قد سمت همّتك إلى مكسب لا يشبه خطرك «4» ؛ فأرسل ابن طولون فى الحال إلى التاجر وأخذ المال منه فتصدّق به.

ص: 12

وكان جميع خصال ابن طولون محمودة، إلا أنه كان حادّ الخلق والمزاج؛ فإنه لما ولى مصر والشام ظلم كثيرا وعسف وسفك كثيرا من الدماء. يقال: إنه مات فى حبسه «1» ثمانية عشر ألفا، فرأى فى منامه كأنّ الحق سبحانه قد مات فى داره فاستعظم ذلك وانتبه فزعا، وجمع المعبّرين فلم يدروا؛ فقال له بعضهم: أقول ولى الأمان؟

قال نعم؛ قال: أنت رجل ظالم، قد أمتّ الحقّ فى دارك! فبكى.

وكان فيه ذكاء وفطنة وحدس ثاقب. قال محمد بن عبد الملك الهمذانىّ:

إن ابن طولون جلس يأكل، فرأى سائلا فأمر له بدجاجة ورغيف وحلواء، فجاءه الغلام فقال: ناولته فما هشّ له؛ فقال ابن طولون: علىّ به، فلما مثل بين يديه لم يضطرب من الهيبة؛ فقال له ابن طولون: أحضر لى الكتب التى معك واصدقنى، فقد صحّ عندى أنك صاحب خبر، وأحضر السياط فاعترف؛ فقال له بعض من حضر: هذا والله السحر الحلال! قال ابن طولون: ما هو سحر ولكنّه قياس صحيح، رأيت سوء حاله فسيّرت له طعاما يشره له الشبعان فما هشّ له، فأحضرته فتلقّانى بقوّة جأش، فعلمت أنه صاحب خبر لا فقير، فكان كذلك.

وقال أبو الحسين الرازىّ: سمعت أحمد [بن أحمد «2» ] بن حميد بن أبي العجائز وغيره من شيوخ دمشق قالوا: لما دخل أحمد بن طولون دمشق وقع بها حريق عند كنيسة مريم، فركب ابن طولون إليه ومعه أبو زرعة البصرى «3» وأبو عبد الله أحمد ابن محمد الواسطىّ كاتبه؛ فقال ابن طولون لأبى زرعة: ما يسمّى هذا الموضع؟

قال: كنيسة مريم؛ فقال أبو عبد الله: أكان لمريم كنيسة؟ قال: ماهى من بناء

ص: 13

مريم، وإنما بنوها على اسمها؛ فقال ابن طولون: مالك [و] للاعتراض على الشيخ! ثم أمر بسبعين ألف دينار من ماله، وأن يعطى لكل من احترق له شىء ويقبل قوله ولا يستحلف، فأعطوا لمن ذهب ماله. وفضل من المال أربعة عشر ألف دينار؛ ثم أمر بمال عظيم أيضا ففرّق فى فقراء أهل دمشق والغوطة، وأقلّ «1» ما أصاب الواحد من المستورين دينار.

وعن محمد بن على الماذرائىّ «2» قال: كنت أجتاز بتربة أحمد بن طولون فأرى شيخا ملازما للقراءة «3» على قبره، ثم إنى لم أره مدّة، ثم رأيته فسألته فقال: كان له علينا بعض العدل إن لم يكن الكلّ، فأحببت أن أصله بالقراءة؛ قلت: فلم انقطعت؟

قال: رأيته فى النوم وهو يقول: أحبّ ألّا تقرأ عندى، فما تمرّ بآية إلا قرّعت بها وقيل: أما سمعت هذه! انتهى.

قلت: ولمّا ولى أحمد بن طولون مصر سكن العسكر على عادة أمراء مصر من قبله، ثم أحب أن يبنى له قصرا فبنى القطائع. والقطائع قد زالت آثارها الآن من مصر ولم يبق لها رسم يعرف، وكان موضعها من قبّة الهواء، التى صار مكانها الآن قلعة الجبل، الى جامع ابن طولون المذكور وهو طول «4» القطائع، وأما عرضها فانه كان من أوّل الرّميلة من تحت القلعة الى الموضع الذي يعرف الآن بالأرض الصفراء عند مشهد الرأس الذي يقال له الآن زين العابدين؛ وكانت مساحة القطائع ميلا فى ميل.

ص: 14

وقبّة الهواء كانت فى السطح «1» الذي عليه قلعة الجبل. وتحت قبة الهواء كان قصر ابن طولون. وموضع هذا القصر الميدان السلطانى الآن الذي تحت قلعة الجبل بالرّميلة «2» .

وكان موضع سوق الخيل والحمير والبغال والجمال بستانا. ويجاورها الميدان الذي يعرف اليوم بالقبيبات؛ فيصير الميدان فيما بين القصر والجامع الذي أنشأه أحمد بن طولون المعروف به. وبجوار الجامع دار الإمارة فى جهته القبلية، ولها باب من جدار الجامع يخرج منه الى المقصورة المحيطة بمصلّى الأمير الى جوار المحراب، وهناك دار الحرم. والقطائع عدّة قطع يسكن فيها عبيد الأمير أحمد بن طولون وعساكره وغلمانه.

قلت: والقطائع كانت بمعنى الأطباق التى للمماليك السلطانية الآن، وكانت كلّ قطيعة لطائفة تسمّى بها، فكانت قطيعة تسمّى قطيعة السودان، وقطيعة الروم، وقطيعة الفرّاشين- وهم نوع من الجمدارية الآن- ونحو ذلك. وكانت كل قطيعة لسكن جماعة ممن ذكرنا وهى «3» بمنزلة الحارات اليوم. وسبب بناء ابن طولون القصر والقطائع كثرة مماليكه وعبيده، فضاقت دار الإمارة عليه، فركب الى سفح الجبل وأمر بحرث قبور اليهود والنصارى، واختطّ موضعهما وبنى القصر والميدان المقدّم ذكرهما؛ ثم أمر لأصحابه وغلمانه أن يختطّوا لأنفسهم حول قصره وميدانه بيوتا؛ واختطّوا وبنوا حتى اتصل البناء بعمارة الفسطاط- أعنى بمصر القديمة- ثم بنيت القطائع وسمّيت كل قطيعة باسم من سكنها. قال القضاعىّ: وكان للنوبة قطيعة مفردة تعرف بهم، وللروم قطيعة مفردة تعرف بهم، وللفرّاشين قطيعة [مفردة «4» ] تعرف بهم، ولكل صنف من الغلمان قطيعة مفردة تعرف بهم؛ وبنى القوّاد مواضع [متفرّقة «5» ] ،

ص: 15

وعمرت القطائع عمارة حسنة وتفرّقت فيما السكك والأزقّة، وعمرت فيها المساجد الحسان والطواحين والحمّامات والأفران والحوانيت والشوراع.

وجعل ابن طولون قصرا كبيرا فيه ميدانه الذي يلعب فيه بالكرة، وسمّى القصر كلّه الميدان؛ وعمل للقصر «1» أبوابا لكل باب اسم؛ فباب الميدان الكبير كان منه الدخول والخروج لجيشه وخدمه؛ وباب الخاصّة لا يدخل منه إلا خاصّته؛ وباب الجبل «2» الذي يلى جبل المقطم؛ وباب الحرم «3» لا يدخل منه إلا خادم خصىّ أو حرمة؛ وباب الدّرسون كان يجلس فيه حاجب أسود عظيم الخلقة يتقلّد جنايات الغلمان السودان الرّجّالة فقط، واسمه الدرمون وبه سمّى الباب المذكور؛ وباب دعناج لأنه كان يجلس فيه حاجب يقال له دعناج؛ وباب الساج لأنه كان عمل من خشب الساج؛ وباب الصلاة لأنه كان يخرج [منه] إلى الصلاة وكان بالشارع الأعظم، وكان هذا الباب يعرف بباب السباع لأنه كانت عليه صورة سبعين من جبس؛ وكانت «4» هذه الأبواب لا تفتح كلّها إلا فى يوم العيد [أو] يوم عرض الجيش [أو يوم «5» صدقة] ، وما «6» كانت تفتح الأبواب إلا بترتيب فى أوقات معروفة؛ وكان للقصر شبابيك «7» تفتح من سائر نواحى الأبواب تشرف كلّ جهة على باب.

ص: 16

ولما بنى هذا القصر والميدان وعظم أمره زادت صدقاته ورواتبه حتى بلغت صدقاته المرتّبة فى الشهر ألفى دينار، سوى ما كان يغطى ويطرأ عليه؛ وكان يقول:

هذه صدقات الشكر على تجديد النعم؛ ثم جعل مطابخ للفقراء والمساكين فى كلّ يوم، فكان يذبح فيها البقر والغنم ويفرّق للناس فى القدور الفخّار والقصع، ولكل قصعة أو قدر أربعة أرغفة: فى اثنين منها فالوذج، والاثنان الآخران على القدر أو القصعة؛ وكان فى الغالب يعمل سماط عظيم وينادى فى مصر: من أحبّ [أن] يحضر سماط الأمير فليحضر؛ ويجلس هو بأعلى القصر ينظر ذلك ويأمر بفتح جميع أبواب الميدان ينظرهم وهم يأكلون ويحملون فيسّره ذلك ويحمد الله على نعمته. ثم جعل بالقرب من قصره حجرة فيها رجال سمّاهم بالمكبّرين عدّتهم اثنا عشر رجلا، يبيت فى كلّ ليلة منهم أربعة يتعاقبون بالليل نوبا، يكبّرون ويهلّلون ويسبّحون ويقرءون القرآن بطيّب الألحان ويترسّلون بقصائد زهديّة ويؤذّنون أوقات الأذان؛ وكان هو أيضا [من] أطيب الناس صوتا. قلت: ولهذا كان فى هذه الرتبة، لأن الجنسيّة علة الضم.

ولا زال على ذلك حتى خرج من مصر الى طرسوس، ثم عاد الى أنطاكية فى جيوشه، بعد أن كان وقع له مع الموفّق أمور ووقائع يأتى ذكرها فى حوادث سنيه على مصر.

وكان قد أكل من لبن الجاموس وأكثر منه، وكان له طبيب اسمه سعد «1» بن نوفيل نصرانى؛ فقال له: ما الرأى؟ فقال له: لا تقرب الغذاء اليوم وغدا، وكان جائعا فاستدعى خروفا وفراريج فأكل منها، وكان به علّة القيام فامتنع؛ «2» فأخبر الطبيب؛ فقال: إنا لله! ضعفت القوّة المدافعة بقهر الغذاء لها، [فعالجه]«3» فعاوده الإسهال؛

ص: 17

فخرج من أنطاكية فى محفه «1» تحمله الرجال، فضعف عن ذلك فركب البحر الى مصر؛ فقيل لطبيبه: لست بحاذق؛ فقال: والله ما خدمتى له إلا خدمة الفأر للسّنّور، وإن قتلى عنده أهون علىّ من صحبته!.

ولما دخل ابن طولون الى مصر على تلك الهيئة استدعى الأطباء وفيهم الحسن ابن زيرك، فقال لهم: والله لئن لم تحسنوا فى تدبيركم لأضرينّ أعناقكم قيل موتى؛ فخافوا منه، وما كان يحتمى، ويخالفهم. ولما اشتدّ مرضه خرج المسلمون بالمصاحف، واليهود والنصارى بالتوراة والإنجيل، والمعلّمون بالصّبيان، الى الصحراء ودعوا له؛ وأقام المسلمون بالمساجد يختمون القرآن ويدعون له؛ فلما أيس من نفسه رفع يديه إلى السماء وقال: يا ربّ ارحم من جهل مقدار نفسه، وأبطره «2» حلمك عنه؛ ثم تشهّد ومات بمصر فى يوم الاثنين لثمان عشرة خلت من ذى القعدة سنة سبعين ومائتين، وولى مصر بعده ابنه أبو الجيش خمارويه؛ ومات وعمره خمسون سنة بحساب من قال إنّ مولده سنة عشرين ومائتين. وكانت ولايته على مصر سبع عشرة سنة. وقيل: إنّه لمّا ثقل فى الضعف أرسل الى القاضى بكّار بن قتيبة الحنفىّ- وكان قد حبسه فى دار بسبب نحكيه هنا بعد ما نذكر ما أرسل يقول له- فجاء الرسول إلى بكّار يقول له: أنا أردّك الى منزلتك وأحسن؛ فقال القاضى بكّار:

قل له: شيخ فان وعليل مدنف، والملتقى قريب، والقاضى الله عز وجل؛ فأبلغ الرسول ابن طولون ذلك؛ فأطرق ساعة، ثم أقبل يقول: شيخ فان وعليل مدنف والملتقى قريب والقاضى الله! وكرّر ذلك الى أن غشى عليه؛ ثم أمر بنقله من السجن الى دار اكتريت له.

ص: 18

وأما سبب انحراف أحمد بن طولون على القاضى بكّار فلكون «1» أنّ ابن طولون دعا القاضى بكّارا لخلع الموفق من ولاية العهد للخلافة فامتنع؛ فحبسه لأجل هذا؛ وكرر عليه القول فلم يقبل وئالا «2» ؛ وكان «3» أوّلا من أعظم الناس عند ابن طولون.

قال الطحاوىّ: ولا أحصى كم كان أحمد بن طولون يجيء إلى مجلس بكار وهو يملى «4» الحديث ومجلسه مملوء بالناس، ويتقدّم الحاجب ويقول: لا يتغيّر أحد من مكانه؛ فما يشعر بكّار إلّا وابن طولون إلى جانبه؛ فيقول له: أيها الأمير ألا تركتنى [حتى]«5» كنت أقضى حقّك [وأؤدّى «6» واجبك! أحسن الله جزاءك وتولّى مكافأتك] ؛ ثم فسد الحال بينهما حتى حبسه.

قال القاضى شمس الدين أحمد بن محمد بن خلّكان: كان أحمد بن طولون يدفع الى القاضى بكّار فى العام ألف دينار سوى المقرّر له فيتركها بكّار بختمها [ «7» ولا يتصرّف فيها] ؛ فلما دعاه ابن طولون لخلع الموفّق من ولاية العهد امتنع، فاعتقله وطالبه بحمل الذهب فحمله اليه بختومه، وكان ثمانية عشر كيسا فى كل كيس ألف دينار؛ فاستحى ابن طولون عند ذلك من الملأ. قلت: هذا هو القاضى الذي فى الجنة؛ رحمه الله تعالى. وقال أبو عيسى اللؤلؤيّ: رآه بعض أصحابه المتزهّدين فى حال حسنة فى المنام (يعنى ابن طولون)، فقال له: ما فعل الله بك؟ وكيف حالك؟ قال: لا ينبغى لمن سكن الدنيا [أن] يحتقر حسنة فيدعها ولا سيئة فيرتكبها، عدل بى عن النار الى الجنة

ص: 19

بتريّثى «1» على متظلّم عيّ «2» اللسان شديد التهيّب «3» ، فسمعت منه وصبرت عليه حتى قامت حجته وتقدّمت «4» بإنصافه؛ وما فى الآخرة على الرؤساء أشدّ من الحجاب «5» لملتمسى «6» الإنصاف.

ورثاه كثير من الشعراء، من ذلك ما قاله بعض المصريّين:

يا غرّة «7» الدنيا الذي أفعاله

غرر بها كلّ الورى تتعلّق

أنت الأمير على الشآم وثغره

والرّقّتين «8» وما حواه المشرق

واليك مصر وبرقة وحجازها

كلّ «9» إليك مع المدى يتشوّق

وخلّف ابن طولون ثلاثة وثلاثين ولدا، منهم سبعة عشر ذكرا، وهم:

العباس وخمارويه الذي ولى مصر بعد موته، وعدنان ومضر وشيبان وربيعة وأبو العشائر، وهؤلاء أعيانهم، فأما العباس فهو الذي كان عصى على والده ودخل الغرب وحمل الى أبيه أحمد فحبسه ومات وهو فى حبسه، ومات بعد أبيه بيسير؛ وكان شاعرا، وهو القائل:

ص: 20