الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول التأثر المنهجي في مصدر التلقي وطرق الاستدلال
لقد ارتبط بالعلم الحديث مناهج وطرق في النظر والبحث والاستدلال، وقد كان بعض هذه المناهج معروفًا في الحضارات البشرية، وإن كان قد حصل لها تطوير كبير في الحضارة الحديثة. وقد اكتسبت المناهج خصائص ترجع للبيئات التي ظهرت فيها، فمن المُسلّم به الآن في فلسفات العلم أنه لا وجود لمناهج منفصلة عن بيئتها الفكرية والثقافية، ومن ذلك ما حصل لمناهج الفكر والعلم الحديثة في الحضارة الغربية، فهي رغم ما تحاول الظهور به من تقنية عالية وموضوعية، إلا أنها قد اكتسبت خصائص بيئتها العلمانية، مما جعلها ذات موقف خطر فيما يتعلق بأبواب الدين، وتحوي ثغرات خطيرة استغلها أعداء الدين في صراعهم ضدّ الدين، وقد انساق في هذا العداء أو وقع في هذا الانحراف طائفة المتغربين العلمانيين. ومن بين الأمور التي وقع فيها المتغربون العرب من جهة المنهجية أمران: الانحراف في المصدر، بحجة أن العلم لم يتقدم إلا بعد تركه مصدر الدين وهو الوحي، والانحراف في الاستدلال، بحجة أن العلم لم يتقدم إلا بعد تركه المنهجية الدينية، وذلك باعتماد الموضوعية.
وقد عُنِيَ الفكر الغربي الحديث بالمنهج، فجاء ذلك مع التطور العلمي
والفكري الذي كانت بداياته في عصر النهضة، فبعد أن وقعت تلك التحولات المهمة في مجال العلم مع "كوبرنيكوس" و"جاليليو" وغيرهما، ظهرت أهمية تأطير هذا النشاط بمنهج، فجاءت جهود كل من "بيكون" و"ديكارت" بوصفها أهمّ العلامات البارزة في هذا الميدان، مال الأول إلى الجانب التجريبي الحسي بينما اتجه الثاني إلى الجانب العقلي الرياضي، وحدث بعد ذلك تطورات مختلفة كان أهمها على مستوى المنهج جهود ستيورات مل، ثم اتسع الباب مع ظهور الفلسفات العلمية وأهمها الوضعية والمادية والوضعية المنطقية وفلسفة التحليل والتطورية وغيرها.
وإذا ابتعدنا قليلًا عن النظرة الجزئية ونظرنا في الأمر في إطاره العالمي، فإن هذا التحول المهم داخل أوروبا من جهة المنهج قد سُبق بانعطاف كبير في باب المناهج بوساطة الإسهام المهم والضخم الذي قدمته الحضارة الإِسلامية، لاسيما من جهتين: أولاهما من قبل نقاد المنطق، والثانية من جهة المشتغلين بالعلوم الدينية والدنيوية، حيث فسح نقد منطق "أرسطو" المجال نحو البحث عن منهج آخر يُسهم في إثراء المعرفة النافعة العلمية والعملية داخل الحضارة الإِسلامية ومن تأثر بها (1)، وهو ما وجده المشتغلون بالعلوم بعد ذلك في المنهج التجريبي، حيث بدأ المسلمون في تأسيسه، ونجحوا في تشغيله دون أن يقع نزاع بين الدين وبين تلك العلوم ومناهجها، وإن لم يواصلوا فيه حتى يجنوا ثماره لأسباب تاريخية سبق ذكر شيء منها. وقد استفادت أوروبا من هذا النشاط المهم والإسهام الكبير للحضارة الإِسلامية، فأخذت معالم هذا المنهج وانطلقت به إلى ذراه المختلفة، إلا أن مسيرته في أوروبا قد اختلفت عن مسيرته في الحضارة الإِسلامية حيث وقع الفصام النكد بين الدين والعلم، ومن ذلك ما وقع في المنهج ذاته وفي الإطار الذي تتحرك فيه نظرية المعرفة وفلسفات العلم التي تعتني بالعلم ومناهجه.
ارتبط العلم الحديث بالمنهج التجريبي وعمدته على الاستقراء، فبدأت صياغته الفعلية النظرية وتطبيقاته المثمرة في الحضارة الإِسلامية، ثم توسع أمره في الحضارة الغربية الحديثة، وبسبب ما طرأ على مسيرة الفكر الغربي من نزعة
(1) انظر: الفصل الأول من الباب الأول من هذا البحث ص 102.
علمانية وهروب من الدين، فقد أثّر ذلك في مناهج العلوم والأفكار والآداب والفنون وغيرها، وانتقل ذلك إلى الجيل التغريبي داخل العالم الإِسلامي، فقد تبنى هذا الاتجاهُ التغريبي الانحرافَ المنهجي المتلبس بالمناهج المختلفة في المعارف والآداب والأفكار، وسعوا إلى تطبيقه على كل ما يمكنهم تطبيقه عليه في عالمنا الإِسلامي. وسيقف البحث هنا مع أخطر المشكلات التي أثارها الاتجاه التغريبي في المنهج ولاسيّما حول مصدر المعرفة واستبعاد الوحي، ومنهجية الاستدلال ولاسيّما المشكلات التي أثارها مبدأ الموضوعية.