الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وليس بسبب كونه نقليًا أو عقليًا أو علميًا. وأما إن أريد به أن أحدهما قطعي، فالقطعي هو المقدم مطلقًا، وإذا قُدر أن العقلي أو العلمي الحسي هو القطعي كان تقديمه لكونه قطعيًا لا لكونه عقليًا أو عمليًا حسيًا، وبهذا يُعلم أن تقديم العقلي مطلقًا خطأ أو العلمي الحسي كذلك، كما أن جعل جهة الترجيح كونه عقليًا أو علميًا حسيًا خطأ أيضًا (1). قال ابن القيم رحمه الله بعد ذكره للأقسام الثلاثة:"فهذا تقسيم متفق على مضمونه بين العقلاء. فأما إثبات التعارض بين الدليل العقلي والسمعي والجزم بتقديم العقلي مطلقًا، فخطأ واضح معلوم الفساد عند العقلاء"(2).
وهو الذي يُرفع به التوهم، فإن جاء شيء من العلم فلا يُقدم بإطلاق، وإنما يُنظر فيه هل هو قطعي أو ظني، ثم يُنظر فيما يتوهم معارضته من الدين هل هو قطعي أو ظني، فلا يمكن وجودهما في التعارض القطعي، وإن جاء أحدهما قطعيًا قُدم لأنه قطعي، وإن كانا ظنيين انتقلنا إلى الترجيح بينهما. وقد يظن من يجهل حقيقة الدين أن في مثل هذا التقسيم شيء من تقليل شأن الدين (3)، والحقيقة أن هذا من تعظيم الدين، فالكلام هنا ليس عن الدين أو العلم، وإنما هو عن أدلة ومسائل توجد فيهما، وإلا فالمقدم هنا هو الدين مطلقًا وهو الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولكن إذا جاءت أدلة ومسائل توَهم المتوهمُ فيها تعارضًا، فإن الدين يأمر أصحابه بالعلم والبرهان وتقديم الحق على غيره، وهذا التقسيم الذي ذكره أهل السنة هو الذي يستقيم به الأمر.
ثالثًا: "موضوعات الغيب وموضوعات الشهادة - الأكثر إشكالًا
":
يرتفع الكثير من الإشكال بالأصلين السابقين؛ أي: بتجاوز "التعميم والإجمال" أولًا، فهما مظنة الالتباس، ثم بالاعتماد على القطعي دون القول بأنه
(1) ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في الدعوى بين الدليل النقلي والدليل العقلي، وقد أضفت ما هو عند طائفة من المعاصرين أعلى من العقل وهو العلم، انظر: درء التعارض 1/ 79 - 80، 1/ 86 - 87.
(2)
انظر: الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، ابن القيم 3/ 797 - 798.
(3)
قارن كلام الشيخ عبد الرحمن المحمود في كتابه موقف ابن تيمية من الأشاعرة 2/ 827.
النقلي أو العقلي أو الحسي. وباصطحابهما ندخل إلى أكثر صور التعارض المزعومة اشتباهًا وهي النوع الأول: أي: التعارض بين الموضوعات الجزئية، حيث يتكئ عليه أهل التغريب في جعله أداة لإقصاء الدين أو التكذيب بنصوصه، بحجة أن ما يقدمه الدين من معلومات عن موضوعات بعينها يتعارض تمامًا مع العلم الحديث، وليكن النموذج على ذلك إقامتهم التعارض بين ما ورد في الدين عن أمر الكون، ولاسيّما موضوعات الفلك وبين ما يرد في العلم الحديث حول الموضوع نفسه، وذلك أنها أول مسألة سببت نزاعًا في الفكر الحديث، في الغرب أولًا ثم في العالم الإسلامي، وما زالت تُثير بعض المشاكل، من أبسط مسائلها كالقول بكروية الأرض ودورانها حول نفسها ودورانها حول الشمس والمجموعة الشمسية ونظامها إلى الأعقد والأغمض وهو الكون الكبير، كما أن هذا العلم يُعدّ من أقوى العلوم الطبيعية التي اكتسبت مقدارًا كبيرًا من الدقة والعلمية. وبمثلها يفرح المعارض للدين أو الهارب منه ويرفعها أداة اتهام للدين، وعلى عكسه المؤمن الذي قد يلتبس عليه الأمر ويقع في حيرة وألم، بينما إذا حُقق الأمر وُجد أنه لا تعارض حقيقي في الموضوع وأن مدّعي التعارض قد غلبه هواه عن النظر الموضوعي للإشكالية.
وذلك أن الموضوعات التي يُدّعى فيها التعارض، إما أنها موضوعات كبرى عن خلق الكون والحياة والإنسان وأمثالها، أو موضوعات جزئية مثل بعض مسائل الفلك، وهي أيضًا قد كان خلقها في الماضي البعيد وقبل وجود الإنسان، وما بقي منها هو الجزئي الظاهر المستمر في الحدوث، وبهذا فنحن أمام أمر غيبي قديم أو أمر ظاهر موجود، الغيبي يتعلق بأمور كبرى مثل وجود الكون والظاهر مثل كروية الأرض وحركتها حول نفسها وحول الشمس.
فإذا رجعنا إلى الدين وجدنا فيه حديثًا حول الأمرين ولهدف معين، وإذا رجعنا إلى العلم الحديث في الفلك والفيزياء الكونية وجدنا فيه حديثًا حولهما أيضًا، ومن الواضح أنهما لا يتشابهان ولكن عند المحقق يعلم أيضًا أنه لا يشترط من عدم التشابه وجود التعارض.
1 -
الموضوعات الكونية الكبرى التي هي من الغيبيات:
يُعد خلق العالم من الأمور الغيبية، ولكن الغيب منه ما هو غيب مطلق،
فلا يعلمه أحد إلا بالخبر، ومنه ما هو نسبي قد يعلمه قوم ويجهله آخرون، أو يُجهل في وقت ويُعلم في وقت.
ومن معتقد أهل السنة أن للغيبيات الوارد ذكرها في النصوص معنى يعرفه المخاطب وحقيقة لا يعرفها، ومن ذلك الجنة ونعيمها أو الباري سبحانه وصفاته، فما ورد من نعيم الجنة نعرف معناه ولكن لا نعرف حقيقته؛ أي: لا نعرف كيف هو، ومثل ذلك صفات الباري سبحانه نعرف معناها ولكن لا ندرك حقيقتها، ويدخل في ذلك الأمور الكونية، ومن ذلك مثلًا ما نجده في الوحي من خلق السموات والأرض في ستة أيام، فإن المعنى واضح ولكن حقيقته من أمور الغيب، فمن الذي يستطيع الجزم بما حدث في هذه الأيام؟ ومن الذي يستطيع الجزم بتحديد طول هذه الأيام؟ فالذي نعلمه أن هناك أيامًا ستة، الله أعلم بطولها، وقع فيها خلق السماوات والأرض، الله أعلم بكيفيته، وبحسب القاعدة المشهورة:"المعنى معلوم والكيف مجهول"، وإن كان مجهولًا فقد لا يكون كلّه من الغيب المطلق، فقد يصل البشر إلى بعض المعرفة ببعض أموره.
فلو جاء زاعم ثم قال: إن هناك تعارضًا مثلًا في الزمن، ففي الوحي نجد ستة أيام بينما يذكر أهل العلوم غير ذلك من الأزمان، فلا يدخل هذا النوع في أبواب التعارض؛ لأن الزمن الذي ورد في القرآن غير الزمن الذي يتحدث عنه أهل العلوم الحديثة، ذاك زمن غيبي نعرف معناه ونجهل حقيقته، بينما زمن أهل العلوم زمن يقاس بعالم الشهادة وبالمحسوس، وبالمعاش، وهذا هو ما يستطيعون بحثه إن سلّم أهل الاختصاص لهم بصحة ما ذهبوا إليه وأجمعوا عليه.
ومثل هذا لا يقع فيه التعارض، نعم لو جاء من يقول بأن العلم يثبت أن الكون أزلي، ولم يخلق فهذا فيه تعارض بيّن، وهو ما تبناه الماديون رغم أن العالم الفيزيائي الذي اعتمدوا عليه لا يقول بهذا القول وهو نيوتن، كما أن الفيزياء المعاصرة ضدّ هذا القول ومن أبرز نظرياتها نظرية الانفجار العظيم، وهي نظرية تُسلم بزمن معين ظهر فيه هذا الكون (1). فيكون هناك إطار زمني جاء في الدين، وإطار زمني ذكره أهل العلوم الحديثة، أما حقيقة ما ورد في الدين فالله أعلم به، الذي نعلمه هو المعنى وأنه ستة أيام، أما أهل العلوم فيقولون بأنه زمن
(1) انظر مثلًا: الفيزياء ووجود الخالق، د. جعفر إدريس ص 82 مع الفصل الرابع.
طويل إذا قيس بالمُشاهد، وهو أمر الله أعلم بحقيقته وإن كنا نعلم معناه؛ فإن الله تعالى خاطبنا بما نعلم. أما أهل الاختصاص الطبيعي فلهم مقاييسهم وحساباتهم وملاحظاتهم، وهو أمر لا نتحدث عنه، فليس الأمر مما يتطلب منا تكذيبهم أو تصديقهم، فبما أنه لا يوجد لدينا دليل قطعي فإنه لا يصح لنا التكذيب بأمر نجهله وإنما يُترك لأهل الاختصاص، ولكن في المقابل فمن غير الصحيح الاستعجال بتفسير النصوص الدينية بمثل هذه المعلومات العلمية.
إن بحث أهل العلوم في المثال السابق، حول "الزمن" إنما هو فيما نجهله نحن؛ أي: في جانب الكيف، وهو أمر غيبي، ولكنه من الغيب النسبي الذي لا يمنع من وجود طائفة من البشر في زمن من الأزمان يعرفون بعض المعلومات عنه، ولاسيّما إذا توفر لهم من الأجهزة والمقاييس والأدوات ما يساعدهم على ذلك، ولكن ما يصلون إليه ليس من القطعي، وإنما هو من النظريات التي تُطرح، والنظرية تُعد محاولة للإجابة، وهي في فلسفة العلم ظنية الدلالة؛ وقد يأتي في زمن لاحق ما يغير فيها أو يطورها أو يلغيها، وعلى هذا فما قدمه العلم في هذا الباب يكون في أحسن أحواله دليل ظني، ومعلوم أن المقدم عند التعارض بين القطعي والظني هو القطعي.
2 -
الموضوعات الجزئية:
تأتي الموضوعات الكبرى غالبًا عن أمور غيبية في الماضي أما الموضوعات الجزئية فهي أمور حادثة مشاهدة ظاهرة للبشر، فالدين والعلوم البشرية في النوع الأول يتكلمان عن أمر غيبي، أما في النوع الثاني فعن أمور ظاهرة مشاهدة ليست من الغيب.
فمن الغيب وجود الكون، ومنه أمور من الغيب النسبي، ومن المشاهد حركة الأرض والشمس والنجوم. ومن الغيب خلق آدم وحواء عليهم السلام، وهو أيضًا من الغيب النسبي، ومن المشاهد خلق الجنين، فخلق آدم من أمر الغيب الذي يُعلم في الأساس بالخبر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسير سورة العلق: "فأما خلق آدم من طين، فذاك إنما علم بخبر الأنبياء أو بدلائل أخر. ولهذا ينكره طائفة من الكفار الدهرية وغيرهم الذين لا يقرون بالنبوات. وهذا بخلاف ذكر خلقه في غير هذه السورة. فإن ذاك ذكره لما يثبت النبوة وهذه السورة أول
ما نزل وبها تثبت النبوة فلم يذكر فيها ما علم بالخبر بل ذكر فيها الدليل المعلوم بالعقل والمشاهدة والأخبار المتواترة لمن لم ير العلق" (1)، والشاهد من هذا هو التفريق بين الغيب والشهادة، فما ورد من الغيب نعرف معناه ونجهل الكيفية، إلا إن جاء في الخبر ما يوضحها لنا، أما الشهادة، فإن تحدث عنها الدين فهو يتحدث عما نشاهده، فإذا أتينا إلى هذا الباب فإن العاقل من أي ملّة تصيبه الدهشة وهو يرى أنه لا يوجد شيء مما ورد في الإسلام يعارضه شيء من العلم، بل إن العقلاء تصيبهم دهشة وهم يجدون في القرآن أمورًا من التفاصيل لم يكتشفها العالم إلا بعد قرون، ومن هنا لم تظهر مشكلة في دين الإسلام مع الحقائق العلمية بخلاف الأديان الأخرى: المبدلة والوضعية، فقد عرفت مشاكل كثيرة مع الحقائق العلمية.
ومع ذلك فليست كل الموضوعات بالوضوح نفسه، فهناك موضوعات معقدة في باب العلوم، وهذه الموضوعات قد جاء الحديث عنها في القرآن الكريم، وقد وجد فيها بعض المتغربين فرصة للتشهير بالدين وإثبات تناقضه أو تعارضه مع العلم الحديث، ومن بين ما يكثر الحديث عنه نظرية الفلك، لهذا أجعلها النموذج في الإشكال مع بيان عدم صحة جعلها وسيلة لإثبات التعارض بين الدين والعلم.
لقد سبق الحديث عن صورة إثارة هذه المشكلة في الفصل الرابع من الباب الأول، وقد رأينا أنها كانت مشكلة في الطائفة النصرانية في الأساس، وأن من عاصر المشكلة من المسلمين لم يجدوا فيها ما يصح جعله من التعارض بين الدين العلم الحديث، وكانت نتيجة الفقرة آنذاك أنها لم تُشكل مشكلة عند المسلمين. ومع ذلك فقد لا تبحث في كتاب من كتب المتغربين، له صلة بالموضوع إلا ذُكِر التعارض بين الدين والعلم مُمثِلًا بها، وقد وجدت عند مجموعة يتناقلون فرية افتروها ويتناقلونها عن أحد العلماء المعاصرين من قوله بأن الأرض لا تدور وعند بعضهم أنه مسطحة وأن من قال بغير ذلك فهو كافر (2). ومع ذلك فمرادي في هذه
(1) الفتاوى، 16/ 261، وانظر: العقيدة الإسلامية وأسسها، عبد الرحمن الميداني ص 23 - 28.
(2)
انظر مثلًا: عرش المقدس. . . .، د. عبد الهادي عبد الرحمن ص 90، وانظر: العقل الإيماني، حسن أحمد ص 73، 78، 116.
الفقرة إثبات الجانب المنهجي والمعرفي، وإلا فالظاهر من أحوالهم هو سيطرة اتجاهاتهم العلمانية عليهم وفرحهم بأي شيء يوهم التعارض حتى يجعلوه دليلًا في إثبات المعارضة ومن ثم إقصاء الدين. فماذا يقال في هذا النوع؟
من المعلوم بأن القرآن جاء بلسان عربي مبين، وأنه نزل بلسان العرب، ولهذا هو مفهوم عندهم، فلابد عند فهم النصوص من مراعاة معهود العرب في خطابها، وعندما تكلم على أمور الكون والمخلوقات المشاهدة فهو يتكلم بما هو معهود عندهم، وهدفه تحقيق التوحيد والعبودية لله، وقد ذكر الإِمام "الشافعي" رحمه الله صورًا من معهود العرب في خطابها، ومن ذلك:
1 -
أنها تخاطب بالشيء منه عامًا ظاهرًا تريد به العام الظاهر، ومثاله من القرآن الكريم قوله -تعالى-:{إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13] فهذا يعم جميع الناس.
2 -
وتخاطب بالشيء عامًا ظاهرًا تريد به العام ويدخله الخصوص، ومثاله من القرآن الكريم قوله -تعالى-:{وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء: 75]، فكل أهل القرية لم يكن ظالمًا، لكنهم كانوا مغلوبين على أمرهم.
3 -
وتخاطب بالشيء عامًا ظاهرًا تريد به الخاص، مثاله من القرآن الكريم قوله -تعالى-:{وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]، ودل القرآن على أن وقودها إنما هو بعض الناس، لا كلهم، كما في قوله -تعالى-:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)} [الأنبياء: 101].
4 -
وتخاطب بالشيء ظاهرًا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره، مثاله من القرآن الكريم قوله -تعالى-:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [يوسف: 82]، المراد أهل القرية، وأهل العير (1).
وقد ذكر الشيخ "محمَّد بن عثيمين" رحمه الله من القواعد حول أدلة الأسماء والصفات بعض ما يفيدنا في موضوعنا، ومنها القاعدة الثانية: "الواجب في
(1) انظر: الرسالة، الإِمام الشافعي ص 53 - 64، وقد رتب المعاني السابقة واختصرها الدكتور عثمان حسن ومنه أخذت الترتيب بعد الرجوع للأصل، انظر: منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد، د. عثمان حسن 2/ 439.
نصوص القرآن والسنة إجراؤها على ظاهرها دون تحريف لاسيما نصوص الصفات حيث لا مجال للرأي فيها"، واستدل بقوله -تعالى-: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)} [الشعراء: 193 - 194]، وقوله -تعالى-: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)} [يوسف: 2]، وقوله -تعالى-: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)} [الزخرف: 3]، وعلق: "وهذا يدل على وجوب فهمه على ما يقتضيه ظاهره باللسان العربي، إلا أن يمنع منه دليل شرعي" (1)، وفي القاعدة الرابعة يقول: "ظاهر النصوص ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني، وهو يختلف بحسب السياق، وما يضاف إليه الكلام، فالكلمة الواحدة يكون لها معنى في سياق ومعنى آخر في سياق. وتركيب الكلام يفيد معنى على وجه ومعنى آخر على وجه" (2).
فإذا انتقلنا من هذه القواعد إلى موضوعنا ونظرنا في النصوص المتعلقة بالكون لوجدناها نزلت بما يفهمه العرب من لسانهم، والظاهر من النص لا يعني بأية حال أنه يخالف الحقيقة، وإنما هو بحسب سياقه كما ورد في استقراء الشافعي رحمه الله، فمن استعجل من المعاصرين في نسبة معنى إلى آية من الآيات المتعلقة بأمور الكون دون انتباه لقواعد أهل العلم فقد يغلط، وكذا من جاء من أهل العلوم الحديثة أو ممن قرأها وزعم وجود آية تعارض هذه الحقيقة العلمية، فإنما أوتي من جهله بالنص القرآني وجهله باللسان العربي، فيقع في الغلط، ومن الأمثلة على الموضوع ما يُقال من تعارض في موضوع حركة الأرض والشمس بين العلم والدين.
فالنظرية الحديثة تقول بدورة الأرض حول نفسها ودورتها حول الشمس، كما أن الشمس تدور حول نفسها وتتحرك ضمن المجرة التي هي فيها، فيأتي أحدهم ويقول بأن القرآن يتعارض مع العلم في الموضوع، ويستشهد مثلًا بقوله -تعالى-:{وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ في فَجْوَةٍ مِنْهُ} [الكهف: 17].
فإذا رجعنا إلى قواعد علماء الشريعة فالأصل أن تبقى هذه الآية على ظاهرها ما لم يدل دليل على خلاف الظاهر، وفي ذلك يقول أحد علماء الشريعة
(1) القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى، محمَّد العثيمين ص 33.
(2)
القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى ص 36.
المعاصرين الشيخ محمَّد بن عثيمين رحمه الله: "وفي قوله -تعالى- {إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ} {وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ} دليل على أن الشمس هي التي تتحرك وهي التي بتحركها يكون الطلوع والغروب خلافًا لما يقوله الناس اليوم من أن الذي يدور هو الأرض، وأما الشمس فهي ثابتة، فنحن لدينا شيء من كلام الله، الواجب علينا أن نجريه على ظاهره وألا نتزحزح عن هذا الظاهر إلابدليل بيّن، فإذا ثبت لدينا بالدليل القاطع أن اختلاف الليل والنهار بسبب دوران الأرض فحينئذ يجب أن نؤول الآيات إلى المعنى المطابق للواقع، فنقول: إذا طلعت في رأي العين، وتزاور في رأي العين، تقرض في رأي العين، أما قبل أن يتبين لنا بالدليل القاطع أن الشمس ثابتة والأرض هي التي تدور وبدورانها يختلف الليل والنهار فإننا لا نقبل هذا أبدًا"، إلى أن قال:"ولكن لو تيقنا يقينًا أن الشمس ثابتة في مكانها وأن الأرض تدور حولها، ويكون الليل والنهار، فحينئذ تأويل الآيات واجب حتى لا يخالف القرآن الشيء المقطوع به"(1).
والتأويل الذي ذهب إليه الشيخ عند ثبوت النظرية الحديثة يستفاد من سياق الآيات؛ لأن أهل العلم يحملون القرآن على ظاهره، وقد يأتي في الآية أو في آيات أخرى ما يجعل له احتمال معنى آخر، وهذا هو الظاهر الاصطلاحي عند الأصوليين، وكما في مختصر الروضة:"الكلام: نص وظاهر ومجمل" ووجه انحصار الكلام في ذلك "هو أن اللفظ إما أن يحتمل معنى واحدًا فقط، أو يحتمل أكثر من معنى واحد، والأول النص، والثاني: إما أن يترجح في أحد معنييه أو معانيه، وهو الظاهر، أو لا يترجح، وهو المجمل"(2).
و"النص" في اصطلاح الفقهاء والأصوليين هو الصريح في معناه؛ أي: كونه خالص الدلالة عليه، لا يشوبه احتمالُ دلالة على غيره، وحكمه ألا يُترك إلا بنسخ (3).
(1) تفسير القرآن الكريم (سورة الكهف)، محمَّد العثيمين ص 32 - 33.
(2)
شرح مختصر الروضة، الطوفي 1/ 553، بتحقيق د. عبد الله التركي، وانظر: المستصفى، الغزالي 3/ 37.
(3)
انظر: المرجع السابق 1/ 554، وانظر: الجامع لمسائل أصول الفقه .. ، د. عبد الكريم النملة ص 191، وله أيضًا: المهذب في علم أصول الفقه المقارن 3/ 1193، إرشاد الفحول، الشوكاني ص 291، المستصفى، الغزالي 3/ 84.
أما "الظاهر" فهو اللفظ المحتمل معنيين فأكثر، هو في أحدها أظهر، ولا يعدل عنه إلا بتأويل (1). وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أربعة شروط لصحة هذا التأويل (2).
وأما "المجمل" فهو اللفظ المتردد بين احتمالين فصاعدًا على السواء، فلا رجحان له في أحدهما عن الآخر (3).
وهذا التقسيم أيضًا ذكره أهل العلم في أبواب العقائد ومجادلة المخالفين، ولاسيّما في موقفهم من النصوص، فقال ابن القيم رحمه الله:"ألفاظ القرآن والسنة ثلاثة أقسام: نصوص لا تحتمل إلا معنى واحدًا. وظواهر تحتمل غير معناها احتمالًا بعيدًا مرجوحًا. وألفاظ تحتاج إلى بيان، فهي بدون البيان عرضة الاحتمال".
القسم الأول: يفيد اليقين بمدلوله قطعًا، "وعامة ألفاظ القرآن من هذا الضرب، هذا شأن مفرداته، وأما تركيبه فجاء على أصح وجوه التركيب، وأبعدها عن اللبس، وأشدها مطابقة للمعنى. فمفرداته نصوص أو كالنصوص في مسماها، وتراكيبه صريحة في المعنى الذي قصد به. . . ."(4).
القسم الثاني: "ظواهر قد تحتمل غير معانيها الظاهرة منها، ولكن قد اطردت في موارد استعمالها على معنى واحد، فجرت مجرى النصوص التي لا تحتمل غير مسماها"(5).
(1) انظر: المرجع السابق 1/ 558، وانظر: الجامع لمسائل أصول الفقه .. ، د. عبد الكريم النملة ص 193، وله أيضًا: المهذب في علم أصول الفقه المقارن 3/ 1199، إرشاد الفحول، الشوكاني ص 298، المستصفى، الغزالي 3/ 84.
(2)
انظر: الفتاوى 6/ 360، وانظر: الصواعق المرسلة، ابن القيم 1/ 288، ومن أفضل ما وجدته حول ضوابط التأويل الصحيح، المبحث الذي وضعه: د. سليمان الغصن بنفس العنوان في كتابه: موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة .. 2/ 798 وما بعدها.
(3)
انظر: شرح مختصر الروضة 2/ 648، وانظر: الجامع لمسائل أصول الفقه .. ، د. عبد الكريم النملة ص 197، وله أيضًا: المهذب في علم أصول الفقه المقارن 3/ 1219، إرشاد الفحول، الشوكاني ص 283، المستصفى، الغزالي 3/ 37.
(4)
الصواعق المرسلة 2/ 670 - 671.
(5)
المرجع السابق 2/ 671.
وأما القسم الثالث: "إذا أحسن رده إلى القسمين قبله عرف مراد المتكلم منه، فالأول يفيد اليقين بنفسه، والثاني يفيده باطراده في موارد استعماله، والثالث يفيده إحسان رده إلى القسمين قبله. . . ."(1)، فإن المجمل يجد بيانه في نصوص أخرى.
إذا علمنا هذا التقسيم حول دلالة النصوص عندها نفهم الموقف الصحيح عند التعارض في باب الموضوعات، ونفهم في السياق نفسه موقف علمائنا مثل موقف الشيخ ابن عثيمين السابق، فأهل السنة الأصل عندهم هو الوحي وهو المقدم، وعند وجود تعارض فالمقدم هو القطعي، وما لم يكن قطعيًا فالأصل هو البقاء على ظاهر النص لا نتحول عنه إلا بيقين، وإذا صرفناه إلى معنى آخر فإننا سنجد من النصوص ما يدل عليه، والشيخ عندما فسر الآية بما يظهر للعين وليس بما يتعلق بحركة المجموعة الشمسية فإن في نفس السورة ما يدل على هذا المعنى، قال -تعالى- عن ذي القرنين:{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ في عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف: 86]، قال الشيخ رحمه الله:"ومعلوم أنها تغرب في هذه العين الحمئة حسب رؤية الإنسان"(2)؛ أي: أن الظاهر هنا بحسب كلام الإِمام الشافعي غير مراد، ولكن من وقف على شاطئ البحر عند غروب الشمس يرى بعينه كأنها تغرب في الماء، ومعلوم أنه لا أحد يقول بذلك، وبهذا نفهم ما ورد من آيات حول الموضوعات الكونية.
لا يعني أن الشيخ رحمه الله قد سلّم قطعًا بالنظرية الجديدة، ولكنه يضع القاعدة الصحيحة في الموضوع، فمن عادة أهل السنة تعظيم الوحي، وعدم ترك الظاهر المتبادر إلا بحجة بيّنة، وهو لم يقتنع مثلًا بالمعارض، ولكنه في الوقت نفسه يفتح الباب لمن ثبت عنده القطع بأنه يجب عليه بيان معنى للآية لا يخالف المحسوس القطعي، وبما أنه لم يتأكد من المسألة فإنه لا يجزم بخطأ المخالف، فأهل العلم لا يعدون هذه من مسائل الاعتقاد، ولذا لم يرد منها شيء في كتب العقائد، وإنما جاءت من أجل هداية الناس إلى التوحيد، وتؤخذ بهذا المقدار، أما التوسع في هذه العلوم فهو لأهل الاختصاص فيها، وبسبب إدراك أهل العلم
(1) الصواعق المرسلة 2/ 671 - 672.
(2)
تفسير القرآن الكريم (سورة الكهف)، محمَّد العثيمين ص 127.
لهذا الأمر لا تجدهم يشنعون على من خالف اجتهادهم أو ما يرونه أولى بالصواب، وهذه النظرية تُدرّس في المدارس، ومع ذلك لم يقف ضدها العلماء المبرِّزُون عند الأمة موقفًا مشنِّعًا، وإنما بعضهم يرى عدم ترك الظاهر إلا بدليل قطعي، وهو الأمر المتفق مع مذهبهم أنه لا يُقدم إلا القطعي، فلو ثبت أن ما قاله العلماء المحدثون قطعيًا لما حمل أحدهم آية على خلاف الحقيقة لعدم جواز ذلك، ولكن العالم إن لم يجزم بشيء فإنه يحترز من التشنيع على من اعتقد صحة هذه النظرية أو تلك، ولهذا لا نجد لأهل العلم تشنيعًا على من أخذ بالنظرية، رغم أن بعضهم يتحرج من تقديم ما دلت عليه على ظاهر النص لعدم تأكده من صحة النظرية، فهو يرى أن أغلب المسلمين إنما هم يقلدون الغربيين.
وإنني أجد من بعض المنتسبين لأهل الدين من يتقحّم هذه الأبواب العظيمة ويقطع بأن النصوص تدل على ثبات الأرض ودوران الشمس حولها، وتبديعه لمن خالف رأيه، مع أن أهل العلم المعتبرين يرونها تُدرّس في مدراس المسلمين ولم ينكروا ذلك، فلو تأكد الأمر عندهم ما سكتوا عن باطل، وإنما سكوتهم رغم تحفظ بعضهم بسبب عدم ترجح الأمر عندهم. لهذا يجدر بمن تقحم هذه الأبواب من غير أهل العلم أن يتقي الله سبحانه، فإنه قد يفتح على المسلمين من الشرور بسبب جهله أو تسرّعه أكثر مما يظن من الخير، والمعادون للدين يفرحون بمثل هذه الاجتهادات ويجعلونها دليلًا على التعارض بين الدين والعلم، والأولى بهم الاقتداء بعلماء الشريعة والرجوع إلى قواعد أهل العلم، وهذا الكلام نقوله حتى لا نترك للمخالف سبيلًا علينا، فإنه يذهب إلى بعض كتب التفاسير ويجد فيها "الإسرائيليات" و"الموضوعات" فيجعلها من الدين وينسبها له، أو يذهب إلى بعض من اجتهد وأخطأ أو أتى بقول شاذ من المعاصرين ويجعله حجة على مذهبه الباطل، والحق أحق أن يتبع، ومن أراده فلا يذهب إلى نص مكذوب أو إسرائيلي، ولا يذهب إلى قول ضعيف أو خطأ أو شاذ ويجعله حجه لمذهبه، فهو حجة عليه وليس له.
وخلاصة القول إن الآيات عن الأمور الكونية التي تحدثت عنها العلوم الطبيعية، إما أنها حدثت في الغيب، فما جاء من آيات عنها نعلم معناه ونجهل حقيقته، ولكن تلك الحقيقة ليست دائمًا من الغيب المطلق، وإنما هي من الغيب النسبي الذي قد يُمكّن الرب سبحانه بعض خلقه من المعرفة ببعض أمورها، ومثل