الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذي من زاغ عنه خسر خسرانًا كبيرًا. والأمة كلما اعتزت بهذا المصدر، وقدمته على غيره، وجعلته مهيمنًا على كل ما سواه، وعمرت الأرض كما أمر ربنا سبحانه، تحقق لها الاستخلاف والتمكين. ولذا كان الصراع مع الأعداء هو حول المصدر، حول منبع القوة والمعرفة والدين، وحول ما يجلب لها الاستخلاف والتمكين.
لقد قامت تيارات التغريب تحت دعوى التأثر بالعلم بعملية زحزحة للوحي إلى مصادر أخرى يزعمون فيها الأولوية، وقد تأثر بهم طائفة من الناس، وأهم ما يلحظه الباحث من صور الزحزحة: القول بترك الوحي مطلقًا عند الغلاة، أو القول بالتوفيق عن طريق رمي الوحي في باب الوجدان، أو جعل النظرية العلمية في مقام النص.
1 - مذهب غلاة المتغربين ودعوتهم لإقصاء الوحي:
حيث يرون الانتقال من مصدرية الوحي إلى مصدرية العلم زعموا وإلى "العقل والحس"، ويغلب على هذا الصنف اتجاهان:
الأول: وهم من يقولون -تبعًا لـ"كونت" الوضعي- بأن الإنسانية مرّت بثلاث مراحل: المرحلة الدينية ثم الميتافيزيقية ثم الوضعية: العلمية، ولابد من المرور بهذه المراحل، وكل مرحلة في وقتها تعتبر الأنسب لوقتها، فالمرحلة الدينية مناسبة لأهل تلك المرحلة وهكذا في الباقية. والآن حان وقت ترك الدين والميتافيزيقا والاكتفاء بالعلم الذي حقق تقدمه ونفعه، وهذا يغلب على الوضعيين والمتغربين الأوائل (1).
والثاني: وهم المتأثرون بالمذاهب المادية الثورية الجذرية التي ترى بأن الدين والميتافيزيقا وهم بشري وخطأ تاريخي، ولذا لابد من تدمير الماضي ونبذه بصورة جذرية، فالوضعيون يرون أنه كان الأصح والأنسب في وقته أما هؤلاء فلا يرون ذلك، وقد غلب هذا على الماركسيين (2).
(1) انظر: العلمانية من منظور مختلف، د. عزيز العظمة ص 221.
(2)
انظر مثلًا: نقد الفكر الديني، صادق العظم، وانظر: النص القرآني. . . .، طيب تزيني، وانظر: جمعًا منهم وطريقة تعاملهم مع الوحي ضمن دراسة تركي الربيعو، أزمة الخطاب التقدمي العربي في منعطف الألف الثالث -الخطاب الماركسي نموذجًا.
ورغم مزاعم الطرفين بالانتقال إلى عصر العلم واكتفائهم بمصدريته، إلا أنه في النهاية له صورة عند الوضعيين وله صورة عند الماركسيين، فظهر أن ما يريدون الانتقال إليه ليس العلم الموضوعي بقدر ما هي مذاهب فلسفية علمانية، وهذا كاف في إبطال دعواهم، فالأصل في العلم أن يكون على صورة واحدة أو صورة تتقارب أطرافها فلا تتعارض أو تتناقض، ولكننا نجد بين دعاة العلمية من الوضعيين والماركسيين من الطعن في بعضهم والتكذيب بما عند الآخر الشيء الكثير. فإذا كان ما يدعو إليه هؤلاء من مصدرية العلم لا حقيقة له وإنما هو دعوة إلى مذاهب فلسفية مادية علمانية فهذا ينقلنا إلى مجال آخر، الوعي به مهم، وهو ضرورة الوعي بالفرق بين العلم والمذاهب الفلسفية، فالمذهب الفلسفي هو "فرض أو وجهة نظر" يفسر بها الفيلسوف من جانب ذاتي شخصي ما يُلح عليه من تساؤلات واهتمامات ويريد وضع رؤية جديدة حولها؛ أي: اتخاذ موقف بعض عناصره مستمدة من الواقع الذي يعيش فيه الفيلسوف وبعضه الآخر استباق لواقع مأمول (1). فيكون المذهب الفلسفي وجهة نظر، ولذا يقدم لنا تاريخ الفلسفة مذاهب فلسفية تتعدد بتعدد الفلاسفة، وإذا كان بهذه الصورة فلا ينطبق عليه معيار الصدق والكذب الذي يناسب المنطق والعلوم التجريبية والرياضية، فلا نقول "عن النظرية الفلسفية: إنها صادقة أو كاذبة. وإنما نقول عنها فقط: إنها مقبولة أو غير مقبولة. ومعيار القبول هو الاقتناع بها، ولا يقوم الاقتناع بالنظرية على توفر تجارب تؤيدها، كما أنه لا يقوم على صحة استدلالية أو إحكام منطقي" (2).
صحيح أن كثيرًا من الفلسفات المعاصرة تدّعي العلمية وتهتم بالعلم، ولكن العلم القائم على التحقق المنطقي الرياضي أو التجريبي يختلف تمامًا عن المذاهب الفلسفية، التي هي في النهاية وجهة نظر، وعندما يخرج المذهب عن إمكانية التحقق التي يتصف بها العلم يصبح شيئًا غير العلم. فهؤلاء إما أن يتحولوا إلى ميدان العلم، ومعنى ذلك أن يتركوا التفلسف الذي لا معيار للتحقق منه وهو ما يرفضونه، وإذا كانوا لن يتركوا وجهة نظرهم الذاتية فكيف يريدون من
(1) انظر: مناهج البحث الفلسفي، د. محمود زيدان ص 16.
(2)
انظر: المرجع السابق ص 27.