الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإِسلامية تربط بين "القيمة الخلقية والحقيقة الواقعية" هو شيء صحيح، ولكنه يقدح في ذلك بحجة التعارض بين الأخلاقي والموضوعي، وقريبًا منه ناقده غصيب. والفصل بين "القيمة والواقعة قد عرفه قدماء الفلاسفة، فإن هذا الفصل لم يَجْرِ ترسيخه ولا تقنينه إلا مع ظهور النزعة الموضوعية في العلم" فرفعوا من استحالة الجمع بين القيمة والواقعة (1). وقد ناقش المفكر طه عبد الرحمن ذلك، وبيّن عدم صحة تلك الاستحالات المزعومة ولاسيّما مع التطورات في حقل الفكر المعاصر "وعلى هذا، يكون الجابري قد تسرع في استهلاك عقلانية متقادمة حملته على اعتقاد الخطأ والنقص في عقلانية التراث التي تجمع بين القيم الخلقية والوقائع الكونية؛ ولو أنه قام بواجبه في تمحيص إجرائية هذه العقلانية من زاوية ما استجد من المواقف بصدد العلاقة بين القيم والواقع، لاتجه إلى الخروج عن اختياراته التجريدية والالتفات إلى أهمية الجانب العملي في الممارسة التراثية. . . ."(2).
الموضوعية وعلاقتها بالحقيقة:
سبق أن من الموضوعات المنهجية المهمة التي يتناولها المتغربون باستغلال واضح مفهومي "الحقيقة والموضوعية"، فالموضوعية توصل للحقائق، فبينهما ارتباط واضح، ومن بين من اختل عنده وضعهما الدكتور هشام شرابي، فمع أنه من أسرة فلسطينية مسلمة إلا أن دراسته في المدارس التنصيرية وبخاصة الجامعة الأمريكية قد أثرت عليه كثيرًا وجرفته تيارات ذاك العصر بعيدًا عن الإِسلام، ثم ازداد الأمر سوءًا عند إكماله دراسته في أمريكا، ومما اختلط عنده مفهوما "الحقيقة والموضوعية"، فهو يقول عن تصوره عن الحقيقة: إنه كان تصورًا مثاليًا، وكان يعتقد بوجودها حتى ذهب لأمريكا، ففي نقاشه مع أستاذ له في أمريكا قال شرابي:"ومهما يكن من أمر فإن الحقيقة لا يمكن إلا أن تفرض نفسها"، فرد عليه أستاذه "لنضع الحقيقة جانبًا، فالحقيقة ليست موضع بحثنا الآن"، فذكر أنها صعقته إجابة أستاذه حيث كانت الحقيقة عنده مقدسة، ولكنه
(1) انظر: تجديد المنهج في تقويم التراث، د. طه عبد الرحمن ص 35 - 36.
(2)
تجديد المنهج في تقويم التراث ص 36 - 37، وانظر: منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية ص 343.
بعدها بدأ "بالتخلص من عبودية "الحقيقة" الغيبية. ."، بمثل هذا الموقف البسيط تنهار عند الطالب قضية وتولد أخرى (1).
وقد وقع تحول خطير لمفهوم الحقيقة، فقد أصبحت الحقيقة هي التي تنبثق "من وعي محدد ومن ممارسات إنسانية اجتماعية محددة، ومن نشاطات حرة خلاقة، لا من وحي إلهي أو من حقيقة أزلية"(2)، فانظر كيف وقع التحول حتى في تلك الحقائق التي جاء بها الوحي وترتبط بالحق سبحانه!!
وكما انهارت الحقيقة فقد انهار معها مفهوم الموضوعية، فهي تكون عملية عندما تطبق على المجتمع العربي الإِسلامي الذي يصفه بالمجتمع البطركي، ولكنه يصفها باللاموضوعية عندما تتعامل مع اتجاهه ورؤيته، وقد كانت الموضوعية حسب ما يذكر عن نفسه لحظة انخراطه في الجو الأكاديمي الأمريكي أساسية يقول:"مع الوقت مكنتني المنهجية الموضوعية، التي بدأت باستيعابها منذ الأشهر الأولى من التحاقي بجامعة شيكاغو، من التخلص من أدران ثقافتي الماضية، وخطوت بواسطتها خطوات فكرية كبيرة "إلى الأمام""، ولكنه اكتشف بعد حادثة النكسة وأثرها على فلسطين أن الغرب المتبجح بالموضوعية لا يعرف الموضوعية عندما يتعلق الأمر بالمصالح، مما جعله يراجع فهمه للموضوعية فاكتشف أن الموضوعية في المجال الغربي مُشبّعة بجوانب كبيرة لا موضوعية (3)، ولكن من العجب العجاب أن يجد علاج تشوه الموضوعية الليبرالية الرأسمالية في طرف غربي آخر وهو الماركسية، فخرج من عماية اعترف بها إلى أخرى ما زال مصرًا عليها.
هذا نموذج يزعم العلمية لمسيرته الفكرية وبخاصة بعد عيشه في الجو الأكاديمي الغربي، كيف انهار عنده مفهوم الحقيقة ومعها مفهوم الموضوعية، ولكنها وإن خرجت من مفهوم نموذج ليبرالي فقد نقلها لنموذج ماركسي، فهو يعترف بثقل الماركسية عليه، ويقول عن ماركس بأنّه نفذ إلى أساس تفكيره،
(1) انظر: الجمر والرماد .. ، هشام شرابي ص 30.
(2)
الإِسلام والحداثة ص 376، وانظر: الغرب في فكر هشام شرابي، الزهرة بلحاج ص 211.
(3)
انظر: الجمر والرماد ص 106 - 107، وانظر: الغرب في فكر هشام شرابي، الزهرة بلحاج ص 213 وما بعدها.