الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحيانًا فيزعم أن "العلم" يقابل "الغيب" وأن "العلمية" في التفكير والتنظيم تقابل "الغيبية" وأنه لا لقاء بين العلم والغيب؛ كما أنه لا لقاء بين العقلية العلمية والعقلية الغيبية! " (1).
ارتباط الانحراف في الغيب بالانحراف في الربوبية:
يرتبط الانحراف في الغيب بالانحراف في الربوبية، فالانحراف في الربوبية يؤثر في الغيب كله، وقد اتسع الفساد في هذا الباب مع ظاهرة الإلحاد الحديثة، وهي ظاهرة غزت في فترة الطفرة العلمية الحديثة مجالات مختلفة من الفكر الغربي الحديث، وإذا دخل الإلحاد إلى مجال الفكر، وأصبح موضة للمفكرين، فمن المنطقي انعدام جدوى الإيمان بقضايا الغيب الدينية كلها، وقد عُرض شيء من ذلك الإلحاد ودعوى ارتباطه بالعلم في الباب الأول، ثم الانكسار التدريجي لهذه الظاهرة المرضية.
لقد ذكر وحيد الدين خان هذا التحدي الجديد الذي يواجه المسلمين وهو الإلحاد، والذي تزعمه مجموعة من الملحدين البارزين في الفكر الغربي، ثم قال:"والتحدي الذي يواجه الإِسلام اليوم في مواجهة الإلحاد يطابق إلى حدّ ما التحدي الذي واجهه عند بدء الرسالة في مواجهة الشرك، الذي كان يحظى بقبول الرأي العام العالمي في ذلك العصر. وكان الشرك قويًا لدرجة أن المنادِين بالتوحيد كانوا يُحَرَّقون أو تُقطَّع أجسادُهم وهم أحياء" وبدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم قامت أمة، وظهر الإِسلام على الأرض، ونجحت هذه الأمة الجديدة في إزالة الشرك وسلطته من واقعها، وقد أثر ذلك على واقع الشرك في العالم، واليوم يواجه المسلمون الإلحاد تحت مسميات مختلفة ومنها مسمى العلمية، وعلى المسلمين الانتباه له من جهة وإنقاذ العالم من آثاره من جهة أخرى (2).
وإذا كان الإلحاد بدعواه لإزاحة الإيمان بالله من الوجود قد حسم بقية
(1) في ظلال القرآن: 2/ 1113 - 1115، وانظر: الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى، الشيخ محمَّد الشعراوي ص 43 - 46، وانظر: صراع مع الملاحدة حتى العظم، عبد الرحمن الميداني ص 26 - 33.
(2)
انظر: بحث الشيخ وحيد الدين خان صمن كتاب: وجوب تطبيق الشريعة والشبهات المثارة حول تطبيقها ص 301.
القضايا الغيبية الدينية، ورمى بها لعالم مجهول تتخبط فيه العقول بفلسفاتها والعلوم بنظرياتها، فإن الإيمان بالله هو أساس كل القضايا الغيبية، وإذا سقط هذا الأساس سقط بقية الغيب، وهناك بجانب هذا الإلحاد الكلي إلحاد في الربوبية، يُثبت أصحابه وجود الرب سبحانه، ولكنهم يريدون الإيمان به كما تتوهمه عقولهم وليس كما أخبرنا سبحانه عن ذاته، فالأصل الصحيح في باب الإيمان بالله أن يكون كما أخبرنا سبحانه عن نفسه، وليس كما تتوهم عقول البشر (1)، يقول أحد المتأثرين بالتغريب والنظرة العلمية المزعومة:"وفي الوقت الذي استوعب فيه الغرب أشكالًا مختلفة للعلاقة بين الله والعالم، مثل صورة الإله الذي يحكم العالم بالرياضيات، أو مهندس العالم عند ديكارت، أو صورة الصانع الذي لا يخطئ لساعة كبرى تظل تؤدي عملها بكفاءة وثبات، هي الكون عند ليبنتس، فإن العالم الإِسلامي لا يسمح بمثل هذا التغيير في شكل العلاقة بين العالم بسهولة، ولا يدمج هذه الصورة المتغيرة التي تعمل حسابًا لتطورات العلم في إطار العقيدة الدينية كما فعل هؤلاء الفلاسفة. في حين أن كبار مفكري الغرب المتدينين يقبلون بسهولة الفكرة القائلة بأن عناصر كثيرة من الأفكار الدينية ينبغي أن تتغير نتيجة للمعرفة الجديدة التي جلبها العلم والتقنية، فإن مثل هذه الأفكار مرفوضة -من حيث المبدأ- في معظم الأوساط الدينية الإِسلامية"(2).
[ثلاثي الانحراف]: إن إنكار الرب سبحانه أو الاعتقاد في ربوبيته بما تتوهمه العقول -وليس كما حدثنا الرب عن ذاته- يؤثران في بقية الغيب يصاحب ذلك الإغراق في الحسّ، فهذه ثلاثة أمراض: التكذيب بوجوده أو الانحراف في ربوبيته أو الإغراق في الحسّ. أما مع الأول فقد حُسم أمر الغيب معه؛ فإنه بإنكار وجود الرب لم يعد هناك مبرر للقول بغيب ديني، ومع ذلك فقد يقدمون الحجج العلمية المزعومة لنشر إلحادهم أو للدفاع عن موقفهم. أما مع الثاني وهو التكذيب بالربوبية لاسيّما في أبواب الخلق والقدرة والإرادة، فيفتحون
(1) ساد في الكتابات المعاصرة إطلاق الإلحاد على إنكار وجود الله سبحانه، ولكن معنى الإلحاد في اللغة العربية: الميل، فيكون الميل بالعقائد من الحق إلى البدعة أو إلى الكفر أو إلى الشرك هو من الإلحاد بهذا المعنى.
(2)
خطاب إلى العقل العربي، فؤاد زكريا ص 69، أو الصحوة الإِسلامية في ميزان العقل، له ص 130.
للتخرصات العقلية حول صورة هذه الغيبيات، ويُدخِلون العلم الحديث طرفًا مفسرًا أو شارحًا لتصورهم عن هذه الغيبيات، ويغلب على النتائج التي يصلون إليها أنها معارضة لما جاء به الأنبياء، وبانحرافهم في باب الخلق: هربوا من إثبات خلقه للعالم المادي وعالم الحياة إلى أمور غامضة أو إلى الإلحاد، وفي باب القدرة: حيث أغرتهم السنن، فاكتفوا بتفسيرها كقوانين أو قوى طبيعية حتمية تدير العالم الصغير والكبير، دون أي إمكانية لفعل شيء فيها حتى من قبل الرب، وفي باب الإرادة حيث قيدوا هذه الإرادة بما تتخيله عقولهم. أما الثالث، فهناك أمر مشترك عند أغلب المكذبين بالغيب وهو الانحباس في عالم الشهادة، يستوي في ذلك الأمي القديم الذي يعبد صنمًا مع المتحضر المتبحر في العقليات والعلميات الذي ينكر وجود الرب والغيب، فالأول يصرّ على أن يكون إلهه محسوسًا لغلظة الحسّ عليه، والثاني ينكر ذلك للسبب نفسه، والاستغراق في عالم الشهادة والمادة والحسّ، وطول إلفه ذلك، والإخلاد إليه، يفسد على صاحبه الإيمانَ بالغيب والتصديق به، فيقع بين طرفي نقيض، فإما جلب ذاك الغيب بصور شتى إلى عالم الشهادة وإما نفي ذاك الغيب مطلقًا.
لقد طلب اليهود قبل ثلاثة آلاف سنة طلبًا مكابرًا من أبواب الغيب فقالوا لنبيهم: أرنا الله جهرة، قال -تعالى- عنهم:{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)} [النساء: 153]، وقال -تعالى-:{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)} [البقرة: 55]، يقول "وحيد الدين خان ":"وفي العصر الحديث أعيدت هذه المطالبة باسم العلم. فحين اكتشفت العلوم الحديثة كثيرًا من أسرار الكون التي لم يكن الإنسان القديم يعرفها، زعموا أن العلوم قد قضت على حدود الحواس البشرية، وأن الإنسان سيتمكن الآن من المشاهدة المباشرة لكل الأشياء الموجودة. وزعموا أنه لا وجود للأشياء التي لا تخضع للمشاهدة. . . . وحين تمكنت الأجهزة الحديثة من مشاهدة أصغر الأجسام إلى الأجرام البعيدة، ولكنها لم تشاهد الحقائق الدينية زعموا أنه لا وجود لهذه الحقائق" إلى أن قال: "ولكن القرن العشرين قد مضى على هذا المنهج الفكري بعد اكتشاف حقائق كثيرة تبطل النظريات القديمة. . . . "، ثم
عرض بعض الأفكار والاكتشافات العلمية الجديدة التي تنقض هذا الرأي، ثم قال:"وإذا كان الكون يتكون من حقائق لا نشاهد معظمها مباشرة، فما هو السبيل لمعرفة الأشياء الأخرى التي لا نشاهدها؟. . . . "لقد تقلصت دائرة التجربة في التعامل مع الحقائق الكونية الأبدية، واتسعت دائرة التأمل" وبهذا اعترف العلم الحديث أنه لابد من الإيمان بالغيب؛ أي: الإيمان بحقائق الكون بمشاهدة ظواهره" (1).
ومن بين الأمثلة على إنكار كل الغيب بحجة العلمية نجد الكلام الإلحادي لـ"هكسلي" في كتابه: "الإنسان في العالم الحديث"، فيقول: "هل يستطيع الدين أن يلقي ضوءًا على الأزمة الحالية في الدين، وعلى حلها الممكن في المستقبل؟ والحالة الخاصة التي تواجه الدين في المدنية الغربية هي ما يأتي: أن الاعتقاد في الله قد أدى كل ما يستطيع من فائدة، وليس في وسعه أن يفعل أكثر من ذلك. والإنسان خلق القوى الخارقة للطبيعة؛ ليلقي عليها عبء ما لا يستطيع فهمه. فاعتقد الإنسان البدائي في السحر، ثم في الأرواح الشخصية، ثم انتقل من الأرواح إلى آلهة كثيرة، ومن الآلهة الكثيرة إلى إله واحد. وبعبارة بسيطة انتهى التطور. والمرحلة الخاصة التي تهمنا في هذا التطور هي مرحلة الآلهة. ولقد كانت الآلهة في عصر ما من حضارتنا الغربية تخيلات ضرورية، وفروضًا نافعة تساعد على الحياة.
إلا أن الآلهة ليست ضرورية أو مفيدة، إلا في إحدى مراحل التطور. ولكي يكون للآلهة قيمة عند الإنسان، لابد من ثلاثة أشياء: يجب أن تبقى كوارث العالم الخارجي غير مفهومة، وألا يمكن منعها حتى تكون مزعجة للغاية، أو أن تكون قسوة الحياة العامة وعجزها بحيث يحولان دون تصديق أن في الإمكان تحسين هذا العالم. وعندئذ يستطيع الإله -ولا تستطيع الحياة الاجتماعية- أن يهيئ من الوسائل ما يلزم لإصلاح الحال. . . .".
ويربط بين تقدم العلم والإلحاد وإنكار الغيب فيقول: "ولقد أوصلنا تقدم العلوم، والمنطق، وعلم النفس، إلى طور أصبح فيه الإله فرضًا عديم الفائدة،
(1) من بحث لوحيد الدين خان ضمن كتاب وجوب تطبيق الشريعة والشبهات المثارة حول تطبيقها ص 302 - 303.
وطردته العلوم الطبيعية من عقولنا حتى اختفى كحاكم مدبر للكون، وأصبح مجرد أول سبب أو أساسًا عامًا غامضًا. ولقد أدت زيادة المعرفة إلى إدراك أن السحر عقيدة باطلة، وأن منع الكوارث لا يتحقق إلا بالعلم وتطبيقاته، وأن الطقوس الدينية التي تصحب تقديم القرابين، وصلاة الاستغفار، عديمة المعنى. وأن تحليل العقل البشري، وما كشفه عن قدراته على رسم الخطط وإشباع الرغبات، وما كشفه عن العقل الباطن والكبت، يجعل ألا داعي للاعتقاد بأن الانحراف وما إلى ذلك يرجع إلى قوة روحية خارجية، وأنه ليس من العلم في شيء أن ننسب التوفيق في الأعمال إلى هداية من الله. ولقد أدى المنطق اللاهوتي إلى الاعتقاد بوحدانية الله، وهذا غير مفهوم، ومن بعض النواحي أقل قيمة عملية من الشرك!
"وإذا سلمنا بوجود إله من أي نوع، فالنتيجة المنطقية لذلك، الاعتقاد بوحدانية الله. ولكن لم هذا الاعتقاد في وجود الله؟ ولماذا الاعتقاد في كائنات خارقة للطبيعة لها صلة بمصير الإنسان وأمانيه؟ ويتوقف الاعتقاد في وجود الله على تشخيص الظواهر غير الشخصية، والتشخيص مقدمة للاستدلال على وجود إله. ولكن هذا ليس إلا مجرد فرض. وأنه إذا كان مفيدًا في العصور الأولى، فإنه الآن غير مفيد. ثم إنه يثير من الصعاب أكثر مما يحل. ويجب على الدين -لكي يستمر عنصرًا مهمًا في حياة المجتمع- أن يتخلى عن فكرة الله. أو على الأقل يقصيها إلى مركز ثانوي، كما حدث للسحر الذي سيطر على العقول في الزمن الماضي.
"والإله، والآلهة، والملائكة، والجن، والأرواح. وغيرها من الأشياء الصغيرة الروحية من عمل الإنسان، وناشئة حتمًا عن نوع من الجهل، ودرجة من العجز أمام بيئته الخارجية.
وبإحلال المعرفة محلّ الجهل في هذا الميدان، وزيادة سيطرة على بيئته نتيجة لتفكيره، يتلاشى الإله كما تلاشى الشيطان قبله، وآلهة الدنيا القديمة، وجنيات الغابات والبحيرات، والأرواح المحلية" (1).
(1) الإنسان في العالم الحديث، هكسلي ص 221 - 223، وانظر: مقومات التصور الإِسلامي، سيد قطب ص 52 - 53، وانظر: جدلية القرآن، د. خليل أحمد ص 158 - 160، وهو ممن يستعيد مثل هذه المقولات بنوع من الحماس، وقد استعرض "وحيد خان" مقولات "هكسلي" ونقدها في كتابه: الإِسلام يتحدى ص 25 وما بعدها.
وقد أطلت من هذا النموذج؛ لأنه يغني عن عشرات النقول عن المتغربين، فهم لم يتجاوزوا هذا الكلام، حيث سنجد هذا النموذج الشاذ يدخل في كتابات تغريبية عربية، حذو القذة بالقذة، ومع ذلك فهذا الكلام غير مُستَغرب من الملاحدة، فهو موجود في كل زمن، وإنما القصد هنا أن مثل هذه الدعاوى تتلبس بالعلم.
وقد أورد سيد قطب منقولات عن ديورانت تصل لنتيجة: أن تلك الدعاوي التي تتلبس العلم، قد جاء العلم نفسه بإبطالها. ومن كلام ديورانت:"يقول برتراند رسل: "يقترب علم الطبيعة من المرحلة التي يبلغ فيها الكمال". وجميع الدلائل تدل على العكس من ذلك .. أما هنري بوانكاريه فيرى أن علم الطبيعة الحديث في حالة من الفوضى، فهو يعيد بناء جميع أسسه، وفي أثناء ذلك لا يكاد يعرف أين يقف. وقد تغيرت الأفكار الأساسية عن الطبيعة تغيرًا تامًا في العشرين السنة الأخيرة، فيما يختص بالمادة والحركة كلتيهما. ولم تعد تسمح أعمال كوري ورذرفورد وسودي وأينشتين ومينكوفكس لأي تصور قديم عن الطبيعة النيوتونية بالبقاء"(1)، ويعلق سيد على ذلك فيقول:"وبعد، فإن هذا هو موقف العلم من المجهول. . . . بل من المنظور. . . .! وهو الذي يحيلنا عليه أمثال جوليان هاكسلي من "العلماء" المتبجحين المستهترين بقيمة الكلمة في الحقيقة!. . . . وبقي "الإنسان" يريد أن يركن إلى "الحقيقة". يريد أن يستقر على قاعدة في التعامل مع هذا الوجود. يريد أن يعرف مركزه في الكون وغاية وجوده الإنساني. يريد أن يرى "الكل" ويطمئن إليه قلبه. . . .
وليس هناك إلا دين الله يريه "الكل". ولم يعد دين الله يتمثل في غير "الإِسلام" .. فهو وحده العقيدة التي سلمت من الإضافات والتحريفات البشرية. وهو وحده الذي يتلقى منه الفكر البشرى مقومات التصور الوحيد الصحيح .. مقومات التصور الإِسلامي. ." (2).
وإذا أردنا أن نعرف بصورة أدق كيف نبع الانحراف في الغيب من خلال
(1) عن مقومات التصور الإِسلامي ص 60.
(2)
المرجع السابق ص 61، وانظر: في ظلال القرآن 2/ 1115 - 1119.
المعرفة العلمية العلمانية، فعلينا الرجوع إلى أصولها التي بُنيت عليها، ومن أهمها بحسب الباحث الإِسلامي طه عبد الرحمن أصلان:"لا أخلاق في العلم، ولا غيب في العقل"، والمشكلة أنهما قد تسربا في نمط المعرفة الغربية، مما يجعل أخذها دون فحص ونقد، يعد في غاية الخطورة، من جهة إمكانية تسرب هذين الأصلين الخطيرين إلى ثقافتنا (1).
ومقتضى الأصل الثاني الذي له علاقة بموضوع الغيب: "أن لكل واحد -أو جماعة- أن يُركب من العلاقات ويقيم من البنيات ما شاء ما عدا أن تكون بعض العناصر المرتبطة بهذه العلاقات أو الداخلة في هذه البنيات لا تفيد تحقيقاتُ التجربة الحسية ولا تقديرات العقل المجرد في الإحاطة بكنهها أو بوصفها"(2).
وقد تفرع عن هذا الأصل المبدآن المشهوران الآتيان:
"أ- مبدأ السببية: وهو يقضي بأن يكون لكل ظاهرة سبب محدد؛ ولما كان القول بالسببية يلزم منه أن "الجواز" لا محل له في الممارسة العقلية المشترطة في العلوم، آثرنا أن نسمي هذا المبدأ "مبدأ السببية الجامدة"، حتى نفرق بينه وبين مبدأ آخر يأخذ بسببية "حرِكة" "بكسر الراء" تزدوج فيها الضرورة بالجواز، كما يزدوج فيها التوجيه الذي يضبط العلاقة السببية، إذ تكون هذه العلاقة موجَّهة من لدن المسبَّب كما هي موجهة من لدن السبب، وإن اختلفت صورةُ هذا التوجيه من أحدهما إلى الآخر.
ب- مبدأ الآلية: ينص هذا المبدأ الثاني على أن كل ظاهرة لا تحددها إلا أوصاف وخواص خارجية يمكن أن نراقبها ونضبطها ونتصف فيها بطرق مقررة؛ ولما كان القول بالآلية يلزم منه أن الممارسة العلمية تُنزل كل شيء منزلة الظاهر الذي ينبغي التحكم فيه، ولا تتطلع إلى ما وراءه من الدلالات الخفية ولا إلى ما بَطَن من الأسباب الممتنعة عن المراقبة الآلية، اخترنا أن نطلق على هذا المبدأ اسم "مبدأ الآلية المسبَّبة"، حتى نفرق بينه وبين مبدأ ثان يأخذ بآلية "موجَّهة""بفتح الجيم" يتزاوج فيها التحكم في ظاهر الأشياء مع الاحتكام إلى باطنها،
(1) انظر: سؤال الأخلاق، طه عبد الرحمن ص 91 - 92، وانظر: أفي الله شك، د. حمد المرزوقي ص 122.
(2)
سؤال الأخلاق ص 92.
وذلك لتزاوج الأوصاف العلنية فيها مع المقاصد الخفية وتزاوج العلل المشهودة مع الحِكَم "بكسر الحاء" المبثوثة" (1).
وقد ترتب على هذين المبدأين صور من الانحراف "وتوضيح ذلك أن لمفهوم "الجواز" تعلقًا بالإرادة، حيث إن الظواهر التي يستقرئ العلم الوضعي أسبابها هي من صنع الإرادة الإلهية التي تعلقت بهذه الأسباب، وكان بالإمكان أن تتعلّق بأسباب غيرها لو شاءت هذه الإرادة أن تكون الظواهر على غير ما هي عليه، أو شاءت أن يدركها الإنسان على غير الوجه الذي أدركها عليه، كما أن لمفهوم "الباطن" الذي يقترن بظاهر الأشياء، تعلقًا بالغاية التي أنيطت بكل ظاهرة والتي ترتقي بها إلى عالم القيم المعنوية"(2).
ولا شك أن في تعطيل الإرادة الإلهية والقول بسببية جامدة له أبعاد غيبية خطيرة لما في ذلك من تحديد القدرة الإلهية والإرادة والخلق (3)، ومن أمثلته إنكار كل خارق بحجة معارضته لمثل هذه السببية الجامدة، كما أن القول بالآلية ومنع الحِكم الإلهية من وجود ما أخبر الرب بوجوده من مغيبات ذات غايات لا يمكن لأهل الحتمية فهمها من مثل وجود الوحي والرسالات السماوية وعالم المخلوقات الغيبية واليوم الآخر، وغيرها من الأمور الغيبية التي تعارض حتميتهم.
وهذه الأصول مبنية على تصور مادي للعلم موروث من ماديي ووضعيي القرن الثالث عشر / التاسع عشر، وقد شهد العلم في القرن الرابع عشر/ العشرين تحولات مهمة سبق شيء من التوقف معها، أضعفت مثل هذه الأصول المادية، وقد خرجت دراسات فكرية مهمة في هذا الميدان تبيّن المسافة الكبيرة والخطيرة بين رؤيتين للعلم، رؤية اشتهرت لدى ماديي القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، ورؤية جديدة مناقضة لها ما زالت تتشكل إلى اليوم تتعارض تمامًا مع القديمة، ومن بين هذه الدراسات نجد كتاب "العلم من منظوره الجديد" الذي يحدثنا عن الفرق بين الرؤيتين: القديمة المادية والجديدة، فقد انتهت القديمة بحسب مترجم
(1) سؤال الأخلاق ص 94.
(2)
المرجع السابق ص 95.
(3)
انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب 2/ 1119 - 1120.
الكتاب إلى "مذهب مادي صارم يؤمن بأزلية المادة، ويرفض من ثم كل ما هو غيبي، ولا يعترف في تفسيره لمختلف الظواهر إلا بنوعين من العلل، هما: الضرورة والصدفة"(1)، ومع القول بالمادية والقول بالحتمية وإنكار الغائية فُتح الباب للإلحاد، مع أن مجموعة من مؤسسي العلم لم يكونوا ملحدين، ولكن تصورهم للعلم قد فتح الباب للإلحاد، ومن ثم فقد ظهر فريقان: فريق "لا أدري" من جهة الإيمان بالله؛ لأن العلم يفسر الأمور دون الحاجة إليه بزعمهم، وفريق وجد أن منطق العلم بصورته السابقة يؤدي للإلحاد، فذهبوا مع هذا المنطق، وقالوا به (2)، ولكن حركة العلم المعاصرة حطمت عددًا كثيرًا من مسلمات العلم، لاسيّما في باب السببية الجامدة والحتمية والآلية وإنكار الغائية ودعوى مادية العالم وإنكار ما سواه، فانقلب العلم على العلم وبقي الملحدون في فوضاهم كالعادة، ولكن المهم أن العلم الذي استندوا إليه، قد هدم الأصول التي بنوا عليها موقفهم (3).
وقد خُتمت المقارنة بين النمطين السابقين بالآتي: "والبشر يلحظون يد الله في ندفة الثلج وفي غروب الشمس وفي حقل الأعشاب. وعظمة الجمال وجلاله يحملان توقيع الله الذي لا شبهة فيه. يقول توماس مان: "الجمال وحده إلهي ومرئي في آن معًا". أما إمرسون فيقدم لنا النصيحة التالية: "إياك أن تفوت أي فرصة لمشاهدة أي شيء جميل؛ لأن الجمال خط بيد الله، إنه قداس يقام على جانب الطريق، رحب بالجمال في كل وجه حسن، وفي كل سماء صافية، وفي كل زهرة جميلة، واشكر الله على ذلك".
وهكذا ففي النظرة الجديدة نجد أن أصل الكون وبنيته وجماله تفضي جميعًا إلى النتيجة نفسها، وهي أن الله موجود" (4).
وهذا الذي يؤكده العلم وتقبله العقول الصحيحة والفطر السليمة هو الذي يؤكده الإِسلام ويبث ذلك في أهله، ويحققون الوسطية بين التصديق بالواقع
(1) العلم في منظوره الجديد، روبرت وجورج ص 8، ترجمة د. كمال خلايلي.
(2)
انظر: العلم في منظوره الجديد ص 15 - 16، وانظر: ص 53 - 54.
(3)
انظر: المرجع السابق ص 16 وما بعدها، وانظر: ص 55 وما بعدها، وانظر: العلم في نقد العلم .. ، مني فياض ص 119.
(4)
المرجع السابق ص 72.
والإيمان بالغيب، وهكذا تكون العقلية الإِسلامية تجمع بين الغيب الحق الذي لا يمكن التكذيب به وبين التعامل مع عالم الحس الذي يسير بتسخير الرب العليم الحكيم، "إن العقلية الإِسلامية عقلية "غيبية علمية"؛ لأن "الغيبية" هي "العلمية" بشهادة "العلم" والواقع .. أما التنكر للغيب فهو "الجهلية" التي يتعالم أصحابها وهم بهذه الجهالة!
وإن العقلية الإِسلامية لتجمع بين الاعتقاد بالغيب المكنون الذي لا يعلم مفاتحه إلا الله؛ وبين الاعتقاد بالسنن التي لا تتبدل، والتي تمكن معرفة الجوانب اللازمة منها لحياة الإنسان في الأرض، والتعامل معها على قواعد ثابته .. فلا يفوت المسلم "العلم" البشري في مجاله، ولا يفوته كذلك إدراك الحقيقة الواقعة؛ وهي أن هنالك غيبًا لا يُطلع الله عليه أحدًا، إلا من شاء بالقدر الذي يشاء ..
والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها "الفرد" فيتجاوز مرتبة "الحيوان" الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه، إلى مرتبة "الإنسان" الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدود، الذي تدركه الحواس -أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس-، وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله، ولحقيقة وجوده الذاتي، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود؛ وفي إحساسه بالكون، وما وراء الكون من قدرة وتدبير. كما أنها بعيدة الأثر في حياته على الأرض، فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته؛ ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه؛ ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود؛ وأن وراء الكون .. ظاهره وخافيه .. حقيقة أكبر من الكون، هي التي صدر عنها، واستمد من وجودها وجوده .. حقيقة الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار، ولا تحيط بها العقول. . . . لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة. ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان -كجماعة الماديين في كل زمان- يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقرى .. إلى عالم البهيمة، الذي لا وجود فيه لغير المحسوس! ويسمون هذا "تقدمية"! وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها. فجعل صفتهم المميزة هي صفة:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} . . . . والحمد لله على نعمائه؛ والنكسة للمنتكسين والمرتكسين. . . . إن هنالك حقيقة واحدة مستيقنة هي