الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول التأثر بنظرية داروين التطورية من علم الأحياء حول الدين
قليلة هي النظريات العلمية في العلوم الطبيعية التي تثير إشكالًا مع الدين مقارنة بنظريات العلوم الاجتماعية، إلا أنها الأكبر أثرًا والأكثر إشكالًا إذا ظهرت معارضتها للدين أو تُوهم ذلك، فالعلم الحديث داخل أوروبا بدأ صراعه مع دين أوروبا بنظرية في ميدان العلوم الطبيعية، وامتدت أكثر من مئة عام حتى جاء الدوي الثاني بنظرية من علم الأحياء/ البيولوجيا في منتصف القرن الثالث عشر/ التاسع عشر ذات الأثر الضخم في أوروبا والغرب وربما العالم.
ولا شك أن أوروبا تأثرت كثيرًا بسبب ما حدث من آثار "نظرية الفلك" مع "كوبرنيكوس" وأصحابه"، ومع "نظرية التطور" مع "لامارك" و"داروين" وصديقه "الاس""(1)، ولاسيّما في علاقة الغربيين بدينهم وبتصورهم للعلم والإنسان فالعلاقة بالدين كانت متوترة، وجاءت النظريتان لتوظّفا في صالح الاتجاه العلماني، كما أنها
(1) انظر: الدارونية والإنسان. . . .، د. صلاح عثمان ص 116، والتطور والثبات في حياة البشرية، محمد قطب ص 19.
تضع تصورًا جديدًا للعلم والإنسان يمثل بديلًا عن التصور الديني. ورغم كثرة النظريات العلمية والفلسفية إلا أنه لم يقع مثل أثر هاتين النظريتين من ميدان العلوم الطبيعية، وحتى تلك التي من ميدان العلوم الاجتماعية هي ذات صلة بالدارونية ولاسيّما "الماركسية" و"التحليل النفسي" و"الدوركايمية" و"التطويرية".
يأتي "داروين" في قائمة علماء الأحياء، وربما يكون هو الأبرز في تاريخها الحديث، وقد عرف هذا العلم بعد "داروين" تطورًا مذهلًا وشهد ثورات خطيرة أبرزها ما حدث في باب الجينات ومسألة الاستنساخ، إلا أن أهم ما يرتبط بهذا العلم هو نظرية التطور، وهي نظرية ما زالت مثار جدل إلى ساعتنا هذه.
للنظرية جانب علمي يُبحث في ميدان علم الأحياء مع علوم أخرى تُستمد منها الحجج، وهي أمور ليس في مقدور أي مفكر أو باحث مناقشتها وهو من خارج تلك العلوم، إلا أن لها جانبًا فلسفيًا ظهر بارزًا في مذهب مستقل وهو "الدارونية" أو "التطورية" أراد له أصحابه أن يكون مذهبًا شاملًا إلحاديًا في إيدلوجيته يكون بديلًا عن الدين، غير أنه لا يعترف بعقائد الدين مستبدلًا لها بعقائد من اختراع مؤسسيه، ومن المهم التفريق بين النظرية وبين إيحاءاتها الفلسفية والتطبيقات الأيدلوجية التي لا علاقة لها بالعلم (1).
إذا بحثنا في أخطر ما أثارته النظرية والمذهب النابت حولها ووظف في الصراع مع الدين نجد أمرين:
الأول: إيجاد تصور عن وجود الحياة ووجود الإنسان يراد له أن يكون منافسًا للتصور الديني إن لم يكن بديلًا عنه، فالحياة وجدت صدفة في خلية ما في هذا العالم المادي، ونبعت عن الطبيعة، والإنسان جاء نتيجة تطور، لم يكن نتيجة خلق إلهي مستقل (2).
الثاني: إذا كان العلم يخالف رؤية الدين في الموضوعين: "الحياة" و"الإنسان"، والعلم هنا هو الصورة الدارونية له؛ فقد وصلت الدارونية بشقها الملحد وهو الأبرز والأشهر إلى دعوى خرافة الرؤية الدينية، ومن ثم البحث عن أصل ظهور الدين من خلال المنظور الداروني التطوري. وفي النصف الثاني من
(1) انظر: العلمانية .. ، سفر الحوالي ص 181.
(2)
انظر: الدارونية والإنسان. . . .، ص 95 - 115.
القرن الثالث عشر / التاسع عشر (1) برزت "محاولات تطبيق النظرية التطورية على الدين بالذات، التي لاقت رواجًا هائلًا"، وإن كانت ظهرت دراسات بعدها بينت ضعف النظرية التطورية.
يقول "كرين برينتون": "حقًا أن صراعًا هامًا بين الدين والعلم احتل مكان الصدارة على أثر صدور كتاب داروين أصل الأنواع. . . . في عام (1859 م). وبدأ فكر داروين في نظر كثير من المسيحيين، خاصة بعد أن روج له تلامذته في الخارج، ليس فقط منافيًا للتفسير الحرفي لسفر التكوين، بل إنه في رأيهم إنكار صريح لأن يكون الإنسان مختلفًا بأي وجه من الوجوه عن الحيوانات الأخرى إلا فيما يتعلق بالتطور الطبيعي المحض لجهازه العصبي الذي استطاع بفضله أن يغرق في التفكير الرمزي، وأن تكون له أفكاره الدينية والأخلاقية الخاصة. ."(2).
لقد بُذلت جهود جبارة من أجل تحويل فروض الأمر الأول "مادية الحياة" و"تطورية المخلوقات" إلى حقائق ومع ذلك لم تُكلل بالنجاح، فلم ينجحوا في إيجاد حياة من المادة (3) وإن كان فيهم من يتنبأ مع التطورات في علوم الجينات بإمكانية تحقيق ذلك في المستقبل. ومثلها ضخامة ما جمعوا من شواهد من شتى العلوم لإثبات صحة التطور، ومع ذلك يأتي ما بين فترة وأخرى ما يضرب تلك الشواهد، مما يجعلها في دائرة الفرض (4)، ويصبح المعتقد بها ليس لوجود موضوعي حقيقي خارجي لها بقدر ما هو ميل وهوى نحوها، والميل يرتبط غالبًا بالقناعات والرغبات الشخصية لا بالحقائق الموضوعية الخارجية.
وإذا كان الأمر الأول مما يمكن للمعترض مطالبتهم بالإثبات العلمي؛ لأنه لو افتُرض صحته فلابد له من شاهد يقبل التصديق أو التكذيب، إلا أن الأمر الثاني لا علاقة له بالعلم وإنما هو من باب الفلسفة والفكر والأيدلوجيا، ولهذا كانت الدارونية والتطورية كمذهب فلسفي تدخل في باب المنافسة مع مذاهب أخرى، فقد تبرز في وقت أو في بيئة، ثم تضعف أو تصبح مثار استهجان
(1) انظر: الموسوعة الفلسفية العربية 1/ 444 (المصطلحات والمفاهيم).
(2)
تشكيل العقل الحديث، ترجمة شوقي جلال ص 221 - 222.
(3)
انظر: العلمانية .. ، الحوالي ص 338 - 346.
(4)
انظر: ما كتبه يحيى هارون عن الدارونية، وانظر: ما ذُكر في الفصل الثاني (إنسان بلتدوان).
ويتجاوزها الناس إلى غيرها في وقت آخر، كما هو الحاصل مع الدارونية التي غطّت عليها مذاهب أخرى ظهرت في القرن الرابع عشر/ العشرين.
هناك من ربط ظهور الدارونية بأوضاع التحولات الأوروبية، وقد كانت في مجال الدين والقيم تحولات خطيرة (1)، وهناك من تحدث عن أثرها في كثير من الأوضاع السياسية والاقتصادية والفكرية في الغرب، بل تأثيرها في العلم ذاته ولاسيّما العلوم الاجتماعية (2)، مما يجعل تجاوز ما أفرزته من مشكلات يحتاج لوقت طويل، وقد جاءت دراسات تتناول تلك الأبعاد، إلا أن هذا المبحث يقف فقط مع ما أثّرت به على أتباعها المتغربين في موقفهم من الدين.
والمُلفت للنظر أن الدارونية قد جذبت طائفة مهمة من أصحاب الخيار الإلحادي، فـ"ماركس" و"أنجلز" قائدا أبرز مذهب مادي إلحادي أُعجبا بها، ووجدا فيها أرضًا خصبة لمذهبهما، فضلًا عن الدارونيين البارزين الذين تبنوا مذهبًا ماديًا إلحاديًا أو آخرين خارج الدارونية مثل "فرويد" أو"نيتشه" أو غيرهما، فقد أخذت شهرة في فترة ما، ولا شك أن المرحلة التي تمر بها أوروبا أسهمت في ذلك، ولكن الوضع لم يستمر على هذه الحال، حيث بدأت خيارات أخرى تتصدى للإلحاد متبنية في الوقت نفسه مصادر علمية.
لم يكن الفكر الغربي الحديث خاليًا من المشكلات مع الدين، ولكن النظرية الدارونية أضافت مشكلاتها ولاسيّما في ادعاء أصحابها أنها تُمد الفكر المعارض للدين بأدلة علمية من ميدان العلم، ومما ركزت عليه نفي "صفة الخلق عن الخالق سبحانه وتعالى، ونسبته إلى الطبيعة. فقال دارون: "الطبيعة تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها على الخلق. . . . ونفت الغاية من الخلق. فالإله الجديد -الطبيعة- يخبط خبط عشواء. . . ." وأخيرًا ركزت على حيوانية الإنسان وماديته"(3). وقد أخذ مجموعة من المفكرين بهذه الأبعاد إلى أقصى مداها، ونظروا للإنسان كحيوان داروني متطور (4)، أوجد في أثناء تطوره تصورات كثيرة وصلت إلى
(1) انظر: العلمانية .. ، الحوالي ص 188 وما بعدها.
(2)
انظر: الدارونية والإنسان .. ، د. صلاح، الفصل الثاني والثالث والرابع.
(3)
حول التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، محمد قطب ص 27 - 28.
(4)
انظر: المرجع السابق ص 56.