الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار ولا تحيط بها العقول" إلى أن قال: "لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة. ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان، كجماعة الماديين في كل زمان، يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقرى .. إلى عالم البهيمة الذي لا وجود فيه لغير المحسوس! ويسمون هذا "تقدمية" وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها فجعل صفتهم المميزة، صفة:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} والحمد لله على نعمائه، والنكسة للمنتكسين والمرتكسين! " (1).
[مسألة] وللغيب أقسام:
فمنه الغيب المطلق الذي هو غيب عن جميع الخلق، ولا يعلمه أحد، وذلك مما استأثر الله بعلمه، ومنه ما عرفه رسله وأخبرونا به دون أن نستطيع معرفته بغير طريقتهم، كصفة الاستواء لله رب العالمين، وكعالم الملأ الأعلى، وكعلامات الساعة، مثل المسيح الدجال والدابة، فلا يعلم ذلك إلا من جهة الرسل، ولا يعرف البشر شيئًا منه بعقولهم وأدواتهم، فطريقهم لما علم منه هو الخبر المحض، فيكون مطلقًا من هذا الوجه، قال -تعالى-:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)} [الجن: 26 - 28]، وقال الله تعالى:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، وقال -تعالى-:{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)} [الرعد: 9].
ومنه الغيب النسبي الذي يعرفه البعض ويغيب عن آخرين، فهذا غيب لمن غاب عنه وليس غيبًا لمن شاهده وعلمه من الخلق من الملائكة أو الإنس أو الجن.
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله حول قوله -تعالى-: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} "وهو سبحانه قال: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ} ولم يقل "ما" فإنه لما اجتمع ما يعقل وما لا يعقل غلب ما يعقل وعبر عنه بـ"من" لتكون أبلغ
(1) في ظلال القرآن 1/ 39 - 40.
فإنهم مع كونهم من أهل العلم والمعرفة لا يعلم أحد منهم الغيب إلا الله.
وهذا هو الغيب المطلق عن جميع المخلوقين الذي قال فيه: {فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} .
والغيب المقيد ما علمه بعض المخلوقات من الملائكة أو الجن أو الإنس وشهدوه، فإنما هو غيب عمن غاب عنه ليس هو غيبًا عمن شهده.
والناس كلهم قد يغيب عن هذا ما يشهده هذا فيكون غيبًا مقيدًا؛ أي: غيبًا عمن غاب عنه من المخلوقين لا عمن شهده، ليس غيبًا مطلقًا غاب عن المخلوقين قاطبة.
وقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} ؛ أي: عالم ما غاب عن العباد مطلقًا ومعينًا، وما شهدوه فهو سبحانه يعلم ذلك كله" (1).
فالإِسلام يقر بالغيب، ويقرر وجود غيب مطلق، نعلمه بالخبر الصحيح، وقد بثّ الله من الدلائل عليه في الآفاق والأنفس، وأنزل من الموازين والدلالات العقلية والحسية، ما يثبت لكل طالب حق وباحث عنه بوجود حقيقة الغيب الذي جاء به الخبر، حتى وإن لم نره، فقد أصبح الغيب أصلًا مهما من أصول الإِسلام، لا تقوم حياة الإنسان الكاملة إلا بالإقرار به، ومن ثم لا يصح دينه ولا تقوم نجاته إلا بالتصديق بالغيب، ولن تصلح حياة الناس إلا بالإقرار بالغيب. ومن هنا نعلم سبب المكانة العظيمة للغيب في الإِسلام، وأنها أساس الإِسلام الذي لا يقوم إلا بالإيمان بالغيب، يقول سيد قطب:"حقيقة الغيب من "مقومات التصور الإِسلامي" الأساسية؛ لأنها من مقومات العقيدة الإِسلامية الأساسية؛ ومن قواعد "الإيمان" الرئيسية ..
وذلك أن كلمات "الغيب" و"الغيبية" تلاك في هذه الأيام كثيرًا -بعد ظهور المذهب المادي- وتوضع في مقابل "العلم" و"العلمية" .. والقرآن الكريم يقرر أن هناك "غيبًا" لا يعلم "مفاتحه" إلا الله. ويقرر أن ما أوتيه الإنسان من العلم قليل .. وهذا القليل إنما آتاه الله له بقدر ما يعلم هو -سبحانه- من طاقته ومن حاجته. وأن الناس لا يعلمون -فيما وراء العلم الذي أعطاهم الله إياه- إلا
(1) الفتاوى، 16/ 110، وانظر: أسس المنهج القرآني. . . .، د. منتصر مجاهد ص 43.
ظنًا، وأن الظن لا يغني من الحق شيئًا .. كما يقرر -سبحانه- أن الله قد خلق هذا الكون، وجعل له سننًا لا تتبدل؛ وأنه علم الإنسان أن يبحث عن هذه السنن ويدرك بعضها؛ ويتعامل معها -في حدود طاقته وحاجته- وأنه سيكشف له من هذه السنن في الأنفس والآفاق ما يزيده يقينًا وتأكدًا أن الذي جاءه من عند ربه هو الحق .. دون أن يخل هذا الكشف عن سنن الله التي لا تبديل لها، بحقيقة "الغيب" المجهول للإنسان، والذي سيظل كذلك مجهولًا، ولا بحقيقة طلاقة مشيئة الله وحدوث كل شيء بقدر غيبي خاص من الله، ينشئ هذا الحدث ويبرزه للوجود .. في تناسق تام في العقيدة الإِسلامية، وفي تصور المسلم الناشئ من حقائق العقيدة ..
إن الله سبحانه يصف المؤمنين في مواضع كثيرة من القرآن بأنهم الذين يؤمنون بالغيب؛ فيجعل هذه الصفة قاعدة من قواعد الإيمان الأساسية".
إلى أن قال: "على أن الغيب في هذا الوجود يحيط بالإنسان من كل جانب .. غيب في الماضي وغيب في الحاضر، وغيب في المستقبل .. غيب في نفسه وفي كيانه، وغيب في الكون كله من حوله .. غيب في نشأة هذا الكون وخط سيره، وغيب في طبيعته وحركته .. غيب في نشأة الحياة وخط سيرها، وغيب في طبيعتها وحركتها .. غيب فيما يجهله الإنسان، وغيب فيما يعرفه كذلك!
ويسبح الإنسان في بحر من المجهول .. حتى ليجهل اللحظة ما يجري في كيانه هو ذاته فضلًا على ما يجري حوله في كيان الكون كله؛ وفضلًا عما يجري بعد اللحظة الحاضرة له وللكون كله من حوله: ولكل ذرة، وكل كهرب من ذرة؛ وكل خلية وكل جزئي من خلية!
إنه الغيب .. إنه المجهول .. والعقل البشري. . . . إنما يسبح في بحر المجهول. فلا يقف إلا على جزر طافية هنا وهنالك يتخذ منها معالم في الخضم. ولولا عون الله له، وتسخير هذا الكون، وتعليمه هو بعض نواميسه، ما استطاع شيئًا ..
ولكنه لا يشكر .. {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، بل إنه في هذه الأيام ليتبجح بما كشف الله له من السنن، وبما آتاه من العلم القليل .. يتبجح فيزعم أحيانًا أن "الإنسان يقوم وحده" ولم يعد في حاجة إلى إله يعينه! ويتبجح