الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لقد كان الهدف نبيلًا عند الاتجاه التوفيقي وصاحبه جهد عظيم لا يمكن الاستهانة به، ومع ذلك فقد تلبّس بما يُضعفه وهو الاعتماد على آلة كلامية ثبت عدم صلاحيتها لحل الإشكال، ولاسيّما بعد النقد الجذري لهذه الآلة مع شيخ الإسلام ابن تيمية، فلا يصح من عالم عاقل قد اطلع على ذاك النقد العظيم أن يتغافل عنه ويعود من جديد لمثل هذه الآلة، وهذا هو المأخذ المهم على الاتجاه التوفيقي، ولهذا سيبقى ابن تيمية رحمه الله حيًا بعلمه ما وجد دعوى للتعارض، ولاسيّما إذا استعيد قانون التأويل الكلامي المشهور.
ولكن عمل الاتجاه التوفيقي لم يكن كله سعي للتوفيق، بل هناك إلى جانبه عمل نقدي مهم، استلم دعاوى المتغربين وأنهكها وكشف الكثير من باطلها وزيفها والأهواء التي خلفها، وهي مساحة كبيرة من نشاطهم، وهي مادة جيدة لا يستغني عنها الفكر الإسلامي المعاصر.
وخلاصة القول إن الاتجاه التوفيقي قدم نقدًا مهمًا للاتجاه التغريبي حول دعوى التعارض، وهي مادة ثرية تحتاج إلى تمحيص لإخراج المفيد منها، ومع ذلك ففي الجانب الآخر، أي جانب ما سلّموا به من توهم التعارض قد عالجوه بأداة لا تصلح لذلك، فمفاسدها أكثر من مصالحها، وكثير من مسلماتها خطأ محض سبق لأهل السنة بيانها. فإن جاء مفكر أو باحث إسلامي يخالف هذا الاتجاه في مسعاه التوفيقي فلا يعني أنه لا يستفيد من مسعاه النقدي، كما أن الاستفادة من الاتجاه التوفيقي من نقده لا يعني عدم التنبيه إلى خطأه في عمله التوفيقي.
أصول عامة حول دعوى التعارض بين الدين والعلم:
هناك أصول عامة يُسلّم بها الفكر الإسلامي قبل تنزله في مناقشة الاتجاه التغريبي في مسألة دعوى التعارض، وأهمها:
1 -
اليقين التام بما في الوحي، وهذا اليقين عند المسلم لا يزعزعه شيء، فإنْ التبس عليه أمرٌ رجع إلى الكتاب والسنة وإلى أولي العلم بهما، مع تمام التسليم بأن الرب سبحانه كلامه حق وصدق، قال -تعالى-:{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا} [النساء: 87]، وقال -تعالى-:{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا} [النساء: 122] وأنه العليم الحكيم، فلا يكون في أمره إلا ما يوافق علمه وحكمته
سبحانه. وينتج عن هذا الاعتقاد العظيم ثقته بأنه لا توجد حقيقة علمية أو عملية تعارض آيات الله سبحانه ووحيه إلى رسله، وإن ادعى أحدٌ خلاف ذلك لم يتزلزل إيمانه ويقينه وثقته بما بين يديه من الوحي.
2 -
أن ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو حق وصدق، وكل من ادعى معارضته فهو مخالف للرسول صلى الله عليه وسلم ومعتقد في حقه أسوأ الاعتقاد، وفعله من فعل جنس معارضي الرسول صلى الله عليه وسلم الذين قال الله فيهم:{مَا يُجَادِلُ في آيَاتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ في الْبِلَادِ (4)} [غافر: 4]، وقال -تعالى-:{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوَا (56)} [الكهف: 56]. ويلزم منه أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين للناس هذا الوحي حتى يتركهم لتلك المعارضات، أو أنه لبّس عليهم وهو أشنع، أو أنه على غير علمٍ بما أخبرنا به. ففيه اتهام بعدم القدرة على البيان وهو أفصح الخلق صلى الله عليه وسلم، أو عدم الصدق مع أمته وهو أنصح الخلق لأمته صلى الله عليه وسلم، أو عدم العلم واتهامه بالجهل وهو أعلم الناس صلى الله عليه وسلم. فكل من يزعم بوجود معارضة للوحي فهو يعارض الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتهمه بواحدة من التهم الثلاث، وإن لم يصرح بذلك، ولكنها لازم قول من ادعى المعارضة.
3 -
أن الأدلة تتنوع، وأعلاها وحاكمها والمهيمن عليها هو كلام الله تعالى المنزل ثم الخبر عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فالقرآن الكريم قطعي الثبوت وكذا السنة "المتواترة" أما حديث "الآحاد" فمنه القطعي الذي احتفت به القرائن وتلقته الأمة بالقبول ومنه الظني، أما من حيث الدلالة فمنها القطعي ومنها الظني وذلك في القرآن والسنة، وهي تحوي الخبر المحض وتحوي الدليل العقلي والحسي، فتكون بذلك أدلة شرعية كما سبق بيانه في فصل سابق (1). وهنا يأتي ضلال من لم يتبع الهدى ويترك الوحي ولا يعتمد إلا الدليل العقلي أو الدليل الحسي ويرفض غيرهما، وما لم يدلّا عليه عندهم فلا يعدّونه من العلم، فيقع الإعراض عن الوحي بسبب هذا الاشتراط الفاسد، وقد قال {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124]، فتجدهم يخرجون ما دلّ عليه الوحي من دائرة العلم، مع أنه أعلى درجات العلم، فيعيشون عيشة ضنكًا.
(1) انظر: المبحث الأول في الفصل الأول من الباب الثاني.