الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مزاعم عصر التنوير حول مفهوم التنوير بأنه استقلال الإنسان واعتماده على نفسه وعدم حاجته إلى مصدر خارجي، حيث كان غاية ما عندهم أن تركوا عقولهم تُنظر وتشرع، ثم وجدوا ثمرتها النكدة بعد سنين، مما رفع من صيحات الإعلان بموت التنوير وفشله وتحويله إلى عكس ما زعمه. وقد كان البديل المقترح مع أهل التنوير عن الدين هو العقل، ثم جاء تحوّل مع الوضعية نحو العلم، وغالب التيارات العقلانية إما أن تتحمس للعقل أو تتحمس للعلم، ولكن ثمار الاثنين أتت على عكس ما يأملون أو يزعمون، فأهل التنوير يزعمون قدرة العقل لوحده على الاستقلال بحياة أصحابه، وأهل الوضعية يزعمون قدرة العلم على الاستقلال بحياة البشرية واستغنائها به عن غيره.
كانت هذه الحال مع الفكر الغربي، أما المتغربون فقد انساق أكثرهم مع تلك التيارات وقلدوها، وزاد الأمر شبهة عليهم بأن أعينهم القاصرة لم تنظر في الغرب إلا إلى دنياه، فوجدوها دنيا متقدمة، وأن العلم الحديث وراء كل جانب من جوانب تقدمها، فتوهموا أن الحل في الاكتفاء بهذا العلم وإعطائه خاصية الحاكمية على حياة البشر إن أرادوا حياة سعيدة، فأعجبهم جانب الكمال الحيواني فيها الذي يرتبط بالجسد ومُتَعِهِ من فنون وآداب، وغفلوا عن جانب الكمال الروحاني الذي فقد كثيرًا في الحضارة المعاصرة.
ولمناقشة هذه الدعوى أبدأ ببيان شمولية الإِسلام وحاجة البشرية إليه، وصورة ذلك، ثم أعرج على الدعوى بتحليلها ونقدها وعرض نماذج منها في الكتابات المتغربة.
الشمولية في الإِسلام وحاجة الناس إليه فوق كل حاجة:
يقوم الإِسلام على أنه الحاكم لحياة المسلمين فهو من العليم الحكيم الخبير سبحانه، وبما أن الإِسلام هو الدين الخاتم، وهو المهيمن على غيره؛ لذا كمل الدين به، وأوجب الله اتباعه، مما يدل أنه يحقق الشمولية والكفاية لما يحتاجه البشر، ومن طلب ذلك في غيره ضل وهلك وأضل وأهلك.
ومما ورد في هذا الباب من الآيات القرآنية الكريمة قوله -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
ووُصف القرآن بأنه "مفصل" كقوله -تعالى-: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ
عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)} [الأعراف: 52]، وقوله -تعالى-:{وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 12]، وقال -تعالى-:{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)} [الأنعام: 114]، وقال -تعالى-:{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)} [يونس: 37]، وقوله -تعالى-:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)} [يوسف: 111]، وقال -تعالى-:{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)} [هود: 1].
فهذه الآيات وما في بابها تدل على أن التفصيل من رب العالمين، وهذا التفصيل يجعله شاملًا لمطالب البشرية، بحيث تجد ذلك في الوحي إما عامًا أو مفصلًا.
ومن الأدلة قوله -تعالى-: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]، وقوله -تعالى-:{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)} [آل عمران: 138]، قال ابن كثير: أي القرآن (1).
وقوله -تعالى-: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)} [الأنعام: 38].
وقوله -تعالى-: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].
قال الشاطبي رحمه الله بعد ذكر بعض الآيات السابقة: "وأشباه ذلك من الآيات الدالة على أنه هدى وشفاء لما في الصدور، ولا يكون شفاء لجميع ما في الصدور إلا وفيه تبيان كل شيء"(2)، ومن تأمل عمومًا في ما وصف به القرآن الكريم يعلم علم اليقين بأنه شامل لحياة الإنسان، وأنه لا يغني عنه شيء، وقد ذكر شيخ الإِسلام "أصل جامع في الاعتصام بكتاب الله ووجوب اتباعه وبيان الاهتداء به في كل ما يحتاج إليه الناس من دينهم، وأن النجاة والسعادة في
(1) انظر: تفسيره لآية آل عمران ص 261.
(2)
الموافقات في أصول الشريعة، الشاطبي 3/ 276، وذلك في المسألة السادسة: القرآن فيه بيان كل شيء. . . .
اتباعه والشقاء في مخالفته". ثم ساق آيات كثيرة، كل آية هي أصلٌ عظيمٌ في الباب أكتفي بواحدة منها، قال -تعالى-:{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)} [الأعراف: 157](1)، فالفلاح في الدنيا والآخرة هو باتباع النور الذي أنزل مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد زجر الرب سبحانه من لم يكتف بالكتاب فقال سبحانه:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)} [العنكبوت: 51].
قال الشافعي رحمه الله: "فليست تنزل في أحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها، قال الله تبارك وتعالى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)}، وقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}، وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} "(2).
وقد يَرِدُ على أحدهم كيف يكون هذا القرآن فيه هذا الشمول مع كثرة فروع الحياة وظهور نوازل جديدة ووقائع جديدة؟ وجوابه أن الوحي جاء بقواعد كلية وأصول كلية يدخل فيها كل ما يستجد مما يحتاج إلى تشريع، وفي هذا يقول الشاطبي رحمه الله:"تعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كلي لا جزئي؛ وحيث جاء جزئيًا فمأخذه على الكلية، إما بالاعتبار أو بمعنى الأصل، إلا ما خصه الدليل مثل خصائص النبي - صلي الله عليه وسلم -"(3)، ويقول أيضًا حول قوله -تعالى-:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} المراد منه إكمال الكليات "فلم يبق للدين قاعدة يحتاج إليها في الضروريات والحاجيات أو التكميليات، إلا وقد بينت غاية البيان"(4).
(1) انظر: الفتاوى، 19/ 76 - 81، وانظر: مفتاح دار السعادة، ابن قيم الجوزية 2/ 2 وما بعدها، الإِسلام يتحدى، وحيد الدين خان ص 110، العقيدة الإِسلامية، عبد الرحمن الميداني ص 271، رسالة التوحيد، محمَّد عبده ص 47 - 57.
(2)
الرسالة 1/ 20، تحقيق الشيخ أحمد شاكر.
(3)
الموافقات 3/ 274.
(4)
الاعتصام، للشاطبي ص 477، وانظر: الشمول .. ، السفياني ص 145.
وفي قوله -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، يقول ابن كثير رحمه الله:"هذه أكبر نعم الله عز وجل على هذه الأمة حيث أكمل -تعالى- لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم، صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خُلْف، كما قال -تعالى-: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115]؛ أي: صدقًا في الأخبار، وعدلًا في الأوامر والنواهي، فلما أكمل الدين لهم تمت النعمة عليهم؛ ولهذا قال -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} أي: فارضوه أنتم لأنفسكم، فإنه الدين الذي رضيه الله وأحبه وبعث به أفضل رسله الكرام، وأنزل به أشرف كتبه"(1).
وأجد نفسي مضطرًا في باب له أهميته كهذا الباب أن أنقل مقطعين طويلين معبرين عن الموضوع وتشفع أهميتهما لطولهما:
أولهما: عن شيخ الإِسلام ابن تيمية حيث قال: "قاعدة نافعة في وجوب الاعتصام بالرسالة، وبيان أن السعادة والهدى في متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الضلال والشقاء في مخالفته، وأن كل خير في الوجود -إما عام وإما خاص- فمنشؤه من جهة الرسول، وأن كل شر في العالم مختص بالعبد فسببه مخالفة الرسول أو الجهل بما جاء به، وأن سعادة العباد في معاشهم ومعادهم باتباع الرسالة.
والرسالة ضرورية للعباد لابد لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء. والرسالة روح العالم ونوره وحياته فاْي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور؟
والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة، وكذلك العبد ما لم تشرق في قلبه شمس الرسالة ويناله من حياتها وروحها فهو في ظلمة؛ وهو من الأموات قال الله تعالى:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]، فهذا وصف المؤمن
(1) تفسير ابن كثير آية المائدة ص 384.
كان ميتًا في ظلمة الجهل فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان وجعل له نورًا يمشي به في الناس، وأما الكافر فميت القلب في الظلمات.
وسمى الله تعالى رسالته روحًا، والروح إذا عدم فقد فقدت الحياة قال الله تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]، فذكر هنا الأصلين وهما: الروح والنور، فالروح الحياة والنور النور"، إلى أن قال: "فإن الله سبحانه جعل الرسل وسائط بينه وبين عباده في تعريفهم ما ينفعهم وما يضرهم، وتكميل ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم، وبعثوا جميعًا بالدعوة إلى الله، وتعريف الطريق الموصل إليه، وبيان حالهم بعد الوصول إليه.
فالأصل الأول يتضمن إثبات الصفات والتوحيد والقدر وذكر أيام الله في أوليائه وأعدائه، وهي القصص التي قصها على عباده، والأمثال التي ضربها لهم.
والأصل الثاني يتضمن تفصيل الشرائع والأمر والنهي والإباحة، وبيان ما يحبه الله وما يكرهه.
والأصل الثالث يتضمن الإيمان باليوم الآخر؛ والجنة والنار؛ والثواب والعقاب.
وعلى هذه الأصول الثلاثة مدار الخلق والأمر، والسعادة والفلاح موقوفة عليها، ولا سبيل إلى معرفتها إلا من جهة الرسل؛ فإن العقل لا يهتدي إلى تفاصيلها ومعرفة حقائقها، وإن كان قد يدرك وجه الضرورة إليها من حيث الجملة"، إلى أن قال: "والرسالة ضرورية في إصلاح العبد في معاشه ومعاده، فكما أنه لا صلاح له في آخرته إلا باتباع الرسالة، فكذلك لا صلاح له في معاشه ودنياه إلا باتباع الرسالة؛ فإن الإنسان مضطر إلى الشرع؛ فإنه بين حركتين: حركة يجلب بها ما ينفعه؛ وحركة يدفع بها ما يضره.
والشرع هو النور الذي يبين ما ينفعه وما يضره، والشرع نور الله في أرضه وعدله بين عباده وحصنه الذي من دخله كان آمنا.
وليس المراد بالشرع التمييز بين الضار والنافع بالحس؛ فإن ذلك يحصل للحيوانات العجم؛ فإن الحمار والجمل يميز به بين الشعير والتراب، بل التمييز
بين الأفعال التي تضر فاعلها في معاشه ومعاده كنفع الإيمان والتوحيد؛ والعدل والبر والتصدق والإحسان؛ والأمانة والعفة. . . ."، إلى أن قال: "ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش والمعاد فمن أعظم نعم الله على عباده وأشرف منة عليهم: أن أرسل إليهم رسله؛ وأنزل عليهم كتبه؛ وبين لهم الصراط المستقيم.
ولولا ذلك لكانوا بمنزلة الأنعام والبهائم بل أشر حالًا منها، فمن قبل رسالة الله واستقام عليها فهو من خير البرية، ومن ردها وخرج عنها فهو من شر البرية، وأسوأ حالًا من الكلب والخنزير والحيوان البهيم"، إلى أن قال: "وليست حاجة أهل الأرض إلى الرسول كحاجتهم إلى الشمس والقمر؛ والرياح والمطر، ولا كحاجة الإنسان إلى حياته؛ ولا كحاجة العين إلى ضوئها والجسم إلى الطعام والشراب؛ بل أعظم من ذلك؛ وأشد حاجة من كل ما يقدر ويخطر بالبال، فالرسل وسائط بين الله وبين خلقه في أمره ونهيه"، إلى أن قال: "وقال صلوات الله وسلامه عليه: "إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب"(1)، وهذا المقت كان لعدم هدايتهم بالرسل فرفع الله عنهم هذا المقت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثه رحمة للعالمين ومحجة للسالكين وحجة على الخلائق أجمعين"، إلى أن قال: "أرسله الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فختم به الرسالة؛ وهدى به من الضلالة؛ وعلم به من الجهالة وفتح برسالته أعينًا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا، فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها؛ وتألفت بها القلوب بعد شتاتها، فأقام بها الملة العوجاء وأوضح بها المحجة البيضاء، وشرح له صدره؛ ووضع عنه وزره؛ ورفع ذكره؛ وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، أرسله على حين فترة من الرسل ودروس من الكتب، حين حرف الكلم وبدل الشرائع واستند كل قوم إلى أظلم آرائهم وحكموا على الله وبين عباده بمقالاتهم الفاسدة وأهوائهم، فهدى الله به الخلائق وأوضح به الطريق، وأخرج به الناس من الظلمات إلى النور" (2).
(1) مسلم برقم (5109)، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار من كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها.
(2)
انظر: الفتاوى 19/ 93 - 105، مع الاختصار.
والثاني ذكره سيد قطب حول هذه الآية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، في "في ظلال القرآن" فقال:". . . . إن بعض دلالته أن شريعة الله كل لا يتجزأ. كل متكامل. سواء فيه ما يختص بالتصور والاعتقاد؛ وما يختص بالشعائر والعبادات؛ وما يختص بالحلال والحرام؛ وما يختص بالتنظيمات الاجتماعية والدولية. وأن هذا في مجموعه هو "الدين" الذي يقول الله عنه في هذه الآية: إنه أكمله. وهو "النعمة" التي يقول الله للذين آمنوا: إنه أتمها عليهم". . . ."أكمل الله هذا الدين. فما عادت فيه زيادة لمستزيد. وأتم نعمته الكبرى على المؤمنين بهذا المنهج الكامل الشامل. ورضي لهم الإِسلام دينًا؛ فمن لا يرتضيه منهجًا لحياته -إذن- فإنما يرفض ما ارتضاه الله للمؤمنين.
ويقف المؤمن أمام هذه الكلمات الهائلة؛ فلا يكاد ينتهي من استعراض ما تحمله في ثناياها من حقائق كبيرة، وتوجيهات عميقة، ومقتضيات وتكاليف. ."، إلى أن قال: ". . . . حتى إذا أراد الله أن يختم رسالاته إلى البشر؛ أرسل إلى الناس كافة، رسولًا خاتم النبيين برسالة "للإنسان" لا لمجموعة من الأناسي في بيئة خاصة، في زمان خاص، في ظروف خاصة .. رسالة تخاطب "الإنسان" من وراء الظروف والبيئات والأزمنة. . . . وفصل في هذه الرسالة شريعة تتناول حياة "الإنسان" من جميع أطرافها، وفي كل جوانب نشاطها؛ وتضع لها المبادئ الكلية والقواعد الأساسية فيما يتطور فيها ويتحور بتغير الزمان والمكان؛ وتضع لها الأحكام التفصيلية والقوانين الجزئية فيما لا يتطور ولا يتحور بتغير الزمان والمكان .. وكذلك كانت هذه الشريعة بمبادئها الكلية وبأحكامها التفصيلية محتوية كل ما تحتاج إليه حياة "الإنسان" منذ تلك الرسالة إلى آخر الزمان؛ من ضوابط وتوجيهات وتشريعات وتنظيمات، لكي تستمر، وتنمو، وتتطور، وتتجدد؛ حول هذا المحور وداخل هذا الإطار"، إلى أن قال: "وقال الله -سبحانه- للذين آمنوا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} .. فأعلن لهم إكمال العقيدة، وإكمال الشريعة معًا. . فهذا هو الدين .. ولم يعد للمؤمن أن يتصور أن بهذا الدين -بمعناه هذا- نقصًا يستدعي الإكمال. ولا قصورًا يستدعي الإضافة. ولا محلية أو زمانية تستدعي التطوير أو التحوير .. وإلا فما هو بمؤمن؛ وما هو بمقر بصدق الله؛ وما هو بمرتض ما ارتضاه الله للمؤمنين!
إن شريعة ذلك الزمان الذي نزل فيه القرآن، هي شريعة كل زمان، لأنها -بشهادة الله- شريعة الدين الذي جاء "للإنسان" في كل زمان وفي كل مكان، لا لجماعة من بني الإنسان، في جيل من الأجيال، في مكان من الأمكنة، كما كانت تجيء الرسل والرسالات.
الأحكام التفصيلية جاءت لتبقى كما هي. والمبادئ الكلية جاءت لتكون هي الإطار الذي تنمو في داخله الحياة البشرية إلى آخر الزمان؛ دون أن تخرج عليه، إلا أن تخرج من إطار الإيمان!
والله الذي خلق "الإنسان" ويعلم من خلق؛ هو الذي رضي له هذا الدين؛ المحتوي على هذه الشريعة. فلا يقول: إن شريعة الأمس ليست شريعة اليوم، إلا رجل يزعم لنفسه أنه أعلم من الله بحاجات الإنسان؛ وبأطوار الإنسان! ". . . .
(ويقف المؤمن ثانيًا: أمام إتمام نعمة الله على المؤمنين، بإكمال هذا الدين؛ وهي النعمة التامة الضخمة الهائلة. النعمة التي تمثل مولد "الإنسان" في الحقيقة، كما تمثل نشأته واكتماله. "فالإنسان" لا وجود له قبل أن يعرف إلهه كما يعرفه هذا الدين له وقبل أن يعرف الوجود الذي يعيش فيه كما يعرفه له هذا الدين. وقبل أن يعرف نفسه ودوره في هذا الوجود وكرامته على ربه، كما يعرف ذلك كله من دينه الذي رضيه له ربه. و"الإنسان" لا وجود له قبل أن يتحرر من عبادة العبيد بعبادة الله وحده؛ وقبل أن ينال المساواة الحقيقية بأن تكون شريعته من صنع الله وبسلطانه لا من صنع أحد ولا بسلطانه.
إن معرفة "الإنسان" بهذه الحقائق الكبرى كما صورها هذا الدين هي بدء مولد "الإنسان" .. إنه بدون هذه المعرفة على هذا المستوى؛ يمكن أن يكون "حيوانًا" أو أن يكون "مشروع إنسان" في طريقه إلى التكوين! ولكنه لا يكون "الإنسان" في أكمل صورة للإنسان، إلا بمعرفة هذه الحقائق الكبيرة كما صورها القرآن .. والمسافة بعيدة بعيدة بين هذه الصورة، وسائر الصور التي اصطنعها البشر في كل زمان! "، إلى أن قال: "ويقف المؤمن ثالثًا: أمام ارتضاء الله الإِسلام دينًا للذين آمنوا .. يقف أمام رعاية الله -سبحانه- وعنايته بهذه الأمة، حتى ليختار لها دينها ويرتضيه .. وهو تعبير يشي بحب الله لهذه الأمة ورضاه عنها، حتى ليختار لها منهج حياتها". . . ."إن ارتضاء الله الإِسلام دينًا لهذه الأمة، ليقتضي منها ابتداء أن تدرك قيمة هذا الاختيار. ثم تحرص على
الاستقامة على هذا الدين جهد ما في الطاقة من وسع واقتدار .. وإلا في أنكد وما أحمق من يهمل -بله أن يرفض- ما رضيه الله له، ليختار لنفسه غير ما اختاره الله! .. وإنها -إذن- لجريمة نكدة" (1).
ومن المهم إدراك أن شمولية الإِسلام وكفايته وحاجة الناس إليه، والتي هي فوق حاجتهم لكل شيء، لا يعارض مطلب الحاجة إلى العلوم العصرية، فلا تعارض بين حاجة الناس للدين وحاجتهم لهذه العلوم، بل إن طلب هذه العلوم يُعد جزءًا من الدين عندما يرتبط الطلب بالنافع منها، كما ذُكر ذلك عن أهل العلم الشرعي في مباحث سابقة (2). ولذا فإنه لا حاجة لهذه الدعوى، ولا ندري كيف تظهر في المسلمين، فعلاقة العلوم البشرية النافعة بالدين هي علاقة الجزء بالكل والفرع بالأصل، فما يكون من الدين له صور، منها: أنه مما يأمر به الدين، ويحث على طلبه، مما ينفع الناس في دينهم أو دنياهم.
والدين يحث على ما ينفع، وعلى طلب القوة، ويقع الانحراف عندما يُكتفى بالجزء وُينبذ الكل، ويؤخذ الفرع ويترك الأصل، هنا تكون هذه العلوم مفصولة عن حياتها ونورها، فتعوم دون هداية، وتتحول إلى أداة إفساد، عندما تفقد الإطار والتوجيه والإرشاد الرباني.
يظهر بين الأسباب الاغترار بالعلم الحديث والفتنة به، ومن ثمّ الفتنة بالحياة الدنيا، وذلك ما حذرنا منه القرآن الكريم فقال -تعالى-:{فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33]، وقال -تعالى-:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)} [فاطر: 5]، وقال -تعالى-:{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20]، وقال -تعالى-:{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [البقرة: 212]، وقال -تعالى-:{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]، وقال -تعالى-:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} [الروم: 7]، وآيات كثيرة أخرى تحذر من الفتنة بهذه الحياة، وإن كان ذلك لا يعني إهمالها، وإنما يكون ذلك بعمارتها كما أراد خالقنا سبحانه. فإذا اجتمع مع الفتنة بالدنيا مرض قلبي وبغض للدين،
(1) في ظلال القرآن 2/ 842 - 846، مع الاختصار.
(2)
انظر: المبحث الأول في الفصل الخامس من الباب الأول.
فهذا مما يدفع بأصحابه إلى مثل هذه الدعوى القائمة على شمولية العلم وكفايته وعدم الحاجة للدين.
وقد برزت هذه الدعوى أول ما برزت في أوروبا مع ازدهار العلوم البشرية فيها ونمو تيارات فكرية علمانية ومادية -فأظهرت دعاوى منها الوضعية والعلموية القائمة على الغلو في العلم الحديث، وقد ذكر سيد قطب بأنه جاءت دعوات لهجر "التصور الإيماني المشرق الصادق الواضح الجميل" من بعض عشاق الفلسفة ومن بعض عشاق العلم، إلى "التصورات الفلسفية الكئيبة الغامضة المعقدة الجانبية" مع الفلاسفة، وكذلك "يلح علينا بعض عشاق "العلم" .. تارة مع التواضع والاعتراف بأن العلم لن يصل إلى هذه الحقيقة، وتارة مع الادعاء العريض بأن في العلم الكفاية والغناء عن "الدين"! "(1). ثم ذكر منهم "جوليان هاكسلي" المتبجح مستندًا إلى جهالات دينية كدليل على الاستغناء عن الدين كله، وفي ذلك يقول:"والحالة الخاصة التي تواجه الدين في المدنية الغربية هي: أن الاعتقاد في الله أدى كل ما يستطيع من فائدة، وليس في وسعه أن يفعل أكثر من ذلك. . . . ولقد أوصلنا تقدم العلوم، والمنطق، وعلم النفس، إلى طور أصبح فيه الإله فرضًا عديم الفائدة، وطردته العلوم الطبيعية من عقولنا حتى اختفى كحاكم مدبر للكون، وأصبح مجرد أول سبب أو أساسًا عامًا غامضًا"، وقد سبقه إلى هذا القول العالم الرياضي والفلكي المشهور "لابلاس" عندما سأله "نابليون" عن مكانة الرب في نظامه المقترح عن الكون، فقال: إنه فرض لا أحتاجه، وهكذا حال بعض المسلمين عندما يؤلفون كتبًا في العلوم الطبيعية، ثم لا تجد شيئًا من ربط هذا الكون المخلوق بخالقه، وغفلتهم مع قوانينه وسننه التي يسير بمقتضاها عن واضع كل ذلك وخالقه ومدبره.
يقول "هكسلي" بعد ذلك: "وبإحلال المعرفة محل الجهل في هذا الميدان، وزيادة سيطرة الإنسان على بيئته نتيجة لتفكيره، يتلاشى الإله كما يتلاشى الشيطان قبله، وآلهة الدنيا القديمة، وجنيات الغابات والبحيرات، والأرواح المحلية"(2).
يستند هذا الإلحاد الأحمق على دعاوى متناقضة وتعميمات كاذبة ترفضها
(1) مقومات التصور الإِسلامي ص 51.
(2)
الإنسان في العالم الحديث، هكسلي ص 221 - 223، ترجمة حسن خطاب.
العقول الصحيحة، ولكنه الإلحاد الحاقد الذي يدفعهم لهذا الغلو والتناقض، وقد جاء الرد عليهم سريعًا كما سبق في الفصل الأول من داخل العلم ذاته: حيث انقلب العلم المعاصر على كثير من دعاوى الغلو التي عرفتها تيارات "الوضعية" و"العلموية" و"المادية"، وجاء الرد من واقع المجتمعات المعاصرة، التي عرفت التقدم في العلوم العصرية، كيف تساوى شرها مع خيرها، وضرها مع نفعها، وأصبحت مشكلات العلم تُخيف العقلاء وتحبط كل تلك الدعاوى بكفاية العلم.
اكتسب العلم الحديث ولاسيّما في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر -بحسب كلام "باشكيل"- مفهومين هما: أنه معرفة مطلقة قطعية وغيره ليس كذلك. كما أنه معرفة مطلقة شاملة؛ لذا فهو يبحث في كل شيء وما لا يدخل فيه يطرد من عالم الحقيقة، وقد تسبب هذا التوسع للعلم بصراعه مع الدين، فالعلم يوسع كل يوم من ساحته ويخطو نحو السيطرة على عقل الإنسان وروحه (1). فظهرت نزعة المغالاة في العلم التي تخضع له سائر الأشياء في ضوء نجاحاته الكبيرة، ومع ظهور كتب كثيرة في الغرب تعالج هذه المشكلة، إلا أنها لم تحظ بعناية كتلك الوضعية التي حظيت بعناية (2).
ولكن هذه "الوضعية" و"العلموية" و"المادية" قد اصطدمت بتحديات وأسئلة تخفف من غلوها وتدفع العاقل للبحث عن إجابات خارج دائرة العلم الحديث، ومن ذلك: ماذا توصلنا إليه تلك الوضعية والغلو في العلم؟ وما القيم التي توصلنا إليها في النهاية؟ فقد غمرتهم إنجازات العلم ومكتشفاته وأنستهم الجانب المظلم الذي ولد بجانبه عندما انفصل عن التوجيه السماوي. يكفي حتى في الجانب المادي أن نرى الجانب المخيف المرتبط بالعلم: الحروب المدمرة والمهولة في القرن الرابع عشر/ العشرين، الدمار البيئي المخيف، اليأس وفقد معنى الحياة؛ فكيف تكون الحياة في المقابل عندما لا يكون هناك إيمان بالرب سبحانه أو باليوم الآخر (3).
عندما يحصر العلم همّه في هذه الآلة الكونية لفحص أجزائها وتعرف قانون
(1) انظر: موقف الدين من العلم، د. علي باشكيل ص 57 - 59.
(2)
انظر: من العلم العلماني إلى العلم الديني، مهدي كلشني ص 49 - 50.
(3)
انظر: موقف الدين من العلم ص 148 - 161.
سيرها، إنما يعنيه من وراء هذا البحث تنظيم الجهد الإنساني وتنسيقه على وفق ذلك القانون الآلي، ويُهمل السؤال عن صانع هذه الآلة وواضع ذلك النظام لعدم تخصصه في ذلك، وتُلام إذا جعلت ذلك الحد قيدًا للعقل حيث يغرق في اللحظة الحاضرة ويقتنع بها هاربًا عن الماضي السحيق والمستقبل البعيد والغيب المحيط، فيهبط من عرش إنسانيته إلى صف الحيوانية "ويسكت ذلك الصوت السماوي الذي يناديه من أعماق روحه، مستحثًا له على استكمال فطرته، زاجرًا له عن الاكتفاء بنظره في حاضر الأشياء وحاضره، عن التطلع إلى مبدئها ونهايتها، وإلى مبدئه ونهايته"(1).
رغم أن الاتجاه الوضعي والحسي والمادي "العلموي" قد جعل المرجعية العليا للعلم إلا أنه -في الغرب- واجه أسئلة صعبة، واعترف بها مفكرون في دائرة العلم ذاته، وبحسب "كلشني" فمن هذه الأسئلة: التشكيك في قدرة العلم على تامين إجابات حيال الأسئلة الرئيسية التي تشغل الإنسان: كيف ابتدأت الأشياء؟ من أجل ماذا نحن هنا؟ ما هدف الحياة؟ البدايات والنهايات؟ وغيرها. لقد كان الثمن باهظًا عند الاستسلام لذلك الغرور بالعلموية والحسية، وغيرها (2). ولهذا لم يعد مستغربًا نقد العلم، بل أصبح ظاهرة فكرية صحيحة في الغرب وذلك -وبحسب "أحمد شوقي"- لا يتعارض مع الدفاع عنه وعن منجزاته، والنقد هو روح العلم (3). ثم ذكر ثلاثة اتجاهات يصب فيها نقد العلم هي:"العلموية - العلاقة بين الدين والعلم - مدى حيادية العلم"، ويهمنا منها الأول:"وتعني العلموية باختصار الاقتناع بالقدرة غير المحدودة للعلم على تفسير كل ما في الكون، وبأنه في رأي بعض غلاة العلموية الوسيلة الوحيدة للمعرفة التي تملك الحل السحري لكل مشكلة. . . . وينتقد هذا الاتجاه بأن العلم لا يستطيع الإحاطة بالجوانب المعرفية ذات الطبيعة الأخلاقية أو الجمالية أو الدينية، أو الروحية بشكل عام. كما أن لامحدودية قدرته أمر لا يتسق مع الواقع"(4)، إن هؤلاء يقدمون صورة من صور عبادة العلم التي لا تتفق مع كون
(1) انظر: الدين، د. محمَّد دراز ص 51 - 52 وما بين القوسين ص 52.
(2)
انظر: من العلم العلماني إلى العلم الديني ص 95 - 104.
(3)
انظر: إلا العلم يا مولاي، د. أحمد شوقي ص 16.
(4)
انظر: المرجع السابق ص 17.
العلم يواصل تقدمه (1)، كما "أن هذا الإيمان شبه الديني بالتقدم العلمي لم يدم أكثر من قرنين. فقد تلقى أول ضربة موجعة له مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، وتلقى الضربة الثانية مع الحرب العالمية الثانية"، حيث عادت أمة العلم تتقاتل فيما بينها بوحشية مدهشة (2).
ربما يكون من مناسب الاستفادة من تواضع بعض العلماء المشهورين في هذا العصر رغم قصور تصورهم عن الدين، فهذا أحد أبرزهم في الغرب "أينشتين" يقول:"إن العلم حادّ البصر حين يكون متعلقًا بالأدوات والمناهج، ويكون فاقد البصر حين يتعلق الأمر بالقيم والأهداف"، ولم يكن بحسب "د. عفيف" "في عداد الذين يعتقدون أن التقدم العلمي والثقافي يفضي بالضرورة إلى السعادة أو حتى إلى الحضارة:"إن تحسين شروط حياة الإنسان لا تعتمد على المعرفة العلمية بالضرورة، وإنما على تحقيق المثل الأخلاقية والتقاليد الإنسانية"" (3)، ومع أنه يؤكد وجود إنجازات من داخل العلم، ومع ذلك فهو يقول: "لكن الأمر الذي لا يقل وضوحًا هو أن المعرفة بما هو موجود لا تقود تلقائيًا إلى معرفة ما يجب أن يوجد. فقد يحيط الإنسان بمعرفة الوجود بالكامل، ويبقى رغم ذلك عاجزًا عن الاستدلال على الهدف الذي يجب أن تتجه نحوه مساعينا وتطلعاتنا" (4)، وعن العلاقة بين الدين والعلم يقول: "إن علمًا بدون دين هو علمٌ أعرج، ودين بدون علم هو دين أعمى" (5).
فهذه الشهادة من أحد أبرز علماء العصر في العلوم الحديثة يبطل مقوله كفاية العلم، وقد يكون تصوره الديني معوجًا وفقيرًا كغالب من عاش في تلك الحضارة الفقيرة في باب الدين، إلا أنه من خلال معرفته الجيدة بالعلم يبطل مقولة شمولية العلم وقدرته على إجابة كل الأسئلة وتغطيته الحاجات الكبرى للإنسانية.
وقد جاءت المواجهات للعلموية من داخل الفكر المعاصر، وينتقدونها "بأن
(1) انظر: المرجع السابق ص 18.
(2)
انظر: مدخل إلى التنوير الأوروبي، هاشم صالح ص 241.
(3)
رؤية آينشتين لليهودية ودولة اليهود، د. عفيف فراج ص 21 - 22.
(4)
المرجع السابق ص 43.
(5)
المرجع السابق ص 45.