المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وقفتان حول المصطلح: "تاريخية المصطلح، وعلاقته بالعلم - النظريات العلمية الحديثة مسيرتها الفكرية وأسلوب الفكر التغريبي العربي في التعامل معها دراسة نقدية - جـ ٢

[حسن الأسمري]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثاني التأثر المنهجي في الفكر التغريبي بالانحراف المصاحب للعلم الحديث

- ‌الفصل الأول التأثر المنهجي في مصدر التلقي وطرق الاستدلال

- ‌المبحث الأول التأثر المنهجي في مصدر التلقي

- ‌مصدر العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية:

- ‌المصدر في العلوم الاجتماعية:

- ‌أسباب الانحراف في المصدر:

- ‌1 - التبعية للفكر الغربي:

- ‌2 - ظروف الصراع وأحواله:

- ‌مكانة الوحي في التصور الإِسلامي وصور إقصائه كمصدر للعلم عند المتغربين:

- ‌1 - مذهب غلاة المتغربين ودعوتهم لإقصاء الوحي:

- ‌2 - مذهب التوفيقيين من المتغربين ودعوتهم لإقصائه كمصدر للمعرفة:

- ‌مناقشة الملفقين:

- ‌3 - القول بجعل النظريات العلمية في مقام النص الشرعي وتقديمها عليه:

- ‌المبحث الثاني التأثر المنهجي في منهج الاستدلال

- ‌مشكلة الموضوعية:

- ‌استبعاد جانب القيم بحجة الموضوعية:

- ‌الموضوعية وعلاقتها بالحقيقة:

- ‌نموذج موسع للتلاعب المنهجي:

- ‌أ- حسن حنفي:

- ‌ب - محمَّد أركون:

- ‌الفصل الثاني التأثر المنهجي في طريقة التعامل مع القضايا الغيبية الاعتقادية

- ‌المبحث الأول التأثر المنهجي في طريقة النظر للغيبيات

- ‌معنى الغيب في التصور الإِسلامي:

- ‌[مسألة] وللغيب أقسام:

- ‌ارتباط الانحراف في الغيب بالانحراف في الربوبية:

- ‌من أصول الانحراف في الغيب:

- ‌المثال الأول: لويس عوض:

- ‌المثال الثاني: هشام شرابي:

- ‌المثال الثالث: حسن حنفي:

- ‌المثال الرابع: محمَّد أركون:

- ‌المبحث الثاني أمثلة للتأثر المنهجي وبيان خطورتها الاعتقادية

- ‌القسم الأول: موضوعات عمَدية يُدّعى عدم إمكانية إثباتها علميًا:

- ‌القسم الثاني: دعوى وجود رأي علمي آخر حول بعض الغيبيات دون شرط المعارضة:

- ‌القسم الثالث: دعوى مخالفة العلم لأبواب من الغيبيات

- ‌الفصل الثالث التأثر المنهجي في طريقة التعامل مع القضايا الشرعية العملية

- ‌المبحث الأول التأثر المنهجي في طريقة النظر للشريعة

- ‌المراد بالشريعة:

- ‌الغيب مع الطبيعيات والشريعة مع الاجتماعيات:

- ‌أصول منهجية تغريبية للنطر في الشريعة تدعي العلمية:

- ‌أصل الأصول: تعميم الظواهر الاجتماعية على الدين الحق:

- ‌الأصل الثاني: التطور:

- ‌الأصل الثالث: علمية وعلمنة العلوم الاجتماعية ودعوى قدرتها أن تسدّ مسدّ الدين:

- ‌الأصل الرابع: النسبية:

- ‌المبحث الثاني أمثلة للتأثر المنهجي وبيان خطورتها

- ‌الأول: في باب الأخلاق الإِسلامية:

- ‌أولًا: تعريف الخلق:

- ‌ثانيًا: المشكلة الخلقية في العالم المعاصر ولاسيّما في الغرب:

- ‌تاريخ الفكر الأخلاقي في الغرب:

- ‌الإطار العلماني للأخلاق الجديدة:

- ‌النظريات الأخلاقية الجديدة:

- ‌ثالثًا: تحليل ونقد للنظريات الجديدة:

- ‌رابعًا: نماذج من الأخلاقيات المتغربة تحت غطاء العلمية:

- ‌النموذج الأول:

- ‌النموذج الثاني: من علم النفس:

- ‌النموذج الثالث: الموقف الوضعي:

- ‌النموذج الرابع: أخلاقيات العلم الجديدة:

- ‌النموذج الخامس: الرؤية المادية والماركسية:

- ‌الثاني: في باب العمل بالأدوية الشرعية للأمراض الجسدية أو النفسية:

- ‌الأمر بالتداوي في الإِسلام:

- ‌الإطار العلماني وأثره في مجال التداوي الجسدي والنفسي:

- ‌أثر الأسس الفلسفية للممارسة الطبية الحديثة:

- ‌في الجانب النفسي:

- ‌بعض مشكلات الطرح التغريبي حول المجال الطبي والتداوي:

- ‌أين هي المشكلات في هذا الباب

- ‌نموذج عن الإشكال التغريبي في هذا الباب:

- ‌الثالث: في باب حكم التعامل بالربا:

- ‌القسم الأول: مدخل:

- ‌القسم الثاني: الإطار الاجتماعي العام للتحول الاقتصادي الغربي:

- ‌القسم الثالث: الأصول النظرية العلمية للاقتصاد الحديث:

- ‌الرابع: في باب حجاب المرأة المسلمة:

- ‌الباب الثالث صور لدعاوى باطلة ونظريات منحرفة ظهرت في الفكر التغريبي حول الدين والعلم وخطورتها

- ‌الفصل الأول صور لدعاوى أظهرها الاتجاه التغريبي باسم العلم الحديث

- ‌المبحث الأول دعوى أهمية علمنة العلم ورفض التأصيل الإِسلامي مظاهرها وخطرها

- ‌تعريف العلمانية:

- ‌وقفتان حول المصطلح: "تاريخية المصطلح، وعلاقته بالعلم

- ‌المبحث الثاني دعوى التعارض بين الدين والعلم الحديث

- ‌الفرق بين دعوى التعارض التراثية والدعاوى الحديثة:

- ‌صور الدعاوى التغريبية:

- ‌أصول عامة حول دعوى التعارض بين الدين والعلم:

- ‌مناقشة الدعوى:

- ‌أولًا: أهمية رفع التعميم والإجمال:

- ‌ثانيًا: ما المقدم عند التعارض

- ‌ثالثًا: "موضوعات الغيب وموضوعات الشهادة - الأكثر إشكالًا

- ‌رابعًا: ملابسات الدعوى التاريخية والأيدلوجية:

- ‌خامسًا: التفسير العلمي للنصوص الدينية:

- ‌المبحث الثالث دعوى كفاية العلم الحديث لحاجة الإنسان وشموليته بدلًا عن الدين

- ‌الشمولية في الإِسلام وحاجة الناس إليه فوق كل حاجة:

- ‌مناقشة دعوى كفاية العلم وشموليته:

- ‌نماذج من الانحراف التغريبي حول هذا الباب:

- ‌النموذج الأول:

- ‌النموذج الثاني:

- ‌النموذج الثالث:

- ‌النموذج الرابع:

- ‌النموذج الخامس:

- ‌النموذج السادس:

- ‌الفصل الثاني صور من تأثر الفكر التغريبي بنظريات علمية منحرفة حول مفهوم الدين

- ‌التمهيد

- ‌المبحث الأول التأثر بنظرية داروين التطورية من علم الأحياء حول الدين

- ‌ظهور الدارونية العربية:

- ‌من البحث في أصل الحياة إلى المادية الإلحادية:

- ‌المبحث الثاني التأثر بنظريات من علم النفس حول الدين

- ‌صراع النظريات النفسية ودلالاتها في الميدان الفكري:

- ‌دخول علم النفس للثقافة العربية والمواقف تجاهه:

- ‌نظرية فرويد النفسية ولاسيّما ما له علاقة منها بالدين:

- ‌المبحث الثالث التأثر بنظريات من علم الاجتماع حول الدين

- ‌علم الاجتماع بين العلمية والأيدلوجيا:

- ‌كيف ينظر علم الاجتماع للدين

- ‌المتغربون وعلاقتهم بالمدارس الاجتماعية العلمانية:

- ‌علم الاجتماع الديني:

- ‌الخاتمة

- ‌الفهارس

- ‌ملحق مفهرس للألفاظ الغريبة والمصطلحات والطوائف والفرق والمذاهب والتراجم مع التعريف بها

- ‌أولًا: قائمة الألفاظ الغريبة والمصطلحات الواردة في ثنايا البحث

- ‌ثانيًا: قائمة بالطوائف والفرق والمذاهب الواردة في البحث

- ‌ثالثًا: قائمة المراجع والمصادر

- ‌نبذة تعريفية الإدارة العامة للأوقاف

الفصل: ‌وقفتان حول المصطلح: "تاريخية المصطلح، وعلاقته بالعلم

لم يظهر إلا بعد انتزاع أمور الحياة من المؤسسات الدينية، والعلم مرتبط بهذا العالم الذي تهتم به العلمانية ويترك ما وراءه لأنواع أخرى من المعرفة، دينية كانت أم صوفية، "ولم يصبح العلم علمًا إلا منذ أن ركز اهتمامه على فهم هذا الكون المنظور، وترك شؤون الآخرة للدين، ورفض أية محاولة للخلط بين المجالين"(1).

ولهذا يروّج دعاة العلْمَنة للعلمانية تحت ستار العلم، ومن ذلك قولهم:"إنها الأسلوب الوحيد لتحرير العلم من الدين"(2)، حتى شاع عند بعض الناس أن العلمانية وإن جافت الدين فهي "تشتمل على الأفكار والمبادئ التي تشكل الفكر "العلمي" الذي يمكن أن يعين علي بناء النهضة وصنع التقدم والمساهمة "العلمية" في حل مشكلات التاريخ والاجتماع والاقتصاد والأمية. . . . أي: استقر في خلد البعض أنها هي "العلمية" التي ترتكز على النظر العلمي والبحث المنهجي والاستقراء والملاحظة. . ." (3).

‌وقفتان حول المصطلح: "تاريخية المصطلح، وعلاقته بالعلم

":

أقف الآن وقفتين مع المصطلح، الأولى حول الظرف التاريخي لظاهرة العلمانية، والثانية حول حقيقة الصلة بين العلمانية والعلمية، فأما [الأولى] فتتفق الدراسات على أن العلمانية برزت في مرحلة الصراع الثقافي والاجتماعي بين الكنيسة وخصومها، وقد ارتكبت الكنيسة حماقات كبيرة في صراعها مع العلوم البشرية وأهلها، وادّعت تمثيل الدين في خصومتها، وما كانت أهلًا لتمثيله بما تحمله من جهل وظلم، جهل بالدين الحق وظلم للناس باسم هذا الدين المحرّف الذي تتبناه، وأخطر ما في الأمر أنها أصبحت سُلطةً ذات مكاسب من فرْض جهلها وظلمها، فجاء مشروع العلمنة كحل لفصل الكنيسة عن حياة الناس السياسية والاقتصادية والعلمية والشأن العام كله، فيبقى التدين شأنًا فرديًا، ولكن العلمانية لا يمكن أن تكون عملية فصل محايدة سلبية، وإنما كانت حركة ذات رؤية جديدة بلغت ذروتها في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر.

(1) انظر: الصحوة الإِسلامية في ميزان العقل، د. فؤاد زكريا ص 46.

(2)

الإلحاد الديني في مجتمعات المسلمين، د. صابر طعيمة ص 131.

(3)

المرجع السابق ص 210، بتصرف يسير للاختصار، وقد أبطل الكاتب ذلك.

ص: 1163

وفي هذا المقام نعرض حديث القرآن عن هذه السلطة الكنسية الفاسدة ودعوته لمقاومتها والعودة للدين الحق، فالله سبحانه قد أخبر عن هذه السلطة الباطلة فقال -تعالى-:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: 31]، قال ابن كثير رحمه الله:"روى الإِمام أحمد، والترمذي، وابن جرير من طرق، عن عدي بن حاتم، رضي الله عنه، أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرَّ إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قومه، ثمَّ منَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها، ورَغَّبته في الإِسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم عَدِيّ المدينة، وكان رئيسًا في قومه طيء، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم، فتحدَّث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي عنق عَدِيّ صليب من فضة، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم! فقال: بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم"(1)، فالأحبار والرهبان قد وضعوا أنفسهم في مقام من يُشرعّ ويمارس ذلك باسم الرب، وقَبِل الأتباع بهذه الحالة فوضعوا الأحبار والرهبان موضع الرب، ولا شك أنها سلطة عالية حصلوا عليها، وقد حرّم الله سبحانه قبولها وأوجب نبذها.

وقال الشيخ السعدي في هذه الآيات: " {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي: كيف يصرفون على الحق، الصرف الواضح المبين، إلى القول الباطل المبين. وهذا -وإن كان يستغرب على أمة كبيرة كثيرة، أن تتفق على قول- يدل على بطلانه أدنى تفكر وتسليط للعقل عليه، فإن لذلك سببًا وهو أنهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ} وهم علماؤهم {وَرُهْبَانَهُمْ} أي: العُبَّاد المتجردين للعبادة {أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} يُحِلُّون لهم ما حرم الله فيحلونه، ويحرمون لهم ما أحل الله فيحرمونه، ويشرعون لهم من الشرائع والأقوال المنافية لدين الرسل فيتبعونهم عليها"(2).

(1) تفسير ابن كثير ص 596، والحديث رواه الترمذي برقم (3095) باب ومن سورة التوبة من كتاب تفسير القرآن .. ، وقال عنه: حديث غريب، وحسنه الألباني في غاية المرام، حديث رقم (6) ص 19 - 20.

(2)

تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الشيخ عبد الرحمن السعدي ص 335.

ص: 1164

وقال القرطبي رحمه الله: "قوله -تعالى-: {أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال أهل المعاني: جعلوا أحبارهم ورهبانهم كالأرباب حيث أطاعوهم في كل شيء" ثم استشهد ببيت معبرٍ لعبد الله بن المبارك:

"وهل أفسد الدين إلا الملوك

وأحبار سوء ورهبانها" (1)

وفي هذا البيت تنبيه لطيف لمثل هذه السلطات الباطلة: سلطة السياسة الفاسدة التي عرفتها أوروبا في عصورها الوسطى، وسلطة الكنيسة مع الأحبار والرهبان، فأفسدوا دين الناس ودنياهم. وللقرطبي رحمه الله وقفة مهمة مع قوله -تعالى-:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)} [البقرة: 78 - 79]: "قال علماؤنا -رحمة الله عليهم-: نعت الله تعالى أحبارهم بأنه يبدلون ويحرفون فقال وقوله الحق: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} ، الآية.

وذلك أنه لما درس الأمر فيهم، وساءت رعية علمائهم، وأقبلوا على الدنيا حرصًا وطمعًا، طلبوا أشياء تصرف وجوه الناس إليهم، فأحدثوا في شريعتهم وبدلوها، وألحقوا ذلك بالتوراة، وقالوا لسفهائهم: هذا من عند الله، ليقبلوها عنهم فتتأكد رياستهم وينالوا به حطام الدنيا وأوساخها" (2)، وهو إشارة واضحة إلى البحث عن الرياسة والشهرة والسلطة بما كذَبوا به على الله من أخبار أو شرائع، فبهذه السلطة الفاسدة يتحكمون في الأتباع بالباطل وبالظلم، ويظهر بذلك الفساد في دنيا الناس ودينهم مما يوجب على العقلاء نبذها والبحث عن الحق.

أما الوقفة الثانية فهي عن الصلة بين العلمانية والعلمية، وقد آن الأوان لرفع هذا التلاعب الدلالي بالمصطلحات الحادثة، وكشفها بكل أبعادها، ومن ذلك الخلط المتعمد بين العلم والعلمانية، فالعلمية قبل أن تكون مطلبًا علمانيًا إن صح ذلك فهي مطلب إسلامي، فالإِسلام يطلب من أهله أن يقيموا دينهم ودنياهم

(1) تفسير القرطبي 8/ 120.

(2)

المرجع السابق 2/ 6 - 7.

ص: 1165

على العلم، ويندهش كل عاقل من مكانة العلم في الإِسلام، رسالته تقوم على الانتقال بالأمة من الجهل للعلم، وأن تقيم حياتها على العلم، وقد سبق بيان ذلك. ولو صح حرص العلمانية على العلم فهو علم ناقص وفقير، فهو ناقص من جهة اهتمامه بعلم الدنيا فقط، وفقير لغياب التصورات والقيم التي تحيطه وترعاه، فالعلمانية تريد علمية خالية من الدين حتى فيما هو ضروري للعلم من الدين، بينما العلمية في الإِسلام علمية مستضيئة بنور الوحي ومهتدية بالدين، العلمانية منهج حياة يبعد الدين عن شؤون العالم وهذا لا علاقة له بالعلمية البشرية التي هي نشاط لمعرفة القوانين (1). والعلمية قد نشأت أساسًا في الحضارة الإِسلامية في ظل الإِسلام، بخلاف العلمانية، فقد نشأت في حضارة هاربة من الكنيسة، ومن رجع لتاريخ الفكر الغربي يجد أن الحركة العلمية انطلقت من أناس لا يرفضون الدين، فقد قامت الثورة العلمية والفكر المرتبط بها من قبل متدينين أو لا يرفضون الدين، ومنهم رجال كبار في الكنيسة، فلم تقم معهم دعوى للفصل، وإنما جاء الفصل الحقيقي "مع عصر التنوير وبلغ ذروته مع الوضعيين"، وما زالت آراء الوضعيين ذات تأثير إلى اليوم (2)، وقد ساد تبعًا لذلك في القرنين الماضيين الاعتقاد بأن هناك تصادمًا لا يمكن تجنبه بين المعرفة العلمية والإيمان الديني، وقد آن الأوان -بحسب زعمهم- للاستعاضة عن العقائد الدينية بالعلم (3). ومع ذلك فمن المسلم به أن العلمانية تبنّت العلم الحديث ودافعت عنه ولكن بالصورة التي تراها، وليس ذاك العلم المحايد الموضوعي، وإنما العلم المنخرط في صراع فكري داخل الغرب المختلط بتصورات فلسفية وفكرية لا دينية؛ أي: العلم العلماني وليس العلم المحايد الموضوعي.

والعلم طاقة من طاقات الإنسان، وهو في حاجة إلى منهج وروح وليس أمامه سوى الدين أو العلمنة (4)، والعلمنة قد أثبتت فشلها أن تكون روحًا للعلم،

(1) انظر: العلمانية النشأة والأثر في الشرق والغرب، زكريا فايد ص 159 - 161، وانظر: المرجع السابق، طعيمة ص 210 - 211، وانظر: الإِسلام والعلمانية .. ، د. يوسف القرضاوي ص 63 - 71.

(2)

انظر: الأسس الميتافيزيقية للعلم، د. حسين علي ص 8.

(3)

انظر: المرجع السابق ص 27.

(4)

انظر: المرجع السابق، طعيمة ص 221.

ص: 1166

فما بقي إلا تصحيح المسار بالعودة للدين، وربط كل شئوننا به.

ومع أن الفطرة السليمة ضد هذه القسمة وكذا العقل الصحيح، ومع أنها ترتبط بواقع تاريخي أساءت فيه الكنيسة باسم الدين أيما إساءة، ثم بواقع متطرف معارض لها تمثل في الملحدين وأمثالهم النابذين للدين كونه دينًا فقط، مع كل هذه الحقائق الجلية التي تجعل من الدفاع عن العلمنة أمرًا سخيفًا بمنطق العقلاء، فإن أصرّ هؤلاء على الاستشهاد بواقع الحركة العلمية في أوروبا العلمانية، فنضيف هنا تحليلًا للمسألة حتى نكشف أبعادًا أخرى يتجاهلها العلمانيون: تحتاج الظواهر المعقدة إلى تحليل دقيق، ومن ذلك هذا التصاحب بين الثورة العلمية والنجاح العلماني، وهنا تقدم سؤالًا نقديًا مهمًا: هل يعني هذا التصاحب وجود سببية؟؛ أي: أن العلمانية كانت سببًا في تقدم العلم كما هو قول أكثر المتغربين أو أن التقدم العلمي يؤدي للعلمانية كما هو قول طائفة أخرى، وهل يعني وجود ظاهرتين في عصر واحد وجود السببية أم أنه قد توجد ظواهر متجاورة وتكون العلاقة بينها غامضة وتفتح الباب للاستثمار من قبل القوى الاجتماعية الفاعلة بما يتوافق مع هواها؟

لم يتيسر لي رؤية دراسة عربية تبحث هذه القضية وتجيب عن هذه التساؤلات المهمة، ولاسيّما أن هناك شواهد وظواهر تُضعف من مسألة السببية الإيجابية بين العلمانية والعلم، ومن ذلك أن بداية الثورة العلمية جاءت مع متدينين، بل بعضهم من رجال الكنيسة، فالانحراف جاء من الكنيسة ولا علاقة له بالدين، كما أن العلمنة ارتبطت بأشخاص لهم موقف سلبي من الدين مما يفتح الباب للسؤال عن علاقة الحقيقة بالهوى عند هؤلاء، فإن صاحب الهوى يختلط عنده الأمر ويلتبس عليه، فتظهر دعاوى غير صحيحة، ولاسيّما إذا تعلق الأمر بأفكار وأيدلوجيات وحركات اجتماعية مثل العلمنة وغيرها. يبقى الانتباه لمسألة: وهي أن العلمنة إنْ اهتمت بالعلمية، فهو العلم الذي ينفع في جانب ويقصر عليه، وهو العلم الدنيوي، فإذا كانت العلمانية هي الدنيوية فعلمها يرتبط بالدنيا، ولا شك أن أمةً تتفرغ لهذا الباب ستبرع فيه كما برعت أمم وثنية في حضارات تاريخية سالفة وأتت بعلوم وصناعات خلدتها في التاريخ، مثل الفراعنة والإغريق وغيرهم، ولكنه قَصُر عن مجالات مهمة في حياة البشر، وهذه هي الحضارة الغربية التي بلغت في العلوم الدنيوية مبلغًا لا مثيل له، ومع ذلك فهي

ص: 1167

فقيرة جدًا في حاجات الإنسان الشمولية، ولا يعني ذلك الإنقاص من أهمية العلوم التي برعوا فيها، ولكن إنما هو بيان خطرها عندما تُفصل عن الدين، وها هم يبحثون عن بديل للدين لكي يملؤوا به حياة الإنسان كالفنون والآداب والمتع لعلها تلبي حاجته ومع ذلك لم تُلبَّ تلك الحاجات، وكان الظن بأن العلم الدنيوي هو البلسم للإنسان فإذا هو يزداد بهم شقاء، ولم تتحقق الأمنية، وكان الجدير بالمتغربين إذ اطلعوا على ثقافة الغرب وحياته أن ينتبهوا لهذه المشكلة النابعة من علمنة الحياة، وأن ينبهوا من خلفهم، وأن يشاركوا في تقديم البديل الإسلامي.

قد يفتتن البعض بتجاور بعض الأمور، فيعتقد مثلًا أن تقدم العلم في الغرب جاء مع نجاح العلمانية في تلك البلاد، بسبب التجاور بينهما، ولا شك أن العلمانية خففت من تسلط الكنيسة الفاسدة والموروثات الباطلة والعقيمة، ولكن التقدم العلمي عمومًا يرتبط بمن يفتح له المجال ويشجعه وهذا ما نجده بارزًا في الإِسلام، فقد صاحب وجود الإِسلام ثورة علمية حقيقية في البيئة الإِسلامية، وارتباط العلم بالإِسلام أوضح من ارتباطه بالعلمانية؛ يرتبط بالعلمانية تقدم العلوم الدنيوية والصناعية ولكنه ظاهر الحياة الذي يفرح به الكفار بينما العلم الكامل والحقيقي هم في غفلة عنه، فالإِسلام يرتبط به تقدم العلم الديني والدنيوي وتكاملهما، أما العلمانية فيرتبط بها التقدم الدنيوي مع خسران الإيمان بالله وخسارة الآخرة، وعلى هذا فالتجاور لا يعني السببية وإن وجدت فينظر في حقيقتها، وهي هنا قد تكون مصاحبة لتقدم العلم في الغرب ولكنها ليست الوحيدة كما تقدم في الباب الأول، كما أنها لا تُقارن بدور الإِسلام (1) بربانيته

(1) انظر: المؤلفات المعاصرة التي تتحدث عن خصائص التصور الإِسلامي أو بعضها مثل: خصائص التصور الإِسلامي، سيد قطب، الشمول .. ، د. عابد السفياني، واقعية التشريع الإِسلامي وآثارها، زياد صالح، المنهاج القرآني في التشريع، د. عبد الستار سعيد، خصائص الشريعة الإِسلامية، عمر الأشقر ص 33، شريعة الإِسلام خلودها وصلاحها للتطبيق في كل زمان ومكان، يوسف القرضاوي ص 18، ميزات الشريعة الإِسلامية على القوانين الوضعية، عبد الحميد طهماز ص 51، وغيرها، كما أن المكتبة الإِسلامية تحوي على بابين كبيرين تحدثا عن الموضوع وفيهما كتب كثيرة، وهما: تاريخ الفقه الإِسلامي أو التشريع الإِسلامي، ومدخل الفقه الإِسلامي أو التشريع الإِسلامي.

ص: 1168

وشموليته وتوازنه من جهة كونه فتح الباب ودفع بالأمة نحو العلم، كما أنه جعل ذلك التكامل بين الديني والدنيوي. ونصل من كل ما سبق إلى أن من فحص حقيقة العلمانية في الغرب يجد أن دورها في خدمة العلم إن ثبت فمحدود بالدنيوي، ومع ما فيها من محاسن فتلك المحاسن لم تكن مجهولة في الدين الحق، ويفْضل الدين الحق بقدرته على معالجة مشكلات العلم وإعطائه منظومة من القيم فضلًا عن دور الغائية الدينية في وزن بوصلة العلم.

تعد العلمانية جهدًا لتقليص حجم مساحة الدين في حياة الناس، ولكن الحياة بعد ذلك تبقى مفتوحة للآراء والأهواء، آراء العقول وأهواء النفوس وميولها، فتدار الحياة بعقول متناقضة وبأهواء متصارعة، فلا يوجد عقل واحد ولا توجد رغبة واحدة، العقول محكومة بحدودها وإمكانياتها، والأهواء محكومة بتمايزات أصحابها بين الغنى والفقر أو القوة والضعف، فليس هناك هوى واحد كما أنه ليس هناك عقل واحد، قد يمكن الوصول لقواسم مشتركة توفرها عقلية متبعة من العقليات وتلم أهواءَها المتناثرة مصلحة، ولكنها عقلًا وتاريخًا لا تكفي، فهي في حاجة لمرجعية عليا تنير العقل وتهذب الرغبة، وليس إلا الدين الحق يحقق ذلك.

الدين الحق على العكس من العلمانية، يجمع بين الدين والدنيا، وبين الأولى والآخرة، فهو لا يقلص الدنيا، وإنما يرعاها ويضعها في وضعها الحقيقي، بخلاف المعادلات الخاطئة التي عرفها الغرب الوسيط والحديث، ففي الوسيط أهملوا الدنيا حتى فسدت أحوال الناس فهلكوا بحجة الاكتفاء بالدين، وفي الحديث أهملوا الدين حتى فسدت حياة الناس فهلكت أرواحهم بحجة الاكتفاء بالدنيا، ويشترك الدين الباطل مع العلمانية الخبيثة في إفساد دين الناس ودنياهم، فالدين الباطل مثله مثل العلمانية الخبيثة في الأثر الخطير على البشر، فالأديان المبدلة أو المخترعة تفسد دنيا الناس ودينهم، ولذا يجد دعاة العلمنة راحة مؤقتة عند تحييد الدين وعزله، ويجدون تقدمًا دنيويًا يغرهم ويفتنهم، ولكنه يجلب معه معاناة بسبب غياب المعنى الكلي والهدف من الحياة والإجابات الحقيقية عن الرب سبحانه وعلاقة الوجود به، وعن الإنسان: أصله ومصيره، وعن الكون وموجده وغايته.

نختم هذه الوقفة بطبيعة ظهور مجال علمنة العلم، فكما أنه ظهر في ظروف

ص: 1169

غربية تابعة لمشكلة انحراف الكنيسة والنصرانية، فقد ظهر من البدايات في العالم الإِسلامي مرتبطًا بالنصارى العرب، وقد سبق في فقرة الصحافة [الفصل الرابع من الباب الأول حول دور الصحافة] ذكر شيء من ذلك، ومن بين أشهر المؤسسين لهذا التوجه الجديد بطرس البستاني، الذي تأثر بالمنصرين الأمريكان فأخذ بطريقتهم في فصل العلم عن الدين مع الاجتهاد في خدمة النصرانية، حيث شارك في أول ترجمة عربية للتوراة مع رعايته المدارس العصرية والجرائد والتأليف ومن ذلك وضعه أول موسوعة بالعربية أنجز منها ستة أجزاء، وقد زاد نشاطه بقوة بعد أحداث (1860 م) وما صحبها من تدخل الغرب لدعم النصارى وحمايتهم في لبنان وما حولها، وقد صحب بطرسُ المنصرَ الأمريكي المشهور "فان ديك" وشاركه أعماله، وأكتفي هنا بالتوقف مع دوره في صناعة فضاء علماني للعلم، وفي ذلك يقول د. المحافظة:"وسار في هذا التيار العلمي - العلماني، في بلاد الشام، أحمد فارس الشدياق،. . . . وبطرس البستاني. . . ."(1)، فقد أصبح من المشهور وصفهم بالتيار "العلمي - العلماني"، وقد يستغرب لرجل مهتم بالدين مثل بطرس كيف يسعى لعلمنة العلم؟ ومن أشهر الأجوبة أن هذا التيار النصراني في ثقافته قبول الفصل بين ما لله وما لقيصر، ولكن الأهم هو أن علمنة العلم تمكنهم من اختراق المجتمع الإِسلامي، ومن ثم توظيف هذا المجال الجديد توظيفًا يخدم وضعهم، وقد أشار لذلك في مدح أكثر من كاتب علماني، مثل عزيز العظمة وهشام شرابي وغيرهما (2).

حقيقة العلمانية:

من أحدث الكتابات حول تعريف العلمانية ما ذكره "المسيري"، حيث قسمها إلى قسمين: علمانية شاملة وأخرى جزئية، ثم عرف كل قسم، فـ "العلمانية الشاملة: رؤية شاملة للعالم ذات بعد معرفي "كلي وجزئي" تحاول -بكل صرامة- تحديد علاقة الدين والمطلقات الغيبية "الميتافيزيقية" بكل مجالات الحياة، وهي

(1) انظر: الاتجاهات الفكرية عند العرب. . . .، علي المحافظة ص 238، وحول نشاطه بعد 1860. انظر: رواد النهضة الأدبية .. ، د. كمال اليازجي ص 92.

(2)

انظر: العلمانية من منظور مختلف، عزيز العظمة ص 88، 188، المثقفون العرب والغرب، هاشم شرابي ص 125 وما بعدها، العرب النصارى .. ، حسين العويدات ص 194.

ص: 1170

رؤية عقلانية مادية تدور في إطار المرجعية الكامنة والواحدية المادية التي ترى أن مركز الكون كامن فيه غير مفارق أو متجاوز له. "فالعلمانية الشاملة وحدة وجود مادية"، وإن العالم بأسره مكون أساسًا من مادة واحدة، ولا قداسة لها، ولا تحوي أية أسرار، وفي حالة حركة دائمة لا غاية لها ولا هدف، ولا تكترث بالخصوصيات، أو التفرد، أو المطلقات، أو الثوابت. في هذه المادة -بحسب هذه الرؤية- تشكل كلٌّ من الإنسان والطبيعة؛ فهي رؤية واحدية طبيعية مادية" (1)، وهذا المعنى الشمولي هو الأقرب لأغلب دعاتها العرب، فقد لخص الدكتور خالد منتصر -أحد المدافعين عن العلمنة- دعوات العلمانيين في مصر فقال: بأن "العلمانية في جوهرها ليست سوى التأويل الحقيقي والفهم العلمي للدين" وأنها "نظرية في المعرفة وليست نظرية في السياسة، ذلك أن العلمانية محاولة في سبيل الاستقلال ببعض مجالات المعرفة عن عالم ما وراء الطبيعة وعن المسلمات الغيبية. . . ." علق الدكتور أحمد برقاوي:"وهذا ما يتفق عليه معظم العلمانيين في الوطن العربي"(2).

فإذا نظرنا لمعالم هذه الرؤية الشاملة التي تحوي العلم وغيره نجد ما يلي:

1 -

أنها رؤية ذات أصول وتصورات، تقوم على أن الكون مستقل غير محتاج لغيره وأنه مكتف بذاته.

2 -

هدفها الصريح تحديد العلاقة بين الدين والحياة بحيث يُلغى الدين أو يبعد.

3 -

لا غيبيات ولا قداسة.

(1) العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية، د. عبد الوهاب المسيري ص 113، ويظهر من كتاب المسيري في تقسيمه بين علمانية شاملة وأخرى جزئية قبوله أو تفهّمه على الأقل للجزئية ورفضه للشاملة، وهو رأي غير مستقيم؛ فتميّزُهُ في المجالات الفكرية وقصور بضاعته الإِسلامية جعله يتبنى مواقف تظهر في نهايتها لصالح الفكر التغريبي أكثر من خدمتها الفكر الإِسلامي، ولكن تعريفه للشمولي منها هو المهم وهو السائد عند المتغربين، أما الجزئية فهي جزئية مقارنة بالشاملة ولكنها لوحدها ومن وجهة النظر الإِسلامية هي نظرة شاملة في بابها، فهي تمنع شرع الله من ذلك الجانب الذي استثنته. وانظر له أيضًا: العلمانية تحت المجهر ص 58 - 60، 120 - 124.

(2)

مجلة الطريق، العدد الرابع سنة (1995 م)، مقال (العلمانية بوصفها أيدلوجيا. . . .)، د. أحمد برقاوي ص 50.

ص: 1171

4 -

لا غاية ولا هدف.

5 -

لا خصوصيات ولا مطلقات ولا ثوابت.

6 -

مادية العالم، وهو أظهر في التيارات الفكرية المادية (1).

وقد سارت علمانية العلم المسار نفسه، فكان لها مظاهر خطيرة، منها ما هو في صلب النشاط العلمي ومنها ما هو من المتخيل حول العلم، ومن تلك المظاهر:

1 -

تصور بديل عن الخالق سبحانه لتفسير الظواهر المختلفة، بحيث يرفضون إعادة الأمر لله، فالعلمانية تُبعد الله عن أي تفسير للعالم المخلوق، والعالم يحوي داخله ما يكفي لتفسيره دون حاجة إلى اللجوء إلى أي شيء خارج النظام الطبيعي (2).

2 -

ترك البحث في الغايات والاكتفاء بالتفسير، أو ذكر غايات مثالية ذهنية لا تجيب عن حيرة الناس وتساؤلاتهم الفطرية، وهو مرتبط بالمظهر الأول، كما أنه يرتبط بإغفال العلمانية للبعد الأخروي.

3 -

التذبذب بين "آلية - ميكانيكية - وحتمية" الظواهر، ومنع أي تغير فيها إلا ما تقره عقولهم المرتبطة بالتصور النيوتني، وبين النسبية واللايقين المتروكة للمادة المرتبطة بالتصور المعاصر "النسبية والكوانتم"، وعدم الإقرار بالربوبية، ورفض الإيمان بالخلق والقدر.

4 -

رفض أي تفسير ديني وإن كانت النفوس تقبله وتقر به الفطر وتقبله العقول السليمة، وذلك يعود لمرض الشبهات وأمراض النفاق والإلحاد.

5 -

انشغال العلم بمجالات ليست من اختصاصه، ولاسيّما في الجانب الديني، وقد برز ذلك مع غرور التيارات العلموية التي تزعم شمولية العلم العلماني، وسيأتي لها مبحث مستقل.

6 -

إغفال العلاقة بالأصول الدينية، فنشاط العلم يكون في التصور العلماني

(1) انظر: العلمانية تحت المجهر، د. عبد الوهاب المسيري، د. عزيز العظمة ص 62 - 63، 86 - 89 والكلام للمسيري.

(2)

انظر: المرجع السابق ص 57، من كلام المسيري.

ص: 1172

بعيدًا عن النظر في العلاقة بالرب والغيب والدين والرسالات والآخرة والكون المخلوق، وقصة "لابلاس" وأمثاله مشهورة، والكلام هنا ليس عن الجزئيات العلمية مثل معادلات رياضية أو تفاعلات كيميائية، وإنما المقصود عن الأطر العامة التي هي أساسية في التصور الإِسلامي لكل نشاط بشري.

7 -

رفض أي ضابط ديني قيمي للعلم، ويرى العلمانيون أن هذا من باب فتح الباب لحرية العلم حتى وإن خالف الحق الديني، وهذا يكثر في باب العمليات، فقد نجد الشرع يعارض بعض الأمور العلمية لمفاسدها وليس لعدم إمكانها، وهم يرون أن العلم لا يعرف هذه الموانع إلا ما تمنعه عقولهم.

8 -

جعل العلم مقياسًا لما يُقبل أو يرفض من الدين، والحق هو في العكس، مع توسيع مفهوم العلم هنا بحيث يدخل فيه ما هو محل اشتغال داخل العلم وإن لم يكن علمًا، وفي المقابل يرفضون جعل الدين مقياسًا للمجال العلمي.

9 -

ما يترتب على هذا التصور من جعل العلم ومؤسساته ومراكزه بعيدة عن الدين منفصلة عنه، فينطلق التصور الذهني إلى واقع مؤسساتي رافضًا للدين وطاردًا له، كما هو حال مؤسسات التعليم وجامعاته، مما دفع بالمتدينين في الغرب إلى فتح مدارس خاصة بهم لا تتبع الدولة (1).

فهذه أبرز معالم العلمانية، وهي تعد قاسمًا مشتركًا عند أغلب التيارات الفكرية الغربية، وقد نجحت تلك التيارات في جعل العلمانية من صلب دستور الدولة الغربية الحديثة، وهي علمانية نجحت في فرض رؤيتها على المجالات المهمة في الحياة الغربية بما في ذلك المجال العلمي، فامتدت المعالم السابقة إليه، تُمدّه بالتصور البديل والروح والغذاء، وهي نفسها التي نراها تدخل في دعوى علمنة العلم، وهي التي يواجهها الفكر الإِسلامي بكل قوّة.

(1) قد سبق عرضها في مباحث مختلفة ولاسيّما في الفصل الأول من الباب الثاني، والمبحث الأول من الفصل الثاني من الباب الأول.

ص: 1173

مشكلة الفصل العلماني بين الدين والعلم وأثره:

ليست عملية الفصل العلماني فقط في إبعاد الدين عن العلم بمعنى عدم الاستدلال بآية أو حديث على مسائله الرياضية أو الطبيعية، فهذه لا يقول بها حتى الاتجاه الديني الداعي للتأصيل الإِسلامي، والاتجاه العلماني يذكر هذا عادة من باب السخرية من التيار الإِسلامي وإلا فالعلمانية ليست إبعاد الدين فقط وإنما هي إبعاد الله عن العلم، وهنا بالذات يقع الفرق بين الرؤيتين الدينية والعلمانية، فالعلمانية عندما تمتنع عن ذكر الله سبحانه في ميدان العلم يرتبط بذلك عدد كبير من التصورات والنتائج، يصبح العالم لوحده ويسبح في هذا الفراغ المظلم، مجرات بنجومها وأرض صغيرة توجد فيها هذه الحياة، ويشتغل العلم العلماني في هذا العالم التائه، وعندما يوضع سؤال: من أين جاء هذا العالم؟ يرفض العلم العلماني إعادة ذلك لله؛ لأنه بحسب العلم العلماني جواب غير علمي. وعندما يأتي سؤال عن غاية العالم أو عن مصيره، عندها يمنع العلم العلماني البحث في الغايات؛ لأنه غير علمي، ومصير العالم يبحث فقط في حدود العلم الذي يحدد مصير الكون دون ربط ذلك بمصير أخروي فهذا مبحث غير علمي. وعندما يأتي تعليل للحوادث الكونية بربطها بتدبير الخالق سبحانه، فهذا في العلم العلماني تعليل غير مقبول، وتجدها في النهاية مرتبطة بإبعاد الله سبحانه عن العلم بسبب علمانيته، وفي ذلك يقول محمَّد قطب عن علمانية العلم في أوروبا: "ولكن أوروبا بدأت من هذه الحماقة ثم لجت فيها إلى أبعد الحدود ..

مجرد ذكر اسم الله في البحث العلمي يعتبر إفسادًا للروح العلمية، ومبررًا لطرح النتائج العلمية كلها ولو كانت كلها صحيحة بمقياس العلم ذاته الذي جعلوه إلهًا من دون الله! بل مجرد الاعتقاد بوجود الله، وأنه هو خالق الخلق وخالق الكون كفيل بإخراج العالم من دائرة العلماء الذين يعتد بهم ويؤخذ بآرائهم ولو كانت آراؤه صحيحة بمقياس البحث العلمي، بل إنه يحيط ذلك العالم بالارتياب والشك في كل ما يقول، ويجعله موضع الزراية من العلماء "الحقيقيين" الذين لابد أن يكونوا ملحدين لتكون آراؤهم موضع التسليم! " (1).

(1) مذاهب فكرية، محمَّد قطب ص 481.

ص: 1174

بحسب هذا التصور قامت العلمانية أولًا بتفريغ العلم من كل صلة بالدين ومفاهيمه، ثم وضعت تصورًا جديدًا ورؤية جديدة لا تسمح بدخول أي مفهوم ديني، حتى وإن كان هو المفهوم الصحيح أو المناسب، وقد يعترف بعضهم بخطل قوله، ولكن إن لم يقل به، فالمصير هو الاعتراف بالدين، فالعلماني يعيش رؤية مفادها أن العالم كون مغلق مكتفٍ بقوانينه مستقل، وأن الإنسان مستقل بعقله لا حاجة له إلى شيء خارج عنه، منفصل عن الرب وعن الآخرة، وهما ركنان مهمان في الدين يتجاهلهما العلماني، فتجده في تفسيراته العلمية منفصلًا عن الرب سبحانه، وفي غاياتها منفصلًا عن الآخرة، والمقصود هنا أثر الإيمان بهذين الركنين على مسيرة العلم، وليس المقصود أن نأتي بذكرهما لإثبات تفاصيل العلوم الرياضية والفيزيائية والكيميائية، وإنما المقصود الابتعاد عن التصور العلماني القائم على الاعتقاد بكون مستقل مستغنٍ عن موجده، وقد عرف حسين أمين العلمانية بأنها:"محاولة في سبيل الاستقلال ببعض مجالات المعرفة عن عالم ما وراء الطبيعة، وعن المسلمات الغيبية"(1).

والمسلم يرفض هذه الرؤية حتى مع من لم يقتنع بعمومها، فهي من جهة منفصلة عن الإيمان بالله وما يلزم ذلك من لوازم، وهي من جهة أخرى تُهمل الحياة الأخروية، وهما من أخطر ما وقعت فيه علمانية العلم. يقوم التصور الإِسلامي على ربط هذا الوجود بخالقه، على الإيمان بربوبية الرب سبحانه ومقتضيات ذلك الإيمان من تدبيره سبحانه لأمر العالم، كما يقوم على الإيمان بألوهيته سبحانه ومقتضيات ذلك من عبودية، كما يقوم على ربط هذا العالم بمستقبله الحقيقي وهو اليوم الآخر، ومقتضيات ذلك، وهذا عكس الرؤية العلمانية التي تفصل العالم عن خالقه كما تفصلهم عن مستقبلهم الحقيقي.

يتضح خطر فصل العلم عن الله، الخالق المدبر العليم الحكيم، في العلوم الطبيعية ونظرياتها، كما يتضح خطر فصل العلم عن الآخرة في العلوم الاجتماعية والإنسانية ونظرياتها؛ فوجود الكون والحياة والإنسان وسير العالم غير مرتبط عندهم بالرب سبحانه، هناك فصل حاد وهو أشد مع الماديين منهم، كما أن

(1) نقلًا عن العلمانية تحت المجهر، د. عبد الوهاب المسيري ص 64.

ص: 1175

الإنسان -عندهم- ونشاطه ومجتمعه وحياته لا تربط بالآخرة؛ لذا تتحدد هذه الأمور مجتمعة بحياة دنيوية مع غفلة عما بعدها.

إذًا فالانفصال عن الإيمان بالله وعن اليوم الآخر أمر يخالف تمامًا التصور الإِسلامي، ولا يُعد المعتَقِد به مسلمًا؛ لأن أهم أصول الإِسلام هي الإيمان بـ"الله سبحانه""وجوده وربوبيته وأسمائه وصفاته وألوهيته"، والتصور العلماني ينقض هذا الأصل تمامًا. كما أن "اليوم الآخر" هو أصل آخر من أصول هذا الدين الذي ينقضه التصور العلماني. يريد التصور العلماني في أخف صوره دينًا علمانيًا تُشكِّله العلمانية كما تريد، لا كما جاء في الوحي وجاءت به الرسل ونزلت به الكتب، ولذا تجد عند بعضهم تهويمات حول الاعتراف بوجود أعلى مطلق معنوي هو سرّ وجود العالم وسر سننه، ولا يتجاوزون ذلك، ويرفضون تجاوز ذلك.

من آثار الفصل بين العلم والدين:

وقع الغرب بإبعاد هذين الأصلين العظيمين "الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر" عن الحياة والعلم في مشكلات تفوق المكاسب في الجوانب الإنسانية العليا (1)، والعاقل هو من اتعظ بغيره؛ فمع افتراض حسن النية لدى البعض من دعاة علمنة العلم بسبب انبهارهم بتلك المنجزات فإن العاقل لا يعميه جانب عن جانب.

لقد سبق في الفصل الأول من الباب الأول صور من تلك المشكلات، مثل: الغرور العلمي المتمثل في التيارات العلموية التي أضرت بالعلم والحاجات الإنسانية العليا. وانفتاح الباب للملحدين لينشروا إلحادهم بواسطة العلم. وانفتاح الباب للعبثيين ليعبثوا بواقع البشر من خلال الاستثمار البشع لمكتشفات العلم دون مراعاة للعالم من حولهم؛ لعدم ارتباطهم بأصول كبرى توجه مسار العلم. كما أوصلت الثقة بالعلم إلى بدائل عن الدين موهومة وخطيرة أوصلتهم إلى القلق والنكد والمرض ويصرّون على تجرعها بحجة أنها ضريبة التقدم، فقد كان الظن بأن العلم العلماني سيجيب عن كل التساؤلات، ويعالج كل

(1) انظر: العلمانية تحت المجهر، د. عبد الوهاب المسيري ص 128 - 145.

ص: 1176

المشكلات ويحقق كل الرغبات، فلما تعقد الوضع ظهر من قال: إن العلم هو من سيتولى بنفسه معالجة نقصه من خلال العلوم الاجتماعية (1)، وهو فرار من مواجهة المشكلة والبحث عن بدائل وهمية لمعالجتها. ربما رفعت العلمانية من شأن العلم الدنيوي ولكنهم خسروا ما هو أعلى منه، وصدق الله:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} [الروم: 7]، فالآخرة وما يرتبط بها من الإيمان بالله والقبول بالدين والتسليم لصورة الإنسان فيه وإمكانياته وحدوده وحاجاته تمّ إغفالها في التصور العلماني للعلم، ومن غفل عن الحقيقي واكتفى بالظاهر بقي قلقًا وشقيًا ومضطربًا؛ لأنه لا يملك سوى الظاهر ولا يركن لباطن يثبته، "قال ابن عباس في قوله -تعالى-:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} [الروم: 7]؛ يعني: الكفار، يعرفون عمران الدنيا، وهم في أمر الدين جهال" (2)، وقد تأكد هذا المعنى وظهر لنا بوضوح مع علمنة العلم الحديثة.

بالنظر إلى واقع علمنة العلم الغربية، نجد أنها قامت على أسس وارتبطت بمسببات لا توجد في الإطار الإِسلامي، فمن الأسس هذا الفصل الذي ابتدعته العصور الوسطى الغربية بين الديني والدنيوي تحت شعار:"دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، وصورة العلاقة بين المخلوق وخالقه؛ إذ هي من الجهتين الدينية الكتابية والدينية الوثنية تقوم على الصراع والمغالبة، حيث يجتهد المخلوق في الاحتيال على خالقه، واقتناص الفرص في سرقة العلم والمعرفة والأسرار، وقد سمحت مثل هذه التصورات الباطلة بنجاح مفهوم العلمنة. كما أن هناك مسببات اجتماعية في الحياة الغريبة، تمثلت بوضوح في ذلك الصراع العنيف بين الكنيسة والعلم والفكر، وما نتج عنه من غلبة التيار العلماني وإقصاء للجانب الديني (3).

ولكن الثمار بعد ذلك كانت خطيرة، فقد تسبب هذا الفصل في نشوء تيار متطرف، قام أولًا بطرد كل المسلمات الدينية من مجال العلم، وثانيًا بوضع تصورات جديدة بديلة، وإن لم تكن مقنعة ولكن لابد من بديل، وثالثًا بحراسة

(1) انظر: ذلك في المبحث الثالث من هذا الفصل: دعوي شمولية العلم.

(2)

تفسير ابن كثير ص 1022.

(3)

انظر: العلمانية. . . .، سفر الحوالي ص 329 - 334.

ص: 1177

شديدة تمنع تسرب أي مفهوم ديني إلى العلم. وإذا فحصنا هذه الأسس والمسببات والتيار المتطرف العلموي العلماني، ثم بحثنا عن مبررات انتقالها إلينا، فلا نجد شيئًا يبرر ذلك، فالأسس الإِسلامية تدفع نحو العلم والنظر والعقل والتفكر والتدبر والاعتبار والتبصر واليقين والحجة والبرهان، مع عدم وجود مشكلة انفصال بين الخالق والمخلوق، وعدم وجود أساطير مؤثرة، فلا يوجد إلا الحق الذي لا يأتيه الباطل، ولم يظهر انفصال بين الديني والدنيوي، ولم يقع صراع بين الإِسلام والعلم، ولم يقف علماء الإِسلام موقفًا معارضًا للعلوم، فقد سَلِمت الأمة من كل هذه المشاكل، بل على العكس من ذلك، فالحضارة الإِسلامية هي التي حفظت العلوم وطورتها وأوجدت أرضية لنمو مناهج علمية جديدة، مناهج لعلوم الدين كعلم الإسناد والتخريج الذي لم يُعرف في أية أمة قبل أمة الإِسلام، مما حفظ لنا الوحي، وكعلم أصول الفقه الذي يزن طريقة تعامل العقل المسلم مع مصادر الدين في التفسير والتجديد، وكالمنهج التجريبي في العلوم الدنيوية الذي وضع تلك العلوم على السكة الصحيحة، ويبقى بعد ذلك من يقود القطار، وقيادة القطار ليست في منزلة من دلّ على السكة، فضلًا عن مكتشفات علمية جديدة، ومع ذلك لم يظهر معها ومع أهلها أي صراع، وبهذا يصبح الإصرار على علمنة العلم مرضًا فكريًا وليس فيه شبهة مصلحة ترجى، فلماذا يتشدد دعاة العلمنة في تقليدهم في أمر لا ثمرة منه بل ضرره بيّن من المنظور الإِسلامي؟!

مواجهة علمنة العلم بالتأصيل الإِسلامي للعلوم:

عندما وجد الفكر الإِسلامي أن علمنة العلم في العالم الإِسلامي قد اشتد ضررها، وبأن خطرها دفع إلى الواجهة أهمية التأصيل الإِسلامي للعلوم الحديثة بعد أن أثرت فيها العلمنة كثيرًا؛ فبسبب اعتمادنا على الغرب في هذه العلوم، وهي هناك مُخترقة من قبل التيارات العلمانية، فقد دخلت إلينا محملة بأحمال فكرية خطيرة، ولذا فلابد من اجتهاد إسلامي لمواجهة هذه المشكلة، وقد تمثل ذلك في أهمية التأصيل الإِسلامي لها. وقد عُرِض هذا المشروع بمسميات كثيرة يهمنا في النهاية الهدف المشترك وهو: تبيئة هذه العلوم بجعلها متلائمة مع التصور الإِسلامي عن الرب سبحانه والكون والإنسان والدين والغيب واليوم الآخر، وهذه الأصول الكبرى لم يراعها العلم الحديث بسبب مشكلة العلمنة، لذا وقع في انحرافات خطيرة.

ص: 1178

ولابد بعدئذٍ من تصحيح مسار النهضة والتحديث والإصلاح؛ لأن هناك من يجرّه نحو التغريب والعلمنة، بينما مشروع الأمة لتصحيح المسار هو مشروع إسلامي، وإذا كان كذلك فيجب أن يندرج كل نشاط ضمن هذا المشروع في الإطار الإِسلامي، ومن ذلك طلب العلوم العصرية، وهذا ما ترفضه تيارات التغريب المُخترقة بأمراض العلمنة، ولذا انبرى منهم مجموعة لمحاربة دعوى التأصيل الإِسلامي لعناصر التحديث المختلفة المقتبسة من الحضارة الغربية، ومنها العلم، بحجة أن فكرتها -في الغالب- تقتضي أن العلم لا دين له.

أحسنهم حالًا من يرى أن الدين يبقى في مجاله الغيبي الوجداني الشخصي بينما العلم بمجاله الحسي العقلي الموضوعي، ويسيران في تجاور دون أن يتدخل أحدهما في مجال الآخر، بحيث يخرج الدين من مجال العلوم تمامًا وتسير بنهجها لوحدها ويبقى الدين في مجاله الغيبي، وربما يستندون تراثيًا بموقف ابن رشد الذي يقول بوجود حقيقتين: إحداهما للخاصة وأخرى للعامة، ولا يصلح أن تدخل إحداهما على الأخرى، ويكون طريق التعامل مع النص بالتأويل (1)، ولا يُدرَى عن حقيقة مقولة المعاصرين، هل هي من التكتيك أم هي قناعة؟؛ لأن مرجعها القلب ولا أحد يطلع على ذلك، ولكن مع افتراض التسليم بصدق قناعتهم بالدين، فإن تصورهم عنه تصور خطير يناقض الدين تمامًا، ويهمنا هنا ما له صلة برفض التبيئة الإِسلامية للمقتبس الغربي، حيث جعلوا من فكرة المجالين أداة لرفض الأسلمة، بحجة ترك مجال العلم لوحده، والحقيقة أن هذه الدعوى هي جوهر العلمانية؛ لأن العلم الذي فرض استقلاله بمجاله لم يترك الدين، بل هو مع ذلك قد تطفل على مجال الدين ذاته بتوزيع تصورات جديدة أو بعرض تأويلات وتفسيرات أو بتحليل أو نقد، بينما يمنع الدين في المقابل من ذلك. إن هذا الفصل بين المجالين رغم انحرافه من جهة التصور للدين، فهو تصور صوري لا حقيقة له؛ لأنه فتح المجال للعلم المعلمن على حساب الدين، وساق الناس في البيئات العلمانية لإقصاء الدين وإهماله ونسيانه ثم الكفر به والتنكر له.

(1) حظي ابن رشد بعناية كبيرة من قبل المتحمسين للحضارة الغربية، ومن أولئك عاطف العراقي في مصر والجابري من المغرب، وانظر: ابن رشد اليوم، الأصولية والعلمانية في الشرق الأوسط، ولاسيّما ص 35 وما بعدها.

ص: 1179

يرجع الموقف الرافض للتأصيل الإِسلامي في حقيقته إلى مرض القلب الشاك الموسوس الذي لم يعمر الإيمان قلبه، وذلك أن من آمن بالله وآمن برسله علم أن الذي خلق الكون هو أعلم به والذي خلق البشر هو أعلم بهم، وخالق الكون أخبرنا بأمور عن هذا الكون المخلوق الغائب منه والمشهود لا يستطيع الإنسان معرفتها على وجه التفصيل، وخالق البشر شرع ما يصلح حال البشر مما لا يستطيع الإنسان إدراك تفاصيله، فالعلوم التي تبحث في عالم المخلوقات ثم تتجاوز إمكانياتها أو تدرس الإنسان والمجتمع وتتجاوز إمكانياتها، هي تنبع ممن لم يُسلّم بصلة بين الخالق والمخلوق ومن عدم وجود طمأنينة تُذهب الشك، لهذا يرفضون الدين ويعتمدون على العقل والعلم وغيرهما، وقد يكون في البيئة الغربية التي عرفت التطور العلمي الحديث ما يؤجج هذا الشك في الدين والاشتباه به، ولاسيّما مع الصراع السيئ الذي وقع باسم الدين من قبل الكنيسة مع العلم، ولكن ذلك يختلف في بيئة إسلامية لم يظهر في دينهم ما يثير عند أهله أي شك؛ فمصدرهم القرآن الكريم، فهو المحكم وهو المتشابه، قال شيخ الإِسلام ابن تيمية:"قال الله -تعالى-: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1]، فأخبر أنه أحكم آياته كلها، وقال -تعالى-: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23]، فأخبر أنه كله متشابه"، إلى أن قال:"وإحكام الشيء إتقانه، فإحكام الكلام إتقانه، بتمييز الصدق من الكذب في أخباره، وتمييز الرشد من الغي في أوامره، والقرآن كله محكم بمعنى الإتقان"، إلى أن قال:"وأما التشابه الذي يعمه، فهو ضد الاختلاف المنفي عنه في قوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. . . . فالتشابه هنا: هو تماثل الكلام وتناسبه: بحيث يصدق بعضه بعضًا. . . ."(1). نعم صمدت أديان باطلة من حولنا ولكنها في مواجهة العلم خسرت كل شيء، ولهذا لم يكن لأهلها إلا القول بمجالين والأخذ بالعلمانية بخلاف الإِسلام، فقد تعرضت الأمة لزلازل فصمد الإِسلام، ثم لما جاء العلم الحديث صمد أيضًا؛ لأنه الحق، فهو في كل مجال خاضه لم يأت أحد بما يناقضه وهنا إحكامه، وما زالت تظهر السنن في الآفاق والأنفس التي تُثبت أن هذا من عند الله، قال -تعالى-: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ

(1) التدمرية. . . .، شيخ الإِسلام ابن تيمية ص 102 - 104، تحقيق محمَّد السعوي.

ص: 1180

اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)} [فصلت: 52 - 54]، قال شيخ الإِسلام عند "سنريهم":"أي: أن القرآن حق فأخبر أنه سيري عباده الآيات المشهودة المخلوقة حتى يتبين أن الآيات المتلوة المسموعة حق"(1)، وقال الشيخ السعدي رحمه الله:"فإن قلتم، أو شككتم بصحته وحقيقته، فسيقيم الله لكم، ويريكم من آياته في الآفاق كالآيات التي في السماء وفي الأرض، وما يحدثه الله تعالى من الحوادث العظيمة، الدالة للمستبصر على الحق، {وَفِي أَنْفُسِهِمْ} مما اشتملت عليه أبدانهم، من بديع آيات الله وعجائب صنعته، وباهر قدرته، وفي حلول العقوبات والمثلات في المكذبين، ونصر المؤمنين {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ} من تلك الآيات، بيانًا لا يقبل الشك {أَنَّهُ الْحَقُّ} وما اشتمل عليه حق"(2)، وأنه لو كان من عند غير الله لدخله الاختلاف، قال -تعالى-:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82].

يستميت التيار التغريبي في مواجهة التأصيل وكأنه الحريص على العلم مع أن الحقيقة هي حرصهم على العلمنة أكثر من العلم؛ لأن هذه الدعوى يكذبها ما نشاهده من حال الصحوة الإِسلامية المعاصرة التي تميزت بوجود نخبة كبيرة من المتخصصين في العلوم الحديثة وبشهادات عليا، ونجدهم يجتهدون في نشر العلوم النافعة وتأصيلها في بيئتنا الإِسلامية، فربما تنطلي شبهتهم لو لم تهتم الصحوة بهذه العلوم ويبرع فيها نخبة كبيرة منهم، وربما تُقبل دعوتهم لو افترضنا وجود معاداة لهذه العلوم من قبل علماء الإِسلام، وهذا لم يقع، بل إن ما وقع هو حثّ علماء الإِسلام على هذه العلوم كما رأينا في الباب الأول، وهذا يزيد من قناعة المتجرد عن الهوى أن مانعي التأصيل لا حجة لهم، فلا يوجد في المسلمين من يحارب هذه العلوم، كما أن انخراطها ضمن التصور الإِسلامي لا يمنع تقدمها، فجميع الادعاءات ملغاة ويضاف لذلك المكاسب العظيمة من تأصيل هذه العلوم في البيئة الإِسلامية.

(1) الفتاوي 18/ 241.

(2)

تفسير السعدي ص 752.

ص: 1181

ولا شك أن العقيدة العلمانية تعمي هؤلاء عن التبصر في قيمة مشروع "الأسلمة"، ولهذا تجد قائمة من المفردات السبابية الجاهزة، وهي من محصول ضخم قد تجمع حول كل نشاط تتبناه الأمة من منطلق ديني لمواجهة التحديات، وليست هناك مشكلة أن يوجد نقد لمشروع التأصيل، فالنقد جيد لمشروع ناشئ، وإنما المشكلة أن يكون النقد صادرًا من أناس أعمتهم العلمنة، ولاسيّما عندما يكون هدفه فقط معارضة الدين ورفضه دون مبرر سوى أنه دين أو بالتركيز على أخطاء ونقائص في مشروع الأسلمة يعترف بها أصحاب المشروع سلفًا، ويجاهدون في تخفيفها، والأصل أن لا يوقف مع هذه النواقص والأخطاء ما دام أهلها يريدون تجاوزها، فليست حجة في رفض المشروع وانتقاصه وإنما هي طبيعة المشروعات في بداياتها.

وهذا بخلاف مشروع العلمنة، فإنه مشروع يقوم على أصول لا يمكن قبولها في الإطار الإِسلامي، إنه ليس مشروعًا يحمل نواقص أو مشروعًا في بداياته ويعاني تلك البدايات، وإنما هو مشروع من بداياته يحمل معارضة صريحة للدين، مع العلم أن بعض من يتبنى بعض صورها وهو قريب من الفكر العلماني يصرح بأن هدف العلمانيين العرب هو هدم الإِسلام، فيقول:"صرح مصلحون كثيرون في ماضٍ قريب أنهم من أنصار الحداثة في حين أنهم كانوا مصرين على العلمانية. وقد ادعى كثير من العلمانيين اليوم حق التلاعب بالإِسلام مستترين بقناع الإصلاح والرقي في حين أنهم يتمنون خراب الإِسلام"(1).

شبهتان: التعارض والموضوعية من مسوغات علمنة العلم:

من دعاوى العلمانية في المجال العلمي قول بعضهم: إن العلمانية لا تتعارض مع الدين، وقولهم: إن علمانية العلم تعني موضوعيته وحياديته، أما الأولى فمن التناقض قول طائفة: إن علمانية العلم لا تتعارض مع الدين، وهي دعوى يركز عليها دعاة العلمنة العرب، وقد جاءت معهم بوضوح في السنين الأخيرة، وهي مرتبطة للمدقق بظهور الصحوة الإِسلامية وجهدها المهم في كشف زيف العلمانية، مما يجعلها دعوى ذات مضمون صراعي هدفها فقط تمرير

(1) الشخصية العربية الإِسلامية والمصير العربي، د. هشام جعيط ص 112.

ص: 1182

العلمنة بعد الأزمة التي مرّت بها، ربما لا تتعارض مع الدين الذي توهموه أما دين الرسل فهي تتعارض معه تمامًا، فهي رؤية جديدة تريد منافسة الدين، وهي رؤية لا تهتم بالآخرة، ورؤية لا تهتم بالدين، ورؤية تلغي من حسابها مسألة الإيمان بالله بالصورة التي جاء بها الرسل، ولها مزيد نقاش في المبحث الثاني من هذا الفصل.

وأما الثانية فهي ربط بعضهم بين مفهوم علمانية العلم والموضوعية، بحيث يؤكدون أن الدفاع عن علمانيته هو دفاع عن موضوعية العلم وتقدمه دون ضغوط خارجية، ولكن من أدرك حقيقة العلمانية علِم أنها رؤية أيديولوجية، وأدرك أن علمانية العلم هي ضد موضوعيته؛ لأنها في الحقيقة هي إبعاد لرؤية وفرض رؤية أخرى، إن منع وجود تصور ديني هو معارض للموضوعية، وإلا فلماذا تُفرض تصورات وتمنع أخرى بحجة دينيتها! لماذا لا يدَعون هذه التصورات كغيرها تأخذ حظها دون منع! ثم يأتي التمحيص لها بالوسائل المناسبة! ولذا فلا علاقة لها بالموضوعية. لقد كان هذا المنع لأي تصور ديني سائدًا مع انتفاشة التيار المادي، بينما هي قد ضعفت بصورتها الوقحة في القرن الأخير، ولكنهم لا يملكون البديل فوضعوا تصورات ميتافيزيقية بديلًا للدين أو مساوية له (1)، ولا شك بأن الموقف الجديد يكشف انحراف العلمانية بالعلم ويكشف استحالة وجود بديل عن الدين، ولكنه وإن كشف الانحراف فما قدموه من بدائل ما زال بعيدًا عن الدين الحق، وعلى المسلمين تحمل واجبهم نحو العالم بتقديم البديل الحق، وقد سبق الحديث عن الموضوعية في الفصل الأول.

أمثلة تغريبية على دعوى أهمية علمنة العلم ورفض التأصيل الإسلامي:

تخصص مجموعة من المتغربين في الدفاع عن العلمنة باعتبارها مصيرًا لابد منه عند البعض أو باعتبارها الطريق الحقيقي للتقدم والحداثة والقوة والعلم،

(1) يمكن الرجوع للمدافعين عن الميتافيزيقا لكتاب الدكتور محمَّد رجب: الميتافيزيقا عند الفلاسفة المعاصرين، وكتاب الدكتور حسين علي: الأسس الميتافيزيقية للعلم، وأما أشهر معارضيها في الفكر العربي فنجد الدكتور زكي محمود، انظر له: موقف من الميتافيزيقا.

ص: 1183

ومن أشهرهم ولاسيّما في مجال الفكر والثقافة والعلم ثلاثة: "عزيز العظمة" و"محمَّد أركون" و"فؤاد زكريا"، فالأول: يدافع عنها بمنهجية تاريخية ذات بعد ماركسي، أما الثاني: فيعتمد على العلوم الاجتماعية المعاصرة، وأما الثالث: فجعل من نفسه منافحًا عن العلمانية العلمية، وفي مجال العلم بالذات نجد دفاعهم المستميت حول أهمية علمنته، وربطهم مستقبل العلم بالعلمنة فضلًا عن غيره، وفي المقابل لهم جهد بارز في محاربة مشروعات التأصيل الإِسلامي ومعاداة جهود المسلمين في أسلمة المعرفة.

المثال الأول: جاء التحمس للعلمنة مع الدكتور: "عزيز العظمة" فأخرج كتابه: "العلمانية من منظور مختلف" مدافعًا فيه عن العلمانية ومبشرًا بها من خلال رصد تاريخي مطول، وكانت نتيجته أن المستقبل هو للعلمانية، ففي مبحث "علمانية الفكر ونكوص الإصلاحية" توصل إلى أن "الثقافة العلمانية، خصوصًا العلمية والتاريخية منها. . . . قد تغلغلت إلى طليعة المفكرين الإِسلاميين الإصلاحيين"(1)، وقد وصلت العلمانية بآخرين إلى نقد الدين، واستند نقدهم إلى أساسين: النزعة العلموية الوضعية والعلمانية الاجتماعية والفكرية، "ومؤدى الاثنين فصل الدين عن الحياة العقلية فصلًا تامًا، والبحث في أموره بحثًا عقليًا، وتاريخيًا، واجتماعيا يتقصى أصوله الدنيوية دون أن يرفض بالضرورة إمكانية صدق بلاغه عن وجود إلهي"(2).

أي: أن الحياة العقلية تنفصل عن الدين، ويبحث حتى في الدين وفق العقل المنفصل لا المتصل، ويُصبح "النظر العلماني" معممًا على "المجال الإِسلامي"(3) وهذا يؤدي إلى تنازع على "المرجعية" بين العقل الديني والعقل العلماني، "العقل الديني الإيماني الغيبي الذي كان لا يزال مسيطرًا على قطاعات هامة من العملية التربوية كما رأينا. . . . وبين المثقفين الجدد في الجامعات والصحف والمجلات وبعض الأحزاب السياسية"، وذلك في أثناء حديثه عن الحالة المصرية، ويقوم هذا التنازع "على مقاومة الأزهر الأفكار الجديدة وثقافتها

(1) العلمانية من منظور مختلف، د. عزيز العظمة ص 221.

(2)

انظر: العلمانية من منظور مختلف ص 224.

(3)

المرجع السابق ص 229.

ص: 1184

الشاملة، مغلبًا المعرفة الدينية على المعرفة العلمانية" (1)، وهذا يؤدي إلى الصراع بين العقلين "فكانت من نتائج المعارضة الدينية للعلم أن تعرضت المعرفة الدينية لنقد علماني ظل محصورًا اتقاء لشر الدينين. ولكنه لم يكن غائبًا. فصار التشديد على الفصل بين المعرفة العلمية والمعرفة الدينية، والدعوة لإخضاع الثانية للأولى، بل إلى التأكيد على أن الملحد المطمئن إلى المادة أعود بالنفع على البشرية من المواطن الذي لا يعرف من الإيمان إلا التعصب. . . ." (2)، وبالفصل يستطيع الفكر أن يمارس حريته عند العلماء، عندها تبرز أفكار جديدة لم تكن موجودة من مثل تدريس الجيولوجيا بدلًا من سفر التكوين، ومن مثل "المماهاة بين الرقى والعلمانية في مقابل قران الدين والانحطاط". وبعد استعراض لهذا التنافس ثم الصراع يقول: "كانت النتيجة المنطقية والمنطلق الأساس على حد سواء لمجابهة تدخل الدينين في شؤون الفكر والثقافة. . . . الدعوة إلى تثبيت الفصل بين الدين والعلم وتمايزهما، وإلى حصر كل منهما بمجال، الواحد معرفي وضعي، عقلي تاريخي، والآخر إيماني اعتقادي أخروي" (3)، ويكون الدين شأنًا فرديًا وقلبيًا وعضدًا للأخلاق.

ثم يأخذ على هذا المشروع العلماني نكوصه، حيث غلب على المفكرين المصريين المتغربين تخفيف حدة العلمنة وتصريح بعضهم بالهجوم عليها، ومع ذلك فالكاتب لا يرى في ذلك حالة إيجابية، وإنما حالة طارئة لها ما يفسرها، مع أن المنطق يقول إن مواقف هؤلاء جاءت في وقت الحكمة والاعتدال وبعضهم في مكانة اجتماعية كبيرة لا يخشى من شيء فيكون، هذا هو الأقرب لاختيارهم وأقرب للصواب، والمؤلف هنا يعلي من الشذوذات الفكرية ويلمعها دليلًا على المصير السائر نحو العلمانية، فإذا جاء للأمور المبطلة لهدفه والناقضة له عرضها كحالات شاذة لا يعُتدّ بها وطارئة سيتجاوزها التاريخ.

والحقيقة أنه قد أنصف من نفسه عندما ذكر بعض صور النقد الموجهة له في أحد كتبه، أجدها مفيدة في هذا الباب، ومنها:

(1) المرجع السابق ص 229.

(2)

المرجع السابق ص 229 - 230.

(3)

العلمانية من منظور مختلف ص 230 - 231.

ص: 1185

- قول "رضوان السيد": "وقد جمع المؤلف -والحق يقال- مادة جيّدة؛ لكن المادة المجموعة انتقائية، والنتائج تعسفية. . . ."(1).

- ويقول: "وهو أخيرًا في عدائه للدين، والإِسلام على الخصوص، يقزم الدين إلى مجموعة من النصوص غير العقلانية، والميتافيزيقا، والطقوس والشعائر، التي هدفها الأول والأخير استغلال البشر. . . .، ولأن الدين هو كذلك عنده، فكل نشاط أو ازدهار حضاري، وكل تطور ثقافي أو سياسي "دنيوي"! في تاريخنا كله هو بالضرورة ضد الدين، ونشأ في مواجهة معه"(2).

- ومنها: "فأي طرف أيًّا كانت مقولاته أو تصرفاته، لا يتنكّر للإسلام هو مُدان. . . ."(3).

- ومنها: "الوصول إلى العلمانية العصرية لا يكون إلا بتحطيم قدسية النص الديني. . . ."(4).

- ويقول "وجيه كوثراني" أيضًا: "وأرى أن المؤلف قد ظلم كتابه عندما أقحم استنتاجاته وأحكامه في خدمة بعض الأقلام "اليساروية" و"العلمانوية" المعادية عقائديًا ومزاجيًا للإسلام وتراثه وتاريخه"، مع أن وجيه ليس من المعارضين للعلمانية (5).

لا شك أنه يعترض على هذه الردود، ومن السهل المكابرة، ولاسيّما مع من خاض في مجالات الإلحاد فما دونه يكون عنده أهون، وهي حالة قد أصابت أغلب اليساريين بعد سقوط دولتهم الأم حيث تميزوا من جهة بالانقلاب السريع نحو الرأسمالية مع هجوم حاد على الدين ولو بالأمور الملفقة، وأما الردود السابقة فهي تركز على أمرين:

الأول: أثر الأيديولوجيا على المؤلف مما يجعلها متحكمة في استدلالاته ونتائجه، وهي مقبولة مع من يرجع لركن يعتمد عليه من وحي السماء، وليست

(1) دنيا الدين في حاضر العرب، د. عزيز العظمة ص 148.

(2)

انظر: المرجع السابق ص 155.

(3)

انظر: المرجع السابق ص 155.

(4)

انظر: المرجع السابق ص 156.

(5)

انظر: المرجع السابق ص 166.

ص: 1186

مقبولة مع الأيدلوجيات إلا أن يكون الاستدلال بعيدًا عن الانتقائية، ولا تكون النتيجة واضحة من البداية، وإنما تكون فعلًا حصيلة أسباب وأدلة حقيقية متكاملة.

الثاني: الكُرْه البارز للدين، المعلن والمضمر، وهذا بارز في إعلائه من كل موقف إلحادي واهتمامه بكل سباب للدين، ولا شك أن لهذا علاقة بأيدلوجية المؤلف السابقة.

عندها لا تكون العلمانية حتى من باب التنزّل فصلًا بين المجالين الديني والعلمي للرقي بهما أو بأحدهما كما هو في التجربة الغربية، ولا تكون العلمانية رؤية جديدة قائمة على العقل والعلم بدل الرؤية القديمة القائمة على الدين، وإنما هي أداة لهدم الدين أو تحجيمه وفي المقابل تقديم أيدلوجيا جديدة في الساحة.

ومما يؤكد هذا المعنى أن مفهوم "العلم" الذي يريد فصله عن الدين لا علاقة له في الحقيقة بالمجال العلمي الذي يشتغل عليه العلماء في العلوم الرياضية أو الطبيعية أو حتى الاجتماعية، وإنما هو فلسفات تم إحياؤها أو إبداعها في الغرب الحديث توازي النشاط العلمي الذي عرفه الغرب، على العكس من ذلك فإن هذه العلوم لو تركت على طبيعتها لما حدث ذاك التوتر المزعوم مع الدين، وأمثلته الكثيرة التي حشى بها كتابه لا يوجد منها في الحقيقة شيء من العلوم العصرية الحيادية التي لم تقحم في صراع مع الدين من خلال الفلسفات والأيدلوجيات العلمانية التي عرفها الغرب، وبهذا لا يكون هناك مبرر لتحمسه للعلمانية تحت ذريعة الفسح للعلم؛ لأن ما يريد الدفاع عنه ليس هو العلم المعروف في دوائر العلوم الطبيعية وإنما هو من دوائر الأفكار والفلسفات المرتبطة عادة بظروف حضارية تختلف من عصر لعصر ومن مجتمع لآخر، فليس لها صفة الموضوعية والعمومية وليست ضرورة إنسانية، وإذا كانت كذلك فمن العقل وضعها في الموضع الذي تستحقه، أو تسمى الأمور باسمها بحيث يُقال: إن العلمانية هي لخدمة أيدلوجيات شاذة وليس لها أي علاقة بالعلم.

في هذا السياق المنافح عن اللادينية والمعارض للدين يأتي موقفه الرافض لأي جهد حضاري للمسلمين، ومن ذلك جهدهم في تجاوز الدور السلبي القائم على نقل العلوم العصرية من الغرب دون أي موقف إيجابي، ولاسيّما الجهد الثقافي الأشق وهو ما يصطلح عليه بـ"الأسلمة أو التأصيل الإِسلامي".

ص: 1187

يركز "العظمة" على التحليل التاريخي في رفضه لمشروع الأسلمة ببعده الماركسي، فالأسلمة -عنده- عبارة عن مشروع له ملابساته التاريخية الداخلية والخارجية، داخليًا يرتبط ببروز الإِسلام السياسي بعد الأفول النسبي للأفكار القومية (1)، ولها "بنيه تحتية" مؤسسية ومالية (2)؛ أي: أنها ظاهرة تجد تفسيرها في التحليل التاريخي المعاصر. وكذا الحال خارجيًا، فهناك إطار كوني جديد هو المحفز الخارجي لهذه الظاهرة وهو "ما بعد الحداثة" التي تعني إنجاز الحداثة في الغرب واكتمالها هناك وعدم إمكانيتها للآخرين لعدم قابليتهم لها، فتأتي إسلامية المعرفة تأكيدًا متخلفًا عن عدم مسايرة الحداثة (3).

والنتيجة من هذا التحليل هو التقليل من مشروع الأسلمة والانتقاص منه، ولكنه تحليل متسرع في تعميم النتائج، قد يكشف لنا التحليل التاريخي أسباب انتشار الصحوة الإِسلامية الهائل، ولكن ليس لهذا علاقة بمشروعاتها، فإن مسألة التأصيل ترتبط بالمنهج الإِسلامي منذ أن وجد الإِسلام، فما إن تعود الحياة للأمة وتحتاج إلى تأصيل قضايا جديدة حتى تجدها منخرطة في هذا العمل؛ لأنه من صميم الإِسلام، فالإِسلام يدعو إلى أن تكون الحياة كلها لله، ولذا تجد هذا الجهد التأصيلي مستمرًا ولا ينقطع، ولا يرتبط بمرحلة تاريخية. إذًا فالتحليل التاريخي ينقلب على صاحبه، إنه بمنطق العقل عليه وليس له، وهو إن أراد منه انتقاص المشروع الإِسلامي، فهو في الحقيقة يؤكد فاعلية الأمة وحيويتها وقدرتها على تجاوز التقليد الأعمى.

ولكن يبقى سؤال مهم قام بعرضه ومثّل عليه بأمثله، وهو: "ما الذي يستفاد من القول بالمعرفة الإِسلامية؟ وما الذي يجعل من الاقتصاد الإِسلامي اقتصادًا ليس كالاقتصاد؟ وما الذي يجعل من النعت الإِسلامي لعاديات الحياة ولعمليات الحس والوجدان نعتًا يفوق صفات الحياة والعقل ويتعالى عليها؟ وهل ثمة فائض معرفي يتبقى من التعيين الإِسلامي للمعرفة كما لفروعها كالطب والاقتصاد وإن وُسما بالصفة الإِسلامية إذا ما جردنا عن هذا التعيين قيامه على مشروع سياسي

(1) دنيا الدين في حاضر العرب، عزيز العظمة ص 52.

(2)

انظر: المرجع السابق ص 60.

(3)

انظر: المرجع السابق ص 52 ، 60.

ص: 1188

مباشر وعلى شهوة جامحة إلى السلطة؟ " (1)، ومن الأمثلة التي ذكرها: علم الاجتماع، فأكد أن أسلمته لا تفيد إلا "رفض علوم الاجتماع العالمية بحجة غرابتها وإجرائها حكم سنن المجتمع على الدين مما ينزع عنه صفة الوحي"، وعندما يضعون القرآن مصدرًا للمعرفة التاريخية فإنهم لا يراعون الوقائع التاريخية، فلا يوجد نقد تاريخي للنص ذاته، واستخراج قوانين اجتماعية من القرآن فيه تحميل للنص ما لا يحتمل، وتوضع الأمور الأخلاقية وكأنها قوانين طبيعية (2).

يحمل المقطع السابق تجاهلًا غير مبرر لنشاط إسلامي ضخم يجيب عن تساؤله حول فائدة الأسلمة، وهو الذي ألمح إلى كثرة الدول والجامعات والمراكز التي تبحث الموضوع ثم تجده يكتفي بهذا التقليل من قيمة هذا النشاط عبر تجاهل فائدته وأهميته. إن تساؤلات المقطع السابق هي أوضح في باب العلمنة وليس في باب الأسلمة، فالعلمنة ليست هي العلم وإنما هي إطار يعمل فيه العلم، ولذا لا تُساءل عادة عن الفائض المعرفي الذي تحققه العلمنة للعلم وإنما عن أثر الإطار في رعاية العلم وحيويته وتقدمه ونفعه، وهنا يقع المشروع الإِسلامي الضخم، إنه في إبدال الإطار العلماني بإسلامي، ويكفي هذا المشروع شرفًا أنه يزيل المشكلات التي أعاقت نموه في البلاد الإِسلامية، من أهمها إدخاله لبلاد المسلمين بمشكلاته مع الدين هناك، وهي مشكلات صنعها العلمانيون هناك وأراد المتغربون نقلها إلينا، فوقع التصادم فتعطل النفع الحقيقي بهذه العلوم وتعطل نموها وتطورها، فالاتجاه العلماني الذي شارك بقوة في نقل الحضارة الغربية مصمم على إدخالها بكل ما فيها، كل مجموعة بما سبق إلى أذهانهم من تصورات تيارات الفكر الغربي، وقد جاء الوقت الذي يجب فيه إيقاف هذه الفوضى، فإن النموذج الغربي ليس نموذجًا كونيًا مطلقًا يجب احتذاؤه حذو القذة بالقذة وإنما هو نموذج تاريخي ارتبط بوضع مأساوي مع الدين ولابد من تجاوزه.

ليس هنا مجال ذكر الفوائد المرجوة من مشروع التأصيل الإِسلامي

(1) انظر: المرجع السابق ص 53.

(2)

انظر: المرجع السابق ص 58.

ص: 1189

للمعرفة، فهي موجودة في كتب كثيرة تجاهلها المؤلف، وإنما المقصود بيان تهافت العلمنة في رفضها لمشروع أسلمة المعرفة، وإلا ففي المقطع دعاوى تكشف حقيقة موقفه، مثل: أن الأسلمة لا تعني إلا رفض العلوم العالمية، فهذا مما يستسخفه أي عاقل، فما رُفض منها إلا ما يعارض الدين وهو الذي لا يصدق عليه اسم العلم؛ إذ نجده خليطًا من الأفكار والآراء والأهواء. ومثل اعتراضه على صور التأصيل، ولاسيّما قوله بعدم وجود نقد تاريخي للنص، والنقد التاريخي هنا هو في الحقيقة النقد الماركسي الذي لا يؤمن بوحي.

ويبقى بعد ذلك في مشروع الأسلمة سلامة الاستدلالات وصحة الاستنباطات وقوة النتائج، فهذا باب اجتهاد المجتهدين، ومحل النظر والتصويب المستمر، فلا تعني الإِسلامية بأنها إجابات قطعية، وليست كل مشروعات التأصيل مما يقبله الفكر الإِسلامي، ومع ذلك -ومع التسليم بما سبق- فإن صاحب المقطع السابق غير مؤهل لنقد موضوعي في الأبواب الاجتهادية؛ لأنه في الأصل كاره للدين من خلال ما سطر في كتبه.

المثال الثاني: تأخذ العلمنة عند الدكتور "محمد أركون" معنى أوسع، فهو يراها "موقفًا للروح وهي تناضل من أجل امتلاك الحقيقة أو التوصل إلى الحقيقة"(1)، "العلمنة هي: موقف للروح أمام مشكلة المعرفة. بمعنى: هل يحق للإنسان أن يعرف أسرار الكون والمجتمع أم لا يحق؟ هل نثق بعقله في استكشاف المجاهيل وقيادة التاريخ أم لا نثق؟ هل هو قادر بواسطة عقله، وعقله فقط، على فهم الأشياء واتخاذ القرار أم غير قادر؟ هنا يكمن الرهان الأخير للمسألة في نهاية المطاف. فالبعض يقول: إن الإنسان بحاجة إلى قوة خارجية "فوق طبيعية" لكي تسيّره وتسير أموره. والبعض الآخر يقول: لا، إن الإنسان قادر بحدّ ذاته على تسيير أموره وحلّ مشاكله وتشكيل الصيغة الأجمل والأفضل للحياة في المجتمع. وفي الحالة الأولى نكون من أتباع الإنسية الدينية، وفي الحالة الثانية من أتباع الإنسية الحديثة. . . ." (2).

(1) انظر: العلمنة والدين - الإِسلام، المسجية، الغرب، محمَّد أركون ص 10، ترجمة هاشم صالح.

(2)

نقد واجتهاد، محمَّد أركون ص 278، ترجمة هاشم صالح.

ص: 1190

وهو يراها عقيدته بالمعنى الإيماني لكلمة عقيدة (1)، وكما يرى الباحث الجزائري "عبد الرزاق قسوم" بأن العلمانية عند "أركون":"هي الوسيلة العظمى أمام المجتمع الإِسلامي لتحقيق التقدم والحداثة"(2)، ويرى "أركون" بحسب الباحث نفسه "أن العقل الديني في الإِسلام يخنق البحث العلمي" ثم يرد على مقولته المشينة (3).

وتواجه هذه العلمنة عند "أركون" مسؤوليتين أولاهما: "كيف نعرف الواقع بشكل مطابق وصحيح؟ أي: كيف يمكن أن نتوصل إلى معرفة تحظى بالتوافق الذهني والعقلي لكل النفوس السائرة -بغض النظر عن اختلافاتها- نحو التوصّل إلى الحقيقة. . . . هذا يفترض من الباحث أن يتجاوز كل الخصوصيات الثقافية والتاريخية حتى الدينية -أي: أن يتجاوز حتى الخصوصية الدينية التي وُلد عليها"(4)، وثانيتهما:"بعد أن نتوصل إلى معرفة ما بالواقع، فإنه ينبغي أن نجد صيغة أو وسيلة ملائمة لتوصيلها إلى الآخر دون أن نشرط حريته أو نقيدها"(5)، فهذا المعنى الذي يعرضه "أركون" هو مشترك بين كل الدعوات، بل هو دعوة لأهل الدين، وهو دعوة لأهل الحق، ولكن العبرة هنا هي في المضمون، والمضمون تكشفه التطبيقات المختلفة، وهي في جوهرها توضح العلمنة الأركونية في حقيقتها، فهي لا تعني الفصل السلبي بين الدين والعلم الذي يُركز عليه في أغلب الكتابات، ولا تعني فقط رؤية جديدة تحل محل الرؤية الدينية مع إقصاء الدين وهجره وإغفاله كما هي حال العلمانية المتطرفة، وإنما هي تزيد على ذلك بأنها مهمومة بدراسة الدين من منظور علماني معاصر، فهي لا تنفصل عنه ولا تقصيه فقط، وإنما تريد إدخاله ضمن العمل العلماني، وهو عمل يأخذ مسارات مختلفة، وأهمها: البحث التاريخي والبحث اللغوي والبحث الاستشراقي والدراسة الاجتماعية ثم النقد الفلسفي، ويبرز فيها مثلًا تطبيقات للعلوم

(1) أين هو الفكر الإِسلامي المعاصر، محمَّد أركون ص 41، ترجمة هاشم صالح.

(2)

ابن رشد اليوم -الأصولية والعلمانية في الشرق الأوسط ص 16.

(3)

انظر: المرجع السابق ص 18.

(4)

العلمنة والدين .. ، محمَّد أركون ص 10.

(5)

انظر: المرجع السابق ص 11، وانظر: الإِسلام، أوروبا، الغرب: رهانات المعنى وإرادات القوة، محمَّد أركون ص 102، ترجمة هاشم صالح.

ص: 1191

الاجتماعية على الإِسلام تحت مسمى "الإنتروبولوجيا الدينية -نحو إسلاميات تطبيقية"(1)، أو "نقد العقل الإِسلامي"(2)، وأن روح هذه المنهجية "مقتبسة من كتاب عالم الإناسة الفرنسي روجيه باستيد: الإناسة التطبيقية" (3)، وفي ذلك يقول أركون: "وبحوثنا تسير في الخط نفسه" (4).

تصبح العلمانية بحسب الفهم الأركوني مفهومًا يراد منه إفساح المجال للمناهج السابقة حتى تدرس الدين، فالدين يدرسه أهله بطرقهم الخاصة أو يدرس بمناهج استشراقية وصفية باردة، ولكنه بقي بعيدًا عن المنهج اللغوي والتاريخي المعاصر، وأبعد عن العلوم الاجتماعية، فأهل الدين يرون خطورة على دينهم من تطبيق هذه المنهجيات والاستشراق عاجز أو كسول، وهنا يأتي مشروع أركون، ولكنه كمهتم بالدين ودراسته يجد الإطار المناسب هو العلمانية، فالعلمانية تحرر صاحبها من أي احتراز عند دراسة الدين وتعطيه الحق في تطبيق ما يشاء من منهجيات، ونجد مثاله في مبحث "الإِسلام والعلمنة" وفي فقرة "نحو ممارسة علمانية للإسلام" بأن هذه الممارسة تعني وضع الإِسلام ضمن "اتجاه الشك المستمر" الذي عرف بقوة في أوروبا القرن الثالث عشر/ التاسع عشر مع ماركس ونيتشه كنقد طال الدين والقيم، ولكن لم يظهر نقد للإسلام مع أن الإِسلام عند أركون مثل المسيحية، "كلاهما يشتغل بالطريقة نفسها. وإنما هو عائد إلى أن المجتمعات "الإِسلامية" لم تعرف أن تولّد حتى الآن فكرًا نقديًا كبيرًا تجاه تراثها الخاص كما فعل الغرب. إن عملًا كهذا لا يوجد في الإِسلام، أو بالأحرى أنه يكاد يشرع في الوجود"(5).

وحتى تبرز العلمنة بهذا المفهوم الأركوني فهي في حاجة إلى "حداثة فكرية وعقلية" تعضد التغيير السياسي والاقتصادي، وإلا فلن تنتشر ولن تعرف إيجابياتها ولن تظهر "مجابهة خصبة بين الرؤيا العلمانية للعالم والرؤيا الدينية للعالم: أي

(1) انظر: تاريخية الفكر العربي الإِسلامي، محمَّد أركون ص 51، ترجمة هاشم صالح.

(2)

انظر: نقد العقل الإِسلامي عند محمَّد أركون، د. مختار الفجاري ص 19 وما بعدها.

(3)

المرجع السابق ص 21.

(4)

انظر: تاريخية الفكر العربي الإِسلامي ص 275.

(5)

المرجع السابق ص 295، وانظر له: معارك من أجل الأنسنة. . . . ص 267 وما بعدها، ترجمة هاشم صالح.

ص: 1192

بين طريقين مختلفين في الإدراك والوعي والتفكير والعمل والخلق والمعرفة" (1).

ويعترض أركون على المفهوم القديم للعلمنة القائم على استبعاد الدين وإهماله مع دفاعه عن نجاحه في الفصل بين "الكنيسة والدولة" وذلك أن هذا العمل لم ينجح، والدليل مثلًا في البلاد الإِسلامية التي طبقت المفهوم بشكل جذري "تركيا وتونس" ومع ذلك تظهر فيها "حركات سياسية دينية" ناجحة، ولذا فهو يدعو إلى إعادة النظر في العلمانية من جديد "عن طريق إعادة التفكير بمسألة العامل الديني والعامل الدنيوي بصفتهما بُعدين لا يتجزّآن من أبعاد الإنسان"(2)، ويدعو إلى الاهتمام بالدين بالصورة المذكورة سلفًا:"التعليم الديني الذي ندعو إليه ليس هو ذلك التعليم العقائدي أو الشعائري السائد في المعاهد والأوساط التقليدية. وإنما هو بكل بساطة تعليم علماني لتاريخ الأديان؛ أي: تعليم حديث يتقيد بالوقائع التاريخية وبأحدث المناهج التاريخية"، وهذا التعليم لا يوقظ المذهبية والطائفية وإنما ينمي الحس النقدي وإدراك نسبية العقائد الدينية ويمكنهم الخروج من مذاهبهم الضيقة، ويكتشف الطالب مدى تشابه الشرط البشري على الرغم من التجليات المختلفة للأديان والتقديس، ولا يعود التلميذ يعتقد أنه هو وطائفته في الجنة فقط، ومع ذلك فهي مرحلة تالية تعقب العلمانية القديمة (3).

إذا كان الموقف الأيدلوجي لأركون واضحًا من جهة التصور والحياة والمصير وهو ما لا يُبحث هنا إلا أنه في موقفه من العلمانية نجده متوترًا متذبذبًا، صحيح أنه يخاطب الغرب بخطاب والمسلمين بخطاب، ولكن الأمر فوق ذلك، إنه فعلًا يكشف عن أزمة عند المفكرين الغربيين، فالعلمانية الضخمة التي عرفها الغرب لم توصلهم إلى حلّ جذري أمام مشكلات وجودية إنسانية، ولهذا نجد هذا النكد ونجد هذه الظواهر -التي يعترف بها أركون ويكرر ذكرها- في الغرب من بروز روحانيات شاذة وعجيبة وذهاب بعضهم إلى الديانات الوثنية في الشرق، ليست المسألة هنا أن الغرب قد شبع من العلمانية ويبحث عن موضة بقدر ما هي أزمة يعبر عنها القرآن:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا}

(1) الفكر الإِسلامي قراءة علمية، محمَّد أركون ص 181، ترجمة هاشم صالح.

(2)

الفكر الإِسلامي نقد واجتهاد، محمَّد أركون ص 278، ترجمة هاشم صالح.

(3)

انظر: الإِسلام، أوروبا، الغرب. . . . ص 209.

ص: 1193

[طه: 124] ، ولكنهم يرفضون الاعتراف بهذه الأزمة الروحية، ونجد هذا المعنى مضمرًا بكثرة في كتابات أركون ومصرحًا به أحيانًا، ومن بين ما نجده من كلامه قوله:"إن التعليم العلماني للظاهرة الدينية، كما أتصوره وأمارسه في جميع دروسي ومحاضراتي عبر العالم، ينبغي ألَّا يقبل إطلاقًا بإعادة إدخال التعليم الديني التقليدي إلى المدارس. هذه نقطة ينبغي أن يتفق عليها الجميع وبطريقة فكرية وعلمية لا مرجوع عنها. ينبغي أن نتبع منظورًا آخر مختلفًا تمامًا. والشيء الجديد حقًا في هذا المنظور، بل والحديث والتحريري المثري هو أن نعيد للأديان حقيقة مقاصدها، ووظائفها التاريخية، وإسهاماتها الثقافية، وطاقتها الإلهامية. وهذه المكانة والوظائف التي احتلتها الأديان سابقًا لم يعوّض عنها حتى الآن من قبل أي شيء آخر. فلا النزعة الأدبية والتجريدية التي هجرت الآن وبحق استطاعت أن تعوض عنها، ولا العقل التلفزي -التكنلوجي- العلمي الذي يقود حركة العولمة الحالية استطاع أن يغنينا عنها. بل إن هذا الأخير أكثر عجزًا من غيره عن القيام بذلك. إن مهمة أنْسَنة الإنسان لا تنتهي أبدًا، وكذلك مهمة السيطرة على العنف، والتحكم بالمخيالات الجماعية، ورفض الشموليات الاستبدادية الملتبسة بلباس العلم أو الأديان. . . . وهكذا نرى أنه ضمن هذا المعنى فإن كلمة العلماني اخترعت في ظل الصراع على السلطة أكثر مما هو صراع على المعنى. أقصد الصراع الذي جرى في القرن التاسع عشر بين الكنيسة والدولة في فرنسا. وبالتالي فإن هذه الكلمة لم تعد كافية الآن. ويمكن القول بأنها أصبحت خادعة، بل وحتى خطرة ضمن مقياس أنها تقوم بنوع من الاستبعاد والحذف. . . ."(1)، والتدريس العلماني للدين يواصل حظر تعليم العبادات والعقائد "وإنما الشيء الجديد والحديث فعلًا هو أن نكشف عن حقيقة أهداف الأديان، وعن وظائفها التاريخية، وعن منجزاتها الثقافية، ومكانتها التي لم تستطع أية نزعة إنسية حديثة أن تملأ الفراغ الذي خلّفته حتى الآن بشكل كامل، أقصد بمكانتها هنا تلك المهمة التي لا تنتهي أبدًا بالنسبة إلى الإنسان، والتي تكمن في أنْسَنَة الإنسان والسيطرة على العنف وضبط المتخيّلات الجماعية ورفض الأيديولوجيات الاستبدادية والتوتاليتارية التي تتلبّس بلباس

(1) معارك من أجل الأنسنة. . . . ص 290 - 291.

ص: 1194

العلم والأديان أيضًا" (1).

وإن كان مترجمه وشارح أفكاره يوضح أن أركون مع اعترافه بهذه المشكلات التي جلبتها العلمانية، ولاسيّما ذاك الفراغ المخيف إلا أنه بسبب عقيدته العلمانية يرفض الدين، يقول الشارح:"يقصد أركون بأن الفلسفات الحديثة التي حلّت محلّ الأديان في المجتمعات الأوروبية، لم تستطع أن تقدم المعنى المطلق أو الممتلئ الذي كان يقدمه الدين في العصور الوسطى. وهذا هو سبب الإحساس بفقدان المعنى والغائية وانتشار العدمية في أحدث المجتمعات الأوروبية. ولكن الحل لن يكون في العودة التقليدية إلى الدين. فهذا شيء غير ممكن وغير معقول. وإنما الحل بالنسبة إلى أركون هو في البحث عن صيغة جديدة للعلمنة الروحية أو للإنسية الروحية من خلال الدراسة المقارنة لكل التجارب الروحية في كل المجتمعات البشرية. وهذا هو المنظور الإنتربولوجي الواسع لدراسة الأديان"(2).

إن هذه النصوص تفضح فكرهم وتكشف تناقضه، فمع الاعتراف بعمق الأزمة العلمانية، إلا أنه يرى الحل بتعميق العلمنة والاستمرار فيها وترك ما جاء به الأنبياء من رب العالمين والارتماء في فلك دراسات معلمنة إلى العمق مثل الإنتربولوجيا، وهذا يعني مزيدًا من ذاك الفراغ والضياع والبقاء في عالم الضنك الذي لا يرتفع إلا بالدين الحق.

نجد في هذا النص اعترافًا بأزمة العلمانية، فهي أوصلتهم إلى صحراء قاحلة، ولم تنفع البدائل المقترحة من قبل العقلية العلمانية، فلماذا الإصرار عليها وهذه هي نتائجها؟!

وفي المقابل نجد في النص اعترافًا بمكانة الدين والحاجة إليه، ولكنه يرى أن المناهج القديمة غير قادرة على تفعيل دور الدين، ومن هنا تأتي دعوته لدراسته دراسة علمانية، ولكن أليس من التناقض أن ندرس الدين بمناهج ثبت في مجالها فقرها وإفقارها للجانب المعنوي من حياة البشر، فكيف حالها عندما تطبق على الدين!

(1) أين هو الفكر الإِسلامي المعاصر ص 42.

(2)

المرجع السابق ص 51 هامش (ش).

ص: 1195

ثم هو وبتحليل جيد يكشف خداع مصطلح العلمانية، بالفعل هو كذلك، لأنه خادع في مسماه وخادع في عمله، ولاسيّما عندما استولى عليه طائفة من الملحدين ووظفوه في صراعهم ضد الدين، فكيف لمصطلح أن يقدم خدمة للإنسان وهو الذي أدى إلى صور الأزمات السابقة!

المثال الثالث: يتميز الدكتور "فؤاد زكريا" بانتمائه لاتجاه يهتم بالعلم والعلمية، وفي الوقت نفسه مدافع مشهور عن العلمانية ومحارب شديد للاتجاه الإِسلامي، مما يجعل الباحث عن حجج لعلمانية العلم يتوقع أن يجد عنده ما لا يجد عند غيره بسبب كل هذه المميزات، ولكن يظهر أن اندفاعه للعلمنة وخوضه معارك تبرير وجودها قد جرّته إلى أقوال ومواقف مخالفة للعقل والحكمة حتى في بعض الأمور الواضحة.

لقد جمع كل ما يستطع من أساليب وحجج وأدلة للإقناع بأهمية العلمنة، وأن التقدم مرتبط بها، وبما أن العلمنة مفهوم واسع عنده فأكتفي بما له صلة بموضوع علمنة العلم، وبما له صلة برفض مشروع التأصيل الإِسلامي للعلوم.

يرى "زكريا" بأن العلمانية ضرورة حضارية، ويقدم لهذا الاعتقاد كل ما يسانده، ولكنه يواجه مجتمعًا لم يصدق بهذه الضرورة، وهو يركز على أثر الاتجاه الإِسلامي في مهاجمة العلمانية، ويحلل في المقابل دور العلمانيين في علمنة المجتمع، ليميز بين مرحلتين: مرحلة القوة ومرحلة الضعف، المرحلة الأولى جاءت أول القرن العشرين (14 هـ)، فترة انبهار المفكرين العرب بالغرب وتأكيدهم تبعًا لذلك "أن الخلاص من تخلف القرون الوسطى. . . . لن يتحقق إلا بأخذ النموذج العلماني الأوروبي بكل عناصره"(1)، وقد كان غالبهم من النصارى، ثم جاءت مرحلة الضعف للعلمانية بعد بروز الاتجاه الإِسلامي، عندها أصبحت العلمانية في حالة دفاعية، في وقت اتساع نشاط الحركة الإِسلامية "من مجرد دعوة تستهدف تقوية الدور الذي يلعبه الدين في حياة الأفراد، إلى المناداة بتوجيه المؤسسات ذاتها. . . . وإخضاع كافة أنظمة المجتمع لسلطة الدين. . ."(2)، وهكذا يتحول العلمانيون من نشر العلمانية إلى مقاومة التيار الإِسلامي، وهو تيار

(1) الصحوة الإِسلامية في ميزان العقل، د. فؤاد زكريا ص 47.

(2)

انظر: المرجع السابق ص 48.

ص: 1196

خليط يضمّ اليوم "القومي واليساري والليبرالي والمثقف غير المسيس"(1).

وكعادة المدافعين عن العلمنة يخفون الأسباب الحقيقية للقوة أو الضعف، فإن سبب القوة في المرحلة الأولى لا علاقة له بصدق العلمانية وصحتها، وإنما هو عائد إلى رعاية الاستعمار لطائفة من النصارى المتعلمنين، وعندما زال الاستعمار انكشفت أمام المسلمين بزيفها، ولاسيّما بعد النقد الإِسلامي الذي عرّاها وكشف أنها كانت أداة بيد المستعمر لهدم مقومات الأمة، ولهذا تحولت في المرحلة الأخيرة إلى الدفاع، ومع ذلك فليس سبب ضعف العلمانية هو فقط في فقد السند المادي لها، وإنما في فقد المبررات المنطقية؛ لأننا لا نقوّم الأفكار فقط بسبب وجود مؤيد لها كان موجودًا ثم فقد، وإنما الأهم ما تقدمه من مبررات لوجودها، وقد اجتهد "زكريا" في تقديم الكثير من ذلك، ومنها ما كان في مجال علمنة العلم.

نقف الآن مع خمس قضايا أثارها "فؤاد زكريا" حول العلمانية وعلمنة العلم، وتأتي أهميتها في دائرة الفكر العلماني من المكانة التي أخذتها العلمانية عند زكريا، وهذه القضايا هي:

1 -

العلمانية ضد الاستعانة بالسماء لطرف ضدّ آخر.

2 -

العلمانية لا تعني المادية أو اللادينية.

3 -

العلمانية ضد السلطة الدينية "الكنيسة وشبيهاتها".

4 -

العلمانية تعني الخروج من العصور الوسطى المظلمة.

5 -

العلمانية ضد إسلامية المعرفة.

1 -

العلمانية ضد الاستعانة بالسماء لطرف ضدّ آخر:

يقول "زكريا" في هذه: "يؤكد العلمانيون أن إقحام "السماء" أو الاستعانة بها من أجل تغليب طرف على طرف يشوه جميع القضايا ويعطل حلولها ويضع الصراعات كلها في إطار زائف. . . . وكل ما يريده العلمانيون هو أن ينزل كل طرف إلى ساحة الصراع وهو معترف بأنه يمثل وجهة نظر بشرية تحتمل الصواب أو الخطأ، وأن يدور هذا الصراع على أساس البقاء للأصلح عقلًا والأكثر إقناعًا

(1) انظر: المرجع السابق ص 48، وانظر: الأسس الفلسفية للعلمانية، عادل ظاهر ص 5.

ص: 1197

والأقدر على الحل، لا على أساس أن "السماء" تنحاز إلى طرف واحد دون الآخرين" (1).

يصور "زكريا" الاتجاه الإِسلامي وكأنه يدخل معركة مع خصم ويستخدم الدين معينًا له في تحقيق معركته من بين أمور يستعين بها، بينما الاتجاه الإِسلامي يدخل بالإِسلام ذاته ومن أجله وعلى أنه الأصلح للخلق والأكثر إقناعًا لمن سلم من الهوى والأقدر على الحل، الاتجاه الإِسلامي لا يتخذ الإِسلام كمطية ووسيلة لتحقيق مكاسب أو مآرب كما وقع من الكنيسة مثلًا، فقد أخبر تعالى عن حال الأحبار والرهبان بأنهم أصبحوا أربابًا من دون الله، وأنهم اشتروا بآيات الله ثمنًا قليلًا (2)، فيصدق في حق هؤلاء استغلال الحديث باسم السماء من أجل إضلال الخلق أو ظلمهم، ولكنه يصبح انحرافًا عندما ينتقل هذا الحكم على الإِسلام الذي يقوم على الهداية والعدل والحق، فإن الاستعانة به هي عين الحق، وهذا لا يمنع اشتغال العقل الإِسلامي في معالجة مشكلات عصره أو تطوير أوضاع قائمة أو ابتكار الجديد، وأن تتنافس العقول في ذلك، وفيها الصواب والخطأ والنافع والأنفع والحسن والأحسن، ويقع التنافس بينها، ويكون منها الأقرب للصواب والأنفع للخلق، وقد يقع من المجتهد الخطأ فله أجر اجتهاده ما دام أن ذلك في مجالات لم يقطع الدين فيها بشيء، وما أوسع المجلات التي أمام العقل، ولكن هؤلاء يتركونها ويذهبون إلى ما قُسم أمره من رب العالمين ويريدون وضعها تحت البحث والاختلاف والجدل.

2 -

العلمانية لا تعني اللادينية ولا تعني المادية:

يفترض العقل من مدعي العقلانية بيان ما في المفهوم من حسنات وسيئات، ولاسيّما مع مفاهيم نشأت في بيئات ذات صراع طويل مع الدين، ومن ذلك العلمانية، ومع ذلك فلا نجد لها عند "زكريا" أية سلبية، بل هي مفهوم إيجابي دون عيوب. وعندما واجههم الاتجاه الإِسلامي بمشكلتها اللادينية وبجوهرها المادي، اجتهد في تبرئتها من ذلك، مع أن دعاتها في الغرب إنما يركزون على روحها اللادينية، أما مسألة الفصل بين الدين والدنيا على أنها عملية

(1) الصحوة الإِسلامية في ميزان العقل ص 50.

(2)

انظر: ما كتب حولها أول هذا المبحث.

ص: 1198

حيادية ولا تعني اللادينية فهو زعم بارد لا حقيقة له، فإن باحثًا أعقل من زكريا يُثبت تطرف العلمانية في الغرب، وأنها الآن في طور تشكل جديد تحاول فيه إعادة الاعتبار للجانب الروحي من الإنسان، ولكن بسبب لادينية العلمانية فإنها ترفض أن يكون طريق إعادة الاعتبار عن طريق الدين (1).

يتهم "زكريا" الاتجاه الإِسلامي بأنه يستخدم "اللادينية والمادية" من أجل تشويه العلمانية، وإلا فالحقيقة أن العلمانية لا تعني الأمرين بحسب زعمه، وإنما تعني الزمانية، وكيف يقال: إنها لادينية مع أن العلماني في الغرب مثلًا يتزوج في الكنيسة والعلماني المسلم يتزوج بوثيقة شرعية (2)، ثم يقول: هي لادينية فعلًا إذا كان المقصود إبعاد الدين عن التنظيم السياسي في المجتمع بينما لا يعني ذلك رفض الدين (3)، والسياسي هنا يشمل جميع مناشط الحياة باستثناء الجانب الشخصي القلبي أو الروحي بحسب ما عرضه من أمثلة في كتبه.

والحقيقة أنه هنا قد قزم الدين كثيرًا، حتى جعله لا يكاد يرى، ثم حصره في مكان ضيق، وترك الحياة بعد ذلك لغير الدين، ولا أدري هل يوجد ما هو أبلغ من هذا في جعل العلمانية لا دينية إذا كانت بمثل هذه الصرامة مع الدين. إذا كان الاتجاه الإِسلامي بحسب زكريا هدفه تشويه العلمانية باستخدام مصطلح اللادينية؛ فإن زكريا يكذب على العلمانية عندما يبرئها مما لا تتبرأ منه، إن التركيز عند البعض على جعل العلمانية هي الفصل بين الدين والسياسة، فإنما هو يتحدث عن جزء من العلمانية ولا يتحدث عن العلمانية، إن العلمانية هي في الحقيقة رؤية لادينية جديدة، ولا عبرة في تنوع المصطلحات من زمانية أو العالم أو الدنيوية وإنما العبرة في روحها ورؤيتها. فإنها في المقام الأول لم تأت إلا كصراع مع الدين، وضد الدين، وهي لم تأت للدفاع عن دين جديد أو استبدال القديم بآخر، ولكن أيضًا لن تستطيع بسهولة منع الدين جذريًا، لهذا يبقى مثل هذا التلاعب العلماني بإبقاء مساحات غير مهمة يشغلها الدين.

(1) انظر: كلام "أركون" السابق في المثال الثاني، وانظر: إدراك بعض الغربيين الجوانب المظلمة للتجربة العلمانية، العلمانية تحت المجهر، د. عبد الوهاب المسيري ص 144.

(2)

انظر: الصحوة الإِسلامية. . . . ص 55 - 56.

(3)

انظر: المرجع السابق ص 56.

ص: 1199

يأتي في هذا السياق مناقشته لبعض الكتابات الإِسلامية، ومن ذلك نقده لـ"أنور الجندي" عندما قال: إن العلمانية هي ترجمة لـ (secular) وتعني لاديني. فصححها بأنها تعني زمني، ثم قال:"وهكذا يبدأ مفكرنا كتابه الكبير بتشويه أساسي"(1). فلنفرض وجود خطأ في الترجمة الحرفية إلا أن المهم هو الترجمة الاصطلاحية، وفي المعاجم الغربية أنها اللادينية كما في معجم ويبستر، وفيه علماني "دنيوي أو لاديني - pagane worldlg "(2) ، ولهذا لا نظن أن في المسألة ذاك التشويه الذي يعيق صحة النتائج، وهي أنها في جوهرها لادينية، فأحيانًا لا يهم أصل الكلمة، وإنما المهم هو المفهوم السائد الآن، وهو مفهوم يركز على دنيوية دون دين، ولهذا تُعرف بأنها دنيوية أو زمانية أو من العالم وهذا ما يراه الاتجاه الإِسلامي مشكلتها الكبرى.

على العكس من ذلك فإن ما أخذه "زكريا" على "الجندي" ينطبق على تعريف زكريا أكثر مما ينطبق على الجندي، فإن زكريا عند تعريفه لها بيّن أنها -وإن لم تكن ذات صلة بالعلم حيث الراجح أنها زمانية-، إلا أنه عاد ليربط بينها وبين العلم، ليجعل منها صديقة للعلم، ويربط بين تقدم العلم وتحقق العلمانية، فلما جاء من يربط بين العلمانية واللادينية نفر من ذلك، مع أنها في السياقات الغربية تُربط بالأمرين؛ أي: بالعلم وباللادينية، وإن كان المدقق يعلم أن ذلك غير مُسلّم به بإطلاق، فهو في حاجة إلى تحليل أعمق؛ لأن السياقات الغربية غلب عليها نجاح الاتجاهات العلمانية، فهي من يكتب التاريخ الغربي المعاصر، ولذا فهي تكتبه كما تريد، وتقصي الحقائق المزعجة لها، ولذا فالأقرب أن الكاسب من العلمانية إنما هو اللادينية وليس العلم، والعلم وإن تقدم في الغرب فقد التصق به مشكلات كثيرة بسبب تقدمه في إطار علماني. أما العلم فقد تطور في بيئات متدينة وأخرى علمانية مما يعني أن العلمانية ليست شرط العلمية ولكن الإلحاد الصرف ومحاربة الدين من جهة الفكر لم يبرز إلا مع سيادة العلمانية، لهذا يصل الاتجاه الإِسلامي إلى النتيجة المعقولة: أن العلمانية هي لادينية في جوهرها، وأنها تمثل خطرًا على المناشط الإنسانية بما فيها

(1) المرجع السابق ص 57.

(2)

انظر: جذور العلمانية، د. السيد فرج ص 109.

ص: 1200

العلم، وإن تجربتنا الإسلامية المعاصرة إن أرادت السلامة من ثمارها النكدة في الغرب فعلينا بإبعاد العلم عن العلمانية.

أما تبرئته العلمانية من المادية فهي حتى عند "زكريا" تبرئة غير كاملة، فهو يعترف أن الاتجاه المادي قد أسهم في تكوين الفكر العلماني، ولكن يقابله في الغرب الاتجاه المثالي، وهو الأكبر والأشهر في الغرب، كما أن في الغرب إنتاجات روحية هائلة للفنانين والشعراء والأدباء وحتى مكتشفي العلوم، فكيف نطمس كل هذا (1)؟!

ومع اعترافه بأن المادية جزء من العلمانية، إلا أنه يتهم بعض المفكرين المسلمين إما بجهلهم أو بمغالطتهم إن كانوا غير جاهلين، والأصوب أن الفكر الإسلامي لا يجهل هذه التصنيفات في تيارات الفكر الغربي بين مادي ومثالي أو غيرها، وإنما الوصف هنا عندما لا يُراد منه التفصيل فيأتي بالأعم والأبرز، والبارز في العلمانية هو ميلها المادي، أليست تُعرّف بأنها الدنيوية؟ والدنيا يغلب عليها المادي، ليس عنصرًا فحسب، وإنما رؤيةً وروحًا عامة تسود تلك المجتمعات، حيث غفلوا عن الدين والآخرة واكتفوا بهذه الحياة الدنيوية حتى مع المثاليين منهم، فهي مثالية في إطار الحياة الدنيوية فقط.

3 -

العلمانية ضد السلطة الدينية "الكنيسة وشبيهاتها":

يستخدم التيار العلماني مفهوم السلطة لأنه يجده منفرًا، فالناس لا يحبون من يتسلط عليهم، لهذا يستخدمونه بكثرة، وقد جاء هذا في سياق نقاشه لموقف السلطة الدينية من العلم، حيث وجدت أوروبا مشكلتها بين الكنيسة الممثلة للسلطة الدينية وبين العلم، ولم تُرفع هذه المشكلة إلا بالعلمانية، وقد فنّد الاتجاه الإسلامي طريقة إسقاط المتغربين مشكلات مجتمعات أخرى على المجتمع الإسلامي، فالإسلام لم يعرف كنيسة متسلطة وعلماء الإسلام وقفوا مع الحق والعدل والعلم في كل عصر، وهذا العنصر بالذات هو أكبر مبرر قدمه الغرب للعلمانية في سعيهم لتخليص أوروبا من تسلط الكنيسة، وهي حالة واضحة ولا يوجد شبيه لها في العالم الإسلامي.

(1) انظر: الصحوة الإسلامية. . . .، ص 56 - 57.

ص: 1201

عندها ينبري "زكريا" رافضًا هذا التفريق بين العالمين، وأن ما في الغرب موجود في العالم الإسلامي، معتمدًا على شواهد شاذة لا تصلح أن تكون دلالة على ظاهرة أو ذاكرًا لشواهد أخرى، الحق فيها لخصوم العلمانية، ولهذا فإن هذا العنصر بالذات سيبقى جدارًا في وجه دعاة العلمانية: بأن المبرر التاريخي في الغرب للعلمانية غير موجود في الحضارة الإسلامية، وكل مقارنة هي مكابرة إن ادعت التشابه، وهي تسقط قيمة الحجج وصاحبها، وهذا ما يؤكده سياق زكريا هنا، فهو يدافع عن التشابه بين الأمرين، ويستشهد على ذلك بشاهد تاريخي وشاهد معاصر، فالقديم ما حدث من اضطهاد للمعتزلة و"ابن رشد" و"السهروردي" و"الحلاج"، والمعاصر ما نجده "في تعامل رجال الدين الإسلامي مع كثير من النظريات العلمية والفكرية الحديثة. فما زال دارون وفرويد حتى اليوم موضوعين في القائمة السوداء لدى جميع المفكرين الإسلاميين، وبخاصة رجال الدين منهم، وما تزال تعاليمهما ونظرياتهما تُلعن كل صباح ومساء على أيدي أشخاص لم يقرؤوا عنهما إلا ما كتبه شركاؤهم في الفكر. بل إن مجرد الإشارة إلى اسميهما، ومعهما ماركس بالطبع، يُعد من المحرمات في أكثر البلاد تمسكًا بالتعاليم الشكلية للإسلام. . . ."(1).

فلنتأمل الآن في مغالطات هذا النص، والذي يُكرر عادة عند دعاة العلمانية، إن رجعوا إلى الماضي رجعوا إلى اضطهاد "المعتزلة" و"الحلاج" وأمثالهم، وإن بحثوا في الحاضر بحثوا في موقف الفكر الإسلامي من "داروين" و"فرويد" و"ماركس"، ولكن أين هي المؤسسة الدينية المتسلطة؟! وأين هو العلم؟! فإنك إن بحثت في الأمرين وجدت أحدهما غائبًا، بخلاف الغرب، فالكنيسة ذات سلطة واضحة وتراتيب معينة مع جهل وظلم، والعلم واضح مع علماء العلوم الرياضية والطبيعية، والصراع بينهما واضح، فهذه مغالطة واضحة. ونزيد من الكشف لتلك المغالطات ببيان أهمية التفريق بين تدخل محمود وآخر مذموم، بين تدخل بالحق والعدل والعلم وبين تدخل يكون بالجهل والكذب والظلم، فالثاني يمنع حتى وإن جاء باسم الإسلام -والإسلام منه براء- كأن توجد هيئة دينية إسلامية نُصّبت دون أن تملك المؤهلات، أما

(1) انظر: المرجع السابق ص 67.

ص: 1202

إذا كان الاعتراض على طائفة أو على فرد أو فكرة بشيء يقرّه الإسلام ويكون على أمر مخالف له، فهذا ليس من الاعتراض على العلوم والمعقولات الصحيحة؛ ولهذا فإن المسلم يقبل العلم النافع ولا يُكذّب العلوم الصحيحة، حتى وإن جاءت من غير المسلمين، ولكن لا يعني هذا قبول كفر الكافر وإلحاده بحجة أنه عالم، ومن هذا رفض الفكر الإسلامي لـ"تعاليم" داروين وفرويد وماركس، فهي فعلًا من التعاليم بحسب اصطلاح زكريا وليست من العلوم، وإلا فالمسلم يقبل النافع ويصدق بالصحيح من علم الأحياء أو من علم النفس أو من علم الاقتصاد، والثلاثة لهم جهود في هذه العلوم، إلا أن ذلك لا يعني أن يقبل المسلمون لا دينيتهم أو إلحادهم بحجة مشاركتهم في هذه العلوم، فإن التعاليم الإلحادية التي ميزت فرويد وماركس ليست من العلم حتى يقبلها الفكر الإسلامي.

إن تحكيم الإسلام في الحياة وجعل الوحي مصدرًا ومعيارًا لا يُعد من قبيل تدخل سلطة الكنيسة، وإنما هذا من كمال الإيمان بالله سبحانه والتصديق بأن قوله سبحانه هو الحق وأنه المصدر وأنه المعيار والميزان، ورفض تعاليم داروين وفرويد وماركس، ليس لأنها من العلوم الصحيحة، وإنما بسبب الإلحاد الذي مدّ جذوره في تعاليمهم فجعلها مظلمة.

4 -

العلمانية تعني الخروج من العصور الوسطى المظلمة:

لهذا المعنى صلة بالمعنى السابق، فكما يحرص هؤلاء على مقارنة وضع الكنيسة بوضع الإسلام، فهناك مقارنة بين العصور الوسطى المظلمة في أوروبا بالعصور الوسطى المشرقة عند المسلمين، يصرّون على التسوية بين المختلفات، ولكن ماذا يُقصد بالعصور الوسطى التي نجحت العلمانية في إخراج الناس منها؟ وهل فعلًا يعود الفضل إلى العلمانية؟ العصور الوسطى هي أسلوب في التفكير يقوم على الاستشهاد بما في الكتب المقدسة أو بما ورد على ألسنة شخصيات مشهورة في الماضي، إنها سلطة النص أو سلطة القائل المشهور (1). وهذا عند المسلمين لا يكون إلا لكلام الله سبحانه ولكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فالكتاب المقدس

(1) انظر: المرجع السابق ص 69.

ص: 1203

هو القرآن والشخصية التي يرجع إليها المسلمون هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان زكريا لم ينصّ ولكن قد يكون الإضمار أحيانًا أبلغ من الإفصاح، وهو يقول قياسًا على الحالة الغربية:"ألسنا في عالمنا الإسلامي المعاصر محتاجين إلى من يقول لنا، كما قال كبار مفكري عصر النهضة وأوائل العصر الحديث لمعاصريهم: إذا كانت الطبيعة أمامكم، ومشاكل الناس والعالم أمامكم، فلماذا ترجعون في كل شيء إلى النصوص؟. . . ."(1).

هنا لابد من التفريق بين العودة إلى نصوص وبين العودة إلى الوحي، وبين العودة إلى أشخاص وبين العودة للنبي صلى الله عليه وسلم، واقتحام الطبيعة ودراستها ومواجهة مشاكل الناس والعالم ودراستها لا تمنع من العودة إلى الوحي؛ فالوحي عند المسلم مصدر المعرفة والتوجيه والعمل، فما كان فيه فهو الكفاية، وكل بحث في غيره بعد ذلك ضلال، وأما الجانب الدنيوي من علوم الطبيعة وغيرها فهي مجال إعمال العقل بكل حرية، المهم أن يكون هذا الإعمال في إطار التصور الإسلامي للكون والإنسان والحياة ومنسجمًا مع أخلاقه وقيمه، المرجعية العليا عند المسلم هي الوحي وليس هذا بمعنى تدخل الكنيسة؛ فإنها تدخلت بالباطل والجهل والظلم؛ ولذا يجب دينًا وعقلًا إيقافها عن عبثها، ولكن ليس البديل هو استبدال الكنيسة الدينية الضالة بكنيسة علمانية تتدخل بالجهل والظلم وتحرم الناس من النور والحق.

وهنا تسقط النتيجة الفاسدة التي توصل إليها "زكريا": "تكون العلمانية ضرورة لازمة لكل مجتمع يتراجع فيه التفكير المستقل ويحل محله التفكير العاجز الذي يرتكن دائمًا على مصدر خارجه"(2)، وسبب سقوطها أن الارتكان إلى ركن متين ليس طريق العاجز، وإنما طريق الواثق بدين الله والواثق بكلام الله سبحانه، والتفكير المستقل جملة زائفة حيث لا يوجد تفكير مستقل، والمطلب هو الفكر السليم الذي يستند إلى دليل من الخبر أو الحس أو العقل، وأعلاه ما استند إلى الخبر الصادق من الوحي، وما لم يكن كذلك فهو فكر ينزلق في لجج الهوى ولا نجاة له إلا بنور الوحي.

(1) انظر: المرجع السابق ص 71.

(2)

انظر: المرجع السابق ص 72.

ص: 1204

5 -

العلمانية ضد إسلامية المعرفة:

يرفض المدافعون عن علمنة العلم مشروع إسلامية المعرفة، وهو رفض مفسر في ظل التصور العلماني عن الدين وعلاقته بالحياة، ولذا يكتفي أكثرهم بلمز هذا المشروع وغمزه والسخرية منه؛ وذلك أنهم إذا لم يُقرّ بأثر للدين يتجاوز الشأن الفردي والشخصي لمن أراده، فمن باب أولى عدم نظرهم حتى في مشروع إسلامية المعرفة؛ أي: أنهم لم يكلّفوا أنفسهم النظر في حقيقة المشروع والآمال المعقودة عليه، ومن ثم مناقشتها لمن أراد الاعتراض؛ والسبب أن الأصل الذي يعتمد عليه مشروع إسلامية المعرفة مرفوض عند المدافعين عن العلمانية، وهذا الأصل هو أن الإسلام ليس شأنًا شخصيًا فرديًا، وإنما هو أوسع من ذلك، كما أن الوحي هو المصدر الأعلى المعتبر عند المسلم.

في إطار صراعه مع بعض المفكرين المسلمين كان زكريا يناقش ما عرضه أحد المفكرين من كون العلمنة تمارس دورها الخطير في فصل الدين عن مناهج التعليم، فيرد زكريا ساخرًا:"ولعل ما يعنيه بفصل الدين عن المناهج، هو أننا لم نعد ندرس في معاهدنا الكيمياء الإسلامية أو علم الفلك الإسلامي أو الجيولوجيا الإسلامية، ولم نطبق الدعوة إلى "أسلمة العلوم" وهي دعوة تتردد بقوة في كثير من الأوساط الإسلامية المعاصرة. . . ."(1)، واكتفى في رده بأن: العلم ينبغي أن يُلتمس في موطن تقدمه ولا أظنه في العالم الإسلامي (2).

وقد نكتفي في الرد عليه بالقول: إن أية أمة تحترم ذاتها لا تمانع من التماس العلوم في موطن تقدمها ولكن ذلك لا علاقة له بموضوع التبيئة الإسلامية لها، فإن فلسفة العلم تكشف أن العلوم تتأثر بالإطار الحضاري الذي تتطور فيه، ومن المعلوم أن ذلك الإطار يختلف عن هويتنا، وهذا يتطلب من الأمة المسلمة تجاوز النقل الحرفي إلى الإبداع بصورتيه المهمتين: استيعاب تلك العلوم استيعاب القادر على التقدم بها خطوة للأمام، والثانية تصفيتها مما يرتبط بها من تصورات تتعارض مع التصور الإسلامي، ومن المؤكد أن الدكتور فؤاد ليس جاهلًا عن حقيقة المشروع الإسلامي ولكنه متجاهل له بسبب العمى العلماني الذي يوجه تفكيره.

(1) انظر: المرجع السابق ص 58.

(2)

انظر: المرجع السابق ص 59.

ص: 1205

المثال الرابع: يأتي في هذا الإطار القائم على الدفاع عن العلمنة مواقف لعدد كبير من المفكرين المتغربين، بل قد تكون الدعوى للعلمنة من الجوامع المشتركة لأغلب المتغربين، وبما أن الموضوع بهذا السعة والوضوح فالمقصود هو التمثيل وبخاصة بما له صلة بمزاعم فائدة العلمانية للعلم والفكر، ومن هؤلاء الدكتور حسن حنفي.

ففي دفاعه عن مشروعه العلماني ضد خصومها القائلين بأنها ستقضي على التراث القديم والموروث الروحي والآثار الدينية، يجيب مدافعًا عن العلمانية:"قد نشأت العلمانية في الغرب استجابة لدعوى طبيعية تقوم على أساس رفض الصور الخارجية، وقسمة الحياة إلى قسمين، واستغلال المؤسسات الدينية للجماهير، وتواطئها مع السلطة. . . .، نشأت العلمانية استردادًا للإنسان لحريته في السلوك والتعبير، وحريته في الفهم والإدراك، ورفضه. . . . لأي سلطة فوقه إلا من سلطة العقل والضمير. . . . العلمانية إذن هي أساس الوحي، فالوحي علماني في جوهره، والدينية طارئة عليه من صنع التاريخ، تظهر في لحظات تخلف المجتمعات وتوقفها عن التطور"(1)، فهذا النص يعبر عن موقف متطرف، موقف غير مُبالٍ حتى بأدنى درجات التماسك العقلاني، ومثل هذه المواقف المتهورة تأتي في ظل التحمس للآراء والأهواء، وإلا فمن ذاك الذي يجمع بين الدين والعلمانية وهي التي أصلت لموقف ينبذ الدين تمامًا، أما ما ذكر من فوائد لها، فهي ممكنة ولكنها قاصرة، وهي موجودة في غيرها، فلم تتفرد العلمانية بهذه الأمور النافعة، مثل انطلاقة الفكر الحر المثمر وغيرها من الأمور التي أعاقها واقع أوروبا فترة من الزمن.

المثال الخامس: من بين المتحمسين للعلمنة والمدافعين عنها تحت أغطية مختلفة منها الغطاء العلمي نجد "هشام شرابي"، حيث عرض في كتابه المشهور "المثقفون العرب والغرب" لتجارب النخب المثقفة العربية مع الثقافة الغربية، وقد تحمس بقوة لكل توجه نحو العلمنة للفكر والثقافة والمعارف العلمية الجديدة والحياة عمومًا، ومن بين الشرائح التي تكلم عنها "المثقفون المسيحيون" و"العلمانيون المسلمون"، مع تقديمه للمثقف النصراني على العلماني المسلم في

(1) التراث والتجديد، د. حسن حنفي ص 63 مع الاختصار.

ص: 1206

قدرته على الحداثة والعلمنة والنظرة الجديدة، وهو واحد من الكتاب الذين تظهر عندهم العلمنة بأبعادها الخطيرة في مجال العلم، ومن ذلك ما نقف معه هنا:

أثناء حديثه عن المثقفين المسيحيين امتدح استقبالهم للوافد الغربي، وذكر سبقهم لعلمنة الفكر والعلوم الجديدة أثناء حديثه عن الشوام منهم ثم من تبعهم من المصريين، وهو مع ذلك يذكر في أكثر من مكان أن لعلمنة المعارف الجديدة أسبابًا أكثر من كونها خدمة للمعارف ذاتها، فهو يبين غرضهم من التمسك "بالعقلانية والمنهج العلمي" في المهاجمة غير المباشرة للواقع المتحكم بهم -أي: الواقع الإسلامي-، ومن هنا كان نشاطهم في علمنة الفكر من أجل علمنة وجودهم الاجتماعي، وذلك من أجل تأهيلهم لاختراق المحيط الإسلامي (1)، فهاشم هنا يلامس حقيقة خطيرة ولكنه يغض الطرف عنها، فعلمنة العلم نشأ أساسًا مع النصارى العرب ليس من أجل العلم ولكن حتى يجدوا منفذًا إلى المسلمين، ومن ثم كانت هذه العلمنة مفتاحًا لهم يُدخلون من خلاله ما يساعدهم في تحقيق وجودهم، سواء كان ذلك بزيادة قوتهم أو بإضعاف المجتمع الإسلامي.

ومن ذلك أن الكتَّاب النصارى قد بحثوا عن أسس أخرى بعيدة عن الدين تفسر الواقع المادي، ووجدوا في المادية واحدًا من تلك الأسس المهمة التي تبعد هذا الواقع عن الدين، وحتى يتسنى عملهم هذا كانت العلمنة أداة مهمة لسحب هذا الواقع من التفسير الديني إلى تفسير مادي يدعي العلمية، متمثلًا آنذاك في المادية التطورية الدارونية، وفي مثل هذه الأجواء يمكن قبول التصور المادي للعالم متحررًا من سيطرة ماورائية، وسيتم بهذا زحزحة المرجعية الدينية الإسلامية التي تمثل للمثقفين النصارى عقبة تصدهم عن اختراق المجتمع الإسلامي بخلاف التفسير المادي الذي يوحد بين معتنقيه ويدمج الجميع في رؤية واحدة مشتركة (2).

ومثل هذا التحليل صحيح في جملته، وقد سبق في دور الصحافة النصرانية ذكر الأمثلة على ذلك، ولكن الخطير هنا هو موقف كاتب مسلم مثل شرابي من

(1) انظر: المثقفون العرب والغرب. . . .، هشام شرابي ص 125، 129 - 130، 136.

(2)

انظر: المرجع السابق ص 149 - 155.

ص: 1207

حقيقة هذا الوضع، فهو يمتدحه ويراه علامة نضوج للمثقفين النصارى، وهذا من حجم التغرب الأعمى الذي أصاب طائفة من المسلمين.

المثال السادس: يأتي في هذا الإطار بصورة أصرح، إطار علمنة الحياة عمومًا، الكتاب النصارى وبخاصة أن أغلبهم قد انقاد مع أشد تيارات الفكر الغربي إلحادًا مثل الماركسية وغيرها، ومن هؤلاء الدكتور لويس عوض، تلميذ سلامة موسى وصاحب العلاقات المشبوهة بمنظمات خفية وعلنية، فالإسلام برأيه لا يملك نظامًا سياسيًا خاصًا به، والتجربة الإسلامية الناجحة الأولى هي في حقيقتها جمهورية شرعية بقيادة رجال، وفيه تتضح الأبعاد العلمانية، فنجاح تجربة الإسلام الأولى ترجع بسبب علمانيته (1)، وقد رصد الدكتور حلمي القاعود صور علمنته ومعاداته للإسلام بوصفه نقيضًا للعلمانية، فوجده ناشطًا في إلصاق كل اتهام بالإسلام ورافعًا من شأن علمنة الحياة (2)، ومن تتبع أهم إنتاج فكري له حول تاريخ الفكر المصري الحديث، يجد تركيزه في كل مناسبة على هذا البعد، الرفع من العلمنة والخفض من الإسلام (3).

هذه بعض معالم دعوى علمانية العلم، صورتها وأضرارها، وبعض صورها عند المتغربين، وصور محاربة أسلمة المعرفة الحديثة، ويدور الأمر فيها غالبًا إلى قياس حال تاريخية معينة على حال أخرى لا تناسبها، حيث هناك نزعة للتشبه بوضع المشكلة في البيئة الغربية وتقليدٍ لها دون مبرر. نترك هذه الدعوى إلى دعوى أخرى تقوم على القول بوجود تعارض بين العلم والدين.

(1) رأيهم في الإسلام، مجموعة كتاب ص 112.

(2)

لويس عوض - الأسطورة والحقيقة، د. حلمي القاعود ص 29، 32، 250 وما بعدها.

(3)

انظر مثلًا: تاريخ الفكر المصري الحديث من عصر إسماعيل. . . .، د. لويس عوض ص 177، 193.

ص: 1208