الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واستمر ذلك حتى وقعت المستجدات الحديثة، وما تبع ذلك من الافتتان بالغرب الحديث، ومن ثم ظهور طائفة متغربة تقلد تيارات الفكر الغربي، ومن ذلك تقليدهم في مصدر المعرفة. ومن المعلوم أن مصدرية الوحي قد تعرضت في الغرب لنقد شديد، وقد حقق ذلك النقد نجاحًا خطيرًا، تسبب في التشكيك بمكانة الوحي عمومًا، ومما ساعد النقاد في نقدهم الصدام الكبير الذي وقع بين الكنيسة والمكتشفات العلمية الجديدة، فقد كانت الكنيسة تدّعي أن المعرفة الصائبة هي في الكتاب المقدس بينما أصحاب المعرفة الجديدة قد أعلنوا اكتشافات تخالف هذا الكتاب، ومع الأيام تحقق للناس صحة الكثير مما قدمه العلم مما حملهم على الشك في الوحي، وقد أسهم التحريف الذي وقع من الأحبار والرهبان في زيادة القناعة عند الناس بصدق المعارضين للوحي، ثم تعزز ذلك بالنقد التاريخي الذي قامت به شخصيات مختلفة لتلك الكتب المقدسة، ثم وقع الهجر الكبير لكتبهم المقدسة مع نجاح العلمنة في فرض رؤيتها على واقع الحياة في الغرب، ومن ثمّ الهجر النهائي لكتبهم المقدسة كمصدر للمعرفة، وقد سبق العرض التاريخي لهذه الأحداث والآثار المنهجية لها في المبحثين الأول والثاني من الباب الأول.
وقد انساق المتغربون مع هذه الموجة الغربية، دون تفريق بين المختلفات، فانحرفوا في باب مصدر المعرفة، فأهملوا الوحي، وخلطوا في ذلك بين الحق والباطل. وهذا المبحث ينظر في هذه المشكلة التغريبية ولاسيّما أنها تغطيها بدعاوى العلمية، وقبل مناقشة ذلك لابد من التفريق بين مصدر يكون للدين ومصدر يكون للعلوم الدنيوية، فإذا كان الأول محصورًا في الوحي فإن العلوم الدنيوية متروكة للجهد البشري، والنظر في النافع منها وَفْق مصادرها التي بثّها الله في الآفاق وفي الأنفس، في الحس وفي العقل وفي المركَّب منهما، شريطة الحركة في الإطار الإِسلامي للمعرفة، وهنا وقفة مع مصدر المعرفة غير الدينية.
مصدر العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية:
أصبح للمنهج شأنه في الفكر الحديث، وظهرت ثماره جلية في العلوم التجريبية، وأصبح لكل فرع من فروع العلم منهجه، وكل عاقل يعلم أهمية المنهج وفائدته للعلم، ويبقى المُشْكل أن المعرفة لابد لها من مصدر تؤخذ منه
وطريقة للوصول إليها، وعند العودة إلى أهم العلوم البشرية غير الدينية نجدها ترجع إلى نوعين:
النوع الأول: "الرياضية بمنهجها الاستنباطي: ويتألف من مقدمات أولية نضعها منذ البدء ونسلم بصدقها، ثم نستنبط منها بخطوات صورية محكمة قضايا تلزم عنها لزومًا منطقيًا، وهي النظريات الرياضية"(1)، وبهذا تكون نتائجها تحصيل حاصل، إذ النتيجة موجودة في المقدمات، ومن الواضح أن مصدرها عقلي.
والنوع الثاني: "العلوم الطبيعية بمنهجها التجريبي وعمدته الاستقراء والقائم على أساسين: الاعتقاد بالرباط العلّي بين الحوادث، والاعتقاد باطراد الحوادث في الطبيعة. ويقوم على ثلاث خطوات هي: الملاحظات والتجارب، وتكوين فرض يفسرها، ثم تحقيق هذا الفرض"، على أن هذا هو التقليدي الذي عرف في الفكر الغربي مع بيكون ومل، وقد ظهر في مرحلة معاصرة صورة أخرى هي:"المنهج الفرضي الاستنباطي" الذي يجمع بين الاستقراء والرياضيات، ويعتمد مبدأ اطراد الحوادث ولا يهتم بالرباط العلي، والجديد فيه "أن التحقيق التجريبي ليس ممكنًا دائمًا في تلك الحالات" بخلاف التقليدي (2)، ومن الواضح أن مصدر هذا النوع يغلب عليه الحسي؛ أي: عالم المادة والشهادة.
وسيكون معيار التحقق في القسم الأول: التوافق بين النتائج ومقدماتها، أما القسم الثاني فمعياره هو التحقق الخارجي عن طريق التجربة (3). فظهر لنا مصدران مهمان من مصادر المعرفة، هما العقل للعلوم الرياضية والهندسية وما في بابها، والحس للعلوم الطبيعية بشتى أنواعها. وهما مصدران معترف بهما شرعًا، ويكفي التأمل في معنى النظر الوارد ذكرهُ في النصوص، حيث نجده يدلّ على المعنيين: معنى التأمل العقلي، ومعنى النظر في العالم المحسوس (4)، قال الفيروزآبادي رحمه الله: "نظره كنصره وسمعه، وإليه نظرًا ومنظرًا ونظرانًا ومنظرة
(1) انظر: مناهج البحث الفلسفي، د. محمود زيدان ص 178 - 180.
(2)
انظر: المرجع السابق ص 180 - 183.
(3)
انظر: نحو فلسفة علمية، د. زكي نجيب، الفصل السابع ص 180 وما بعدها.
(4)
انظر: القرآن والنظر العقلي، فاطمة إسماعيل ص 63 وما بعدها.