المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القسم الثاني: دعوى وجود رأي علمي آخر حول بعض الغيبيات دون شرط المعارضة: - النظريات العلمية الحديثة مسيرتها الفكرية وأسلوب الفكر التغريبي العربي في التعامل معها دراسة نقدية - جـ ٢

[حسن الأسمري]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثاني التأثر المنهجي في الفكر التغريبي بالانحراف المصاحب للعلم الحديث

- ‌الفصل الأول التأثر المنهجي في مصدر التلقي وطرق الاستدلال

- ‌المبحث الأول التأثر المنهجي في مصدر التلقي

- ‌مصدر العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية:

- ‌المصدر في العلوم الاجتماعية:

- ‌أسباب الانحراف في المصدر:

- ‌1 - التبعية للفكر الغربي:

- ‌2 - ظروف الصراع وأحواله:

- ‌مكانة الوحي في التصور الإِسلامي وصور إقصائه كمصدر للعلم عند المتغربين:

- ‌1 - مذهب غلاة المتغربين ودعوتهم لإقصاء الوحي:

- ‌2 - مذهب التوفيقيين من المتغربين ودعوتهم لإقصائه كمصدر للمعرفة:

- ‌مناقشة الملفقين:

- ‌3 - القول بجعل النظريات العلمية في مقام النص الشرعي وتقديمها عليه:

- ‌المبحث الثاني التأثر المنهجي في منهج الاستدلال

- ‌مشكلة الموضوعية:

- ‌استبعاد جانب القيم بحجة الموضوعية:

- ‌الموضوعية وعلاقتها بالحقيقة:

- ‌نموذج موسع للتلاعب المنهجي:

- ‌أ- حسن حنفي:

- ‌ب - محمَّد أركون:

- ‌الفصل الثاني التأثر المنهجي في طريقة التعامل مع القضايا الغيبية الاعتقادية

- ‌المبحث الأول التأثر المنهجي في طريقة النظر للغيبيات

- ‌معنى الغيب في التصور الإِسلامي:

- ‌[مسألة] وللغيب أقسام:

- ‌ارتباط الانحراف في الغيب بالانحراف في الربوبية:

- ‌من أصول الانحراف في الغيب:

- ‌المثال الأول: لويس عوض:

- ‌المثال الثاني: هشام شرابي:

- ‌المثال الثالث: حسن حنفي:

- ‌المثال الرابع: محمَّد أركون:

- ‌المبحث الثاني أمثلة للتأثر المنهجي وبيان خطورتها الاعتقادية

- ‌القسم الأول: موضوعات عمَدية يُدّعى عدم إمكانية إثباتها علميًا:

- ‌القسم الثاني: دعوى وجود رأي علمي آخر حول بعض الغيبيات دون شرط المعارضة:

- ‌القسم الثالث: دعوى مخالفة العلم لأبواب من الغيبيات

- ‌الفصل الثالث التأثر المنهجي في طريقة التعامل مع القضايا الشرعية العملية

- ‌المبحث الأول التأثر المنهجي في طريقة النظر للشريعة

- ‌المراد بالشريعة:

- ‌الغيب مع الطبيعيات والشريعة مع الاجتماعيات:

- ‌أصول منهجية تغريبية للنطر في الشريعة تدعي العلمية:

- ‌أصل الأصول: تعميم الظواهر الاجتماعية على الدين الحق:

- ‌الأصل الثاني: التطور:

- ‌الأصل الثالث: علمية وعلمنة العلوم الاجتماعية ودعوى قدرتها أن تسدّ مسدّ الدين:

- ‌الأصل الرابع: النسبية:

- ‌المبحث الثاني أمثلة للتأثر المنهجي وبيان خطورتها

- ‌الأول: في باب الأخلاق الإِسلامية:

- ‌أولًا: تعريف الخلق:

- ‌ثانيًا: المشكلة الخلقية في العالم المعاصر ولاسيّما في الغرب:

- ‌تاريخ الفكر الأخلاقي في الغرب:

- ‌الإطار العلماني للأخلاق الجديدة:

- ‌النظريات الأخلاقية الجديدة:

- ‌ثالثًا: تحليل ونقد للنظريات الجديدة:

- ‌رابعًا: نماذج من الأخلاقيات المتغربة تحت غطاء العلمية:

- ‌النموذج الأول:

- ‌النموذج الثاني: من علم النفس:

- ‌النموذج الثالث: الموقف الوضعي:

- ‌النموذج الرابع: أخلاقيات العلم الجديدة:

- ‌النموذج الخامس: الرؤية المادية والماركسية:

- ‌الثاني: في باب العمل بالأدوية الشرعية للأمراض الجسدية أو النفسية:

- ‌الأمر بالتداوي في الإِسلام:

- ‌الإطار العلماني وأثره في مجال التداوي الجسدي والنفسي:

- ‌أثر الأسس الفلسفية للممارسة الطبية الحديثة:

- ‌في الجانب النفسي:

- ‌بعض مشكلات الطرح التغريبي حول المجال الطبي والتداوي:

- ‌أين هي المشكلات في هذا الباب

- ‌نموذج عن الإشكال التغريبي في هذا الباب:

- ‌الثالث: في باب حكم التعامل بالربا:

- ‌القسم الأول: مدخل:

- ‌القسم الثاني: الإطار الاجتماعي العام للتحول الاقتصادي الغربي:

- ‌القسم الثالث: الأصول النظرية العلمية للاقتصاد الحديث:

- ‌الرابع: في باب حجاب المرأة المسلمة:

- ‌الباب الثالث صور لدعاوى باطلة ونظريات منحرفة ظهرت في الفكر التغريبي حول الدين والعلم وخطورتها

- ‌الفصل الأول صور لدعاوى أظهرها الاتجاه التغريبي باسم العلم الحديث

- ‌المبحث الأول دعوى أهمية علمنة العلم ورفض التأصيل الإِسلامي مظاهرها وخطرها

- ‌تعريف العلمانية:

- ‌وقفتان حول المصطلح: "تاريخية المصطلح، وعلاقته بالعلم

- ‌المبحث الثاني دعوى التعارض بين الدين والعلم الحديث

- ‌الفرق بين دعوى التعارض التراثية والدعاوى الحديثة:

- ‌صور الدعاوى التغريبية:

- ‌أصول عامة حول دعوى التعارض بين الدين والعلم:

- ‌مناقشة الدعوى:

- ‌أولًا: أهمية رفع التعميم والإجمال:

- ‌ثانيًا: ما المقدم عند التعارض

- ‌ثالثًا: "موضوعات الغيب وموضوعات الشهادة - الأكثر إشكالًا

- ‌رابعًا: ملابسات الدعوى التاريخية والأيدلوجية:

- ‌خامسًا: التفسير العلمي للنصوص الدينية:

- ‌المبحث الثالث دعوى كفاية العلم الحديث لحاجة الإنسان وشموليته بدلًا عن الدين

- ‌الشمولية في الإِسلام وحاجة الناس إليه فوق كل حاجة:

- ‌مناقشة دعوى كفاية العلم وشموليته:

- ‌نماذج من الانحراف التغريبي حول هذا الباب:

- ‌النموذج الأول:

- ‌النموذج الثاني:

- ‌النموذج الثالث:

- ‌النموذج الرابع:

- ‌النموذج الخامس:

- ‌النموذج السادس:

- ‌الفصل الثاني صور من تأثر الفكر التغريبي بنظريات علمية منحرفة حول مفهوم الدين

- ‌التمهيد

- ‌المبحث الأول التأثر بنظرية داروين التطورية من علم الأحياء حول الدين

- ‌ظهور الدارونية العربية:

- ‌من البحث في أصل الحياة إلى المادية الإلحادية:

- ‌المبحث الثاني التأثر بنظريات من علم النفس حول الدين

- ‌صراع النظريات النفسية ودلالاتها في الميدان الفكري:

- ‌دخول علم النفس للثقافة العربية والمواقف تجاهه:

- ‌نظرية فرويد النفسية ولاسيّما ما له علاقة منها بالدين:

- ‌المبحث الثالث التأثر بنظريات من علم الاجتماع حول الدين

- ‌علم الاجتماع بين العلمية والأيدلوجيا:

- ‌كيف ينظر علم الاجتماع للدين

- ‌المتغربون وعلاقتهم بالمدارس الاجتماعية العلمانية:

- ‌علم الاجتماع الديني:

- ‌الخاتمة

- ‌الفهارس

- ‌ملحق مفهرس للألفاظ الغريبة والمصطلحات والطوائف والفرق والمذاهب والتراجم مع التعريف بها

- ‌أولًا: قائمة الألفاظ الغريبة والمصطلحات الواردة في ثنايا البحث

- ‌ثانيًا: قائمة بالطوائف والفرق والمذاهب الواردة في البحث

- ‌ثالثًا: قائمة المراجع والمصادر

- ‌نبذة تعريفية الإدارة العامة للأوقاف

الفصل: ‌القسم الثاني: دعوى وجود رأي علمي آخر حول بعض الغيبيات دون شرط المعارضة:

فهذه الرؤية العلمية الفكرية الحديثة أوصلت صاحبها في الحقيقة إلى عملية حقيقتها التلاعب بالوحي، تحت مسمى نظرية التفسير المعاصرة.

* * *

‌القسم الثاني: دعوى وجود رأي علمي آخر حول بعض الغيبيات دون شرط المعارضة:

فهذا يكون في عالم المخلوقات الموجودة، ولكن بداية خلقها كان في أزمان بعيدة، مثل خلق السماوات والأرض والكائنات الحية والإنسان، فهذه إما أن العلم الحسي لا يستطيع القطع فيها، وهذا هو حال كل الأمور البعيدة في الزمن الماضي، ولذا كل ما يُقال في هذا الباب هو من النظريات التي لا يمكن القطع بها، وهي نظريات تقبل التغير والتطور بحسب فلسفة العلم المعاصرة، وقد يأتي زمان يحدث فيه قطيعة معرفية بين نظريات تسود في وقت وبين نظريات جديدة تولد، لاسيّما حول خلق السماوات والأرض وخلق الحياة وخلق الإنسان، فقد جاء في الخبر ذكر ذلك بأوصاف محددة، ولكنها عند أهل الإِسلام من أمور الغيب التي لها حقيقة موضوعية يُعرف معناها ولا تعرف كيفيتها، فالكيفية من علم الغيب، ومعناها معلوم بما ورد في الخبر، فالله سبحانه هو خالق السموات والأرض والحياة والإنسان، وما أشهدنا على خلق ذلك، قال -تعالى-:{مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)} [الكهف: 51]، وقد أخبرنا سبحانه بأشياء عن خلقه فعرفنا معناها ولكن جهلنا كيفيتها كما هو حال الغيب.

فالقول في هذا الباب بأنه وإن تكلم علماء الطبيعة على هذه الأمور، وقدّموا نظرياتهم المختلفة، فإنه في فلسفة العلم المعاصرة لا يُقطع بها، فالنظرية كما سبق مرارًا هي أداة للفهم والتفسير، وقد تأتي صورة أخرى لها في زمن لاحق. فمن باب أولى أن لا يُقطع بها عند المسلمين؛ لأنهم يعلمون أن هذه النظريات رغم ما تتمتع به من تجارب واسعة وحسابات دقيقة فإنها في غياب الاسترشاد بالوحي تخبط في مجاهيل الماضي، مما يجعل العلمي والموضوعي منها ناقصًا حتى يرتبط بالوحي. فإن ما يذكرونه إنما هو من النظريات التي هي غاية ما وصل إليه جهدهم في ظل السقف المعرفي الذي أتيح لهم بأجهزتهم

ص: 963

المبتكرة وحساباتهم الرياضية الممكنة وملاحظاتهم ومشاهداتهم البشرية، ولكن هذا السقف قد يرتفع مع اكتشاف أجهزة أخرى أو حسابات أخرى أو ملاحظات أدق، وقد رأى العالَم أثر اكتشاف عالم الذرة بالأجهزة الحديثة في تغيير كثير من الأفكار حول النظريات السائدة، كما رأى العالَم أثر ظهور حسابات جديدة مع نظرية النسبية في تغيير كثير من الأفكار حول النظريات السائدة أيضًا، ورأى العالَم أثر التطورات الكبيرة في دراسات الجينات في تغير كثير من التصورات حول الكائنات الحية.

والموقف الإسلامي في مثل هذا الباب هو أن القطعي من الأدلة هو المقدم، والقطعي هنا هو خبر السماء الذي جاءنا من خالق العوالم، والعارف بها، والشاهد سبحانه خلقها، وكفى بالله شهيدًا. ولهذا ما جاء من النظريات إما أنه يُنكِر الحق القطعي من الدين، فقد علمنا ولله الحمد بطلانه، وعلينا إراحة أنفسنا منه، أو أنه من الأمور التي يتحدث عنها الدين، أو عرفنا من الدين معناها دون كيفيتها، فغالب هذا النوع قد يناسبه السكوت، ويترك لمنطق الصواب والخطأ العلمي التجريبي، وما يُظنّ أن فيه تعارضًا مع الدين فتكون موطن الاجتهاد الشرعي، وتكون بطريق اجتماع علماء المسلمين في الشرع وفي العلوم الطبيعية لدراستها وبيان الأصوب في هذا الباب، وذلك مثل تلك الأرقام الكبيرة التي تقال عن تاريخ أحداث كونية مثل وجود الكون، فقد اعتمد علماء الطبيعة على مقاييس خاصة توصلوا بها لمثل تلك الأرقام الزمنية، ومعلوم أن الزمن الغيبي الذي وقع فيه الخلق ليس مثل الزمن الذي نعرفه. فمثل هذه المساحة تكون موطن البحث والنظر والاجتهاد، ولاسيّما أنها قد تكون بابًا لبعض المنحرفين للطعن في الغيبيات كما أنها قد تكون موطن اشتباه عند من لم يكن عالمًا بالشرع ولم يكن عالمًا بحقيقة العلوم الطبيعية ممن يدرس العلوم العصرية أو يقرأ عنها، فيسبق إليه شيء من الشُبَه؛ لذا كان من المهم اجتماع علماء المسلمين في باب العلوم الشرعية وفي باب العلوم الطبيعية لمعالجة أمهات الإشكاليات في هذا الباب. والآن ننظر في بابين وقع حولهما الإشكال، وهما:

الأول: باب بداية الخلق ووجود الكون.

الثاني: باب خلق آدم عليه السلام وأصل الإنسان.

ص: 964

كثرة ورودهما في الكتاب والسنة، وتأليف العلماء فيهما، وأهمية الحذر من الإسرائيليات الواردة فيهما:

لقد جاء ذكر خلق الكون والحياة والإنسان وآدم وبقية المخلوقات في الكتاب والسنة، وقد ورد في ذلك من الغيب ما لا يستطيع البشر معرفته بعلومهم أو عقولهم، وقد يكون منه ما يراه البشر، والعاقل من استدل بالمعلوم على الغيب. وقد كان الناس يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك فيجيبهم عما سألوا، مما يدلّ أن النفوس تشتاق لمعرفة ذلك.

ومن ذلك ما ذكره البخاري عن عمران بن حصين قال: "دخلت على النبي - صلي الله عليه وسلم - وعقلت ناقتي بالباب، فأتاه ناس من بني تميم، فقال: اقبلوا البشرى يا بني تميم، قالوا: قد بشرتنا فأعطنا، مرتين، ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن، فقال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم، قالوا: قد قبلنا يا رسول الله، قالوا: جئناك نسألك عن هذا الأمر [أي: الحاضر الموجود]، قال: كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض، فنادى مناد: ذهبت ناقتك يا ابن الحصين، فانطلقت فإذا هي يقطع دونها السراب فوالله لوددت أني كنت تركتها"، وروي عن طارق بن شهاب قال: سمعت عمر رضي الله عنه يقول: قام فينا النبي - صلي الله عليه وسلم - مقامًا، فأخبرنا عن بدء الخلق، حتى دخل أهل الجنة منازلهم [هي غاية قوله:"أخبرنا"؛ أي: أخبرنا عن مبتدأ الخلق شيئًا بعد شيء إلى أن انتهى الإخبار عن حال الاستقرار في الجنة والنار، ووضع الماضي موضع المضارع مبالغة للتحقق المستفاد من خبر الصادق، وكان السياق يقتضي أن يقول: حتى يدخل، ودل ذلك على أنه أخبر في المجلس الواحد بجميع أحوال المخلوقات منذ ابتدئت إلى أن تفنى إلى أن تبعث، فشمل ذلك الإخبار عن المبدأ والمعاش والمعاد]، وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه (1).

وقد ألف علماء الإسلام في ذلك، فجمعوا ما ورد من آيات وأحاديث،

(1) صحيح البخاري برقم (3190، 3193) باب ما جاء في قول الله -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} من كتاب بدء الخلق، وما بين القوسين المعقوفين من شرح ابن حجر رحمه الله، الفتح 6/ 332 - 333، وانظر: شرح هذا الحديث وما فيه من مسائل، فتاوى ابن تيمية 18/ 210 - 243، ففي ذلك فوائد مهمة تتعلق بالباب.

ص: 965

ورتبوها وبينوا معانيها، وليس هذا مقام ذكرها، ومن ذلك كتب التفسير في أثناء تفسير الآيات الواردة في الباب، والسنة النبوية مثل كتاب بدأ الخلق وكتاب أحاديث الأنبياء من صحيح البخاري، وكتب العقائد الإِسلامية وهي كثيرة، وكتب التاريخ الإسلامي، ومن ذلك -مثلًا- ما خصصه ابن كثير أول كتابه وآخره، البداية والنهاية، وقد جعل خلق الكون والإنسان في أوله (1). ومن المهم في هذا الباب الانتباه لمسألة الإسرائيليات التي يرويها العلماء عن بعض أمور الغيب، فقد كان المفسرون والمؤرخون يذكرون شيئًا من الإسرائيليات في هذا الباب.

يقول ابن كثير في تاريخه عن مصدره: "ما ورد في ذلك من الكتاب والسنة والآثار والأخبار المنقولة المقبولة عند العلماء وورثة الأنبياء، الآخذين من مشكاة النبوة المصطفوية المحمدية على من جاء بها أفضل الصلاة والسلام.

ولسنا نذكر من الإسرائيليات إلا ما أذن الشارع في نقله مما لا يخالف كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو القسم الذي لا يصدق ولا يكذب، مما فيه بسط لمختصر عندنا، أو تسمية لمبهم ورد به شرعنا مما لا فائدة في تعيينه لنا، فنذكره على سبيل التحلي به لا على سبيل الاحتياج إليه والاعتماد عليه.

وإنما الاعتماد والاستناد على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما صح نقله أو حسن وما كان فيه ضعف نبينه. وبالله المستعان وعليه التكلان" (2).

وقد ذكر مثل ذلك في أول تفسيره، فقال: "ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تُذكر للاستشهاد، لا للاعتضاد، فإنها على ثلاثة أقسام:

أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق، فذاك صحيح.

والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه.

والثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته لما تقدم، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود

(1) أُخرج مستقلًا، مثل ما أخرجه إبراهيم الجمل بعنوان (بداية الخلق) طبع دار الكتاب العربي.

(2)

البداية والنهاية، لابن كثير 1/ 6 - 7، تحقيق علي شيري، دار إحياء التراث العربي، ط 1، 1408 هـ، بيروت.

ص: 966

إلى أمر ديني؛ ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في هذا كثيرًا، ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك" (1)، فهذه الإسرائيليات ذكرها العلماء دون قصد الاعتضاد، ولكن قد يختلط الأمر في زمننا على غير المتخصص، فيظن أن ذلك مما ثبت في الإِسلام، ولذا فهي في حاجة في زمننا بعد أن كثرت المشكلات إلى تحقيق وفصل بين الإِسلامي والإسرائيلي منها؛ حتى لا يقع الجاهل بالعلم الشرعي في أخطائها، ومن ثم يصدق بمقولات المتغربين الطاعنة في الغيب.

وقد يكون من الحسن ذكر طريقة أحد علماء الإِسلام في مثل هذه الأبواب، وهو الإِمام البخاري صاحب الصحيح، ففي ما يتعلق بهذين المبحثين نجدهما في كتابين من كتب صحيحه، أولهما كتاب "بدء الخلق" قال ابن حجر:"ابتداؤه والمراد خلق المخلوقات"(2)، بدأها بباب "ما جاء في قول الله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} ، وفي الباب تأكيد لأمرين عظيمين أولهما أن العالم من خلق الله ابتداء، والثاني أن الخلق هو هيّن عليه سبحانه، وهنا أمران يُغفَلان عند أهل العلوم العصرية عند الحديث عن المخلوقات. ثم أتبعه بباب عن السموات والأرض، ثم باب عن النجوم، ثم الشمس والقمر، ثم الرياح، ينتقل بعدها لعالم آخر وهم الملائكة، ثم الجنة والنار وإبليس والجن. وفي هذا الكتاب المختصر ذكر أول الأمر وآخره".

أما خلق آدم عليه السلام فقد ذكره في الكتاب الذي بعده، وهو كتاب "أحاديث الأنبياء"، وذكر فيه "باب خلق آدم صلوات الله عليه وذريته" وأعقبه بباب "الأرواح جنود مجندة" قال ابن حجر:"للإشارة إلى أنهم ركبوا من الأجسام والأرواح"(3)، فمن نظر في نصوص هذه الأبواب عرف مقدار عناية الإِسلام بوضع الأصول الكلية في هذا الباب وغيره.

موقف المعاصرين من هذا الباب ممن طالع النظريات العلمية:

إذا انتقلنا للناظرين في النظريات العلمية التي تتناول هذين البابين وطريقة تعاملهم معها أو تأثرهم بها فسنجد طائفتين لهما أهمية في هذه الفقرة: طائفة

(1) تفسير ابن كثير ص 9.

(2)

فتح الباري. . 6/ 330.

(3)

المرجع السابق. . 6/ 426.

ص: 967

ضعيفة أمام هذه النظريات، لاسيّما مع البناء العلمي الضعيف الذي يتلقاه المسلم في زمننا المعاصر، فليس عنده من العلم الشرعي ما يميز به بين الحق والباطل، ويحتك بالثقافة الغربية الفائرة في ذروة شبابه، فلا يجد بُدًّا من الاستسلام لهذه الحركة العلمية، دون قصد مخالفة الدين. وقد تُعالج هذه الحالة بوجود عمل إسلامي في حقل التأصيل للمعارف الحديثة مثل مشروعات التأصيل الإسلامي ومشروعات إسلامية المعرفة وغيرها، وهي نافعة لمثل هؤلاء؛ لأن مشكلتهم تزداد، ويزداد عددهم داخل العلوم العصرية، مع استسلام من قِبَلهم لحركة العلم المعاصرة، فما لم يظهر مشروع قوي للتأصيل الإِسلامي، فسيكونون كتلة مستقبلية كبيرة يصعب تصحيح وضعها، وقد يشكّلون أداة دعم لعناصر التغريب دون قصد منهم.

أما الطائفة الأسوأ في هذا الباب فهم المتغربون بشتى مدارسهم، وهؤلاء بعد اطلاعهم على النظريات الحديثة، ثم انخراطهم في تقليد تيارات الفكر العلمانية الغربية، قد يجدون في مثل هذه النظريات العلمية أداة لهدم الدين أكثر من كونها نظرية في مجال علمي، والحقيقة أن محاولة الاستحواذ على النظريات العلمية واستغلالها في الصراعات الدينية والفكرية أمر سائد في العصر الحديث، وقد بلغت ذروتها في الغرب مع بروز المعسكرين الرأسمالي والشيوعي في القرن الماضي، حيث تحمس المعسكر الشيوعي لنظريات معينة؛ ليس لأنها علمية فقط؛ بل لأنها تخدم رؤيتهم الأيديولوجية، وتحمس الرأسماليون لغيرها؛ لأنها تخدم رؤيتهم الفكرية ومصالحهم، وقد يشتركون في نظرية، ولكن كل جهة تفسرها بما يناسبها (1)، ويعود السبب لأمرين: لاشتهار العلم من جهة في التعبير عن الحقائق وفي الوصول للفوائد، ولاشتهار التيارات الفكرية الناشطة في الدعوة لمبادئها، فاستعانت التيارات بالعلم في صراعاتها الفكرية. وعندما ظهرت التيارات التغريبية العربية وجدت تجربة كبيرة أمامها وقدوة تقتدي بها، فنقلت ذاك الصراع الفكري إلى العالم الإِسلامي، واستعانت بتلك النظريات في معاركها. ولكن مع تحويل النظريات إلى أداة للصراع يختلف الوضع؛ لأن التركيز لا

(1) انظر: الفصل الأول والثاني من الباب الأول، وانظر: المبحث الأول من الفصل الثاني من الباب الثالث.

ص: 968

ينصب على الحقيقة في النظرية بل ينصب على المشتبه منها غالبًا؛ لأنه الأداة الأنسب في الصراع، ومن ذلك ما نجده مع المتغربين العرب، لاسيّما في باب عظيم مثل باب العقيدة. فإنه لما فيه من غيب يصعب الاكتفاء فيه بالعقل أو الحس، فلابد فيه من الخبر الصحيح، يصبح فرصة للمتغربين وأصحاب الأهواء، فيطعنون في الدين من خلال الطعن في الغيب وذلك بذكر النظريات العلمية المخالفة له، فيلبسون على الخلق بهذه الطريقة، مع أنهم وبسبب الصراع يركزون على الجانب المشكل في النظريات ويتركون القطعي من العلوم؛ وذلك أن الأول يفيدهم بخلاف الثاني فهو ضدّهم. وقد كان هؤلاء يسرحون لوحدهم بداية الأمر لأسباب سبق ذكرها (1)، فنشروا الكثير من الشبهات في مجلاتهم وفي الكتب وفي تياراتهم التابعة لهم.

الضعف والجهل هما مشكلة الطائفة الأولى، بخلاف الطائفة الثانية فمشكلتها الهوى والجهل، وهنا يأتي الفكر الإِسلامي بمشروعه لرفع الضعف ودفع الهوى، فمع الأول بنشر العلم الشرعي الذي يرفع الضعف، ويعيد الثقة في نفوس الناس بدينهم وبأنفسهم، ومع الثاني بنشر العلم النافع العصري الذي يكشف تلاعب المتلاعبين بالعلوم العصرية، مع ما يصاحب ذلك من جهود فكرية أخرى.

نجد من بين أبرز الموضوعات التي يهتم بها العلم الحديث ويطرح العلماء نظرياتهم المختلفة حولها بابين كبيرين هما: "باب بداية الخلق ووجود الكون، وباب خلق آدم عليه السلام وأصل الإنسان"، ويمكن استعراض كتابة حديثة نسبيًا حول هذا الموضوع، تجمع في تسلسل مثل هذه المخلوقات.

يقول الدكتور هاني رزق: "يمكن تلخيص التسلسل الزمني لمراحل التطور الموجّه على النحو التالي:

- اللحظة صفر "10 (- 45) ثانية": حدوث الانفجار الأعظم، بدء الزمن، درجة الحرارة تساوي "10 (37) درجة".

- نهاية الثانية الأولى: تحول الطاقة إلى مادة، ولادة القوى الطبيعية

(1) في الفصلين الثالث والرابع والخامس من الباب الأول.

ص: 969

الأربع، حجم الكون أكبر بقليل من حجم المجموعة الشمسية الحالية.

- مئة ثانية: تكون نوى الهدروجين، والهليوم، وبعض نوى المعادن الخفيفة المشتقة من هذين العنصرين.

- ثلاثة آلاف عام: تكون ذرات العناصر، انتثار الركام أو السديم الكوني، تكون بذور المجرات.

- مليار عام: تكون المجرات، حجم الكون أصغر بقليل من حجمه الحالي، ودرجة حرارته تساوي قرابة 7.2 كلفن أو درجة مطلقة.

- 8.4 مليار عام: ولادة المجموعة الشمسية ومعها الأرض "التي أصبح عمرها الآن 4.6 مليار عام".

- 600 مليون عام عمر الأرض "قبل 4 مليار عام": تتالي الكوارث الثلاث على الأرض:

1 -

الرجم بأمطار هائلة من الشهب والنيازك وكتل الصخور الهائلة.

2 -

تجمد كل ما على سطح الأرض بسبب ضعف حرارة الشمس الفتية وإشعاعها.

3 -

اجتياح عواصف الأكسجين السام لجوها، ونشوء "حياة" الصلصال ذات التقانة الخفيضة.

- "800" مليون عام عمر الأرض "قبل 3.8 مليار عام": سيادة عالم RNA . ARN ذي التقانة الرفيعة.

- 900 مليون عام عمر الأرض "قبل 3.7 مليار عام": بدء بداية عالم DNA . ADN، استمرار حياة ARN .RNA.

- 3400 مليون عام عمر الأرض "قبل 1.2 مليار عام": انفصال المملكة الحيوانية عن المملكة النباتية، سيادة عالم، DNA . ADN ، واستمرار حياة، ، RNA. ARN.

- 4100 مليون عام عمر الأرض "قبل 500 مليون عام": الانفجار الأعظم "الكمبري" لعالم الحيوان، ظهور التصاميم الأساسية لمخططات أجسام حيوانات اليوم.

- قبل ثلاثة ملايين عام: بدء بدايات ظهور الإنسان القديم.

ص: 970

- قبل خمسين ألف عام: ظهور الإنسان العاقل "الحالي"، بدء تشكل الجمهرات البشرية وهجرتها" (1).

فمثل هذا العرض يقفز على ما ورد ذكره في الوحي، ولا ينتبه له، كما أن في العرض شيئًا من إهمال بعض معاني الربوبية باستثناء ما يذكره من رعاية الله لنوع من التطور الموجه، فهو يسير وفق تطور عجيب، ويمكن أن يكون ذلك صدفة، فيذكر الرب هنا كتفسير لمثل هذا التطور. كما أن المشكلة تتعمق مع التصور عن الجانب الديني من الموضوع والجانب العلمي فيه، فقد عرض الكاتب في أكثر من موضع تجاور الرؤيتين الدينية والعلمية لكن النتيجة في النهاية للمتأمل هي للعلم الوضعي، فبعد عرضه لنظرية الانفجار العظيم ذكر استنتاجًا له أهميته -كما يقول- للفكر البشري "ونعني بذلك تلازم الإيمان والعلم وتناسقهما في سيادتيهما على الفكر البشري، ومن ثمّ غياب أي تناقض جوهري بينهما. وعلى الرغم من أن لكل من الإيمان والعلم سيادته الخاصة على عقل الإنسان ومنحى تفكيره، فإن الطراز المعياري للانفجار الأعظم "أو خلق الكون" يوحد هذه السيادة، التي هي ظاهريًا فقط ذات شقين، إنما في كينونة واحدة. فكلما تعمقنا في فهم الحقائق العلمية، كلما اقتربنا من الإيمان أكثر، وما من تفسير إلا وبعده تفسير أعمق"(2).

وفي محاولته بحث سبب التعارض في هذا الباب يقول: "وربما يعود التناقض الظاهري بين الإيمان والعلم إلى حرفية التفسير. فقراءة الخطاب الإيماني يجب أن تكون رمزيًا وليس حرفيًا. وما إن نقرأ نصوص الإيمان، ونفهمها فهمًا حرفيًا، وليس على أساس أنها إشارات ورموز، حتى نقع ضحية تناقضات لا سبيل إلى حلها، ليس مع العلم فحسب، وإنما مع الإيمان نفسه، وحتى مع أنفسنا. وكذلك هي الحال في العلم، فإن اعتقادنا أن قوانينه قادرة على تفسير كل شيء، تبعدنا ليس عن الإيمان فحسب، إنما عن العلم نفسه، وتقربنا كثيرًا من حدود الجهل بحقيقة الأمور"(3).

(1) التطور الموجه، د. هاني رزق ص 84 - 85 ضمن كتاب الإيمان والتقدم العلمي، وتفصيلها نفس الكتاب ص 27 - 84.

(2)

التطور الموجه ص 37. وانظر: ص 87 - 88.

(3)

المرجع السابق ص 88.

ص: 971

وقد استعرض إنجازات العلم المذهلة ولكنه قال: إن "العلم لا يستطيع بمفرده أن يجيب على عدد كبير من التساؤلات. . . ."(1)، وهي غالبًا تساؤلات ترتبط بالقدرة الإلهية التي أوجدت تلك الأحداث المختلفة في العالم الصغير "الذرة والخلية" والعالم الكبير "الكون بمجراته" والعالم البعيد "بداية الخلق". ولكنه لا يتجاوز ذلك إلى إثبات ما ورد في الغيب، فقد جعله رمزيًا أو قريبًا من ذلك، بينما الحقيقة عنده تكمن في العلم الطبيعي، ويكون الإيمان فقط لتفسير التحولات والتغيرات التي يستحيل على العلم قول شيء فيها. وقد يكون هذا النوع من الانحراف ناتجًا من الضعف أمام شهرة العلم وضخامته وفتنته، مما يجعل البعض يخشى مخالفته أو أن يُتهم بعدم علميته وتسليمه بالغيبيات، وقد يخف مثل هذا الافتتان عند نجاح النشاط الإِسلامي المقابل له في تأصيل الأطر العلمية وأسلمة المعرفة.

قبل مواصلة الحديث مع الاتجاه التغريبي نأخذ بعض الأصول التي تبرز في هذا الباب، قد برزت بعض ملامحها في المثال السابق، وهي أصرح عند المتغربين المتطرفين، ويجدون فيها فرصة للطعن في قضايا الغيب، ومن أهمها -لاسيّما ما له علاقة بالجانب الديني- الأصول التالية:

1 -

ترسيخ القول بوجود خطابين للمعرفة والوصول للحقيقة -لاسيّما في تلك المسائل التي جاء ذكرها في الوحي واهتم بها العلم، مثل: خلق الكون والحياة والإنسان- خطاب ديني وخطاب علمي، فإذا جاؤوا إلى الديني الذي تكلم عن هذه القضايا طلبوا تأويله وأن يُعدّ رمزيًا، وإذا جاؤوا إلى العلمي حكموا به وقدموه مع أنه نظريات يصعب القطع بها. والأصل هنا أن لا يصرف الخبر الديني عن ظاهرة إلا عند وجود حقائق قطعية، وهو متعذر في باب النظريات التي تبحث الماضي البعيد. وعند افتراض علمية النظريات وقيامها على تجارب ومشاهدات وحسابات متينة، فهي مع كل ذلك، وباعتراف العلماء وباعتراف فلسفة العلم، لا تتجاوز كونها نظرية ظنية لا يمكن القطع بها، وبهذا يكون المقدم عند تعارض الأدلة هو القطعي منها، وليس ما يفعله هؤلاء من وضع الظني من النظريات موضع القطعي، وصرف القطعي عن ظاهره مطلقًا،

(1) انظر: المرجع السابق ص 91 - 93.

ص: 972

فهذا من عدم الإيمان بالغيب ومن عدم الإيمان بالوحي، ومن عدم الاطمئنان لقول الله تعالى:{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122].

2 -

امتداد الرؤية المادية العلمانية إلى إطار النظريات وإلى تفاصيلها، لاسيّما في أبواب الخلق والتسخير والتدبير، فهم لا يتكلمون عن عالم مخلوق وإنما عن عالم موجود، وذلك أن الحديث عن العالم الموجود يبعدهم عن الاعتراف بعالم من خلق الله تعالى (1)، ولذا يأتي الحديث في هذا الباب دون ذكرهم خلق الله لهذه العوالم، وهي مفرق طرق بين التصور الإِسلامي والتصور العلماني، فذكر العوالم المخلوقة لا يأتي في القرآن إلا مقرونًا بخالقه ومدبره ومسخره وربه ومليكه، وقد استبدل الاتجاه المادي هذا الخالق سبحانه بالطبيعة، فهي التي تقوم بكل الأدوار التي جاء نسبتها في القرآن لرب العالمين، وهذا في الأمور الجارية على سنن ثابتة، أما البدايات لكل شيء أو التغيرات فتنسب للصدفة، وقد صيغت كثير من النظريات، ومن ثم الكتب العلمية وفق هذا المنظور، فيتم الحديث عن هذا العالم المخلوق وكأنه دون خالق، إنما هو آلة محكمة تدير نفسها بنفسها، وعند وجود تغير أو تحول فالذي لا يخضع منها لمنطق العلم وقوانينه، ومن ثم للطبيعة فيحال للصدفة، وقد أراد بعضهم إثبات مثل هذا الرأي في الصدفة بمنطق العلم الرياضي (2)، ومن ذلك هذه الصدفة التي وقعت بخروج الخلية الحية من المادة، مع أن من نظر في عالم الخلية اليوم يعلم كم هي عالم عجيب تلك الخلية، يقول بوكاي:"ومثل هذا القول يساوي تمامًا في أهميته القول بأن إمكانية تكوين جزيئات الصلب من خام الحديد والفحم تحت درجات الحرارة العالية يمكن أن تؤدي -بصورة عفوية- إلى تشييد برج إيفل .. عبر سلسلة من المصادفات الموفقة التي عملت على تجميع المواد في وضعها الصحيح. ومع ذلك فوجه الشبه في المقارنة ضعيف جدًا؛ لأن تعقد التركيب في أي من الأحياء الأولية يفوق -بالفعل- تركيب برج إيفل. . . ."(3)،

(1) قارن: سلامة موسى وأزمة الضمير العربي، د. غالي شكري ص 101.

(2)

انظر حول هذين الصنمين ما كتبه محمَّد يوسف: مصرع الدارونية، الباب الثالث ص 71 - 101.

(3)

ما أصل الإنسان. . . .، د. موريس بوكاي ص 27، ترجمة مكتب التربية العربي لدول الخليج.

ص: 973

بل إن بعض الماديين رفضها وإن تحول إلى لا أدرية مثل البيولوجي الروسي "أوبارين" حيث كتب عن صدفة ظهور الحياة: "إن ذلك يشبه تمامًا أن يمسك أحدهم بقطع كتب على كل منها حروف الهجاء المعروفة، فيخلطها معًا، ثم يبعثرها على الأرض يحدوه الأمل في أن تسقط مصوغة شعرًا موزونًا مقفى. ومن نافلة القول: إن لصناعة الشعر من الأحرف مسارًا آخر -حيث لا تتولد القصائد عن الأحرف بغير المعرفة والتضلع في النظم وترتيب الحروف"(1).

أما في التصور الإِسلامي فيقوم على إثبات عالمٍ مخلوق، خلق بالحق، من قبل العليم الحكيم القوي القدير سبحانه، ومما ورد من الآيات في ذلك قوله -تعالى-:{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)} [لقمان: 20]، وقال -تعالى-:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)} [الحج: 65]، وقال -تعالى-:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)} [البقرة: 29]، وقال -تعالى-:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)} [البقرة: 164]، وقال -تعالى-:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)} [الأنعام: 1 - 2]، وقال -تعالى-:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)} [الأنعام: 73]، وقال -تعالى-:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54]، وقال -تعالى-: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

(1) المرجع السابق ص 62.

ص: 974

وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)} [الأعراف: 185]، وقال -تعالى-:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)} [يونس: 5]، وقال -تعالى-:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)} [إبراهيم: 32 - 33].

وقد جمع الله لنا مخلوقاته الثلاثة: الكون والإنسان والحيوان فقال: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)} [النحل: 3 - 5]، وقال -تعالى-:{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)} [النور: 45]، وقال -تعالى-:{سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)} [يس: 36]، وقال -تعالى-:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)} [الزمر: 5 - 6]، وعشرات الآيات التي لا يأتي ذكر عالم المخلوقات إلا وقُرنت بخلق الله لها وتسخيره وتدبيره وملكه وفعله

سبحانه.

3 -

قيام النظريات في بعض أجزائها على مخالفة صريحة لما ثبت بالوحي، وغالب ذلك من أثر المادية والإلحاد الذي ساد في الفكر الغربي مع ازدهار العلوم الطبيعية في بيئاتهم، ومن أشهر الأمثلة إنكارهم لخلق الإنسان المستقل، وقد برز ذلك بعد ظهور نظرية داروين، وأهم ما ينكرونه ما ورد من خبر الوحي عن خلق آدم عليه السلام ونزوله إلى الأرض، وهي مسألة لا يمكن للعلم أن يصل فيها إلى شيء؛ لأنها من خبر الغيب المحض، ويتبع ذلك ما نجده من مزاعم لوجود صورة بدائية للإنسان لم يكتمل فيها عقله وتركيبة جسده، ثم جاء

ص: 975

زمن ظهر فيه الإنسان بالصورة التي هو عليها اليوم. وهذا مخالف لما جاء في الوحي، فقد خلق الله آدم في أحسن تقويم، وأنزله الله الأرض وأسكنه فيها وهو بهذه الحال. مع العلم أن ما يقولونه في هذا الباب ليس من العلم المقطوع به حتى في دائرة العلم، ولكنه نظريات تقدم كمحاولة للتفسير، وهي في ظل من غاب عنهم هدي السماء مشهورة ومعروفة ولا يمكن منعها، فستبقى نظرياتهم تظهر، مع العلم أن حركة العلم المعاصرة بدأت تنفض يديها من بقايا نظرية داروين، ولكن لا يشترط دائمًا في البديل أن يقترب من الوحي، رغم أن أشهر النظريات مخالفة هي تلك التي تعترف بالخلق الإلهي، ولكن ذلك هو حاصل جهد البحث العقلي والعلمي بعيدًا عن الاهتداء بهدي الوحي، ولذا لا يعوّل عليها، وقد تظهر تيارات إلحادية تعصف بحركة العلم نحو الإلحاد. بل من الأمور الأكثر بشارة بتحسن مسار هذا النوع حتى مع أصحاب القول بالخلق الإلهي، هو تلك الدراسات التي ظهرت في الغرب وتثبت أن القطعي من الاكتشافات العلمية في باب الكائنات الحية، يتفق اتفاقًا واضحًا ما ورد ذكره في القرآن الكريم، ومن بين تلك الدراسات ما قدمه الدكتور "موريس بوكاي""ما أصل الإنسان؟ إجابات العلم والكتب المقدسة" و"القرآن الكريم والعلم العصري"، وبقدر ما نجد من مبشرات في هجر الأقوال المادية الإلحادية بقدر ما أجد عدم جدوى الانسياق خلفها، فما جاء في القرآن هو الأصل، وهو منطلق الرؤية الإِسلامية، وكل جهود ملاحقة النظريات العلمية محفوفة بالمخاطر، ولكنها تأخذ أهميتها في بيان بطلان الاتجاه المادي وأهم من ذلك في بيان نسبية النظريات ومحدوديتها، وبهذا فهي لا تعتبر حجة في رفض الحق الديني، ولا يصح التسرع في تأويل النصوص الشرعية من أجلها.

4 -

تدخل تفاصيل النظريات العلمية حول وجود الكون والحياة والإنسان في باب الكيفيات، ويقاس فيها -غالبًا- الماضي البعيد على الحاضر، وهذا النوع غالبه غير قطعي من جهة علمية، وغير قطعي من جهة دينية، فهو من جهة علمية من غير القطعيات، فهو أحد الأجوبة المقدمة، وقد يأتي غيره، وقد يُكتشف خطؤه، وقد يتغير أو يتطور، وسنجد حول نشوء الكون أكثر من نظرية (1)، وكذا حول أصل

(1) حول النظريات الواردة عن أصل الكون انظر مثلًا: نظريات نشأة الكون في الفكر =

ص: 976

الحياة (1)، وكلها تتنافس في هذا الباب، وهو من جهة دينية مما لا يمكن القول فيه بقول قاطع لعدم ورود نص صحيح صريح حول الكيفيات التي وقع بها الخلق للمخلوقات، منذ أن خلق الله السموات والأرض حتى اللحظة التي استطاع الإنسان اكتشاف مكونات المخلوقات المادية والحية، حتى أصغر شيء فيها من الذرة وما بداخلها في عالم المادة، ومن خلية وعالمها في عالم الكائنات الحية، ثم استطاع معرفة شيء من طريقة عملها. فلم يأت القرآن بذلك وما كان غرضه ذكر هذه التفاصيل التي يذكرها علماء الطبيعة، ولكن ورد في القرآن والسنة أصول عامة حول هذه المخلوقات، مثل خلق السموات والأرض والحياة والإنسان، ومن ذلك خلق السموات والأرض قبل الإنسان، ومن ذلك أن كل كائن حي يرجع إلى الماء، قال -تعالى-:{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)} [الأنبياء: 30]، وقال -تعالى-:{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45]، ومن ذلك أصل الزوجين في المخلوقات الحية، قال -تعالى-:{وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [الرعد: 3]، وقال -تعالى-:{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)} [الذاريات: 49]، ومنها خلق الكائنات الحية من هذه الأرض ومنهم آدم الذي خلق من تراب، قال -تعالى-:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)} [آل عمران: 59]، وقال -تعالى-:{وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18)} [نوح: 17 - 18]، والآيات في ذلك كثيرة. وتبقى هذه أصولًا عامة، وكل ما خالفها يعلم بطلانه، أما الكيفية فهي مما لا نعلمها؛ لأنه لم يرد فيها نص، وغالب ما يقوله أهل العلوم مما يدخل في باب الكيفيات، فإن كانت من الغيب الذي لا يمكن للبشر علمه إلا بالخبر مثل خلق آدم عليه السلام، فكل دعوى حوله هي من الرجم بالغيب؛ لأنه لا طريق لها إلا بالخبر، بخلاف خلق الإنسان، فقد كان أمره من الغيب النسبي، وقد جاء ذكر تفاصيل ذلك في القرآن، وكانت التفاصيل المذكورة غير ممكنة المعرفة زمن نزول القرآن، فكانت من الغيب النسبي، ثم مع تطور

= الإِسلامي، د. إبراهيم تركي ص 435، وانظر: الموسوعة العربية العالمية 20/ 299.

(1)

حول النظريات الواردة في أصل الحياة انظر مثلًا: نظرية التطور عند مفكري الإِسلام. دراسة مقارنة، د. محفوظ عزام ص 128، وانظر: ص 172.

ص: 977

الأجهزة الحديثة التي تُصوّر كيفيات تخلق الجنين في بطن الأم عُرف معنى تلك الآيات على وجه مفصل، وهذه من دلائل النبوة، حيث إن ما جاء في القرآن هو نفسه الذي كشفته الأجهزة، قال شيخ الإِسلام ابن تيمية حول قوله -تعالى-:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)} [العلق: 1 - 2]: "فذكر الخلق مطلقًا، ثم خص خلق الإنسان أنه خلقه من علق. وهذا أمر معلوم لجميع الناس، كلهم يعلمون أن الإنسان يحدث في بطن أمه، وأنه يكون من علق، وهؤلاء بنو آدم. وقوله: الإنسان هو اسم جنس يتناول جميع الناس، ولم يدخل فيه آدم الذي خلق من طين؛ فإن المقصود بهذه الآية بيان الدليل على الخالق تعالى، والاستدلال إنما يكون بمقدمات يعلمها المستدل. والمقصود بيان دلالة الناس وهدايتهم، وهم كلهم يعلمون أن الناس يخلقون من العلق. فأما خلق آدم من طين فذاك إنما علم بخبر الأنبياء أو بدلائل أخر. ولهذا ينكره طائفة من الكفار الدهرية وغيرهم الذين لا يقرون بالنبوات. وهذا بخلاف ذكر خلقه في غير هذه السورة. فإن ذاك ذكره لما يثبت النبوة وهذه السورة أول ما نزل وبها تثبت النبوة فلم يذكر فيها ما علم بالخبر، بل ذكر فيها الدليل المعلوم بالعقل والمشاهدة والأخبار المتواترة لمن لم ير العلق"(1).

فما كان من الغيب الذي لا يُعلم إلا بالخبر، فهذا لا يستطيع الناس القطع فيه بشيء، وأما ما كان من الغيب النسبي، ومن ذلك بعض الكيفيات التي وقع عليها الخلق، فهذه إن جاء العلم بذكر شيء منها مما ورد ذكره في الوحي، فلابد من اجتماع علماء المسلمين من البابين: علماء الشريعة وعلماء الطبيعة، فيُخرجوا الاجتهاد الشرعي حول هذه الأمور. ومن نظر في واقع الناس اليوم عرف أهمية مثل هذا العمل، بسبب فوضى النظريات العلمية في أبواب الغيب النسبي، وقد تؤثر في الناس لاسيّما وهي موجودة في كل مكان، ومثل هذا الباب لا يكفي فيه جهد باحث، وإنما هو في حاجة لعمل مؤسسي، وقد أقام الناس مؤسسات وجمعيات في أبسط الأمور وأقلها شأنًا، فمن باب أولى أمور عظيمة مثل هذا الباب. مع أن المهتمين بهذه المجالات العلمية يعترفون بصعوبة الجزم في مثل هذه الأبواب، ومع ذلك تجد المتغربين يطرحونها بكل سهولة في

(1) الفتاوى 16/ 260 - 261.

ص: 978

مقابل الدين دون تعظيم للدين، ومن ذلك ما نجده عند "رزق " حيث يقول:"مع أننا نواجه عند بحثنا لأصل الحياة "وليس لأصل الإنسان" صعوبات تماثل الصعوبات التي نصادفها عند الحديث عن أصل الكون، إلا أن بساطة العلاقة بين الطاقة والمادة، وأنواع المقاريب، والسواتل، والمسابير الفضائية، وكذلك المسرعات الضخمة التي بناها العلماء، والدراسات النظرية الرياضية والفيزيائية، حولت، كما سبق أن عرضنا، فرضية الطراز المعياري للانفجار الأعظم إلى نظرية راسخة معيارية، تستطيع تفسير أمور عديدة تطرحها الرياضيات الكونية، وتنبثق عن الدراسات، التي تجري في نطاق الفيزياء الفلكية. إن البحث عن أصل الحياة يفتقر إلى هذه الأمور كلها. ويزيد في صعوبة إجراء بحوث معمقة حول أصل الحياة تعقد الحياة نفسها مقارنًا بالمادة التي تشكلت نتيجة الانفجار الأعظم. . . . وعلى الرغم من هذه الصعوبات الجسيمة، فإن تقدم البيولوجيا الجزئية في النصف الثاني من هذا القرن، أدى إلى اختصار عدد الأسئلة التي كانت تطرح في هذا الصدد. . . ."(1)، ويقول عن أصل الأرض:"مع أن أصل الأرض ما يزال يعتوره الغموض، إلا أنه يرجح بأنها ولدت نتيجة تصادم نجم مع نجم آخر، أو مع كوكب ضخم. ولقد حدث هذا قبل 4.6 مليار عام. . . ."(2)، بل هذا ما ينقل حتى من أصحاب النظريات كما نقل مثلًا عن "داروين" قوله:"إن سرّ بداية الأشياء غير قابل للحل. أما فيما يتعلق بي شخصيًا فإنني قانع بأن يكون موقفي هو موقف اللاأدري حول هذا الموضوع"(3).

بعد عرض هذه الأصول أقف مع نماذج أكثرُ تطرفًا وغلوا وأصرح في التغريب ومحاربة الدين عن طريق التكذيب بالغيب بحجة تعارضه مع العلم، أو أصرح في التبعية العمياء وتحريف أي نص غيبي لا يتوافق مع ما يتصوره علمًا.

أمثلة من الانحراف حول خلق الكون:

قد نجد من يعرض التصور الإِسلامي عن هذا الباب بحسب ما يفهم بعقله من الآيات الواردة، ثم يحولها كفرع تحتاج إلى أصل توافقه، بينما الحق أن

(1) التطور الموجه، د. هاني رزق ص 53، ضمن كتاب الإيمان والتقدم العلمي.

(2)

المرجع السابق ص 66.

(3)

نظرية التطور عند مفكري الإِسلام. دراسة مقارنة، د. محفوظ عزام ص 33.

ص: 979

يكون القرآن هو الإطار، وهو الأصل، وهو السقف، وهو الرؤية، ثم يكون غيره فرعًا له، وهذا ما نجده مثلًا عند هذا الكاتب، فبعد عرضه لعدد من الآيات حول الكون قال:"يُستخلص مما سبق أن نظرة الإِسلام إلى الكون تتفق مع نظرية النشوء والارتقاء لداروين وأتباعه من الطبيعيين إلى حد بعيد. فالكون كان كتلة واحدة "رتقًا" ثم انقسمت "انفتقت" بإرادة إلهية، لعلها عن طريق الانفجار العظيم. . . ."(1)، ولولا هذا الاتفاق بحسب تصوره لقام بتحريفها كما حرف الكثير في كتابه.

يقوم الاتجاه التغريبي بعرض النموذج العلمي عن وجود الكون والحياة والإنسان بوصفها منافسًا لما ورد في الدين، بل بديلًا حقيقيًا، ويَستثمر كل مكان مشتبه للطعن في الدين، ويُصور الأمر على أنه انتقال من الخرافة إلى العلم. فيَعرض وجود الكون والأرض والحياة والإنسان بهذا التسلسل، ثم يتبع ذلك بالتكذيب بكل أمور الغيب، ومختصر طريقتهم في ذلك هي: يأتي أولًا وجود الكون والسموات والأرض ثم الحياة والكائنات الحية ثم الإنسان، ثم يأتي بعدها تصورات الإنسان عما حوله، فبعد نمو دماغه استطاع أن يضع تصوراته حول هذه الموجودات، ولقدرة الدماغ على الخيال فهو يبتكر تصوراته بشكل أسطوري وخرافي عن هذه الموجودات التي يعجز عن معرفتها، ومن ذلك: كيف وجد الكون؟ وكيف تحدث التغيرات في الطبيعة؟ وكيف ظهر الإنسان؟ وهل هناك عوالم خفية تحيط به يرمي عليها تفسير فعل ما لم يستطع تصوره؟ ويُقحم المتغربون في هذا الباب -تبعًا للفكر الغربي العلماني- الأصول الدينية التي أُرسل بها الرسل ونزلت فيها الكتب، ويخلطون في الباب بين الحق والباطل من خلال المقارنة بين الدين الحق وبين الأديان المبدلة أو المخترعة أو البدع والانحرافات.

لا يحرص الدكتور رزق -صاحب التطور الموجه- على إبراز ما يعارض الدين من النظريات العلمية، ولكنه يقع في الإشكال المنهجي من جهة تصوره للدين كرموز بينما النظريات هي حقائق، وهو يظن أنه يحسن للدين وهو يسيء له بذلك، كما أن فلسفة العلم المعاصرة لم تعد ترى النظريات ذات تعبير صرف عن حقائق موضوعية، وقد رأينا في المبحث الأول من هذا الفصل اتجاه أغلب

(1) هكذا تكلم العقل. . . .، د. حيدر غيبة ص 219.

ص: 980

العلماء في باب العلوم الطبيعية نحو المثالية، كما رأينا في المبحث الأول من الباب الأول مقولة العوالم الثلاثة في المجال العلمي، وخلاصتها في الطرفين أن التعبير عن حقائق موضوعية في غاية الصعوبة، وأن كل ما نعبر عنه هو عن ظواهرها، وأن ما نعبر عنه إنما هو تصورات ذهنية قد تكون بعيدة عن الحقيقة الموضوعية للأشياء. وليس المقصود التسليم بهذه النتائج، بقدر ما المقصود إثبات اختلاف مؤسسي هذه المنهجيات.

ويختلف عنه النموذج التغريبي الصرف الذي يحرص على رفع تلك النظريات إلى حقائق موضوعية بكل تركيبتها، ثم وضعها بديلًا عن الدين، بل أداة للتكذيب بالغيب، ومن بين الأمثلة نجد ممثلًا لما يدعى بالتيار العلمي في الفكر التغريبي وهو سلامة موسى، ونجد ممثلًا لما يدعى بالتيار الماركسي وهو صادق العظم، حيث يحرص هؤلاء في أثناء عرض النظريات العلمية عن وجود الكون والحياة والإنسان أن تكون أداةً للتكذيب بالغيب، وكل له طريقته في ذلك، ويعد "سلامة موسى" الرائد لسبقه التاريخي في نشر كل التناقضات الغربية في البيئة الفكرية، ثم جاء التخصص في الأفكار بعده، حيث برزت اتجاهات فكرية متخصصة.

يبدأ "موسى" في ذكر أصل الكون بحسب ما تقوله النظريات الحديثة، وهو يتكلم على عالم دون خالق له، ينظر في قوى الكون الخاصة وطريقتها في التكوين وطريقتها في تدبير أمرها وطريقتها في إحداث التغييرات والتحولات، وأن الكون كان كتلة واحدة قبل ملايين السنين، ثم انفجرت هذه الكتلة فنشأت منها المجرات، ومن الملاحظ وجود نجوم تولد وأخرى تموت ومثلها سيكون مصير مجرتنا ومجموعتها الشمسية، ولكن ذلك يستغرق ملايين السنين، وقد ظهرت ظروف جعلت من الأرض مكانًا مناسبًا للحياة، ويقطع بوجود كثير مثلها تتبع نجومًا أخرى كما تتبع الأرض نجم الشمس، وقد بدأت الحياة من الماء عبر كائنات صغيرة، بدأت تتجاوز الماء نحو اليابسة، وقد احتاجت لتحقيق مغامرتها الجديدة إلى تغير في خياشيمها، وإلى تحولات في أطرافها تساعدها على المشي، فظهرت البرمائيات متكيفة مع الوضع الجديد، وبدأت حياة جديدة على الأرض، تطورت عبر ملايين السنين حتى وصلت للإنسان (1)، حيث وصل تطور

(1) انظر: الإنسان قمة التطور، سلامة موسى ص 56 - 78.

ص: 981

تلك الكائنات إلى خمسة تُعد الأكثر تطورًا "نحن خمسة ليس لنا سادس، قد افترقنا منذ أكثر من مليون سنة، ولكننا ما زلنا نذكر قرابتنا وندل عليها بالوجوه وسائر الأعضاء، وكذلك بالاتجاهات الذهنية والعاطفية. نحن البشر، ثم الشمبنزي، ثم الغوريلا، ثم الأورانج، ثم الجيبون"(1).

ولنترك ما حدث للنظرية العلمية؛ لأن هذه النظرية لها مدافعون عنها ولها معارضون (2)، ولكن لننظر إلى الأمراض التي تتسرب من خلال النظريات، لاسيّما تلك التي لها علاقة بمبحث الغيب؛ لأن هذه الأمراض هي متواصلة مع كل نظرية ترتبط بمن لا يؤمن بالله، وأهمها في القسم الأول مما يطرحه موسى هنا: تفسير نشأة الكون والحياة تفسيرًا ماديًا، الطبيعة تُكوّن نفسها بقواها الخاصة وتُطور نفسها وتغير في مكوناتها، لا وجود هنا للخالق المالك المدبر الفعال لما يريد؛ لأنه عند الماديين لا وجود إلا للمادة، هي الوجود الحقيقي، ولها قواها الخاصة التي تدبر وجودها. وبعيدًا عن صحة مكونات النظريات العلمية هذه أو تلك -فذاك ميدان العلوم إلا ما علم بطلانه دينيًا- فمن المتفق عليه فساد التصورات المادية التي يتحرك فيها مثل هذا العرض. حيث يُصور تكون الكون والحياة والإنسان حادثًا بالصدفة وبقواه الخاصة.

ويرتبط بهذا الانحراف المادي حول وجود الكون والحياة والإنسان انحراف أكثر مادية وإلحادًا حول قضايا الغيب الأخرى:

فالوعي بقضايا الغيب يرتبط بالإنسان، فهو الذي يشعر بالغيب وهو المكلف بالإيمان بالغيب، فكيف يطرحه هذا النموذج من خلال عرضه لنشوء الكون والإنسان؟

باختصار، سكن الإنسان مع الأربعة السابقين على الشجر في الغابات، مما هيأ لنمو يديه للتسلق ورجليه للمشي، ثم ترك الشجر ونزل للسهول، وارتبط بذلك تطور آخر لأعضائه، ولاسيّما الشم والسمع والنظر، وأصبحت من وسائل معرفته، بينما اليد والرجل تساعده في العمل والحركة، وبسبب حاجتهم للتعاون

(1) المرجع السابق ص 94.

(2)

انظر: ما أصل الإنسان؟ .. ، د. موريس بوكاي ص 54، وانظر: مصرع الدارونية، محمَّد يوسف ص 35.

ص: 982

في السهول للصيد ظهرت اللغة، فهو قبلها كان مثل الحيوانات دون لغة، ومع وسائل المعرفة ومع اللغة كبر الدماغ، وقد أدى اجتماعهم للصيد والرعي والزراعة في تكوين مجتمع نمت فيه عادات وخرافات، وفي هذه المرحلة جاء الإيمان بالله، وقبلها لم يكن هناك إيمان به كما أنه لم يكن له لغة، وذلك أن الصيد خطر، والصائد عرضة لأن يكون فريسة ما يصيد، فعمّ الخوف الصائدين مما حملهم على التشبث بأية عقيدة تلهمهم الاطمئنان، ومعها ظهر الإيمان بالغيبيات (1)، وكما يقول:"وجد البشر، منذ شرعوا يفكرون، أنهم في حاجة إلى الإيمان بغيبيات تقوم مقام الاقتناع بالمنطق؛ لأن وسائل المنطق لم تكن مكملة لديهم. ولذلك سلموا أو آمنوا بأشياء كثيرة، بما أسموه "ما وراء المادة". ومهما يكن اختلافهم في هذه الغيبيات فإنهم أجمعوا على اتخاذ عقائد ارتضوها ووجدوا فيها طمأنينة أو وسيلة للخير والعدل"(2)، وهذه الغيبيات هي ما يريد الاتجاه التغريبي المتطرف هدمها، وقد اتخذ مثل هذه النظريات لهدمها، وهو لا يفرق بين الغيب الحق الذي جاء به الأنبياء، وبين الغيب الذي اخترعته عقول الناس؛ لأنهم أصلًا لا يقرون بدين أو بأنبياء، وبهذا فهم يتبنون مثل هذه النظريات ليس لعلميتها، وإنما لمثل هذه الأبعاد الفكرية القائمة على الرغبة في هدم الدين والغيب، يقول أحدهم عن انعكاس مثل هذه النظريات على "موسى":"اكتشفنا أن انعكاس نظرية التطور على الحركة الفكرية المصرية، هو "التفريج الكظوم"، هو "الانتقام"، هو الثورة العارمة على الغيبيات والثقافة الدينية"(3).

باب خلق آدم عليه السلام وأصل الإنسان:

بحسب الأمثلة السابقة يأتي الإنسان في مرحلة متأخرة، يستوي في ذلك صاحب النظرة المتحفظة وصاحب النظرة المتطرفة، فبعد ملايين السنين تكونت المجموعة الشمسية وأرضها، ثم ولدت فيها الحياة، وكانت البداية بالنبات ثم الحيوان ثم الإنسان. ويتفق الجميع على إهمال قصة خلق آدم عليه السلام أو إنكارها،

(1) انظر: ما أصل الإنسان؟ .. ص 6 - 16.

(2)

المرجع السابق ص 116.

(3)

ويقصد بالمصرية هنا التغريبية منها ولكن التعميم هنا له فائدته عندهم، وذلك أثناء حديثه عن "سلامة موسى". سلامة موسى وأزمة الضمير العربي، د. غالي شكري ص 110.

ص: 983

وذلك أن تلك القصة كما وردت في الوحي هي من أنباء الغيب، ولا يمكن معرفتها إلا بطريق الوحي، فمن كذّب بالوحي أو نفى مصدريته للمعرفة واكتفى بالحس فمن المؤكد عدم تسليمه بما جاء في الوحي، وإن كان النافي قد يكون معه غيبيات (1) لا يمكن التحقق منها.

لقد ورد ذكر قصة خلق آدم عليه السلام أبي البشر في آيات منها ما ورد بتفصيل في سورة البقرة فقال -تعالى-: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)} [البقرة: 30 - 38].

في هذه الآيات ذكر هذا الحدث الغيبي العظيم بخلق هذا الإنسان بما ركب من عجائب تحار فيها العقول، وصدق الله العظيم:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات: 21]، وقال -تعالى-:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33)} [الحجر: 26 - 33]، وقال -تعالى-: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)

(1) انظر: مثل هذه الغيبيات العلمية: مصرع الدارونية، محمَّد يوسف ص 47 وما بعدها.

ص: 984

فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)} [ص: 71 - 76]، وقد وردت في سورة الأعراف [الأعراف: 11، 12]، وغيرها من الآيات.

فهذا حدث غيبي لا يمكن للبشر معرفته إلا عن طريق الوحي، ومن نفاه من الملحدين فحجته فقط أنه لا يستطيع إثبات ذلك بعقله أو بالحس، ومعلوم أن ذلك غير ممكن للبشر، فحجة الملحدين هنا هي عدم دلالة الدليل المعين، وقد سبق أن عدم دلالة الدليل المعين لا تعني عدم المدلول المعين، ويدخل مع ذلك بقية الغيبيات المطلقة مثل: العرش واللوح المحفوظ والقلم وبقية المخلوقات السماوية.

وإذا عدنا لمشكلة المتغربين في هذا الباب فقد كانت بحق أول مشكلة أثاروها ونالت شهرة كبيرة، وذاك يختلف عما حدث في الغرب، فقد كانت أول نظرية سببت الإشكال في الغرب هي نظرية الفلك الجديدة، ومنذ ذاك الوقت والسائد في العقلية الغربية توقع التعارض بين الدين والعلم، وقد استغل الاتجاه الإلحادي المادي مثل هذه الثغرة لجعل كل ما ينتمي للحقل العلمي له القوة نفسها، والتي تتميز بها الحقائق العلمية، فكلما ظهرت نظرية تنتمي للعلم وخالفت الدين، رفع الماديون عقيرتهم: ها هي المشكلة القديمة نفسها تتكرر، مع العلم أنه ليس كل ما ينتمي لمجال العلم هو من العلم، ففيه ما هو طرح مؤقت أو مبدئي ويحتاج لمزيد من البحث والتحقق، وبقي الأمر على هذه الحال حتى جاءت نظرية التطور الدارونية التي وقع لها من الشهرة ومن التأثير ما لم يقع لغيرها، وأثارت من الصراع والجدال ما لم يثره غيرها، وربما هذا دليل واضح على الثغرات التي فيها، فلو كانت حقيقة علمية بيّنة يمكن التحقق منها ما وقع كل ذلك الصراع، بل ما ظهر من دائرة العلم ذاته من يرفضها كل ذاك الرفض القاطع، وعندها يبقى الإصرار على نشرها مما يدل على البعد المذهبي والأيديولوجي أكثر من الجانب العلمي.

وكما يقول "أورخان علي": "وهناك ظاهرة تلفت النظر في موضوع نظرية التطور؛ لأن هذه النظرية خرجت من كونها نظرية علمية قابلة للصواب أو الخطأ، إذ تحولت إلى "أيدلوجية" يدافع عنها أنصارها، ولا يترددون حتى في

ص: 985

القيام بعمليات تزوير مشينة من الناحية العلمية والأخلاقية، وهذا ما لا نراه في النظريات العلمية الأخرى، فلا نرى عالمًا في الفيزياء أو في الكيمياء أو في أي علم من العلوم يقوم بعملية تزوير لإثبات صحة نظريته أو صحة القانون الذي اكتشفه؛ لأن غاية العلم هي الوصول إلى الحقيقة. بينما نرى أن عمليات التزوير العلمية منحصرة في موضوع نظرية التطور فقط"، ثم استعرض بعض هذه العمليات التزويرية (1)، ومن بين الأسباب لمثل هذه التحمس كما يذكر بعض الغربيين عدم وجود بديل عنها سوى البديل الديني القائل بخلق الإنسان، يقول أحد الغربيين: "إن نظرية النشوء والارتقاء غير ثابتة علميًا ولا سبيل إلى إثباتها بالبرهان. ونحن لا نؤمن بها إلا لأن الخيار الوحيد بعد ذلك هو الإيمان بالخلق الخاص المباشر، وهذا ما لا يمكن حتى مجرد التفكير فيه" (2).

وقد كانت هذه النظرية أول نظرية دخلت العالم الإِسلامي بقوة، وأحدثت لفترة طويلة مشكلات كبيرة داخل الفكر العربي والإِسلامي (3)، وفي النظرية جوانب إشكالية وإلحادية خطيرة، وهذه الجوانب منها تجذب مرضى القلوب، فمعلوم أن النظرية برزت في إطار مادي علماني، وقد امتدت الرؤية المادية إلى مكونات كثيرة من هذه النظرية، لاسيّما مع الدارونية المذهبية، ومن ذلك: إنكار خلق آدم عليه السلام صراحة أو هو من لازم النظرية، وإنكار مبدأ الخلق ذاته، والقول بفاعلية للطبيعة ذاتية مستقلة عن خالقها، والقول بالصدفة لتفسير عدد من الثغرات التي لا يجدون لها جوابًا، والقول بتطور لملايين السنين من بداية الخلية الأولى إلى الإنسان الحالي، ومن آثارها الخطيرة عدم التفريق بين الإنسان الذي خلق في أحسن تقويم وبين الحيوان، وما ترتب على ذلك من أبعاد أخلاقية خطيرة، وغيرها من المشكلات (4)؛ أي: أن الذي ترتب على النظرية قضايا كثيرة، ولم

(1) حقيقة الخلق ونظرية التطور، محمَّد كولن، من مقدمة المترجم أورخان ص 8.

(2)

مصرع الدارونية، محمَّد يوسف ص 38، عن: الإِسلام يتحدى ص 43، وانظر: الموسوعة العربية العالمية، 25/ 255.

(3)

يمكن النظر لكثير مما قيل حول أصل الإنسان في الفكر العربي في كتاب: (أصل الإنسان بين العلم والفلسفة والدين، د. سامي عابدين)، وفيه جمع مميز قد لا يوجد عند غيره، وفيه لفتات مهمة قد يحتاجها أي باحث في هذا الميدان.

(4)

لقد برز عدد من المفكرين الأتراك بكتابات نقدية مهمة في هذا الباب، ويأتي "هارون =

ص: 986

تعد المسألة بحثًا علميًا يدخل في دائرة البحث العلمي من قومٍ لا يجدون مرجعية عليا توجه التصور والتفكير والعمل، وإنما تجاوزت ذلك إلى تصورات وعمليات كثيرة.

وتثار هذه النظرية من قبل المتغربين بمثل هذه المشكلات، لاسيّما في اتخاذها أداةً للتكذيب بالدين والطعن فيه، ومن ذلك التكذيب بخلق الإنسان، والتكذيب بخلق آدم عليه السلام، وكذا يتخذونها أداةً لإثبات التعارض بين الدين والعلم، فتجد أحدهم يسب الدين متذرعًا بمثل هذه النظرية، فوقع المحذور من جهتين: من جهة التكذيب بالغيب ومن جهة رفع دعوى التعارض، وهما بابان خطيران على الدين وفيه، فما جاءت الانحرافات الكبرى إلا ممن كذب بالغيب، وقد يصل بصاحبه إلى التكذيب بكل الغيب وبهذا يقع إبطال الدين، ومثله من ادعى التعارض؛ لأنه هنا يقيم دعوى التعارض بين الدين والعلم، والعلم في أذهان الناس مرتبي بالحقائق الموضوعية، فيقع من ذلك استهانة بأمر الدين عند الجاهل بالدين وغيبه والجاهل بالعلم الحديث ومشكلاته، وهذه نماذج من هذه الانحرافات الخطيرة التي انطلقت من خلال الاتكاء على نظرية علمية حول أصل الإنسان.

كانت بداية ذلك مع طائفة من المتغربين تبنوا ما هو أوسع من النظرية وهو المذهب الداروني، ومن أولئك شبلي شميل الذي ينكر الخلق الإلهي لكل شيء، بما في ذلك الإنسان "فالخلق إبداع في مصنع الطبيعة"، وأما عدم قدرة العلم على إثبات التولد الذاتي؛ أي: الحياة من الجماد، فلا يعني ذلك التسليم للقائلين بالخلق (1).

وتبعه في ذلك سلامة موسى فهو يسير مع النظرية من بدايتها لنهايتها

= يحيى" في مقدمتهم، فله مؤلفات عدة حولها، منها: (نهاية الدارونية)، و (الدارونية عقيدة)، و (فضائح علماء التطور)، و (اعترافات علماء التطور)، و (حقيقة أصل الحياة)، و (خديعة التطور)، وقد اعتمدت على الأخير، ومن بين الدراسات المهمة أيضًا دراسة "محمَّد كولن" (حقيقة الخلق ونظرية التطور). وقد ظهرت كتابات عربية كثيرة عن التطور وداروين، ويبقى أسلمها وأجودها من وجهة نظر الباحث هي كتابات محمَّد قطب، ولاسيّما (التطور والثبات. . . .).

(1)

انظر: الفلسفة النشوئية. . . .، د. محمود المسلماني ص 168.

ص: 987

متحملًا كل أبعادها المادية، فقد نشأت الحياة في الماء، ثم تطورت تلك الخلية حتى تحولت إلى حيوان بحري ثم حيوان بحواس تمكنه الخروج من الماء، وتطور على الأرض (1) إلى أن يصل إلى الإنسان "نحن خمسة ليس لنا سادس، قد افترقنا منذ أكثر من مليون سنة. ولكننا ما زلنا نذكر قرابتنا وتدل عليها بالوجوه وسائر الأعضاء (2). . . .، عشنا آلاف القرون على الأشجار، ثم تركناها بصحبة الغوريلا، وعندما تركنا الأشجار بدأ التطور يدخل أجهزتنا، وعبر مئات السنين أصبحنا على ما نحن عليه، وكل ذلك حدث في الطبيعة وبها، وكل ما سوى ذلك هو من الغيبيات التي ولدت في فترة بدائية من حياة الإنسان"(3).

وقد أصبحت النظرية بعد ذلك أداة للتكذيب بالغيب أو أداة لترسيخ التعارض بين الدين والعلم، من خلال التكذيب بخلق آدم عليه السلام، وكما سبق فإن حجتهم هنا فقط تقوم على عدم دلالة الدليل المعين؛ لأن المسألة ترتبط بالغيب، والغيب لا طريق له سوى الخبر الصحيح، والخبر الصحيح حجة عند كل العقلاء، وبهذا لم تعد المشكلة مع النظرية يرتكز في جانبها العلمي؛ لأن النظرية لا تستطيع تقديم اليقين في الجانب الحسي، فكيف بها في الباب الغيبي، ولكن المشكلة في تحولها إلى أداة، والتلبيس على الناس، وبثّ التشويش على عقائدهم.

ومن بين الأمثلة على قوم يرفعون التكذيب بخلق آدم عليه السلام أداةً للتكذيب بالغيب والدين ما نجده من الدكتور "العظم"، فهو يدّعي لأفكاره تناسقها مع العلم بينما هي في حقيقتها ماركسية صرفة. ففي هجومه على من يزعم التوافق بين الإِسلام والعلم يقول: "يشدد القائلون بالتوافق التام بين الإِسلام والعلم، أن الإِسلام دين خال من الأساطير والخرافات باعتبار أنه هو والعلم واحد في النهاية. لنمحص هذا الادعاء التوفيقي بشيء من الدقة بإحالته إلى مسألة محددة تمامًا. جاء في القرآن مثلًا أن الله خلق آدم من طين، ثم أمر الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس، مما دعا الله إلى طرده من الجنة. هل تشكل هذه القصة

(1) انظر: الإنسان قمة التطور. سلامة موسى ص 64 - 95.

(2)

انظر: المرجع السابق ص 95.

(3)

انظر: المرجع السابق ص 95 - 116.

ص: 988

أسطورة أم لا؟ نريد جوابًا محددًا وحاسمًا من الموفقين وليس خطابة. هل يفترض في المسلم أن يعتقد في النصف الثاني من القرن العشرين، بأن مثل هذه الحادثة وقعت فعلًا في تاريخ الكون؟ إن كانت هذه القصة القرآنية صادقة صدقًا تامًا، وتنطبق على واقع الكون وتاريخه "إنها كلام منزل" لابد من القول: إنها تتناقض تناقضًا صريحًا مع كل معارفنا العلمية، ولا مهرب عندئذ من الاستنتاج بأن العلم الحديث على ضلال في هذه القضية. وإن لم تنطبق القصة القرآنية على الواقع ماذا تكون إذن "في نظر الموفقين"، إن لم تكن أسطورة جميلة" (1).

والإجابة العامة هنا أن الأمر على ما هو عليه، إلا أنه لم يظهر أحد من علماء الإِسلام، وقال بنفي التعارض المطلق؛ وإنما علماء الإِسلام يقولون بعدم وجوده بين النص الصحيح الصريح وبين العلم الصحيح الصريح، أما ما ليس بعلم، أو ما هو علم مخلوط بغيره مما ليس بعلم، فهذا قد يقع القول بالتعارض فيه، وهذا من تمام العقل والعلم والدين، والجهل هنا هو قبول كل ما جاء في الحركة العلمية والفكرية الغربية دون نظر وبحث وتدقيق، ومن المستحيل عند أي عاقل أن يقول بأنه لا يوجد تعارض بين الدين والعلم مطلقًا؛ لأن العلم ذاته يحوي مقولات ناقصة أو مشتبهة، ويوجد في دائرة العلم صور من التعارض بين نظريات علمية أو بين أجزاء من مكوناتها، ومن باب أولى وجوده بين تلك النظريات وبين الدين في جوانب، وإنما الأمر يتعلق بالحقائق العلمية، مع العلم أن كثيرًا مما يقال له حقائق علمية يُنظَر له في فلسفة العلم المعاصرة بمعنى نسبي؛ لأن الحديث هنا عن عالم يصعب الإمساك به ووضعه تحت التجريب المباشر، ويكثر الحديث عن مثالية العلماء عندما يتحدثون عن مفاهيم غير محسوسة، فإذا كان ما يُقال عنه حقائق علمية ينظر له بمنظور نسبي فكيف بغيره مما لم يصل لدرجة عالية من التحقق، ولم يمتلك من الشواهد ما يكفي (2). إذًا فعلماء الإِسلام يثقون في الوحي ويعرفون أنه الحق من ربهم، ولا يمكن أن يظهر في العقل أو في العلم ما يعارضه، ويقولون: إنه لا يوجد تعارض بين الدين الحق والعلم اليقيني "الحقائق العلمية"، أما الدارونية فقد رُفضت في أماكن

(1) نقد الفكر الديني، د. صادق العظم ص 25 - 26.

(2)

انظر: العالم بين العلم والفلسفة، جاسم العلوي ص 33.

ص: 989

كثيرة، وحدث لها تطور داخلها، وأجزاء النظرية ومكوناتها مختلفة، أما مسألة خلق آدم وبقية أمور الغيب فهذه لا قدرة للعلم حولها، فهي خبرية محضة والحجة إنما هي في صحة الخبر.

لقد أصبح أسلوب "العظم" نموذجًا يُحتذى، فهذا أحدهم في أثناء دفاعه الصارخ عن العلمانية ونقده لكل صوت إسلامي، بل يعترض أيضًا حتى على حقيقة تميّز الإِسلام عن غيره من الأديان، فيقول:"ما هو موقف الإِسلام المميّز تجاه رأي العلوم الطبيعية في مسألة النشوء والخلق؟ هل يختلف عن موقف الديانات الأخرى في هذه المسألة؟ أليس جميع الديانات قد رفضت نظرية داروين مثلًا؟ هل الإِسلام الذي لا يرى تعارضًا بين العلم والدين -كما حدث في الأديان الأخرى- على حد زعم القرضاوي -أي: الشيخ يوسف القرضاوي- أخذ موقفًا خاصًا ومتميزًا عن الديانات الأخرى واعترف بنظرية داروين بالضد من موقف هذه الديانات مثلًا؟ "(1).

ومن الأمثلة التغريبية المعاصرة في هذا الباب ما نجده في موقف لويس عوض، ففي نقاشه لموقف الأفغاني من نظرية التطور ذكر أن وجود آدم يخضع حسب نظرية التطور لقوانين الطبيعة كغيره من أمور الطبيعة، وهذه النظرية كما يعترف "لويس" تنفي خلق الله سبحانه لآدم كما وردت في الوحي، كما أن فكرة قوانين الطبيعة تنفي "الفكرة السائدة في الأديان عن "الله المشخص" وتضع مكانها فكرة العلم عن "الله القانون"، أو قانون القوانين، حيث الله مساو للطبيعة وحيث الطبيعة مؤلهة"(2)، وهو لا يعارض هذه الفكرة التي جاءت أثناء دراسته لجمال الدين الأفغاني، وحقيقة المشكلة تقوم في عدم الإيمان بالله والبحث عن بديل يمكن من خلاله تفسير الأحداث، فهو في سيرته الذاتية وأثناء حديثه عن تدين والده، يقول بأن والده أقرب لمذهب "لا أدري" ولم "يكن يؤمن بالله "المشخص" الشائع في الفهم الديني العام (؟؟)؛ أي: الله الذي يجلس على عرش الكون. . . ."، ثم ذكر انطباعه عن حقيقة ما يؤمن به والده بأنه "كان يعتقد بأن في الطبيعة قوة عظمى تتصف بالحكمة هي التي نسميها الله، وهذه القوة

(1) سدنة هياكل الوهم. . . .، د. عبد الرزاق عيد ص 238.

(2)

انظر: تاريخ الفكر المصري الحديث من عصر إسماعيل. . . .، د. لويس عوض ص 167.

ص: 990