الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - ظروف الصراع وأحواله:
يكشف لنا التحليل التاريخي -السابق في الفصل الثالث والرابع من الباب الأول- أن مسألة مصدر المعرفة، لاسيما في المسائل الدينية، لها ارتباط بالصراع الدائر داخل العالم الإِسلامي الذي حركته الأقليات غير المسلمة. فقد كانت العقبة أمامهم هي الإِسلام، وقد جاءتهم الفرصة للظهور والحركة في القرن الثالث عشر الهجري بعد الضغط الأوروبي، ورغبته في اختراق العالم الإِسلامي، وكان الحل لذلك هو تكوين مجموعة موالية من الداخل، وقد كان من بين مهمات أعداء الأمة: الانتقال بالمسلمين من إسلامهم إلى مرجعية أخرى تسمح لتلك الأقليات بتحقيق مآربها، ومع وجود قوى عالمية تُحرك الصراع بإمكانياتها المهولة؛ فقد نجحوا في إضافة فريق آخر غير الأقليات بعد استقطاب بعض المسلمين، لاسيّما من كانوا من أتباع الفرق المنبوذة داخل المجتمع المسلم بسبب غلّوها.
هناك نموذجان بارزان يوضحان القضية، وهما: الجيل التغريبي الأول، ومن أبرزهم:"شبلي شميل" و"فرح أنطون" إلى "سلامة موسى" ومنْ لفَّ لفّهم، والثاني: المجموعات الماركسية العربية. فقد ركّز الطرف الأول على بثّ صورة عن أنفسهم: أنهم دعاة العلم وأنصاره، وتبنوا أشهر نظرية علمية آنذاك؛ بعد أن وسعوا من مجالها، وهي النظرية الدارونية.
وبالتحليل الموضوعي لهذه الشخصيات نجد أن الإعلاء من شأن العلم إنما هو أداة وسلاح في معركة يخوضونها ضدّ الإِسلام؛ فقد أظهر "شميل" و"موسى" الإلحاد. فكيف يمكنهم القبول بالدين بعد ذلك؟! لم تكن المسألة نزاعًا حول مصادر المعرفة أو البحث عن الحقيقة، وإنما كانت تهدف إلى إبعاد الإِسلام بوصفه مصدرًا، فهم ينتمون إلى طائفة تريد إبعاد الإِسلام عن الصدارة، ثم تعاونوا مع جيوش الاستعمار، وانتموا لتيارات مادية لا تقبل بالدين أيًا كان، فيصبح ادّعاء العلمية وإعلان مصدرية العلم، هو أحد أهم الأسلحة في هذا الصراع من باب التلبيس، لم يكن مطلبهم العلم بقدر ما كان سلاحًا في صراعهم مع الإِسلام، كان أداة من أدوات السلاح في معركتهم ضد الإِسلام، والأداة يستخدمها الطرفان، ولكن أهل التغريب وظفوها كسلاح للهدم؛ لأن أهل الإِسلام آنذاك قد تفرغوا لطلب العلوم من أجل التحديث والنهضة والتقدم، بينما
ركّز أهل التغريب على فلسفة العلم ومذاهب مادية وإلحادية نبتت في أوروبا، واستغلّت ثمار العلم في دعاويها من أجل استغلالها في صراعهم مع الأمة الإسلامية.
يقول "حسن حنفي" عن النموذج الأول: "وواضح من هذا التيار أنه كان غربي الثقافة، يرى أن العلم، وهو حاجة ملحة للمجتمعات العربية، وافد من الغرب، وأنه آخر ما وصل إليه الغرب من فكر علمي، العلم الطبيعي في القرن التاسع عشر، ونظرية التطور في علوم الحياة. حمله نصارى الشام الأكثر ارتباطًا بالثقافة الغربية، وكانت الإرسالات التبشيرية منبرهُ ومكان ازدهاره وانتشاره. ظل فكر الأقلية المثقفة لا يستطيع اختراق الثقافة الإِسلامية للأغلبية"(1)، ولا أدري ما المؤهل لوصفه إياها بأقلية مثقفة؟ وكيف يريد من مجموعة رعاها الاستعمار، واحتضنتها المنابر التبشيرية أن تقبلها الثقافة الإِسلامية! فسبب نفور الثقافة الإِسلامية منها ليس بسبب علمهم وثقافتهم، فإن المسلم يسافر لبلاد الغرب لتحصيل العلم النافع، وهو مشكور على عمله ومأجور إن أخلص في ذلك، أما هؤلاء فقد ركّزوا على صورة تزعم أنها علمية يراد منها غير ما يراد من العلم الحقيقي النافع. ولا أدري كيف يتغافل عن حقيقة دورهم وواقعهم التاريخي رغم وضوح الدلائل سوى قدرة أهل التغريب في اختراق بعض المسلمين؟
فإذا انتقلنا إلى النموذج الثاني وهم الماركسيون، حيث كانوا أشدّ التيارات ادعاءً للعلمية ودفاعًا عن العلم وتمسكًا بالعلم، لدرجة أنك تتوقع أنك أمام علماء، ثم لا تجد سوى الإلحاد، فإذا نظرت إلى حقيقة الدعوى وجدت مقصودهم بالعلم هو فلسفة "ماركس" و"إنجلز" أو تأويلات "لينين" أو "تروتسكي" أو غيرهم، فجعلوا الفلسفة الإلحادية المادية مرادفة للعلم، وعندها يظهر أن هدف إعلان العلم هو غطاء من أجل تسريب الفكر المادي الإلحادي في صورته الماركسية. على أن اللافت لأي باحث هو نوعية المؤسسين لهذه المنظومة، حيث كان أغلبهم من اليهود، وهم يهود يتبنون الفكر الإلحادي، ولهم حسابات كبيرة مع المسلمين، وظهورهم بصورتهم الصريحة يعقد الوضع، لذا كان الطريق الأنسب في صرف الناس عن مصدر دينهم يتم بوضع منافس له مع التشكيك في
(1) هموم الفكر والوطن، د. حسن حنفي 2/ 440.
مصدرية الوحي وصدق الدين، فكان تعاملهم مع العلم بوصفه سلاحًا لمحاربة الدين، أما العلم فرغم طول فترة وجود الأحزاب الماركسية في البلاد الإِسلامية، فلا يعرف لهم فضل في الحركة العلمية؛ لأن مشروعهم ليس العلم، وإنما مشروعهم الذي لم ينجز -ولن ينجز- هو ضرب الدين ونشر الإلحاد.
ولا بأس من بعض الشهادات عن أحد أشهر الأحزاب الشيوعية وهو الحزب الشيوعي المصري، وستكون الشهادة من شخص قريب منهم هو الدكتور "لويس عوض"، فبعد عودته من إنجلترا سنة (1940 م) وجد كما يقول جماعات كثيرة بأسماء مختلفة "إن هذه الجمعيات الثقافية لم تكن سوى نوادٍ سياسية أو واجهات تخفي وراءها تنظيمات شيوعية"، أما أهم أعضائها فقد وجد أن "اليهود ممثلون فيها بنسبة عالية"، أما التمويل فكما يقول:"كنت أسمع من أعضاء هذه النوادي أنفسهم أن تمويل نواديهم وربما جماعاتهم الباطنية يأتيهم بدرجات متفاوتة من بعض المليونيرات اليهود"(1)، إلى أن قال عن كآبة هذه الأحزاب وانفصالها عن بيئتها:"وهي صورة كئيبة؛ لأن سيطرة اليهود على التنظيمات الشيوعية أو على الأقل على كوادرها الداخلية في سنوات التكوين بحكم التمويل. . . ."(2)، وقد كان من أهم رموز تلك المرحلة اليهودي "هنري كورييل"، وعنه يقول أحد أتباعه -بعد أن منّ الله عليه بالهداية حيث كان عضوًا سابقًا في الأحزاب الشيوعية، ولاسيّما السوداني-:"فقد بدا لنا اليهودي قد أحيط بكل شيءٍ علمًا، ولذلك رضينا له قولًا، حتى عندما أسرف وتطاول على دين الله، الذي زعم أنه يُشكّل خطورة على تقدم السودان وعقبة كبرى. . . . وما كان يجوز لنا، نحن الذين نشأنا تحت راية القرآن أن نستمع لمثل ذلك اللغو ونصغي، ولكنا كنا كشياطين الإنس والجن يُوحي بعضهم إلى البعض زخرف القول غرورًا"(3).
هكذا نجد القيادات التغريبية المهمة إما أنها تنتمي لطائفة النصارى أو
(1) العنقاء أو تاريخ حسن مفتاح، من المقدمة، د. لويس عوض ص 10 - 11.
(2)
انظر: المرجع السابق ص 15.
(3)
ومشيناها خطى (صفحات من ذكريات شيوعي اهتدى)، أحمد سليمان 2/ 15، وانظر حول هذا اليهودي: نفس المرجع 2/ 15 - 59، وفي الجزء الأول: 1/ 55، 60، 77، 63، 127، 135 - 136.