الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
علم الاجتماع الديني:
بالرغم من اهتمام علم الاجتماع بموضوع "الدين" في أكثر من موضوع؛ إلا أنه في النصف الأول من القرن العشرين (14 هـ)(1) استقل قسم منه بدراسة الدين هو "علم الاجتماع الديني"، ويصفه أحد الاجتماعيين بأنه:"الدراسة العلمية للدين وتطوره"(2)، ويرى بأنه:"قدم التفسير الكامل للوقائع الدينية، فهو يدرس الدين من خلال الظواهر الدينية وهي: العقائد والطقوس، ويدرسه من خلال الوظيفة الاجتماعية وهي: التي تخضع الفرد لقواعد لن يخضع لها لو ترك إلى نفسه"(3). وهو يختلف عن "علم اللاهوت" ومستقل عنه بأنه يعتمد أساسًا على الحقائق؛ بينما اللاهوت يهتم بوضع القواعد (4)، والخط الفاصل بحسب أصحاب علم الاجتماع الديني هو الموضوعية (5)، فيحدد بحثه فيها، ويرفض ما وراء المادة، أو دراسة الدين من خلال العاطفة الدينية (6)، ولذا يبتعد هذا العلم عن الأحكام المعيارية؛ لأن دراسة الحقيقة، ومنها الحقيقة الدينية يتطلب الحيادية والموضوعية (7).
وقد دخلت كثير من النظريات الاجتماعية حول الدين إلى بلاد المسلمين، إلا أن أقدم كتاب مستقل -فيما يظهر- حول علم الاجتماع الديني هو كتاب "روجيه باستيد" بترجمة د. محمود قاسم سنة (1951 م)(8)، ثم جاء كتاب "محمد أحمد بيومي""علم الاجتماع الديني"(9) ليوجه الدراسات في هذا الباب، ثم انطلقت بعد ذلك الكتابة في هذا الميدان الخاص. فأصبح تناول الاجتماعيين
(1) انظر: علم الاجتماع الديني، د. إحسان الحسن ص 13.
(2)
الدين والمجتمع. دراسة في علم الاجتماع الديني، د. حسين رشوان ص 73، وانظر: نشأة الدين، د. علي النشار ص 15.
(3)
الدين والمجتمع. دراسة في علم الاجتماع الديني، د. رشوان ص 75، بتصرف يسير قصد الترتيب.
(4)
انظر: المرجع السابق ص 62.
(5)
انظر: المرجع السابق ص 64.
(6)
انظر: المرجع السابق ص 73.
(7)
انظر: المرجع السابق ص 76، وانظر: علم الاجتماع الديني، إحسان ص 13.
(8)
انظر: المرجع السابق، رشوان، ص "ب".
(9)
انظر حوله: علماء الاجتماع وموقفهم من الإِسلام، أحمد خضر ص 222 وما بعدها.
العرب للدين إما من خلال علم الاجتماع عمومًا أو من خلال القسم المتخصص به وهو علم الاجتماع الديني، وكلٌ يدرس الدين بحسب المذهب الغربي الذي اتبعه. وإذا تأكد لنا وجود أزمة تحيط بعلم الاجتماع عمومًا -كما هي اعترافاتهم- فكيف هو الحال مع قسم جديد منه ولاسيّما في ظل ملابسات العلاقة السلبية مع الدين في إطاره الغربي؟ إنها تكون أزمة مضاعفة، ورغم فرح أي مثقف بوجود دراسة علمية للأديان المبدلة أو المخترعة تساعد البشرية في النجاة والبحث عن الحق؛ إلا أن ذلك الفرح سرعان ما ينقشع إذا علم حال هذه العلمية، والإطار الذي تتحرك فيه، والأهداف التي تتوخاها، ولاسيّما في تحويلها الموضوعية إلى أداة هدم لكل دين بما في ذلك دين الحق بحجة اشتراكه مع غيره من الأديان في عدم خضوعه للمعايير الموضوعية.
ويعتمدون في ذلك على مدخل غير مناسب، وهو أن دراستهم للدين يفرق فيه بين جوهر الدين وبين جانبه الاجتماعي، فيدرسونه كظاهرة اجتماعية تخضع للتحليل الاجتماعي، ومن ذلك ما نجده في الندوة المشهورة التي جمعت أبرز المتخصصين في علم الاجتماع ممن يغلب عليهم التغرب، ومما ذكروه حرص اللجنة التحضيرية على "إبراز الفرق بين الدين كعقيدة وإيمان يسمو على مستوى القداسة والمطلق، وبين الوعي الديني بمستوياته الوجدانية والمعرفية والأيدلوجية. . . . بكل ما هو ذو علاقة بفهم البشر، ووعيهم وممارساتهم وتعاملهم مع الدين، وليس بما هو مطلق وثابت ومقدس في الدين"(1)، وهي امتداد لفكرة "ماكس فيبر"، وحسب قول "غانم" هنا:"يبدأ ماكس فيبر بحثه في علم اجتماع الدين بالقول: "نحن هنا لا شأن لنا على الإطلاق في "جوهر" الدين، وإنما تهمنا شروط فعل جماعي من نوع محدد وتأثيره". وهو لا يقصد بذلك الابتعاد عن الأحكام التقويمية للأديان فحسب -ومنها الدفاعية والهجومية- بل يعني أيضًا إقصاء دراسة محتواها عن اهتمام علم الاجتماع. ."(2). ومما يفسد على أصحاب الدعوى السابقة صعوبة تحقق تلك المقولة ولاسيّما من قبل
(1) الدين في المجتمع العربي ص 10 - 11.
(2)
المرجع السابق ببحث عنوانه: (من الأسطورة إلى الدين) ص 83، وانظر:(الدين والصراع الاجتماعي) لحمود العودي، المرجع السابق ص 189.
المجموعة المُعِدة "للندوة" التي يغلب عليها التوجه الماركسي تمذهبًا وتأثرًا. وإذا سلمنا جدلًا بمقولتهم أن اللاهوتي لا يستطيع دراسة الدين بسبب تعاطفه مع هذا الدين ونبذه لذاك؛ فإن عدم الاستطاعة تكون أشد وضوحًا مع الماركسي صاحب المنطلقات الثابتة حول الدين أو حتى من هو دونه من المتغربين الكارهين لسيادة الحياة الدينية.
بعد التفريق بين جوهر الدين والجانب الاجتماعي منه، فإنهم يطلقون على الاجتماعي مصطلح "الظاهرة الاجتماعية"، حيث "أصبحت النظرة إلى الدين ليس على أساس صِدْقه أو زيفه، وإنما على أساس أنه ظاهرة اجتماعية. والظاهرة الدينية هي ظاهرة اجتماعية أولًا بسبب وجودها على نمط واحد لدى جميع أفراد المجتمع. . . .، ولأن الظواهر الدينية أساطير كانت أم طقوسًا، تقوم بذاتها على نحو ما، كحقيقة نسيج وحدها بصرف النظر عن الأفراد الذين يعتنقونها. . . .، وأخيرًا بسبب ما تتصف به قوة القهر، فهي تفرض نفسها على المؤمن الذي يخضع لها ويطيعها. . . ."(1). والأساطير هنا تقابل المعتقدات، والطقوس تقابل العبادات والشرائع في الدين.
وعندما يوجد من المفكرين من ينبه إلى إشكالية المصطلح مثل "رشدي فكار" الذي يرى بأنه من الخطأ تصور الدين كظاهرة اجتماعية وتعميم ذلك على كل الأديان؛ فإنه إن كانت بعض المعتقدات كالوضعية ذات تعبير اجتماعي، فإن الدين السماوي هو من وحي الرب سبحانه عبر رسله وأنبيائه سواء بدّله أهله كاليهودية والنصرانية أو حفظه الرب سبحانه وهو الدين الحق دين الإِسلام، فالخوض في دراسة جوهر الأديان وأصلها من باب المجازفة الفكرية باسم معرفة نسبية قاصرة لا أكثر ولا أقل، إن مثل هذا الاعتراض لا يتقبله بعض المختصين في علم الاجتماع، بحجة صلاحيته لعالم لاهوت لا لعالم اجتماع (2). والناقد هنا يحيلنا إلى علم وكأنه يحيل إلى علم فيزيائي أو رياضي بحقائق يقبلها
(1) الدين والمجتمع، د. حسين رشوان ص 74 - 75 بتصرف يسير للاختصار، وانظر: قضايا علم الأخلاق، د. قباري إسماعيل ص 52.
(2)
انظر كلام "رشدي فكار" والاعتراض عليه من قبل "حيدر إبراهيم"(الأسس الاجتماعية للظاهرة الدينية ..) ضمن كتاب: الدين في المجتمع العربي ص 38 - 39.
الجميع، بينما هو يحيل إلى علم يمرّ بأزمة، وتتهاوى نظرياته مع المدارس المتناقضة ولاسيّما فيما يتعلق بالدين.
والأقرب أن هؤلاء في دعوتهم "إلى تطبيق المناهج الحديثة في دراسة الدين باعتباره ظاهرة اجتماعية" هو من منطلق التقليد لما هو جار في علم الاجتماع الوضعي، على أن الخلفيات الموجهة لهذه الدعوة متباينة، فالبعض انساق خلف هذه المقولات بدائع التقليد والرغبة في العلمية والموضوعية من غير وعي بمدى الخطورة التي تؤدي إليها هذه الدراسة من هدم المقومات والمقدسات الدينية، بينما نجد آخرين أصحاب خلفية أيدلوجية ظاهرة للهدم وبحقد على الإِسلام (1). وليس الحديث الآن مع أصحاب الدعوى الهدمية، فإنهم يفرحون بأي مصطلح غامض يساعدهم في تحقيق مآربهم؛ وإنما الحديث مع القسم الأول المقلد والحريص على الموضوعية والعلمية، فيقال لهم بأن الظاهرة الدينية وإن كانت في بعض صورها ذات شكل اجتماعي فإن هذا لا يجعلنا نقبل الفكرة على عمومها؛ لأن ذلك سيقودنا بالضرورة إلى مفاهيم إلحادية؛ لأن المصطلح ظهر مع مجموعة مؤسسين كـ"دوركايم" وغيره ممن لا يقر بالأصل الإلهي للدين، ولهذا فهو يدرسها كظاهرة اجتماعية دون إشكال، أما مع من يُسلّم بوجود أصل إلهي للدين فيختلف موقفه تمامًا؛ لأنه يجد للدين أصلًا إلهيًا ويجد له في الوقت نفسه تمثيلًا اجتماعيًا (2)، فتحفظ المفكرين الإِسلاميين على مصطلح "الظاهرة الاجتماعية للدين" ليس وقوفًا في وجه المعرفة العلمية للدين بقدر ما هو إزالة الجانب الأيدلوجي الذي فيها، الذي يستثمره خصوم الدين للطعن في الدين.
مر بنا فيما سبق إشكالية تغرّب علم الاجتماع عمومًا وما يخص الجانب الديني منه خصوصًا، وهو تغرب يعترف به حتى أصحاب الخيار العلماني، وأثر ذلك التغرب في استبعاد مصدر الوحي في دراسة الدين وأثره في جعل المكتبة الغربية هي القالب لدراسة الدين بالرغم من اعتراف الغربيين بأزمة حقيقية في ميدان العلوم الاجتماعية. ومرّ بنا اهتمام العلم بالدين، ونشأة قسم خاص منه يهتم بالدين، مع مشكلة الإطار العلماني والفيورباخي الموجه لهذه الاهتمامات،
(1) انظر: منهج البحث الاجتماعي .. ، أمزيان ص 192.
(2)
انظر: المرجع السابق، أمزيان ص 196 - 197.
ورأينا مشكلة تحويل الدين إلى "ظاهرة اجتماعية" حتى يمكن بزعمهم دراسته دراسة علمية، فضلًا عن دعوى جديدة يرفعونها تحت لافتة التفريق بين جوهر الدين والواقع الاجتماعي له. تُوصلنا هذه العناصر إلى مشكلة المشاكل وهي تأثر التغريبيين بتلك النظريات الفلسفية لا العلمية في ميدان علم الاجتماع، وسعيهم لإقناع مجتمعاتهم بصحة ما تأثروا به. وهذا البعد الخطير أتناوله الآن بالتحليل النقدي، وأجعل ذلك في ثلاث فقرات هي:
1 -
الدين منتج اجتماعي.
2 -
أصل الدين.
3 -
وظيفة الدين.
توضح الفقرة الأولى عدم اعترافهم بوجود مصدر غيبي إلهي للدين، الدين عندهم شيء واحد، هو نابع من المجتمع، ولا فرق في ذلك بين دين وآخر، والفقرة الثانية تبين كيف أوغلوا في تقليد مفكرين غربيين حول أصل الدين، والمراحل التي أعقبت ذلك، والفقرة الثالثة حول تحولهم من البحث عن أصل الدين بعد أن عجز قدواتهم في الغرب للوصول إلى حقيقة موضوعية حول أصله، فانصرفوا إلى الاهتمام بوظائفه، ومن هنا برز الدور الوظيفي للدين، والغالب أن أهل التغريب ينتظرون إعلان الغرب عن تجاوزهم للمجال الوظيفي بعد إعلان الفشل في دراسته إلى مجال آخر، ويستمر التقليد والتغرب.
1 -
مقولة "الدين منتج اجتماعي":
توجد مُسلَّمَة توجه البحث الاجتماعي في الغرب تقول: بأن الدين أنتجه البشر، ولا علاقة له بمصدر إلهي. ورغم وجود علماء اجتماع نصارى أو يهود يرفضون مثل هذه المسلمة إلا أن الغلبة في دوائر البحث الاجتماعي هي للملحدين والعلمانيين منهم، وقد وجد هؤلاء في انحرافات النصرانية واليهودية ما يشجعهم على إبراز مسلمتهم دون معارضة حقيقية توقفهم أو تخفف من اندفاعهم. وقد ترسخت هذه المسلمة بسبب إلحاد المؤسسين، فهم جعلوا خيارهم الديني الإلحاد، وعندما نقول: ملحدين فنحن لا نسب أحدهم وإنما نطرح ما يفتخرون به ويدافعون عنه، فـ "كونت" و"ماركس" و"بوخنر" و"دوركايم" وغيرهم من المؤسسين أو المؤثرين في العلم أصحاب خيار إلحادي لا يخفونه
عن أي أحد، ومن السهولة مع مثل هؤلاء أن تكون مقولة "الدين إنتاج بشري" مقولة مسلمة، سواء صرح بها الباحث أم كانت موجهة لبحثه دون تصريح.
وقد يوجد مجموعة تقرّ بوجود الرب سبحانه، ويطلق عليهم داخل إطار الفكر الغربي الحديث بالمؤمنين ليقابلوا فقط الملحدين، وإلا فحتى هؤلاء لا يقرون بالنبوات ومن ثم لا يقرون بالدين، نعم يقرون بوجود الخالق سبحانه ولكن لا يعترفون بالدين، ومن اعترف به فيراه محاولة بشرية للاتصال الروحي بالرب سبحانه، فيكون في النهاية إبداعًا بشريًا.
ويعترض أهل الدين عمومًا كل من جهته بأن الدين هبة من الله تعالى وليس إبداعًا بشريًا، وللمسلم جواب أخص، فهو يرى بأن الدين في الأساس من الله سبحانه، وأن الدين الحق هو أول ما وجد مع آدم عليه السلام وذريته، ثم وقع الانحراف عن الدين الحق بعد قرون، حيث بدأ البشر ينتجون انحرافاتهم الدينية ويطلقون عليها وصف الدين، إلا أن تلك الانحرافات نوعان: نوع هو تبديل لدين قائم مثل ما حدث في اليهودية والنصرانية، فأصله وحي وحق ثم حرَّفه أهله بالزيادة والنقصان أو التغيير، وهذا هو الدين المبدل، وهناك نوع آخر ظهر في بيئات لم تصلها الرسالات السماوية ممن يطلق عليهم أهل الفترة، ولكن فطرتهم تحثهم على التدين؛ لأن كل إنسان يولد على الفطرة؛ أي: على الإِسلام؛ أي: أن الإنسان يولد متدينًا ويبحث عن دين ولكنه يقع في شَرَك حدوده البشرية وفي شرك الشيطان، فيخترعون دينهم، وهؤلاء المخترعون وُجدوا في البيئات القديمة، كما أنهم وجدوا في العصر الحديث مع بعض المنكرين للدين السماوي ممن لا يدخلون في أهل الفترة، مثل اختراع "كونت" ديانة الإنسانية وهو داعية مشروع علم الاجتماع في أوروبا، فهذا هو الدين المخترع.
فإذا بحثنا عن المنتج البشري من الدين وجدناه في التبديل والتحريف، إلا أنه ليس دينًا مستقلًا؛ بل له أصله الصحيح المرتبط بالوحي والنبوة، ووجدناه في الدين المخترع سواء نبع من "أهل الفترة" أو نبع من "أهل الإلحاد"، إلا أنه مع أهل الفترة أقرب إلى ملامسة الحاجة الفطرية عند الإنسان، ولكن للإنسان حدوده وللشيطان أثره، فيظهر دينًا يناسب إمكانات مخترعيه، وبظهور الإِسلام الخاتم العالمي تنتهي الحاجة بالاختراع ويبطل التبديل والتحريف.
وعند افتراض حسن الظن -وهو مستبعد تمامًا مع الملحدين- في الحرص
على العلمية في علم الاجتماع؛ فإن أخطر ما قاموا به هو التعميم الخاطئ؛ أي: الانتقال من الدين المخترع إلى قاعدة أن الدين منتج اجتماعي. لا شك أن الحصول على نتائج عامة هو حلم كل عالم وهي حقيقة كل علم، ولكن في الوقت نفسه أكثر العمليات العلمية صعوبة وأكثرها مزالق، وهي قنطرة أهل الأهواء حيث يجدون فيها فرصة لتسريب رغباتهم سواء شعروا بذلك أم لم يشعروا. إن الانتقال من الجزئي إلى العام عملية خطرة تساعد على الانزلاق حتى مع حسن النية وأخذ الاحتياطات، فكيف إذا كان الأصل سوء النية والتفريط في الاحتياطات. ومثل هذه التعميمات هي التي دفعت بالمتأخرين من علماء الاجتماع إلى إعلان أزمته، وهو ما لم يحدث في العلوم الرياضية والطبيعية التي تحوي تعميمات صحيحة لا إشكال حولها، ثم تصبح تلك التعميمات قاعدة للتفريعات.
القاعدة الإِسلامية تقلب الموضوع وتقول: إن الدين في الأصل من الله سبحانه، والدين الحق هو الأصل، وهو الأول في الوجود، ولا يمكن أن يكون مصدره البشر، فالدين الحق قد أوجده الله سبحانه في فطرة كل مولود، كما أوجده سبحانه عبر أنبيائه ورسله، ثم بدأ الانحراف فيه وعنه، وهذا الأصل بالنسبة للمسلم دليله واضح في الكتاب والسنة، ولذا كان الواجب على المسلمين في أثناء إدخالهم علم الاجتماع أن يتركوا مسلماته العلمانية ويستبدلوها بمسلمتهم، فإن لم يقبل غيرنا بحجة اعتمادها على النقل فهي حجة لا يسلم لأهلها بها؛ لأن النقل بحسب ما أثبت في الفصل السابق يحوي على الدليل الخبري والعقلي والحسي، ولا نقبل تعميمهم وإن قبلنا ببعض الجزئيات، ففرق بين القول بان هناك أديانًا ثبت من خلال التحليل التاريخي أو التحليل العقلي أو التحليل العلمي أنها من إنتاج بشري، وبين القول بأن الدين منتج بشري.
لم تأخذ طائفة المغتربين بمثل هذه الاحترازات وغيرها، بل انطلقوا من تلك المسلمة دون مناقشة، وهم في الغالب يتكلمون عن تلك الأصول، ثم يدرجون الإِسلام ضمنًا دون قدح في الإِسلام، ومنهم مجموعة مهمة ولاسيّما من تأثر منهم بالوضعية أو الماركسية، يجعلون تلك المسلمات العلمانية أداة لنقد الدين والدعوة إلى التخلص منه، وقد نجح هؤلاء في جعل علم الاجتماع يولد
في بيئتنا الإِسلامية مشوهًا، وذا علاقة متوترة مع الدين رغم تلك الجهود التي يبذلها مجموعة أخرى لتصحيح الوضع.
فسلّموا بمقولة أن الدين منتج بشري والأصل عكس ذلك، وسلّموا أو استسلموا للأبعاد الأيدلوجية المرتبطة بالمقولة من جهة إخضاع كل دين لذاك الأصل، وانتشرت مقولات:"تاريخية الدين" و"تاريخية النص الديني" و"تاريخية العقائد والشرائع".
والعجيب أنهم يقفون موقفًا لطيفًا مع الأديان الوضعية وموقفًا نقديًا مع الدين السماوي، ويصرون بأن من مهامهم إنزال الدين من عليائه إلى الواقع البشري، بحيث يكون متساويًا مع الأديان الوضعية.
وكان الأصل في علم الاجتماع في أثناء نشأته داخل المجتمع المسلم أن يسلك طُرقًا مغايرة، ويعكسوا المقولة، فعندنا الخبر الصادق عن الحقيقة، وهم لا يملكون سوى وهم التعميم من جزئيات لا يصح أن تكون أرضية للتعميم، وأن يُدرَك بأن مقولة الإنتاج البشري سواء في الأديان المبدلة أو الوضعية المخترعة هي ما جاء الرسل عليهم السلام من أجل إزالتها، وهم من أخبرنا بأنها انحراف بشري لا حقيقة لها، لذا كان واجب علم الاجتماع في بلاد المسلمين أن يواصل تلك المهمة، فينقد الأديان الوضعية والمبدلة للوصول إلى الدين الحق، وليس اتخاذها مطية لإنكار الدين الحق، لقد كان علماء الاجتماع الغربيون يذهبون إلى أقوام بدائيين في أمريكا وأفريقيا وأستراليا ليدرسوا دياناتهم الغريبة، ويخرجوا منها بنتائج يريدون تعميمها على كل الدين، وهم مع ذلك لم يسعوا إلى إزالة هذا الوهم عند هؤلاء البدائيين، وإنما تركوهم في ضلالهم كعينة نادرة من المهم المحافظة عليها لتكون مصدر دراسات علماء الاجتماع والأنثربولوجيا.
لا شك أن المُسلَّمات التي ينطلق منها عالم الاجتماع تؤثر على بقية عمله، فإذا كانت المسلمة أن الدين مُنتَج بشري فلن يكون هناك حرص على نصح أهله بتركه إلى دين آخر. بخلاف عالم الاجتماع المسلم، فهو ينطلق من مسلمة أن الدين الحق موجود، وأنه نعمة الله على خلقه، وأن مهمة كل مسلم -كل بحسب موقعه- دعوة الناس إليه وإزالة العوائق التي تصرف الناس عنه أو تسد طريقهم إليه.
قد يسلم الباحث بوجود أدوات معرفية جيدة في تحليل "الدين المبدل أو
الدين الوضعي"، فالمنهج التاريخي والمنهج المقارن فضلًا عن علم النفس والاجتماع قد أوجدت أدوات في دراسة الدين المنحرف؛ أي: كدين مبدل أو وضعي، وهي مما يمكن الاستفادة منه بعد تخليصها من المسلمات التي انطلقت منها والأيدلوجيا التي تغذيها والغايات التي وضعت لأجلها، وهي عملية شاقة تركها الجيل المتغرب من الاجتماعيين واستسلموا للتقليد والتبعية، وهذا الأمر هو مشروع أهل التأصيل الإِسلامي ومن سار على مسارهم.
يذكر "أحمد خضر" -وهو من خَبِرَ علم الاجتماع لأكثر من ثلاثين سنة- ملخص "النظرية الاجتماعية حول الدين" عند علماء الاجتماع الغربيين بقوله: "فيما يتعلق بالحقيقة الدينية نفسها، تقر النظرية العامة في علم الاجتماع ضمنيًا بالإلحاد"، فهم يقرون "بأن نظريات العلم التقليدية عن الدين إلحادية وتجاهر بالعداء للدين، كما يقرون أيضًا بأن نظرياتهم الحديثة وإن كانت غير معادية للدين فإنها إلحادية أيضًا. . . . وفي الوقت الذي تدّعي فيه تلك النظرية التقليدية أن الأفكار الدينية زيف ووهم؛ فإن النظريات الحديثة تحاول تجنب مسألة حقيقة الدين، لكنها تغذي في الواقع هذه التحليلات التي تحقر أي رؤية جديدة للأفكار الدينية، وتنظر إليها على أنها غير حقيقية. . . ."(1)، ثم نقل عن أحد علماء الاجتماع (2) قوله:"كيف يمكن أن نقول: إنّ هناك التقاء بين الدين وعلم الاجتماع على أساس ادعاء علماء الاجتماع بأن علمهم محايد -لا- يقول شيئًا من الدين أو ضده، في حين إن نظرياتهم تتضمن أحكامًا غير حيادية عن الدين. . . . إن النظريات العامة لعلم الاجتماع وإن كانت تقر ضمنيًا بالدين أو ببعض مظاهره على الأقل؛ فإنها تقر ضمنيًا بالإلحاد أيضًا، لهذا لا نعجب إذا وجدنا أن هذه النظريات تلزم العلماء بالقول بأن كثيرًا من الأمور الدينية طيبة بالرغم من أن أفكاره الأساسية غير حقيقية"، إلى أن قال: "من الصعب أن يقر الإنسان بطريقة حياة يعتقد أنه ليس هناك أسباب معقولة لعيشها. فإذا رأى أحدهم أن الدين أمر حقيقي؛ فإن ذلك مبرر كاف للتمسك به، وعليه أن يقنع الآخرين
(1) انظر: علماء الاجتماع وموقفهم من الإِسلام، أحمد خضر ص 187 - 179 بتصرف يسير للاختصار.
(2)
"بنتون جنسون".
به، وإذا ادعى آخر بأن الدين غير حقيقي؛ فلن يكون هناك مبرر للتمسك به. ." (1)، ووصل "خضر" إلى نتائج خطيرة: النظريات القديمة والحديثة في علم الاجتماع عن الدين نظريات إلحادية، وأن رجال الاجتماع في بلادنا لا يكتبون عن الدين وعن الإسلام إلا في ضوء هذا المنظور الإلحادي، وأن الإسلام غائب عند الطرفين، وأن التحول الذي طرأ مع علم الاجتماع في الدفاع عن الدين في الغرب ومن تبعهم من العرب لا ترفع الدين على أنه وحي من الله، بل تتفق على إنكار المصدر العلوي للدين، وتنظر إلى الدين على أنه ضرورة نفسية واجتماعية ووهم لابد منه (2)، ثم ذكر نموذجًا لذلك عن عالمين غربيين من علماء الاجتماع تتكرر مقولاتهما ويظهر أثرهما على كثير ممن يكتب في علم الاجتماع حول الدين من العرب وهما: "بيتر بيرجر" و"روبرت بيلا"، فرغم اعترافهما بأهمية الدين، إلا أن الأول يرى في كتابه: "الظل المقدس" أن "الدين اختراع إنساني؛ لأن الناس في رأيه هم الذين ينتجون الدين، وهم الذين يعيدون إنتاجه"، ودعا إلى أهمية محافظة علم الاجتماع على "الإلحاد المنهجي" (3)، ومثله "روبرت بيلا" حيث كان الدين عنده من صنع الإنسان (4)، ومع موقفهما من الدين فإنهما بحسب كلام "أحمد خضر" "لا تكاد تخلو مقالة أو مقولة لرجال الاجتماع في بلادنا عن الدين إلا وأفكار هذين العالمين تسيطر عليهما. ." (5).
ونعود الآن إلى أمثلة تبين صورة هذا التغرب والتأثر بنظريات ذات محتوى أيدلوجي إلحادي، ومن بين الأمثلة على ذلك مشروع الدكتور "يوسف شلحت" الذي بدأه بكتاب عن علم الاجتماع الديني ثم أعقبه بتطبيقات على الإسلام مثل:"الأضاحي عند العرب" و"بني المقدس عند العرب"، حيث نجد في كتابه التأصيلي عن علم الاجتماع الديني ما يؤكد الأساس الإلحادي والتعميم الاجتماعي بأن الدين منتج اجتماعي، فمترجم الكتاب "خليل أحمد" -وهو أكاديمي- بارز يعرض هذا البعد بإعجاب واضح، حيث يصف علم اجتماع
(1) انظر: علماء الاجتماع وموقفهم من الإسلام ص 179 - 180 بتصرف يسير للاختصار.
(2)
انظر: المرجع السابق ص 182.
(3)
انظر: المرجع السابق ص 183 - 184.
(4)
انظر: المرجع السابق ص 185 - 184.
(5)
المرجع السابق ص 182.
الأديان في مقدمة الترجمة بأنه "يؤسس لنظرية جديدة في علم الاجتماع العام، قوامها وضع الدين في إطاره المرجعي الاجتماعي، بوصفه معرفة أنتجها الناس، لا وحيًا ولا سرًا يعصى على الدرس"، أما "المؤلف" فيرى أن علم الاجتماع لا ينكر الدين كما يظن البعض، وإنما يلتبس عليهم "أمران مختلفان لا صلة بينهما: القول بعدم وجود الديانة، والاعتقاد أنها ليست من أصل علوي. وعلم الاجتماع ينكر القول الأول على أصحابه، بل إنه يتمسك بالديانة ويجعل منها عقيدة الحياة الاجتماعية وبعض مرادفاتها. غير أنه يسعى في تفسير نشأتها وتطورها بطريقة علمية. . . ." (1)، إلى أن قال عن بعض الأسئلة التي يدرسها علم الاجتماع: "ما الدين؟ وما الأسباب الدافعة إليه؟ وما أثره في الحياة الاجتماعية؟ وكيف تم ارتقاؤه؟ " فيحاول "أن يجد جوابًا عنها، بعد أن يترك جانبًا كل اهتمام بما وراء الطبيعة، وستكون موضوع بحثنا في هذا الكتاب" (2).
فالطريقة العلمية تشترط ترك ما وراء الطبيعة، ويفسرها لنا مترجم الكتاب بصورة أوضح كما هي في مشروع "شلحت" بأنه يفترض "أن المجتمع هو الذي ينتج الظواهر الدينية ويستهلكها، بمعنى أنها ليست فوق الدراسة والتحليل والنقد، بل هي على غرار كل الظواهر المجتمعية الأخرى. . . ."(3)، ويقول في موطن آخر:"وصفوة القول، مما تقدّم، أن العقائد الدينية هي من إنتاج مجتمعاتها عبر تغيرها وتطورها، وليست من إنتاج أفراد "رجال دين، أنبياء، رُسُل، سحرة، كهنة، عرّافون،. . . . إلخ". فهؤلاء الأفراد الذين يحترفون المهنة الدينية المقدسة، هم من المجتمع، وهم يعبرون عن الجانب المقدس في الحياة الاجتماعية"(4)، ويقول شلحت:"العقيدة حدث اجتماعي، لأن مدارها على مسألة دينية وافق عليها المجتمع، وليست العقيدة من استنباطات رجال الدين، بل هي قد انتزعت من صميم المجتمع. ."(5)، ومثاله على ذلك عقيدة العصمة البابوية، وكأنها وغيرها من أمثلة الأديان المبدلة أو الوضعية الدليل القاطع على
(1) نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني .. ، د. يوسف شلحت ص 26.
(2)
انظر: المرجع السابق ص 27.
(3)
من مقدمة مترجم كتاب: نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني ص 13.
(4)
المرجع السابق ص 16.
(5)
المرجع السابق ص 71.
صحة هذا التعميم، وقد برز التعميم في تحويل هذه المقولة كأساس يدرس من خلالها الإسلام.
بما أن الدين -عنده- منتج اجتماعي فلن يدرس الإسلام على أنه دين سماوي، بل يدرسه على أنه ظاهرة أفرزتها ظروف مكة والجزيرة العربية في مرحلة تاريخية معينة، وعندها يرجع شلحت في كتبه التطبيقية إلى العرب قبل الإسلام في العهد الجاهلي فيدرس تلك المرحلة، ويبين كيف أفرزت لنا الإسلام، حيث نجد في كتابه:"بني المقدس عند العرب قبل الإسلام وبعده" الربط بين كل عقيدة إسلامية وبين عقائد الجاهلية العربية، فيكون الإسلام ثورة ذاتية للمجتمع في جوانب أو تطور طبيعي اجتماعي في أخرى، وليس لذلك علاقة برسالة أو وحي، فالإسلام ما هو إلا ظاهرة اجتماعية أفرزها المجتمع العربي. وهو لا يكتفي بذلك، فإن هناك دراسات استشراقية تحاول ربط الإسلام بعقائد ديانات أخرى، وكأن الإسلام قد سرق تلك العقائد ونسبها إلى نبيه، فأضاف مثل هذه الدراسات إلى بحثه، وصور الإسلام بصورتين: إما أنه إنتاج لظروف العرب، أو أنه تأثر بديانات وعقائد أخرى. نأخذ مثالًا من كتابه يبين الأمرين:"ادعاء أن الدين من أثر البيئة ومن أثر الآخرين"، وهو ما أطلق عليه أسطورة المعراج في مبحث الأسطورة.
يغلب على كتب الاجتماع عند دراستها الدين أن تتحدث عن الأسطورة، والسحر، بحيث يجعلون منها أساس الدين وأهم عناصره، وغالبًا ما يبدؤون بمرحلة السحر ثم الدين بحيث يكون الدين مرحلة متطورة من مراحل السحر، وكذا الأسطورة حيث تكون فاتحة الحديث عن الدين، ومن هنا تجد اشتهار الكتابة في الأساطير والسحر في الدراسات الاجتماعية.
يذكر "شلحت" أن كتب السيرة تمتلئ بالعناصر الخرافية، وضرب مثلًا على ذلك في مبحث الأسطورة بالمعراج، وأنه بحسب كتب السير كان على مطية مجنحة لها رأس امرأة (1)، وهو يركز على قضية رأس المرأة كدليل على أسطورة الحدث حتى يصل منه إلى أسطورية المعراج ومنه أسطورية العقائد، ومنه وهو الأهم أن الدين منتج اجتماعي يحتاج إلى الأسطورة.
(1) انظر: بني المقدس عند العرب قبل الإسلام وبعده، يوسف شلحت ص 90.
يقول "شلحت": "ودون الدخول في تفاصيل هذا الإسراء والمعراج اللذين أثارا أدبًا غزيرًا، سنكتفي برصد الوقائع التي تندرج في أفق هذا العمل.
أولها المطية المجنحة ذات الرأس النسائي، التي عرج بها محمد إلى السماء: إنها صادرة عن العقلية الخرافية ذاتها التي أبدعت الغول واعتبرت الملائكة بنات الله"، هنا بحسب دجل المؤلف يظهر المعراج كأمر أنتجته العقلية الخرافية العربية التي جعلت الملائكة بنات الله، والربط هنا من خلال الرأس النسائي للمطية. ولكن هناك مصدر آخر بحسب دجله أيضًا لهذه الأسطورة، وهذا المصدر هو ما ورد عن الأنبياء في ديانات قديمة، وأن تأثيرها في الإسلام أكيد، كما ينقل عنه بوجود مؤثرات أخرى على المعراج الإسلامي مانوية وعرفانية، وعليه "فإن محمدًا لم يقم بغير تكرار أسطورة كلاسيكية" (1).
صحيح أن العقلية الخرافية جعلت الملائكة بنات الله، ولكن العقلية المقلدة للإنتاج الغربي حذو النعل بالنعل حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلته هو الذي يجعل المفكر لا يفرق بين المختلفات، ويكتفي بوجود نوع من التشابه لا تقوم به حجة علمية، كمن يجعل وجود الحجر كوجود الإنسان بحجة اشتراكهما في مسمى الوجود، نعم وجد من كتب في التفسير وأضاف عجائب على قصة الإسراء والمعراج، ولكن ذلك لا يكون دليلًا على نفي الحق، حيث يفرق بين الحق وما التصق به من تحريف أو تبديل، كما أن الأكثر فسادًا في هذه المنهجية ما جُبلت عليه العقلية الاستشراقية من البحث عن جذر تاريخي لكل مسألة إسلامية بحيث تُظهر الإسلام وكأنه ثوب مرقع من ديانات وفلسفات تحيط بجزيرة العرب، وجعل الإسلام صورة ملفقة قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم بالأخذ من هذه أو تلك، وسار على نهجهم مجموعة من الكتاب العرب المتغربين سير الأعمى.
ثم تُخرج هذه الأوهام المختلفة والعداء المستحكم في قالب علمي تحت مسمى علم الاجتماع الديني، بينما هي في حقيقتها اتباع لبحوث كتبت في أجواء
(1) المرجع السابق ص 91، وقد بحثت في كتب التفسير التي تجمع الآثار كـ"الدر المنثور" للسيوطي، وكتب السيرة، وبعض الكتب المتخصصة مثل "الإسراء والمعراج وذكر أحاديثهما وتخريجها وبيان صحيحها من سقيمها" للألباني، وكتب الموضوعات مثل كتاب "الموضوعات" لابن الجوزي، وذلك عبر البحث الحاسوبي فلم أجد المطية المجنحة برأس أنثى، مع العلم أنه قد ظهرت كثير من الأكاذيب من خلال الوضع والكذب.
كارهة للإسلام، سواء كان ذلك ظاهرًا أم خفيًا، والذين كتبوا عن نشأة علم الاجتماع العربي قد تنبهوا بمن فيهم بعض المتغربين إلى أثر الاستعمار والاستشراق في توجيه علم الاجتماع وتوظيفه بما يخدم القوى الاستعمارية وخلفياته الدينية أو العلمانية، ويندرج فيها مثل هذه الأبحاث.
والخلاصة أن ما سبق يوضح لنا صورة مزرية من التبعية لبعض مسلَّمات علم الاجتماع، وهو مثال صريح إلى أقصى حدوده في خطورة مثل تلك المسلَّمات والنظريات إذا أخذت من قبل الحاقدين على الإِسلام؛ حيث تصبح أداة لتشويه الدين الحق وجعله كالأديان المبدلة أو المخترعة، وإقامة النقد عليه.
لقد أضحت مقولة "الدين منتج اجتماعي أو ظاهرة اجتماعية" موجهة لقطاع غير قليل من المشتغلين في حقل علم الاجتماع، ويمكن رصدها بسهولة في الندوة التي جمعتهم لدراسة الدين وخرجت في كتاب:"الدين في المجتمع العربي"، حيث تجد التصريح في أغلب البحوث أو التلميح بأنهم يهتمون بدراسة الدين كظاهرة اجتماعية أو كمنتج اجتماعي.
يقول "عاطف غضيبات": "فالدين، في هذه الدراسة، ينظر إليه كظاهرة اجتماعية موجهة نحو المقدس أو ما هو فوق الطبيعي، وينعكس ذلك على نسق من الاعتقادات والممارسات"(1)، أي: العقيدة والشريعة.
ويقول: "والمنهج السوسيولوجي المستخدم في هذه الدراسة يركز في معالجته للعلاقة بين الدين والتغير الاجتماعي في المجتمع العربي الإِسلامي على واقع هذه العلاقة وليس على ما يجب أن تكون عليه. وبالتالي فهي تنظر إلى الدين على أساس أنه انبثاق من الواقع بأبعاده السياسية والاقتصادية والتاريخية. ."(2).
وفي نفس المسار تسير دراسة "علي الكنز""الإسلام والهوية: ملاحظات للبحث"(3)، وهو -أي: الدين- عند "محمد شقرون" "أحد الطرق التي تستجيب
(1) الدين في المجتمع العربي، بحث:(الدين والتغير الاجتماعي في المجتمع العربي الإِسلامي: دراسة سوسيولوجية)، عاطف غضيبات ص 140.
(2)
المرجع السابق ص 141.
(3)
في المرجع السابق ص 91 مع أنه يعترف بفشلها في أثناء دراسة الصحوة الإِسلامية.
بها الجماعات البشرية لحاجات التماثل وترتيب التجربة الجماعية. ."، إنه يشهد تشكلًا في مواجهة تحدي الحداثة في العصر الحديث، إن تعددية المجتمعات الحديثة تنتج تعددية في أنماط الاعتقاد، وليس الدين لوحده هو طريقة مواجهة الحداثة بل هناك غيره، إلا أنه أهمها في المجتمعات العربية، وعلى الباحث الاجتماعي أن لا ينظر للدين وإنما ينظر للديني، البحث في الدين ترتبط به إشكاليات فلسفية ولاهوتية، أما الديني فهو الصورة التي يتجلى بها كسلوكيات وممارسات (1).
والدين عند "إدريس الحسن" هو صورة من الوعي، يقول:"فالدين في اعتقادنا، كجزء من إدراك الإنسان ما حوله، يكوّن جزءًا مهمًا من سمات الوعي الأساسية في صورته الشاملة"، ولهذا يبقى الدين معنا ما بقي فينا الوعي "ولكنه يتشكل ويتداخل مع أشكال الوعي الأخرى والتنظيم الاجتماعي "رأسيًا وأفقيًا"، ويؤثر فيها ويتأثر بها تبعًا للظروف الاجتماعية والتاريخية التي يوجد فيها. وهو تمامًا كأشكال الوعي الأخرى يعطي ويتقبل معاني متعددة ومختلفة دون أن يكون له حقيقة جوهرية واحدة ثابتة الصفات والأفعال. . ."(2).
ونجد عند الدكتور "حسين رشوان" عرضًا لرأي "دوركايم" في الدين، ومن ذلك تأكيده على "أن الجماعة الاجتماعية هي المسؤولة عن تكوين الدين والأخلاق، والتعبير عن ذلك رمزيًا. فالدين خاص بجماعة معينة، وعندما تتغير هذه الجماعة يتغير الدين أيضًا"(3)، ثم نجده في مكان آخر يتحدث فيه عن "علم الاجتماع الديني" فيقول:"ومعنى ذلك أن تعالج الظواهر الدينية كنظم اجتماعية لا من حيث مصدرها، ولكن من حيث أثرها في الحياة الاجتماعية. ."، ثم تحدث عن بعض الافتراضات السوسيولوجية حول طبيعة الإنسان مما لها علاقة بالموضوع، ومنها يتميز الإنسان بقدرته على استعمال الرموز وابتكارها، فلديه قدرة على إضفاء معاني على الأشياء والأصوات والكلمات والأفعال، مع أن هذه المعاني غير قائمة في تلك الأشياء، ثم يصل إلى أن "هناك كثيرًا من
(1) انظر: الدين في المجتمع العربي، بحث:(الظاهرة الدينية كموضوع للدراسة. . . .)، محمَّد شقرون ص 134 - 136.
(2)
المرجع السابق، (الدين أيدلوجيا) ص 248.
(3)
الدين والمجتمع .. ، حسين رشوان ص 86.
الأنشطة التي لا يمكن أن تفسر إلا رمزيًا. فالإله والجنة والنار والخلاص والشيطان والملائكة .. كلها معانٍ ومفاهيم دينية تأخذ شكل رموز معينة لدى من يؤمن بها. ويمكن القول كذلك: إن الحقائق الدينية التي أخذت شكل رسالات سماوية أو وحيًا عن طريق رسل معينين، هذه الحقائق عبر عنها أو ترجمت باللغة الإنسانية، واللغة ما هي إلا رموز" (1)، ومع الفوضى التي تجدها في نصوص الكاتب؛ إلا أنها بمجموعها تكشف مدى خضوعه لمقولات دوركايم على وجه التحديد، وتسليمه يكون الدين منتجًا اجتماعيًّا يُعبر عنه البشر بالرموز.
نصل في النهاية إلى أزمة من أزمات المتغربين الاجتماعيين، فبسبب التقليد الأعمى والاغتراب الذي اعترف به كثير منهم، استسلموا لمقولة "الدين منتج اجتماعي"، وبدؤوا يدرسون الإِسلام من خلالها، ولم ينتبه هؤلاء المتغربون أن هذه المقولة ارتبطت بموقف المؤسسين الملحدين للعلم من "كونت" و"ماركس" و"دوركايم" وغيرهم، فهي مقولة ليس لها علاقة بالعلم؛ وإنما لها علاقة بأيدلوجية العلماء المؤسسين للعلم، وحتى لو صحت في صور من صور الدين، فإن غلط المتغربين عدم تفريقهم بين الدين الحق وبين الدين المبدل أو المخترع، وهذا الخلط لا علاقة له بالعلم؛ وإنما له علاقة بجهل المتغربين أو بأيدلوجيتهم القائمة على النفور من الدين.
2 -
أصل الدين:
تبعًا للمسلَّمة السابقة "الدين منتج اجتماعي" بدأ علم الاجتماع يبحث عن أصله، كيف نشأ؟ وما أول صورة له؟ وما التطور الذي لحق به؟ وما واقعه الآن؟ ويصلون إلى التنبؤ أيضًا بمستقبله. ومن شبه المتفق عليه عندهم أن البحث سيكون في حدود الاجتماعي، أي: عدم الالتفات إلى فرضية تقول بأن أصله خارج المجتمع، وإن تسامحوا مع بعض الفرضيات الفلسفية التي تنظر من خلال منظور مثالي؛ فإنهم وتحت ادعاء العلمية يرفضون أي أصل في ما وراء الطبيعة يتصل بالتصور الديني، ومن ذلك عدم البحث في مسألة الدين الحق المنزل والموحى به من الرب سبحانه، وفي المقابل لا يقبلون بافتراضات دينية -كما
(1) انظر: الدين والمجتمع .. ، حسين رشوان ص 80 - 81، مع تصرف يسير للاختصار.
يقولون- عن أصل الأديان الوضعية مثل دور الشيطان في الانحراف بأقوام، ويُصرُّون على أنه "منتج اجتماعي"، ويبقى البحث في حدود الظواهر الاجتماعية.
يُعد كتاب الدكتور "علي النشار" من أشمل الكتب عرضًا للنظريات الاجتماعية الحديثة رغم صغر حجمه، أي: كتاب "نشأة الدين" وهو أقدمها، حيث صدر سنة (1367 هـ -1948 م)، وإن كان قد سُبق بظهور تيار عريض من المفكرين النصارى الذين تبنوا المذهب التطوري الداروني وفسروا من خلاله الدين -كما سبق في المبحث الأول- إلا أن المؤلف هنا يعرض جميع وجهات النظر عرضًا شاملًا وموجزًا دون إعلان موقف واضح، مع أو ضد، وإن كان لا يخلو من التسرع في التسليم ببعض نتائجهم دون تمحيص، ومن ذلك ما نجده في مقدمته، حيث بدأ البحث عن كيفية نشأة الدين في الأغوار السحيقة من تاريخ البشرية، ورغم صعوبة الوصول إليها إلا "أن الإنسانية الأولى نفسها استطاعت أن تحفظ لنا صورًا من حياتها في قبائل متعددة منتشرة في أستراليا وأمريكا وأفريقيا وآسيا"(1)، بحيث نشعر أن هذه القبائل البدائية بدياناتها العجيبة تمثل الصورة الأولى للدين، ثم يسير عشرات الصفحات مع هذه المسلمة وإن كان في آخر الكتاب يذكر:"أننا لا نستطيع أن نجزم إطلاقًا بأن تلك الأجناس المتأخرة تمثل طفولة الجنس البشري؛ فهناك آثار لم تكشف عنها بعد الأركيولوجيا القديمة خاصة بديانة العصر الحجري أو العصر الجيولوجي الرابع"(2). إذًا يعود سبب الاهتمام بهذه القبائل المتوحشة والبدائية إلى فرضية أن ديانتهم هي أول ديانة وجدت في الأرض، بحيث ينطلق منها البحث الاجتماعي متأملًا وباحثًا في مراحل تطور الدين عنها وانقساماته وتفرعاته في الصورة التي هي عليه اليوم (3). وهذه الدراسات تفترض أن صورة الدين عند هؤلاء هي أول صورة للدين يمكننا القول بها، ثم وقع التطور فيها إلى أن جاءت الأديان التوحيدية، ويقصدون بها اليهودية والنصرانية والإِسلام، وتندرج المسألة عمومًا ضمن الإطار السابق أن الدين منتج اجتماعي.
(1) انظر: نشأة الدين، د. علي النشار ص 5.
(2)
المرجع السابق ص 147.
(3)
انظر: المرجع السابق ص 28.
ذكر "النشار" تعدد النظريات وتشعبها إلا أنها ترجع إلى فكرتين مسيطرتين على النظريات الدينية "هما: فكرة التطور، وفكرة التوحيد أو الوحي الأول. وبين الفكرتين تنازع مطلق في السيطرة على تلك النظريات وإمدادها بالأساس الذي تستند عليه"، وهذا مختصر الفكرتين:
أولًا: المذهب التطوري:
أصحاب مذهب التطور التقدمي في تاريخ الأديان قياسًا على التطور الذي يسود الحياة البيولوجية للإنسان، فإنه يسود أيضًا الحياة العقلية انقسموا إلى قسمين (1):
1 -
قسم يذهب إلى الأساسى الفردي للدين، وأنتج هؤلاء نظريات مختلفة أهمها اثنتان:
أ- النظرية الحيوية: التي ترى بأن الدين نشأ من الحلم عند البدائيين، وانتهوا إلى عبادة الأرواح، تقول الفرضية أن البدائي يشعر أنه بالموت يفقد روحه التي شعر بها في أحلامه، وأن روحه تجتمع مع أرواح آخرين يموتون، وتحيط أرواحهم بالعالم، ثم تصبح قوة تؤثر في حياة الناس، فنشَأت عبادتها، وهكذا وجد الدين، ثم بدأ يتطور عن هذه الصورة (2).
ب- النظرية الطبيعية: وتقول بأن الطبيعة وظواهرها المدهشة قذفت في روع البدائي مشاعر الرهبة مما جعله يتوجه إليها بالعبادة (3).
2 -
قسم يذهب إلى الأساس الاجتماعي والجمعي للدين، فعارضوا النظرية الفردية، أي: تلك التي تقول بأن الدين منشؤه أحلام الأفراد، أو الأخرى التي ترى منشأه مشاعر الدهشة التي أحدثتها الطبيعة في الأفراد؛ وإنما ظهر الدين بواسطة العقل الجمعي، والحل هو دراسة كيف يتولد الدين عن عقل جمعي، فظهرت نظرية التوتمية كونها عقيدة أفرزها العقل الجمعي للقبائل البدائية
(1) انظر: نشأة الدين ص 6.
(2)
انظر: المرجع السابق ص 31 - 59 ولاسيّما ص 34 - 35، وانظر: نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني ص 92.
(3)
انظر: نشأة الدين ص 61 - 79، وانظر: نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني ص 95.
الموجودة في أستراليا مثلًا، وبهذا تكون الديانة التوتمية هي أول ديانة (1)، أو كما يقول النشار:"فثبت ثبوتًا قطعيًا لدوركايم أن التوتمية أقدم دين عرفته الإنسانية"(2)، ويذهب بعد ذلك إلى أنها منشأ الأديان جميعها (3).
وبعد عرض مطول قام به النشار للقسمين بمذاهبهما الثلاثة عبر المكتبة الغربية؛ يصل إلى نتيجة قالوا بها وهي أنها قد "فشلت في الكشف عن نشأة الدين وهاجم بعضها الآخر"(4) لينتقل إلى المذهب التأليهي.
ثانيًا: المذهب التأليهي:
النظريات السابقة تعارض ما جاءت به الأديان الكتابية ودين الإِسلام، وظهر في الغرب من علماء الدين من حاول إثبات "بدء الإنسانية بدين الوحي الحقيقي، وأن هذا الوحي أقام فكرة "الله" في نفس الإنسان، ولكن الخطيئة الأولى أخفت تلك الحقيقة عن البشر"، وأن الدين الحيوي بحسب كلام عالم كاثوليكي هو انحراف عن فكرة الإله الأسمى، ثم جاءت أبحاث مهمة تعرض لتوجه آخر مفاده الابتداء بعقيدة وجود إله في السماء بدأ منه الدين (5). ثم تعثَّر هذا التوجه وهجره بعض مؤسسيه، بسبب ظهور فكرة التطور وتسليم الباحثين بها، حتى جاء عالم ومفكر أسكتلندي هو "أندرو لانج" الذي نقد المذهب الحيوي بعد أن كان من معتنقيه، ودافع عن فكرة أن الأصل للدين هو إله السماء، إلا أن الفكر البدائي انحرف بهذا الأصل حتى ظهر التوحيد في أجلى صوره في المسيحية ثم الإِسلام (6). وقد هاجمه قوم وناصره آخرون، واستمر ظهور دراسات تسند قوله لمجموعة من الباحثين مع مجموعة من أصحاب المنهج التاريخي، ثم مع مجموعة من أصحاب البحث السيكولوجي، ثم مع ثالثة في تاريخ الأديان، ليصل "النشار" بعد عرض مطول إلى أن "فكرة وجود إله أسمى"
(1) انظر: المرجع السابق ص 80 - 150، وانظر: نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني ص 109.
(2)
انظر: المرجع السابق ص 130.
(3)
انظر: المرجع السابق ص 147.
(4)
المرجع السابق ص 150.
(5)
انظر: نشأة الدين ص 151.
(6)
انظر: المرجع السابق ص 153 وما بعدها.
أصبحت "مسلمة في تاريخ الأديان والأنتولوجيا، وأن الأبحاث من مختلف الدوائر قد أيدتها وتطابقت معها تطابقًا تامًا"، ولدرجة أنه "أصبح من العسير أن نجد من ينكرها من العلماء الممتازين"، فضلًا عن هجوم لاقته النظريات الوضعية من حيوية أو طبيعية أو غيرها، وإن كانت النظرية التأليهية مع ذلك تجد من ينتقدها ويرفض التسليم بها (1). وهم وإن فتحوا طريقًا نحو تقريب التفكير الاجتماعي من الإقرار بوجود دين من أصل سماوي إلهي؛ إلا أنه لا يتجاوز عند الكثير منهم صورة الإيحاء للبشر، الذين تجاوبوا مع ذلك الإيحاء باختراع الدين، وباستثناء أهل الكتاب من اليهود والنصارى لا يوجد إقرار عند أصحاب المذهب التأليهي بالنبوات، ولكنه يفتح بابًا للتقريب كما سبق.
يمثل أصحاب المذهب الأول "التطوري" استجابة للتوجه العلماني المادي ذي المنحى الإلحادي، لهذا فهو بعد أن عرف تحطم الدين في الغرب، وظهور الإطار "الفيورباخي" الذي يرجع الدين للإنسان؛ برزت مثل هذه الدراسات التي لا ترى للدين حقيقة خارج هذا العالم، بينما يمثل أصحاب المذهب التأليهي استجابة للتوجه الديني الذي يعترف بوجود إله يدبر هذا العالم. ومع ذلك فالإطار "الفيورباخي" مؤثر في الطرفين، وذلك يعود إلى أن صلة هؤلاء الباحثين بالأديان المبدلة أو الوضعية أكثر، فتعطي الباحثين انطباعًا على صحة أقوالهم، وفيها ما هو صحيح، وانطباعًا أخطر عن صحة التعميم بحيث لا يجد أحدهم حرجًا أن يقول: الدين بألـ التعريف هو ما توصل إليه، بينما ما توصل إليه هو دين من الأديان.
تطرق المبحث الأول لنموذج تغريبي تأثر بالتطورية حول الدين، وتطرق المبحث الثاني لنموذج آخر عمن تأثر بمقولات علم النفس حول التركيز على البعد السيكلوجي النفسي لظاهرة الدين، وأكمل هنا ما يتعلق بأصل الدين من صور ونماذج أخرى اجتماعية.
تسلك كتب الباحثين الاجتماعيين العرب نفس الطريقة التي نظر بها الغرب إلى الدين (2)، ومن ذلك ما نجده عند "حسين رشوان" الذي اعتمد كثيرًا على
(1) انظر: المرجع السابق ص 154 - 192، وما بين القوسين هما على التوالي ص 173 ص 180.
(2)
انظر مثلًا: الدين في المجتمع العربي، بحث:(الأسس الاجتماعية للظاهرة الدينية ..)، حيدر علي ص 34 وما بعدها.
"فريزر" و"باستيد" في النتائج التي يعتمدها، وعند بحثه عن نشأة الدين قال:"والحق أن الدين نشأ مع الإنسانية، ومنذ أقدم العصور، إذ دلت اكتشافات علماء الآثار والمتخصصين في دراسة ما قبل التاريخ والحفريات عند قدماء المصريين و. . . . ما يدل على أن الدين وجد منذ أن نشأت الإنسانية"، أما كيف نشأ؟ فيقول:"لقد عاش الإنسان الأول في دنيا لم يكن يفهمها، وكان يحيط به جميع صنوف الأخطار التي لا يستطيع أن يراها أو يدركها بتصوره، فاستشعر الخوف من الطبيعة، ولم يستطع أن يعللها، فحاول أن يسترضيها بحيث يحصل على معونتها أو بحيث تمتنع على الأقل من إيذائه. ومن ثم أخذ الإنسان الأول في عبادة ظاهرات الطبيعة التي أخذت بلبه. . . ."(1)، ثم ذكر الأقوال في أول ديانة، ومال إلى كلام "فريزر" حول مرور المجتمعات البشرية بثلاث مراحل: السحر والدين والعلم، ثم تحدث عن صور الأديان في المجتمعات الإنسانية الأولى، ومع تحفظه على مسألة الترتيب؛ إلا أنه بدأ بالسحر ثم الروحية ثم عبادة الأجداد ثم الطوطمية ثم الزرادشتية والبرهمية والبوذية والكونفوشيوسية ثم ديانة المدينة عند الإغريق (2)، ثم يصل في النهاية إلى الديانات السماوية "اليهودية والمسيحية والإِسلام"، ويقول:"وقد ظهرت متعاقبة، وهي تقول جميعًا بإله واحد مطلق، إلا أنها تختلف في تصويرها لوحدانية الله. ."(3)، وهذا ما يُدرّسه هؤلاء لطلاب المسلمين، وكأن الدين السماوي لم يكن موجودًا قبل موسى عليه السلام، إذ عادة العرب النقل حرفيًا عن المكتبة الغربية، وهي لا تهتم بذكر ما قبل موسى عليه السلام إلا ضمن السحر والطوطمية، ثم لا ندري كيف تختلف الديانات السماوية في تصويرها لوحدانية الله؟ فإن كانت سماوية فهي لن تختلف، أما انحراف اليهود والنصارى وتبديلهم في دينهم فلا يدل عليه سياق البحث.
ونجد التصريح بصورة أشنع مع "يوسف شلحت" عند بحثه عن أصل الدين
(1) الدين والمجتمع، دراسة في علم الاجتماع الديني، د. حسين رشوان ص 25.
(2)
انظر: الدين والمجتمع، دراسة في علم الاجتماع الديني، د. حسين رشوان ص 26 - 44.
(3)
انظر: المرجع السابق ص 45 وما بعدها، وقد يجري الكلام معهم بذكر الأديان السماوية، مع أن الدين واحد، والاختلاف إنما وقع في الشرائع، ولذا يقال الدين السماوي.
بأنه لا يمكن التسليم بالوحي والرسل، ثم انطلق في سرد أقوال الغربيين حول الدين في صفحات كثيرة (1) ثم هو يقول مع ذلك:"استعرضنا في الفصول السابقة أشهر المبادئ في الديانة، وشتى النظريات في الطوطمية، مؤملين الوصول إلى حل مقنع في نشأة الدين وتطوره؛ فإذا بنا في سوق كثر فيه الأخذ والرد، وعرضت فيه بضاعات مختلفة الأجناس، متعددة الألوان، لا يعرف المرء أيها يختار، ولكن لابد له من الاختيار. ولقد خرج المتدين على المناقشة والجدال، والقيل والقال، وإيمانه وطيد بخالق العالم، وأراح نفسه وفكره من هذه المشاكل، وتبرم بالعلوم ونظرياتها، زاعمًا أنها عاجزة عن بت أمثال هذه المواضيع. أترى من الحكمة أن نأتي بنظرية جديدة في هذا الباب، بعد أن تبينت لنا صعوبة المسالك؟ أليس من السذاجة أن نتوقع لنفسنا النجاح، حيث مني بالخيبة الثقات في علم الاجتماع؟. . . ."(2). ومع ذلك فهو يرى المواصلة في هذا الطريق، المعارض لما جاء في الدين، بحجة السير في طريق البحث العلمي.
ولنا مع هذه الشهادة -أن ننظر إلى عمق الأزمة، فمع إدراكه التام بأنه في سوق وليس في ميدان علمي حقيقي، لأن العلم لا يعرف مثل هذه الفوضى؛ ومع ذلك يُلزم نفسه بأن يختار من هذا السوق، فيحبس نفسه في متجر واحد، وهو نوع من التغرب العجيب، ولا ندري كيف يصف تلك النظريات بسوق ثم يصف المتدين بالتبرم من العلم ونظرياته، والحقيقة أن المتدين لا يتبرم بالعلم، وإنما تبرمه من هذه الفوضى التي تزعم العلمية، فالمتدين على الأقل يجد معه من الأصول ما يساعده على حسن التصور وحسن الاختيار وحسن الفهم، وهذا ما لا يجده أمثال هؤلاء ممن يعيشون هذه الأزمة، ومع ذلك يجدون أنفسهم ملزمين بالاختيار، فمن المهم أن يجد المتغربون في هذا الاعتراف الشجاع من أحد الباحثين في الحقل الاجتماعي ما يدفعهم إلى التعقل وتخفيف حدة التغرّب.
وأشارك الباحث المميز "أمزيان" رأيه حول هذه الفوضى، فبعد أن ذكر إحدى عشرة نظرية حول أصل الدين قال: "والمقصود من عرض هذا الموجز هو تأكيد الفكرة التي انطلقنا منها؛ وهي أن الجانب الميتافيزيقي لعلم الاجتماع لا
(1) انظر: نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني، د. يوسف شلحت ص 91 - 138.
(2)
المرجع السابق ص 139 - 140.
يمكن الفصل فيه، ولا يملك علماء الاجتماع الأدوات اللازمة للخوض فيه، وهذا التعارض والتناقض هو دليل قاطع على أن علم الاجتماع ما زال مثقلًا بالآراء الميتافيزيقية والخرافية رغم العلمية التي يدعيها" (1)، ثم بين سبب حرمانهم الاقتراب من الحقيقة بأنه راجع إلى القيد الذي وضعوه، والذي يُلزم الباحث الاجتماعي بعدم قبول الوحي كموجّه للمنهجية الاجتماعية، "في حين إن الوحي وحده هو الذي يستطيع أن يقدم كشفًا كاملًا لهذه الحقائق" (2)؛ لأن ما يبحثون فيه يدخل في إطار لا يستطيع البشر الوصول إلى نتيجة علمية مقبولة فيه؛ لأنه لا يخضع لأدوات البحث العلمي أو مناهجه، ويبقى القول فيه من باب التخمين الذي يحتاج إلى مصدر خارجي يؤكد صحته.
ومن النتائج الأيدلوجية التي ارتبطت بمبحث أصل الدين: تنبؤ الكثير ممن بحث في أصله بنهاية الدين، وتصريح بعضهم بمستقبل الإلحاد، حيث يسود عندهم ربط نشأة الدين بعدم الوعي والجهل الذي صاحب البشرية أول أمرها، ولكن مع الوعي والعلم وإدراك كيف نشأ الدين يصبح مستقبله محسومًا نحو الفناء والاختفاء. ولكن التطورات التي وقعت داخل ميدان علم الاجتماع ذاته، والواقع الذي تشهده المجتمعات المعاصرة؛ يدلان على انهيار تلك المقولة، فعلم الاجتماع مع بعض رموزه يؤكد بأن الدين وجد ليبقى، ولا يمكن تصور يوم يكون الناس فيه دون دين، كما أن واقع المجتمعات يشهد بعودة نحو الدين، بما في ذلك المجتمعات العلمانية، حتى تلك البلاد التي تبنّت النموذج الإلحادي عقيدةً رسميةً لسنين، حيث انهار نموذجها الشيوعي الإلحادي، وظهرت علامات التدين والعودة للدين في تلك البلاد.
عندها تحول علم الاجتماع إلى ميدان آخر، فترك البحث في "أصل الدين" وانتقل إلى دراسة "وظيفة الدين"، وهذا موضوع الفقرة الآتية.
3 -
وظيفة الدين:
يبحث علم الاجتماع الوظيفي في الوظائف التي تقوم بها أعضاء المجتمع،
(1) منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، محمَّد أمزيان ص 94.
(2)
المرجع السابق ص 94، وانظر فيه: ص 78 - 79، 186 - 187.
وذلك أن مصطلح "وظيفة" قد اكتسب مضامينه من التطور الحاصل في العلوم البيولوجية، ولاسيّما في الربع الأخير من القرن التاسع عشر من خلال التمييز بين "الأعضاء والأدوات والوظائف" من جهة، "وكيفية اشتغال كل منها وعلاقة بعضها ببعض من جهة ثانية"، بحيث تقوم كل أداة بوظيفة غايتها المحافظة على توازن الجسم.
وقد نُقل هذا التصور إلى المجتمع بافتراض تشابهه مع الكائن العضوي، فعرض إمكانية دراسة المجتمع المكون من أجزاء مختلفة وتحليله، ودور هذه الأجزاء داخل الكل (1).
وقد كانت "النظرية التطورية" هي الأسبق في الظهور والأكثر شهرة في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، ثم أعقبها ظهور "الوظيفية"، ولهذا كانت الدراسات المتعلقة بالدين في المرحلة الأولى من علم الاجتماع خاصة بأصل الدين ونشأته وتطوره، ومع بروز "الوظيفية" تحول البحث الاجتماعي إلى دراسة وظيفة الدين، "ويكاد يكون التصور الوظيفي مختلفًا عن دراسات المنظرين الأوائل الذين اهتموا بأصل الدين بحسب كلام الهرماسي، لذلك قلَّت اهتمامات المنظرين الأوائل بدور الدين في المجتمع بخلاف الدراسات الحديثة التي ركزت على وظيفية الدين إلى حد إهمال الجوانب اللاوظيفية"(2)، وهذا أيضًا ما يقوله اجتماعي آخر من خلوّ الدراسات الأولى عن الدين من الاهتمام بدوره في المجتمع، واعتبر "دوركايم" أول من ركز على الوظيفية الاجتماعية للدين (3). أما الدكتور "حسين رشوان" فيضع تاريخًا هو 1940 م لتركيز البحوث والدراسات "على وظائف الدين. وأصبحت النظرة إلى الدين ليس على أساس صِدْقه أو زيفه؛ وإنما على أساس أنه ظاهرة اجتماعية"(4).
ويذكر الاجتماعي "حيدر علي" بأن الدراسات الغربية في علم اجتماع
(1) انظر: الموسوعة الفلسفية العربية 2/ 1568 - 1569.
(2)
انظر: الدين في المجتمع العربي (علم الاجتماع الديني. . . .)، عبد الباقي الهرماسي ص 19.
(3)
هو "حيدر علي" في بحثه: (الأسس الاجتماعية للظاهرة الدينية ..) ضمن كتاب "الدين في المجتمع العربي" ص 36.
(4)
انظر: الدين والمجتمع .. ص 74.
الدين عملت منذ مدة على تحديد ميدان الدراسة وتعريفه، وأنها تنحصر في تيارين: تيار يمكن تسميته تيار المنهج الجدلي، وتيار وظيفي، و"الوظيفي""يتجه مباشرة إلى البحث عن الوظائف أو الأدوار التي يقوم بها الدين داخل المجتمع، وأثره في بعض النظم والمؤسسات الاجتماعية القائمة، أو في عمليات التغير الاجتماعي سلبًا وإيجابًا. ويمتد هذا الاتجاه إلى دوركايم وكتاباته عن أثر الدين في التماسك الاجتماعي. ."، إلى أن قال:"من الملاحظ أن علم الاجتماع في الوطن العربي، حين يتطرق إلى الظاهرة الدينية، يقصر نفسه على الاتجاه الوظيفي أو الخاص بأثر الدين في بقية الظواهر أو التغيرات الحادثة. ."(1).
يعد كتاب: "الدين في المجتمع العربي" الذي جمع عددًا من الاجتماعيين العرب أبرز النماذج على تطبيق المنحى الوظيفي في دراسة الدين، ومع وجود مشاركين من تيارات أخرى، إلا أن أغلب الدراسات في هذا الكتاب تلتزم بالجانب الوظيفي.
ويتذرع بعضهم بمقولة التقسيم بين جوهر الدين وواقعه، بين جوهر الدين الذي لا يدخل في دراسته وبين الواقع الاجتماعي له؛ أي: في صورته الاجتماعية بعيدًا عن أي ربط بأصله الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد سبق الوقوف مع هذه الذريعة، وأنها أقرب إلى الادعاء. ثم إن أغلبهم يتبع حذو القذة بالقذة الطريقة الغربية، وهي منهجية لا تُسلّم مع أكثر منظريها وأهمهم بحقيقةٍ سماوية للدين، الدين عندهم كما في الفقرة الأولى منتج اجتماعي، ولهذا يغلب عليهم دراسة الدين على أنه يقوم بدورين: دور إيجابي، وهو قليل ونادر، وربما لم يعد له وجود، ودور سلبي، وهو الأكثر الذي تركز عليه دراسات الكتاب المذكور، وتجد بعضهم يصرح بمصدر عقدي لهذه الأدوار السلبية.
وبما أن القوم لا يفرقون بين الدين الحق مع وجوده في الواقع -بحيث لا تصلح مقولة التقسيم بين جوهره وواقعه- ولا بين المبدل أو الوضعي المخترع الموجود أيضًا، فالدين الحق هو خير كله ولا يأتي منه إلا الخير، أما الدين المبدل أو المبتدع أو المخترع الموجود أيضًا فهو ضلال وانحراف، وإن توهم أتباعه فيه الخير أو حصلوا على بعض المنافع؛ فإن ضرره هو المتحتم. كما أنه
(1) الدين في المجتمع العربي، بحث:(الأسس الاجتماعية للظاهرة الدينية ..) ص 38.
لا ينفع صاحبه في الآخرة، وهذا الجانب لا يهتم به هؤلاء النخبة من العلماء وكأنهم لا ينتمون إلى الإِسلام أو يعرفونه.
انساق الاجتماعيون العرب خلف الغربيين عندما درسوا الكنيسة ووظائفها وأدوارها وطقوسها وأسرارها وأدخنتها والعشاء والصلب واللباس وغيرها من الأوصاف والوظائف، وهي أمور تمتلئ بها الكنيسة ولا يعرفها الإِسلام ولا يقرّ بها، فيأتي هؤلاء المقلدون باستنساخ ذلك النموذج ليطبقوه على الإِسلام، حتى إن منهم من يسمي المسجد بالكنيسة فلا يكلف نفسه حتى تغيير مصطلح مكان العبادة. ومن المعلوم أن الدين في الغرب أصبح ممثلًا في الكنيسة فقط، وهي جزء مستقل لا علاقة لها ببقية المجتمع، ولا يمكن بحال قياس الإِسلام عليها بما له من شمولية تغطي جميع شؤون المجتمع المسلم.
وينساق الاجتماعيون العرب في تصوير الدين: عقائده وشرائعه وآدابه وكأنها "منتج اجتماعي" هدفه بحسب رؤية "دوركايم" الضبط الاجتماعي، فلا ينظر للعقائد والشرائع إلا في دورها في حفظ توازن المجتمع؛ أي: أن المجتمع -بحسب رؤية دوركايم- أوجد مثل هذه الأصول والعقائد والشرائع لضبط توازنه، وهذا ما جعل أصحاب النظرية "الصراعية" يرون في النظرية "الوظيفية" نظرية تحافظ على الثبات وتمنع التغير والتطور الاجتماعي. وما يهمنا هو تحويل العقائد إلى تصور اجتماعي هدفها فقط حفظ توازن المجتمع وكأنها لا حقيقة لها فوق ذلك.
يتحدث -مثلًا- "الهرماسي" عن أهم وظائف الدين:
1 -
التذكير بحياة بعد الموت من شأنه أن يوفر للناس العون والمواساة، ويجعلهم قادرين على تحمل الخيبة والأسى، ويحول دون اليأس ..
2 -
يقدم الدين علاقة علوية عبر العبادة والطقوس، فيوفر قاعدة وجدانية لإعادة الأمن وتمنح الفرد إمكانية التوازن ..
3 -
يعمل الدين على تقديس نظام القيم والمعايير للمجتمع، بحيث يضمن أهداف المجموعة متجاوزًا رغبات الفرد الضيقة، ويضمن الانضباط الجماعي .. (1).
(1) انظر: الدين في المجتمع العربي، بحث:(علم الاجتماع الديني ..)، عبد الباقي الهرماسي ص 18.
نلاحظ في الأول تعلقه باليوم الآخر، والثاني تعلقه بالإيمان بالله وعبادته، وفي الثالث بباب القيم والشرائع، ولا شك أنها تمنح المؤمن بها والعامل بمقتضاها ما قاله وفوق ذلك، إلا أن نظرة الباحث الاجتماعي لهذه الأصول ليس على أنها عقائد أو دين؛ وإنما على أساس أنها أدوات تقوم بأداء وظائف كما تقوم الأعضاء في جسم الإنسان بوظائفها، ولهذا يتحاشون ذكر المسميات الدينية عن تلك الأصول، فنجده مثلًا ينتقل مباشرة من تلك الوظائف الأساسية إلى وظائف سلبية للدين، وهي غالبًا ما تكون مشتركة عند أغلب من كتب في وظائف الدين السلبية تقليدًا للمدارس الغربية الوظيفية، ومما ذكره:
1 -
يقوم الدين بضبط سلوك الشرائح المحرومة، مما يجعله عاملًا محافظًا على الوضع الراهن، فيمنع قوى الاحتجاج من التطور وقدرتها على التغيير، ويكون بهذا أفيون الشعوب ومخدرًا لها بحسب ماركس (1). وسار على هذا المنحى أيضًا "عاطف غضيبات" في أثناء حديثه عن الدين كعائق عن التقدم بما يضفيه من شرعية على الوضع العام (2).
2 -
قيامها بوضع التقديس على آراء ظرفية ومواقف محلية، مما يجعله مانعًا من التقدم المعرفي؛ لأن المعارف الجديدة ستتعارض مع تلك الأفكار الظرفية التي أُحيطت بالتقديس، كما حصل مثلًا مع جاليلو في مسألة دوران الأرض حول الشمس (3)، وقد سبق في فصول الباب الأول بأن هذا لم يقع في الإِسلام، ولا يعرف الإِسلام تقديس آراء ظرفية قابلة للتغيير، ولكن نزعة نقل الأحكام المنطبقة على الأديان المبدلة أو المخترعة سائدة عند المتغربين في الحقل الاجتماعي.
3 -
أن الدين يسوّغ التمايز الطبقي، وذلك عبر تسويغه الفقر والغنى.
4 -
أن الدين سوغ الوقوع في الوعي الزائف، فهو يجذب الأفراد بعيدًا عن واقعهم الاجتماعي وظروفهم الموضوعية، ويظهر ذلك في التصوف والدروشة (4).
(1) انظر: الدين في المجتمع العربي ص 19 - 20.
(2)
انظر: المرجع السابق، بحث:(الدين والتغير الاجتماعي ..)، عاطف غضيبات ص 144 - 146.
(3)
انظر: المرجع السابق، بحث:(علم الاجتماع الديني. .)، الهرماسي ص 20.
(4)
انظر: الدين في المجتمع العربي، بحث:(الدين والتغير الاجتماعي)، غضيبات ص 146 - 152.
يتضح من الأول والثالث والرابع بُعْده الماركسي، على أن هؤلاء الباحثين عند حديثهم عن وظائف الدين ينجذبون أكثر إلى الأمثلة التي توافق رغباتهم وأهواءهم، بحيث تبقى الأصول التي نقلوها سليمة، وليس المهم صحة الشواهد بقدر ما المهم المحافظة على تلك الأصول المنقولة كما هي، وإلا فإن الدين لا يسوّغ الوقوع في الوعي الزائف، ولا يصح الاستدلال بالدروشة والتصوف على أنه من الأثر الوظيفي للدين، فلابد أن يوجد منهجية علمية صحيحة تفرق بين المختلفات، بين الدين الحق وبين ما ابتُدع فيه، فلا يصح القول بأن الدين هو الذي يسوغ الوقوع في الوعي الزائف، فهذا الحكم العام لا يصح إلا إذا كان هذا هو دور الدين فعلًا، بينما هو في الحقيقة دور التصوف أو القبورية.
ومثل هذا القول غير جديد في جوهره وإن انتسب للعلم الحديث ونظرياته، فجوهره أن الدين ليس له حقائقه الموضوعية ولكنه يؤدي وظائف اجتماعية، فهذا القول هو نفس قول أصحاب منهجية "الوهم والتخييل" وهم "الذين يقولون: إن الأنبياء أخبروا عن الله وعن اليوم الآخر، وعن الجنة والنار، بل عن الملائكة، بأمور غير مطابقة للأمر في نفسه، لكنهم خاطبوهم بما يتخيلون به ويتوهمون به أن الله جسم عظيم، وأن الأبدان تعاد، وأن لهم نعيمًا محسوسًا، وعقابًا محسوسًا، وإن كان الأمر ليس كذلك في نفس الأمر، لأن من مصلحة الجمهور أن يخاطبوا بما يتوهمون به ويتخيلون أن الأمر هكذا، وإن كان هذا كذبًا فهو كذب لمصلحة الجمهور، إذ كانت دعوتهم ومصلحتهم لا تمكن إلا بهذه الطريق" (1).
وقد ننتظر بعد أن أشبع هؤلاء الباحثون الجانب السلبي للدين أن نجد اعترافًا بدوره الإيجابي، ومع ذلك لا نجده، ففي بحث عاطف غضيبات عن "الدين والتغير الاجتماعي. ." ذكر أن الدين يكون في صور عائقًا -والأصح أن البدع أو الدين المبدل أو المخترع هو الذي يقف عائقًا- ويكون في صور محركًا مهمًا للتغير الاجتماعي، ثم حاولت أن أجد صورة لدوره المهم فإذا هو يتحول إلى دور سلبي، ولا أدري كيف يرتبط المحتوى بالعنوان، حيث تحول حديثه عن الحركات الإِسلامية وأنها جاءت وليدة أزمة، وأنها بسبب انطلاقها من موقع ديني
(1) انظر: درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية 1/ 8 - 9.
جعلها تتجه للماضي بدلًا من الاتجاه للمستقبل (1)، فأصبح الدين ذا وظيفة سلبية في الجانبين. ولا شك أن من يتحرك مع الإطار العلماني الغربي لا يستطيع التسليم بسهولة بأثر إيجابي للدين، ولاسيّما إذا تذكرنا بأن "المنظور الوظيفي للدين الذي يعترف بوظيفية الدين في المجتمع. . . . ينكر حقيقته في نفس الوقت"(2)، فإن "محاولات الدفاع عن الدين عند علماء الاجتماع في الغرب والتي تبعهم فيها رجالنا، لا ترفع الدين أبدًا على أنه وحي من الله، بل تتفق جميعها على إنكار العالم العلوي والغيبي، وتنظر إلى الدين على أنه ضرورة نفسية اجتماعية ووهم لابد منه"(3).
4 -
مفهوم البطركية:
المثال التالي مثال مراوغ في نقده الدين تحت مظلة علم الاجتماع، وهو هشام شرابي، فقد اشتهر بتبنيه مصطلحًا اجتماعيًا هو "البطركية" مسقطًا هذا المصطلح على الثقافة العربية وعلى الاتجاهات المحافظة وعلى الاتجاه المتدين، وهو يقصد به النظام الأبوي الذي يسيطر فيه الذكر أو الأب على المجتمع وعلى الثقافة، ومن كتبه "البنية البطركية: بحث في المجتمع العربي المعاصر، النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي، فضلًا عن بحوث بهذا العنوان ضمن بقية كتبه"، وليس المقصود مناقشة هذا المصطلح بكل متعلقاته، وإنما المراد الحديث عن استخدامه العلوم الاجتماعية ومفاهيمها كأداة في تحليل أو نقد المجتمع المسلم.
ومن بين القضايا التي بحثها من خلال هذا المفهوم: العائلة ووضع المرأة، ونظره للاتجاه الإِسلامي الذي يريد العودة للإسلام بأنه نموذج بطركي، بل حتى أولئك الذين يميلون إلى الجمع بين الإِسلام والحداثة في صور توفيقية، هم نوع من البطركية ولكنها أخف من السابقة (4). وفي المقابل وضع سبيل النجاة
(1) انظر: الدين في المجتمع العربي، بحث:(الدين والتغير الاجتماعي)، غضيبات ص 152 - 161.
(2)
انظر: علماء الاجتماع وموقفهم من الإِسلام، أحمد خضر ص 180.
(3)
المرجع السابق ص 182.
(4)
انظر: الثقافة العربية في المهجر ص 20 وما بعدها.
والتقدم والقوة والحرية والحداثة مرتبطًا بالانعتاق من البطركية أي من هذا النظام الأبوي.
وهو في حقيقة موقفه يجعل الإِسلام ضمن هذا المعنى، فهو بصورة أو أخرى نظام بطركي، وقد مر بتحولات في ذكر البديل الذي يطرحه عن هذا النظام البطركي، فمرة كان مع الثقافة الغربية الأمريكية كما ذكر ذلك في الجمر والرماد، ومرة وهي الأطول وربما الأعمق مع الماركسية (1)، وقد أضاف لها النقد النسوي المعاصر (2) حيث يذكر أن نقد المرحلة القادمة هو في نقد النظام الأبوي البطركي الذي يتميز "بسحق المرأة وتأكيده على السلطة الذكورية في العائلة والمجتمع"(3)، فهذه هي البدائل التي يقدمها، ولا شك أنه هنا يستخدم هذه الأداة وهذا المفهوم قصد الانعتاق من الإِسلام، وإن أراد المحافظة على شيء من التراث فهو شيء من العروبة تحت تأثير انتمائه فترة زمنية لأحد الأحزاب، وهو "الحزب القومي السوري"، أما ما عدا ذلك من أمور الإِسلام فهي عنده في حكم النظام الأبوي.
5 -
التعامل الموسع مع العلوم الاجتماعية:
نختم بنموذج موسع للتعامل مع العلوم الاجتماعية، حيث نجد أسماء اجتماعية من كونت إلى دوركايم والمدرسة الوضعية مع ماركس والمدرسة الماركسية، مع مدارس التفسير والتأويل المختلفة، وهذا النموذج هو حسن حنفي.
نجد مرجعية كبيرة عند حسن حنفي للتعامل مع التراث والدين والنصوص، بعضها ذكرها في مقدمته لكتاب إسبينوزا "رسالة في اللاهوت والسياسة"، وأخرى في كتابه "التراث والتجديد"، وثالثة في "تطور الفكر الديني الغربي"، ومن أهم ما نجده موضحًا لتلك المرجعية ما ذكره في كتابه "دراسات فلسفية" مثل موضوع "الاغتراب الديني عند فيورباخ" و"مدرسة تاريخ الأشكال الأدبية" و"قراءة النص"، ففي هذه المرجعيات المختلفة نجد العلوم الاجتماعية بأشكاله المختلفة
(1) انظر: الغرب في فكر هشام شرابي، الزهرة بلحاج ص 220 ص 225.
(2)
انظر: الإِسلام والحداثة ص 374.
(3)
انظر: المرجع السابق ص 372 - 374.
والخلاصات التي يأخذها ويطبقها على الإِسلام.
يقول: "أصبح علم التفسير جامعًا لعدة علوم مثل علم النفس وعلم اللغة وعلم الاجتماع، كما أصبح عصبًا لنظريات المعرفة والوجود والقيم على حد سواء. أصبحت مهمة التفسير إقامة جسور بين الله والإنسان، بين الماضي والحاضر، بين الذات والموضوع، بين اللفظ والمعنى، بين العلم والدين، بين الأسطورة والواقع، بين الكتاب المقدس والدعاية، لا فرق في ذلك بين نص أدبي أو نص ديني. وتم اكتشاف الوجود الإنساني باعتباره تفسيرًا يرجع إليه تفسير النص"(1)، ويصرح بأن مسائل التوحيد أصبحت موضوعًا "لعلم النفس والاجتماع لتحديد نشأة الأفكار الدينية في ظروف نفسية واجتماعية معينة"(2)، وقد كون حسن حنفي من خلال هذه المواد منهجيته في تفسير الإِسلام وتفسير الدين عمومًا.
والناظر إلى صور التطبيقات يجد صورة خطيرة وانحرافًا واسعًا في باب تصوره للدين، وهذا الباب لا يختلف عن التصور الفيورباخي" الذي ذُكر أول الفصل، الذي يتمثل في تحويل كل الدين من ارتباطه بالإله إلى الإنسان، وفي ذلك يقول: "وبالتالي يمكن نقل عصرنا من مرحلة التمركز حول الله وهي المرحلة القديمة إلى مرحلة التمركز حول الإنسان وهي المرحلة الحالية. . . . وتلك هي مهمة "التراث والتجديد" في أول محاولاته من أجل إعادة بناء علم أصول الدين على أنه "علم الإنسان"" (3)، وقدم نموذجًا تطبيقيًا خطيرًا في كتابه الكبير "من العقيدة إلى الثورة" حيث حول كل العقائد لترتبط حسب تصوره بالإنسان بعد أن كانت مهمومة بأمور غيبية.
ومعلوم أن هذه الطريقة تلغي الدين تمامًا، فبدل أن تكون دراسة علمية للدين مستعينة بالمناهج العلمية الحديثة تحولت لعملية تمسخ الدين، وتلغيه، وتبدله، بل وتتلاعب به، وبهذا تتحول هذه العلوم الحديثة إلى أداة هدم للدين، وهذا يعني أن هذه المنهجيات مخترقة من قبل الروح العلمانية المعادية للدين.
(1) دراسات فلسفية ص 545.
(2)
التراث والتجديد ص 141.
(3)
المرجع السابق ص 122.
وفي الختام، فمن الواضح أن المتغربين قد انخرطوا في نفس المسار الذي سار عليه علم الاجتماع في الغرب من جهة بحوثه حول الدين، وهو إطار مشبع -في الغرب- بالعلمنة والإلحاد والرؤية المادية، ولم ينجح العرب المتغربون في الانفكاك عنه، فظهرت بحوثهم حول الدين متأثرة بذلك الإطار، فحولوا الدين إلى ظاهرة اجتماعية، واستبعدوا الجانب الإلهي، وجعلوا بعض البدع وسيلة لتعميم أحكامهم السقيمة على دين الإِسلام. وظهرت مشكلة المتغربين أصحاب الدعاوى العلمية، فمع الدارونيين يكون أصل الدين راجعًا إلى الطبيعة والمادة، ومع المتغربين من علم النفس مصدره نفسي لا شعوري، ومع المتغربين في علم الاجتماع يكون مصدره المجتمع، وغفلوا أو تغافلوا عن الفرق بين الدين الحق وأديان الباطل.