الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا ما نجده مع مجموعة ممن ارتبط بهذه العلوم من اندفاع نحو الدين والإيمان بحسب ما يجده حوله أو يمليه عليه عقله ووجدانه.
وفقه شمولية الإِسلام يريح البشرية، فهو يريحهم من الحركة في أبواب لا يستطيعونها فيقفون عاجزين أمامها أو منكرين لها دون دليل، فيأتي الوحي بالحديث عنها بما يكفي ويشفي ويريح، ويفتح لهم أبوابًا للحركة، فيتحركون فيها: فيكتشفون ويبدعون، وهذا فيه رد على من يفهم من الشمولية أن فيها تعطيلًا للعقل والعمل الحر والإبداع والابتكار والاكتشاف، فكل شيء بحسب فهمهم للشمولية موجود سلفًا، وهذا لا يصح؛ فإن العقل يعمل في إطار الإِسلام في أبواب الدنيا بما ينفع ويفيد، بل حتى في أبواب الدين فهناك الاجتهاد الذي يُعد من إعمال العقل في المستجدات والتجديد الذي يعد من إعمال العقل في التصحيح، بحيث يكون الاجتهاد للمستجدات والبحث عن إطار إسلامي لها، بينما التجديد هو إزالة ما لحق بالدين من انحراف شوّه صورته وفتح الباب لانتقاصه أو الزهد فيه؛ فيُصفي الدين وينقي ما ابتدعه الناس، وعندما يكون بصفائه يكون قادرًا على الشمولية والكفاية.
نماذج من الانحراف التغريبي حول هذا الباب:
النموذج الأول:
إذا عدنا إلى النموذج التغريبي الأول -"الداروني"- الذي ظهر قبيل الاستعمار وانتفش بعد حلوله نجده يُعلن باقتراب نهاية الدين واختفائه وزواله، وأن المساحة التي كان يشغلها الدين سيشغلها العلم ويتكفل بسدّها بحسب زعمهم، والحلّ عند "شميل" مثلًا في العلم، ولكن العلم عنده هو "المذهب الداروني"(1)، ولاسيّما في صورته البوخنرية -نسبة إلى "بوخنر"- وهو مذهب فكري نشأ على هامش العلم وليس علمًا، ومع ذلك فهو يصوره على أنه علم، وأنه البديل الذي يقوم مقام الدين، ومع ما في هذا من تضييق شديد لمفهوم العلم لا يقبله حتى بعض العلمانيين بحيث يصبح الجزئي علاجًا للكلي، ففيه دلالة مَرَضية خطيرة تدفع أصحابها لدخول جحر الضب إن دخله المتبوع.
(1) انظر: الفلسفة النشوئية وأبعادها الاجتماعية. . . .، د. محمود المسلماني ص 97.
والأمر أشدّ وضوحًا عند تلميذه "سلامة موسى"، فالعلم ليس بديلًا عن الدين فقط، بل يتحول العلم إلى دين (1)، فالدين الذي كان فيه السعة والشمول ومعالجة مشكلات لا يستطيعها غيره سيكون العلم مع غلاة المتغربين الدين الجديد الذي يغطي مساحات شغلها الدين سابقًا.
ومع اعتراف "سلامة موسى" بأن المدينة الأوروبية -التي هي مدينة العالم أجمع؛ لتقدم العلوم فيها بجميع فروعها- توشك أن تقع في هوة الفوضى بسبب التفاوت بين التقدم العلمي وبين القيم والنظم والأخلاق والآداب (2). . . .، وهذه الهوة لن يكون علاجها بالرجوع للدين الحق وإنما وتبعًا لاقتراح كاتب إنجليزي -"ولز"- في "أن تؤلف توراة جديدة توافق العصر الحاضر، تضعها فئة منتقاة من العلماء والفلاسفة والأدباء، وينبغي تنقيحها كل عام وفق مطالب الحياة، ثم تترجم إلى جميع اللغات في العالم، فتكون دستورًا للناس"(3)، ثم قال:"والخلاصة أنه لكي تنتفي الفوضى الراهنة، يجب أن تجعل الأخلاق وفق المستكشفات والمخترعات العلمية الحديثة. . . ."(4).
وبقدر ما نرى من غلو في الذات ومركزية (5) مدهشة عند "ولز" بحيث هم من يؤلف التوراة الجديدة، ثم على العالم الانصياع لها، بقدر ما نجد هذا الانسحاق المدهش من قبل المتغربين، وإن كان الجيل الأول منهم يتماهون كثيرًا مع الغربيين بسبب الاشتراك في أصل الديانة ثم في العلمنة، فلا يستغرب ذلك منهم كما يستغرب من المتغربين في المراحل اللاحقة.
وما يهم -الآن- في هذا النص هو الاعتراف بأزمة العلم الذي جُعل بديلًا عن الدين ومغطيًا مكانه بحيث يحقق الشمول ثم هو عاجز عن إسعادنا، وعاجز عن رفع الخوف والقلق حتى فيما هو ماهر فيه، فكيف بما هو ليس من مجاله من المطالب الإنسانية العالية. ثم يكون البديل هو نوع من الاحتيال على الدين الحق،
(1) انظر: سلامة موسى بين النهضة والتطوير، د. مجدي عبد الحافظ ص 18.
(2)
انظر: اليوم والغد، سلامة موسى ص 114.
(3)
المرجع السابق ص 115.
(4)
المرجع السابق ص 117.
(5)
انظر حول مفهوم المركزية الغربية كتاب د. عبد الله إبراهيم، (المركزية الغربية - إشكالية التكون والتمركز حول الذات).