الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المثال الثالث: حسن حنفي:
في هذا السياق يأتي نموذج فكري منخرط في الرؤى العلمانية الحديثة، ومتزعم لمنهجيات معاصرة ينظر من خلالها للإسلام والقرآن وأمور الدين وأمور الواقع، ومن ذلك نظرته للغيب، ويرجع ذلك إلى التجديد المطلوب، ومن طرق التجديد التي سلكها ثلاث طرق (1)، أولها منطق التجديد اللغوي، ويقوم على تغيير هذه اللغة التي غلب عليها الطابع الديني إلى لغة هي في النهاية لغة تستبعد كل العقائد، ومن ذلك الغيب.
فمن شرط اللغة الجديدة المجددة أن يكون "لها ما يقابلها في الحس والمشاهدة والتجربة حتى يمكن ضبط معانيها والرجوع إلى واقع واحد يكون محكًا للمعاني ومرجعًا إذا تضاربت وتعارضت. فألفاظ الجن والملائكة والشياطين بل والخلق والبعث والقيامة كلها ألفاظ تجاوز الحس والمشاهدة، ولا يمكن استعمالها لأنها لا تشير إلى واقع، ولا يقبلها كل الناس، ولا تؤدي دور الإيصال"، وذكر ألفاظ الصفات الخبرية وأدخل فيها ما ليس منها، ثم ذكر السمعيات مثل الميزان والصراط وأمور الآخرة، فهي لا تدل على معانٍ حسية (2).
ومن الثابت أن أغلب أمور الغيب هي مما لا ينطبق عليها معياره الحسي والتجريبي، وهذا يعني إقصاء كل هذه الكلمات، أو تعبئتها بأمور محسوسة، وهذا في حقيقته هو من إنكار الغيب والتكذيب به، وغالبه مما يدخل في أصل فاسد معروف في القديم والحديث، وهو أن ما لا يحس لا نؤمن به، وسيأتي الجواب عليه في فقرة قادمة بإذن الله.
المثال الرابع: محمَّد أركون:
يدرس أركون الأصول الغيبية ضمن مفاهيم أخذها من المخزون العلماني الغربي الحديث، مثل: الأسطورة، اللامفكر فيه، الدوغمائية، العجيب الخلاب، التعالي، المقدس، وغيرها من المفاهيم، ويصل من خلالها لتأكيد ما هو من المسلمات عنده حول الغيب الديني؛ وهو الإنكار له. ودراسته تهتم فقط بكيفية
(1) التراث والتجديد، حسن حنفي ص 109.
(2)
انظر: المرجع السابق ص 121 ص 126.
ظهور مثل هذه الأساطير، وتبعًا لرؤى جديدة حول الأسطورة فهو يتفهم تقبل العقل الإنساني لها بل وحاجته إليها (1).
ففي دراسة له عن "العجيب الخلاب في القرآن" ويركز فيه على الأمر الخارق للعادة، بحث دور العجيب الخلاب في دعم الغيب وأصوله، فمن خلال إيراد القصص القرآني حول آيات الأنبياء وكرامات الأولياء وتعذيب الكافرين بأمور غير معتادة للناس، يتم استغلال هذا الخارق للعادة في دعم قضايا غيبية كما يقول أركون (2)، ففي النهاية لا تلك الأمور الخارقة للعادة بصحيحة ولكنها أداة مهمة لدعم الغيب، وحتى الغيب إنما هو ضمن الفضاء الأسطوري الذي تنجح تلك الخوارق في تعزيزه وتوسيع دائرته، ثم ذكر أهم الأمور الغيبية التي يدعمها العجيب الخلاب، وهي:
قصة الخلق الأول، ونشأة الكون، وخلق السماء وما فيها من أفلاك، وقصة خلق الإنسان، والكائنات اللامرئية مثل الملائكة والجن والشيطان وإبليس، وموت الإنسان وعالم البرزخ، وعلامات الساعة ونهاية الزمان، والبعث والحساب والآخرة (3)، فقد جمع أركون هنا كل أصول الغيب، وأراد شطبها بكل سهولة من خلال هذا التحليل، من المسلَّم به أن من مقاصد ذكر الخوارق هو الإقرار بالغيب، بل قد عُدّت المعجزة آية صدق النبي وعلامة لصحة ما أخبر به من أمور الغيب، فلا جديد فيما يذكره، ولكن الفاسد من قوله هو عدم الإقرار بحقيقة هذه الأصول الغيبية.
مناقشة المشككين في الغيب أو المنكرين له بدعاوى علمية:
لمناقشة هذا الباب، أذكر ثلاثة مسارات، ويجمعها أنها الاستدلال بالعالم المخلوق المحسوس المشاهد على عالم الغيب، المخلوق منه وغير المخلوق، أما الأول فهو عن الطريقة الإجمالية للقرآن في إثبات الغيب، وسأكتفي منها بجانب الاستدلال بالمخلوقات على الغيب، والثاني سيكون عن طريق الاستدلال ببعض ما توصل إليه العلم الحديث في عالم المادة، والثالث عن طريق
(1) انظر مثلًا: تاريخية الفكر العربي الإِسلامي، محمَّد أركون ص 35، 210.
(2)
انظر: الفكر الإسلامي قراءة علمية، محمَّد أركون ص 187 وما بعدها.
(3)
انظر: المرجع السابق ص 206.
الاستدلال ببعض ما توصل إليه العلم الحديث في عالم الكائنات الحية.
أولًا: مجمل الطريقة القرآنية لإثبات الغيب والرد على المخالفين فيه.
ثانيًا: دلالة عالم المخلوقات المادية على الغيب.
ثالثًا: دلالة المخلوقات الحية على الغيب.
أولًا: مجمل الطريقة القرآنية لإثبات الغيب والرد على المخالفين فيه:
لقد جاء ذكر الغيب في القرآن، ولا شك أن العاقل يعلم من حال الأنبياء أن ما جاؤوا به من أمور الغيب هو حق، حتى وإن لم يدللوا عليه بدليل، ومع ذلك ولعلم الله سبحانه بوجود المكذبين والمنكرين والكافرين وبوجود من يتأثر بشبهاتهم من الناس، فقد ذكروا مع الغيب أدلة عظيمة تقرّ بها العقول الصحيحة والفطر السليمة، فجاء الرسل بأعظم الأدلة الخبرية والعقلية والحسية والضرورية وغيرها، قال -تعالى-:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)} [النساء: 165]، ولا يجد من يريد الحق إلا الخضوع لها والتصديق بما دلت عليه، ومع ذلك فإن من تأثرت فطرته بالشبهات قد يختلط عليه الأمر، قال شيخ الإِسلام ابن تيمية:"الإقرار بالخالق وكماله يكون فطريًا ضروريًا في حق من سلمت فطرته، وإن كان مع ذلك تقوم عليه الأدلة الكثيرة. وقد يحتاج إلى الأدلة عليه كثير من الناس عند تغير الفطرة، وأحوال تعرض لها"(1).
يعد النظر في المخلوقات من أعظم الطرق لتحقيق الإيمان بالله ومن أعظم الطرق للإقرار بالغيب؛ لأن من نظر في المخلوقات علم أن جهله بها كبير، وأنها عالَم يصعب الإحاطة به، فإنها وهي المخلوقة المحسوسة نجهل الكثير عنها وهي بين أيدينا فكيف بما غاب عنا، مما تقرّ به العقول واعتنت به الرسالات السماوية، وهو الغيب الديني من الإيمان بالله وعالم الملأ الأعلى والنبوات واليوم الآخر وغيرها من أمور الغيب. إن العالم المخلوق الذي نعلم بعضه ونجهل أكثره ليدل دلالة قطعية عن وجود ما هو أعظم من هذا العالم، وهو غيب يصعب على البشر بحدود أدواتهم المعرفية أن يصلوا إليه، فإنهم لو
(1) الفتاوي 6/ 73.
تفكروا في المخلوقات لعلموا صعوبة الإحاطة بعلمها فكيف بما هو أعظم منها من شأن الغيب؟! وفي الوقت نفسه يستحيل الإقرار بهذا العالم المخلوق الكبير دون أن يكون خلفه موجد خالق مدبر.
لهذا نجد مثل هذا التنبيه المتكرر بالنظر في عالم المخلوقات للاستدلال بها على عالم الغيب، ومن المهم أن يدرك كل أحد أن طريقة القرآن هي أعظم الطرق، فإذا كان القرآن قد أكثر من الاستدلال بعالم المخلوقات على خالقها وعلى الغيب الذي ينكره المنكرون، فهذا يعني أن هذه الطريقة هي أفضل الطرق لمناقشة المكذبين بالغيب والمنكرين له والكافرين به.
ومن نظر في الآيات التي تأمر بالنظر في المخلوقات وجد فيها حشدًا كبيرًا من أنواع الأدلة الفطرية والضرورية والحسية والعقلية التي تدل كل عاقل إلى الإقرار بالغيب؛ أي: أن ذكر هذه المخلوقات ودلالاتها على الخالق ليس ذكرًا مباشرًا مما يناسب صاحب المعرفة المحدودة بل إنه آيات متسعة لأنواع من الأدلة يعجز البشر عن الإتيان بمثلها، ويبقى على المسلم النظر فيها وطلب الفتح من الفتاح سبحانه بأن يكشف له من عجائب كتابه المبين "الذي هو حبل الله المتين والذكر الحكيم والصراط المستقيم، الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق عن كثرة الترديد، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم، ومن تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله"(1).
عندما واجه الإِسلام الشرك والكفر كان له طرقه في ذلك، ومن أشهرها إلجاؤهم للنظر في هذا العالم المخلوق، ففي ذلك عبرة لصاحب العقل السليم، فيترك الملحد والكافر التكذيب ويترك المشرك عبادة غير الله. ويعلم المسلم في كل زمان أن ما دلنا عليه القرآن هو الأهدى في دعوة هؤلاء، فهو من خالق
(1) رواه الترمذي برقم (2831) وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإسناده مجهول وفي الحارث مقال، وضعفه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (2138)، وقد ساقه ابن تيمية كاقتباس دون نسبة في افتتاح مقدمة التفسير [الفتاوى 13/ 330]، فمعانيه جميلة وصحيحة.
البشر وهو أعلم بما يصلح حالهم، وإذا كان الانحراف الأبرز زمن النبوة هو الشرك، وفي باب توحيد الألوهية، فإن الانحراف الأبرز هذا الزمان ولاسيّما في الفكر التغريبي وقدوتهم الغربيين هو في باب الربوبية وغالب الغيب، وما جاء في القرآن من الاستدلال بالمخلوقات على الخالق هو ردٌ مباشر على منكري الربوبية والمنحرفين في الغيب، ولكن ليس للوقوف عند هذا الباب، وإنما من أجل الانتقال منه إلى باب توحيد العبادة (1).
عند النظر في الآيات الكثيرة حول الاستدلال بالمخلوقات على الغيب وعلى الخالق، نجد تعقيبًا لأغلب الآيات يحرك العقل نحو الإقرار بالخالق سبحانه، ومن ثم ما يلزم منه من الإيمان به سبحانه، والاستسلام له وتحقيق عبوديته وتوحيده.
ونجد أكثر من صورة للتعقيب ومنها صورتان يكثر ورودهما، صورة ترتبط بالخالق سبحانه، وصورة ترتبط بالمخلوق، أما التي ترتبط بالخالق فيأتي التعقيب ببيان علم الله سبحانه وقدرته وحكمته وواسع إرادته وما في بابها. من مثل:{ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ، {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)} ، {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)} ، {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} ، {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ، {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} ، {إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} ، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} ، {وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، {وإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} ، {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} ، {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} ، {وإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} ، {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} ، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} ، {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} ، {إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} ، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)} ، {وهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، {وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} ، {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} ، {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} ، {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ، {أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} ، وغيرها.
وأما التي ترتبط بالمخلوق فالتعقيب بما يتعلق بالإنسان من جهة حثّه على
(1) من بين أبرز الكتابات في هذا الباب ما كتبه ابن القيم رحمه الله في كتابه: (مفتاح دار السعادة)، ومن الكتابات المعاصرة كتاب: الشيخ عبد الرحمن حسن الميداني (براهين وأدلة إيمانية)، وهناك رسالة علمية بعنوان:(الأدلة العقلية النقلية على أصول الاعتقاد) لسعود العريفي.
الثمرة من نَظَره في هذا الخلق، من مثل:{أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} ، {أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} ، {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ، {أَفَلَا تَسْمَعُونَ} ، {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} ، {أَفَلَا يَشْكُرُونَ} ، {لِأُولِي الْأَلْبَابِ} ، {لِأُولِي الْأَبْصَارِ} ، {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ، {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ، {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ، {لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} ، {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} ، {لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} ، {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ، {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ، {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} ، {لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} ، {لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} ، {لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} ، وغيرها (1).
خلق السماوات والأرض وخلق الإنسان:
لقد نبه الله سبحانه على أمرين من خلقه بأكثر من أسلوب، والعاقل عند إحسانه النظر فيهما، يستسلم لله سبحانه، ويقر بوجوده وربوبيته وألوهيته، ويتوجه بقلبه إليه، ويقر بالغيب الكبير، وهما:"السماوات والأرض". والغالب أنه يراد منها جانبها المادي المحسوس، و"الإنسان" الذي يمثل الكائنات الحية، ومن ذلك قوله -تعالى-:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36)} [الطور: 35 - 36]، وقوله -تعالى-:{مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)} [الكهف: 51]، وقوله -تعالى-:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} [فصلت:53]، ففي آيتي الطور تنبيه لكل عاقل بسؤالين مهمين عمن خلق البشر وخلق السماوات والأرض، فمن تفكر في هذين الخلقين لابد أن يصل لحقيقة واحدة، أن الله هو الخالق. وعندما خلق الله الإنسان والسماوات والأرض لم يُشهد المنكرين ولا الضالين، وما نعرفه إنما هو بالخبر أو بما أرانا الله في الآفاق والأنفس. والمقصود أن هذين العالمين المخلوقين "الإنسان والسماوات والأرض" فيهما من الدلالة على خالقهما ما يكفي لكل عاقل نظر فيهما، ولهذا يأتي ذكرهما كثيرًا في القرآن، ليعلم المعتبر بهما أن القرآن حق، وما فيه من غيب حق، وكفى بالله شهيدًا.
وعالم المخلوقات المشاهدة تدل على الخالق، وتدل على الغيب المخلوق
(1) انظر: الفهرس الموضوعي لآيات القرآن الكريم، محمَّد مصطفى ص 57 - 83.
الذي قد خلق أو هو مما سيأتي عليه الخلق مع الزمن، قال -تعالى-:{وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]، قال ابن الجوزي رحمه الله:"قوله -تعالى-: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ذكر قوم من المفسرين: أن المراد به عجائب المخلوقات في السماوات والأرض التي لم يُطَّلع عليها"(1).
والآن أستعرض بعض الآيات القرآنية حول تنبيه الإنسان للنظر في المخلوقات، وأثر ذلك في الإيمان بالغيب وأهمه الإيمان بالله سبحانه وتحقيق عبوديته، لنكشف فيها طريقة القرآن في الرد على منكري الغيب أو المنحرفين فيه.
ومن المناسب في هذا الباب الافتتاح بكلام مهم للشيخ العلامة الشنقيطي رحمه الله حول مثل هذه الآيات، ومن ذلك قوله رحمه الله في تفسير قوله -تعالى-:{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101]: "أمر الله جل وعلا جميع عباده أن ينظروا ماذا خلق في السماوات والأرض من المخلوقات الدالة على عظم خالقها، وكماله، وجلاله، واستحقاقه لأن يعبد وحده -جل وعلا-. وأشار لمثل ذلك بقوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} الآية [فصلت: 53]، ووبخ في سورة "الأعراف" من لم يمتثل هذا الأمر وهدده بأنه قد يعاجله الموت فينقضي أجله قبل أن ينظر في ما أمره الله -جل وعلا- أن ينظر فيه لينبه بذلك على وجوب المبادرة في امتثال أمر الله -جل وعلا- وذلك في قوله -تعالى-: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} الآية [الأعراف: 185] "(2).
وقال رحمه الله في آية {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} من سورة [النحل: 11]: "اعلم أن النظر في هذه الآيات واجب، لما تقرر في الأصول "أن صيغة الأمر تقتضي الوجوب إلا لدليل يصرفها عن الوجوب". والله -جل وعلا- أمر الإنسان أن ينظر إلى طعامه الذي به حياته، ويفكر في الماء الذي هو سبب إنبات حبه -من أنزله!؟ ثم بعد إنزال الماء وري الأرض من يقدر على شق الأرض عن النبات وإخراجه منها!؟ ثم من يقدر على إخراج الحب من ذلك النبات!؟ ثم من يقدر على تنميته حتى يصير صالحًا للأكل!؟ {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ}
(1) زاد المسير لابن الجوزي 4/ 328.
(2)
أضواء البيان 2/ 493.
الآية [الأنعام:99]. وذلك في قوله -تعالى-: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)} [عبس: 24 - 32].
وكذلك يجب على الإنسان النظر في الشيء الذي خلق منه، لقوله -تعالى-:{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5)} [الطارق: 5]، وظاهر القرآن: أن النظر في ذلك واجب، ولا دليل يصرف عن ذلك" (1).
وقال رحمه الله في تفسير قوله -تعالى-: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13)} [غافر: 13]: "وقد دلت آية المؤمن هذه، وما في معناها من الآيات على أن غير أولي الألباب المتذكرين المذكورين آنفًا، لا يتذكر ولا يتعظ بالآيات، بل يعرض عنها أشد الإعراض. وقد جاء هذا المعنى موضحًا، في آيات كثيرة من كتاب الله، كقوله -تعالى-: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)} [يوسف: 105]. وقوله -تعالى-: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)} [القمر: 2] وقوله: {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)} [الصافات: 14]. وقوله -تعالى-: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)} [يونس: 101] وقوله: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)} [الأنعام: 4]، في الأنعام ويس إلى غير ذلك من الآيات"(2).
فمن الآيات في هذا الباب:
(1) المرجع السابق 3/ 222.
(2)
المرجع السابق 7/ 78.
وقال -تعالى-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)} [البقرة: 258]، وليس المقام ذكر ما في طريقة النبي إبراهيم عليه السلام فمقام ذلك واسع، ولكن انظر بماذا ناظر إبراهيم الخليل هذا المنكر المكذب، فقد ناقشه بعالم المخلوقات لإثبات الخالق سبحانه، فهذه من طريقة الأنبياء عليه السلام كما ستأتي أمثلة أخرى.
وقال -تعالى-: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)} [الأعراف: 185].
وقال -تعالى-: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)} [يونس: 5 - 7]، ومن الدلالات المهمة التي ترشدنا إليها
هذه الآية خطورة الرضا بالدنيا والافتتان بها ونسيان الآخرة، إذ يغلب عليهم الغفلة عن آيات الله، ومن تأمل حال المنحرفين في الغيب يجد فيهم هذه الصفة، فعندهم تكذيب بلقاء الله واغترار بهذه الحياة. قال السعدي رحمه الله: "يقول -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} ؛ أي: لا يطمعون بلقاء الله، الذي هو أكبر ما طمع فيه الطامعون، وأعلى ما أمله المؤملون، بل أعرضوا عن ذلك، وربما كذبوا به {وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بدلًا عن الآخرة.
{وَاطْمَأَنُّوا بِهَا} أي: ركنوا إليها، وجعلوها غاية مرامهم ونهاية قصدهم، فسعوا لها وأكبوا على لذاتها وشهواتها، بأي طريق حصلت حصلوها، ومن أي وجه لاحت ابتدروها، قد صرفوا إرادتهم ونياتهم وأفكارهم وأعمالهم إليها. فكأنهم خلقوا للبقاء فيها، وكأنها ليست دار ممر، يتزود منها المسافرون إلى الدار الباقية التي إليها يرحل الأولون والآخرون، وإلى نعيمها ولذاتها شمر الموفقون.
{وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} فلا ينتفعون بالآيات القرآنية، ولا بالآيات الأفقية والنفسية، والإعراض عن الدليل مستلزم للإعراض والغفلة عن المدلول المقصود" (1).
وقال -تعالى-: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)} [يونس: 31 - 32].
وقال -تعالى-: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} [يوسف: 105 - 106].
(1) تفسير السعدي ص 358.
وقال -تعالى-: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)} [الرعد: 8 - 9].
وقال -تعالى-: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10].
وقال -تعالى-: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)} [الحجر: 14 - 22]، وفي هذه الآيات بيان حال المكذبين، فعندهم من مرض العناد ما يجعلهم حتى عند تحقيق مطالبهم الحسية عن أمور غيبية يكابرون ويدعون بأنهم قد أُغلقت أبصارهم أو سحروا، ثم تحول الخطاب إلى العالم المحسوس الذي يرونه وأن فيه كفاية لو عقلوا وتركوا العناد.
وقال -تعالى-: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)} [الحجر: 85 - 86]، وقد ورد هذا المعنى في أكثر من موضع، الاستدلال بهذا العالم المحسوس الذي يدل كل شيء فيه أنه لا عبث فيه، ومن ثم لابد من غيب بعده وخلفه يكون غاية من هذا الحق الذي خلق به الخلق، فجاء هنا ذكر اليوم الآخر عقب ذكر خلق السماوات والأرض وما بينهما، قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: "ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق؛ أي: ليدل بذلك على أنه المستحق لأن يعبد وحده، وأنه يكلف الحق ويجازيهم على أعمالهم. فدلت الآية على أنه لم يخلق الخلق عبثًا ولا لعبًا ولا باطلًا. وقد أوضح ذلك في آيات كثيرة، كقوله:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)} [ص: 27]، وقوله:{رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191]، وقوله:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} الآية: [الدخان: 38 - 39]، وقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)} [المؤمنون: 115 - 116]، وقوله:{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)} [النجم: 31]، وقوله:{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37)} [القيامة: 36 - 37]، إلى غير ذلك من الآيات" (1).
وقال -تعالى-: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ
(1) أضواء البيان 3/ 191 - 192.
وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)} [النحل: 65 - 74].
وقال -تعالى-: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)} [طه: 49 - 50]، وهذا مثل طريقة إبراهيم عليه السلام في جوابه للمنكر المعاند، فعند إنكاره للرب وتكذيبه بأعظم غيب، جاء جواب نبي الله موسى عليه السلام بصرفه إلى دليل محسوس مشاهد يدله على الغيب.
وقال -تعالى-: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17)} [الأنبياء: 16 - 17].
وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)} [الحج: 5 - 6]، هذه صورة من صور لفت المرتابين في أمر عظيم من أمور الغيب، وهو اليوم الآخر، وقد جاءت صور مختلفة للدلالة على اليوم الآخر، وذلك أن إنكاره كان أكثر من غيره.
وقال -تعالى-: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)} [الحج: 61 - 65].
وقال -تعالى-: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)} [الفرقان: 2].
وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)} [الفرقان:61 - 62].
وقال -تعالى-: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)} [الشعراء: 7 - 9].
وقال -تعالى-: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)} [الشعراء: 23 - 28]، سبق ذكر مثل هذا من الحوار بين الأنبياء والمكذبين، فإذا جاء طلب الشهادة الحسية على الغيب جاء الرد النبوي على المنكر المكذب بلفت نظره إلى هذا الخلق العظيم: السماوات والأرض، والإنسان، فهذا الخلق العجيب يدل دلالة ضرورية على الخالق، ومن ثم وجوب الإيمان به وعبادته.
وقال -تعالى-: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)} [النمل: 86].
وقال -تعالى-: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)} [العنكبوت: 44]، قال السعدي رحمه الله:"بالحق، أي: لم يخلقها عبثًا ولا سدى، ولا لغير فائدة، وإنما خلقها، ليقوم أمره وشرعه، ولتتم نعمته على عباده، وليروا من حكمته وقهره وتدبيره، ما يدلهم على أنه وحده معبودهم ومحبوبهم وإلههم. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِين (77)} على كثير من المطالب الإيمانية، إذا تدبرها المؤمن رأى ذلك فيها عيانًا"(1).
وقال -تعالى-: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)
(1) تفسير السعدي ص 631 - 632.
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11)} [الروم: 7 - 11]، وهنا جاء ذكر الأنفس -الإنسان، والسماوات والأرض (1).
وقال -تعالى-: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ
(1) انظر: المرجع السابق ص 637.
مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)} [الروم: 46 - 54].
وقال -تعالى-: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ
مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)} [يس: 33 - 44].
وقال -تعالى-: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)} [ص: 27].
وقال -تعالى-: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)} [الأحقاف: 3]، في آية "ص" ورد أنه لم يخلق ذلك باطلًا، وفي "الزمر" و"الأحقاف" أنه خلقها بالحق، وقد سبق مثلها في سورة الحجر.
وقال -تعالى-: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63)} [الزمر: 62، 63].
وقال -تعالى-: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)} [غافر: 57].
وقال -تعالى-: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُون
(79)
وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)} [غافر: 79 - 81].
وقال -تعالى-: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)} [الذاريات: 21 - 23].
وقال -تعالى-: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر: 49].
وقال -تعالى-: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3].
وقال -تعالى-: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)} [الملك: 3 - 4].
بعد سياق شيء من تكبر فرعون في أول النازعات جاء: قوله -تعالى-: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)} [النازعات: 27 - 33].
وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)} [الانفطار: 6 - 9].
وقال -تعالى-: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)} [الطارق:5 - 7].
وقال -تعالى-: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)} [الغاشية: 17 - 21].
هذه بعض الآيات حول الطريقة القرآنية في مناقشة المنكرين لباب الغيب والعقيدة، وفي طريقته للتمهيد لمسائل الإيمان وطريقته في غرسها في قلب الإنسان عن طريق التوسل بآيات الله الكونية من عالم الخلق العجيب، ومن نظر في القرآن يعجب من هذا الحشد الكبير من ذكر هذه المخلوقات حتى كأن القرآن
كله في هذا الباب، ولا عجيب في ذلك؛ لأنّ قضية الغيب من أعظم قضايا الدين، ولهذا جاء التدليل عليها بهذه الطريقة القرآنية في أغلب سور القرآن لما لها من أهمية.
وقد وقف بعض العلماء حول هذه الآيات ودلالاتها العقدية ومنهم من أفرد لها كتابًا كابن القيم رحمه الله في كتابه: "مفتاح دار السعادة"، ومن المعاصرين نجد كثيرًا من ذلك في كتاب القاسمي:"دلائل التوحيد" وكتاب محمَّد العدوي: "آيات الله في الآفاق والأنفس - طريقة القرآن في العقائد"، وكتاب:"الأدلة العقلية النقلية على أصول الاعتقاد" لسعود العريفي، وهو من أهم ما وجدته من الكتب المعاصرة في هذا الباب، وقد استفدت من بحثه واستنباطاته، ولا شك في مكانة كتابيْ: الرازي قديمًا وطنطاوي جوهري حديثًا في تفسير القرآن "مفاتيح الغيب - التفسير الكبير" و"الجواهر في تفسير القرآن الكريم" حول هذا الموضوع، لولا أنّ فيهما توسُّعًا يخرج بالآيات عن مقاصدها.
وهناك جانب آخر من هذا الباب اهتم به بعض المسلمين لاسيّما من المعاصرين: وهو كشف عجائب خلق الله التي توصّل إليها العلم الحديث، فبعد التطور العلمي، ولاسيّما ما حدث من تطور كبير في عالم الأجهزة التي فتحت الأعين على عالم عجيب من عالم المخلوقات وما يتبع تلك الاكتشافات من محاولات لفهمها من قبل العلماء المتخصصين في ذلك، فظهر في المكتبة الإِسلامية كتابات كثيرة عن عجائب خلق الإنسان وبقية الكائنات الحية من حيوان ونبات، وعن عالم الغازات والسوائل والجمادات، وعن العالم الصغير الذي لم يُكتشف إلا في هذا العصر: عالم الخلية وعالم الذرة، والعالم الكبير الذي تهتم به الفيزياء الكونية وعلم الفلك كالأرض والفضاء.
الاستدلال بعالم المخلوقات المادية والحية على منكري الغيب:
وإن إقامة الحجة على منكري الغيب بعالم الخلق قائمة في كل زمان ومكان، ومع كل أحد، وصدق الله العظيم القائل:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} ، فإنه مع التغيرات الفكرية الحديثة، ولاسيّما في بروز ظاهرة الإلحاد وظاهرة الكفر بالغيب التي شاع أمرها، جاء من الكشوفات العلمية في
الآفاق والأنفس ما يقيم الحجة على كل مكذب وملحد، وصدق الله:{أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} .
وفي ما يلي عرض نوعين من هذه الكشوفات الجديدة التي اكتفى مكتشفوها بالعمل عليها دون السير معها إلى نهاياتها المنطقية -سوى قلة- وهو الإيمان بالله والإقرار بالغيب والتصديق به، الأول يتعلق بعالم المادة والثاني يتعلق بشيء عن الحياة.
فبعد أن عُرض شيء من طريقة القرآن أنتقل إلى بابين مهمين، فيهما دلالة عظيمة على الغيب، وهما رغم سعة علم العلماء فيهما لم يصلوا إلا للقليل، وقد قال -تعالى-:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله:"ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه ما أعطى خلقه من العلم إلا قليلًا بالنسبة إلى علمه جل وعلا؛ لأن ما أعطيه الخلق من العلم بالنسبة إلى علم الخالق قليل جدًا. ومن الآيات التي فيها الإشارة إلى ذلك قوله -تعالى-: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)} [الكهف: 109]، وقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)} [لقمان: 27] "(1)، ويقول د. التكريتي:"إن حدود المعرفة هذه يثبتها العلم نفسه. فإمكانات الإنسان في المعرفة تتضاءل عند الغوص في أعماق الذرة، أو الإبحار في الفضاء الكبير. فالمجهول يحيط به من جانبين: جانب الدقائق "العالم الصغير"، وجانب الفضاء الواسع "العالم الكبير""(2)، وسننظر الآن إلى حجم ما يصل إليه البشر رغم تطور العلم وأجهزته ومناهجه.
* * *
ثانيًا: دلالة عالم المخلوقات المادية على الغيب:
1 -
العالم الصغير المادي:
توصل العلم في أول العصر الحديث إلى أن الذرة هي أصغر مكون للمادة، وقد كان للذرة صلة بالتصور اللاهوتي القديم الذري وموضوع الجزء
(1) أضواء البيان 3/ 626.
(2)
حبات المعرفة. . . .، د. محمَّد التكريتي ص 40 - 41.
الذي لا يتجزأ، ثم وقع تطور مذهل مع تطور أجهزة العلماء التي تساعدهم على اكتشاف هذا الجانب الصغير، وكان يُظن أنه بسيط الصورة والعمل، ولكن الاكتشافات التي تزيد مع تطور الأجهزة كشفت لنا عالمًا مدهشًا، مع أنه عالم يحتاج لتكبير إلى ملايين المرات، إلا أن هذا العالم الصغير جدًا فيه من العجائب والأسرار ما يفتح القلب للإيمان بخالقها ومدبرِ أمرها، ومسخرها سبحانه. فلقد نشأ علم جديد مع هذا العالم الصغير، سمي "علم الكم" وهو يرتبط بالنظرية الكمية التي تعتني بالعالم الصغير (1).
ومن عجائب هذا العالم الصغير من خلق الله سبحانه أنه يصعب دراسته، مع أننا أمام ذرة واحدة فقط، ولهذا تقوم ميزانيات كبيرة لا تستطيع دولة واحدة على نفقتها بل دول غنية، كما لا يستطيع عالم واحد، بل فرق عمل كبيرة وحاصلة على تحصيل علمي خاص في العلوم الحديثة من تخصصات مختلفة، ومع ذلك تبقى نتائجهم محدودة في هذا الباب، مع أنهم محصورون في دراسة هذا العالم الصغير عبر دراسة ذرة واحدة منه، ومن ذلك اشتراك الدول الأوروبية (19)(دولة) في بناء مختبر لدراسة هذا العالم الصغير، فأقاموا سنة (1989 م) أكبر المعجلات للدقائق الذرية في العالم، يتألف من أنبوب دائري من الألمنيوم يبلغ طوله (27 كيلومتر)، مدفون في نفق قطره (3.8 متر) تحت سطح الأرض على عمق (100 متر)، وتدور فيه الدقائق الصغيرة ملايين الدورات وبسرعة عالية وإن كانت أقل من سرعة الضوء، وتوجد حول الأنبوب أربعة كواشف لقياس ما يحصل عند اصطدام هذه الدقائق بأخرى، ويبلغ حجم الكاشف الواحد حجم بيت كبير، ويزن عدة آلاف من الأطنان، وتكاليفها باهظة جدًا، ومع ذلك فما اكتشف من هذا العالم الصغير ما زال قليلًا، وقد دخلت أمريكا في مشروع مماثل لبناء هذا المعجل، ثم ألغي المشروع سنة (1993 م) بسبب تكاليفه الباهظة (8 بليون دولار) بعد إنفاق بليوني دولار على مرحلته الأولى (2).
(1) انظر: الفصل الأول من الباب الأول حيث سبق الحديث عنها، وانظر: حبات المعرفة، د. محمَّد التكريتي ص 127 وما بعدها، أيضًا ص 217 وما بعدها.
(2)
انظر: حبات المعرفة. . . .، التكريتي ص 47 - 48، والمشروع الأمريكي ص 50.
عالم الذرة:
نكتفي بما يقوله العلماء عن حجمها، وعن شيء من الزمن الداخلي فيها، فمن جهة حجمها: فإذا ذهبنا إلى الذرة، ثم ونظرنا في حجمها وعوالمها، فنجد العجب. يقول "زويل":"وهب أننا قمنا، بوسيلة ما، بتكبير إحدى الذرات والتي يصل حجمها نحو جزء من مائة مليون جزء من السنتيمتر على وجه التقريب لتصبح في مثل حجم لوزة القطن. . . . فعندئذ يلزم أن تتخيل نفسك أنك تنظر إلى تلك الذرة من موقع لك على سطح القمر؛ أي: من على بعد 385 ألف كيلومتر من تلك الذرة، حتى تظل النسبة ثابتة بين حجم لوزة القطن والذرة في حجمها المتخيل هذا، أو بمعنى آخر، فإن حجم الذرة لا يزيد على جزء من بليون "البليون يساوى ألف مليار" من حجم لوزة القطن، بمعنى أننا لو جمعنا من هذه الذرات لتبلغ بأحجامها حجمًا مثل حجم لوزة القطن لجمعنا نحو 1000000000 منها .. فيا لها من ضآلة في الحجم تلك الذرات، والتي لا يزيد حجم الواحدة منها على جزء من مئة مليون جزء من السنتيمتر، الأمر الذي جعلها حينًا من الدهر كشيء خيالي .. ! "(1).
وفيما يلي جدول يبين بعض الكميات التي تم قياسها علميًا (2):
* قطر نواة الذرة
…
10 (-15) متر
…
0.000000000000001 متر
* كتلة الإلكترون
…
9.11×10 (-31) كيلو غرام
…
0.00000000000000000000000000000091 كغم
ولو جعلنا جسم الإنسان بداية الحركة نحو أصغر جسم "الأطول بقليل من طول بلانك "أي: جزء من ألف مليار مليار مليار جزء من المتر"، مرورًا بالأجسام الدقيقة التي لا نستطيع رؤيتها بالعين المجردة "كالأجسام المجهرية - خلايا جسمنا، والبكتيريا، والفيروسات"، حتى الإلكترونات والكواركات "وحدات بناء نواة العناصر"،. . . ."(3) لوجدنا العجب العجاب مما كان يجهله البشر قبل ظهور الأجهزة الحديثة، فمن كان يتصور هذه العوالم الصغيرة من
(1) رحلة عبر الزمن، د. أحمد زويل ص 100.
(2)
حبات المعرفة. . . .، التكريتي ص 41.
(3)
التطور الموجه، د. هاني رزق، ضمن كتاب الإيمان والتقدم العلمي ص 17.
مادية: الذرات وعالمها المدهش، أو الحية: الكائنات المجهرية والخلايا وعالمها الداخلي؟ فمن ذاك الذي يدّعي معرفة هذه العوالم الصغيرة التي بين أيدينا؟ وإن عرف عنها شيئًا فكيف تقوم بعمليات تحير العقول في عالمها الصغير، وقد نحتاج إلى مختبر ضخم لو أردنا عمل مثل تلك العمليات، فمن جعلها بهذه الصورة؟ وإذا كُشف شيء من هذه العوالم، فكم بقي غيرها؟
فإذا انتقلنا إلى جانب آخر من الذرة وهو زمنها الخاص، كم هو؟ لوجدنا شيئًا يأخذ بالألباب من العجب، فهو زمن يُذهل العقل من صغره، ويصعب ملاحقة الأحداث فيه، وقد نجح باحث عربي في رصد شيء من حركة هذا العالم الصغير في ذاك الزمن العجيب عبر طريقة خاصة لتصوير الجزيئات الصغيرة أثناء حركتها وقياس زمنها، وهو أحمد زويل:"لقد أصبح زويل باكتشافه هذه الطريقة الجديدة. . . . أول شاهد عيان للأحداث الكيميائية التي تقع في زمن يقدر بجزء من مليون بليون من الثانية. ."(1).
والمقياس الزمني في العالم الصغير هو الفمتوثانية، ويحدثنا عنها زويل، فيقول:"ومقياس الزمن في عالم الذرات والجزيئات مقياس غير عادي، وحدته الفمتوثانية. . . . تساوى جزءًا من مليون بليون جزء من الثانية؛ أي:1 00 000 000 000 000 0. 0 ثانية "المقدار الناتج من قسمة الرقم واحد على الرقم واحد أمامه 15 صفرًا؛ أي: 000 000 000 000 000 1" أو جزء من كوادريليون. . . . من الثانية، ولتقريب الصورة إلى الأذهان نقول: إن الفمتوثانية بالنسبة إلى الثانية هي كمثل الثانية بالنسبة إلى 32 مليون سنة.
وفي زمن قدره ثانية واحدة يقطع شعاع الضوء مسافة طولها 186 ألف ميل "نحو 300000 كيلومتر"، وهي تقريبًا المسافة التي تفصل بيننا وبين القمر؛ وفي زمن قدره فمتوثانية واحدة يقطع شعاع الضوء نفسه مسافة طولها 300 نانومتر. . . . وهي مسافة لا تزيد عن حجم جرثومة واحدة، أو جزء ضئيل من سُمك شعرة في جسم الإنسان، وفي زمن الفمتوثانية هذا فإنه يمكن رصد حركة الذرة -أي: تصبح حركة الذرة مرئية" (2).
(1) رحلة عبر الزمن، د. أحمد زويل ص 146 وصاحب المقولة: روبرت.
(2)
المرجع السابق، زويل ص 2.
فهذه الذرة الصغيرة تحوي كل هذه العجائب، ويتفرغ لدراستها عباقرة من علماء الطبيعة في ميادين مختلفة، وتنفق فيها مبالغ طائلة، ويُصنع لها أجهزة دقيقة، ويعمل لها مختبرات ضخمة، ومع ذلك فعالمها المجهول ما زال كبيرًا، فكيف بالغيب الذي أوجدها؟! وكيف بغيب الملأ الأعلى والغيب الديني الكبير؟! كيف يستطيع الإنسان الإحاطة به مع كل عظمته وهو لم يستطع الإحاطة بالعالم الصغير المادي؟ ثم إن في انكشاف هذا العالم المخفي بكل عجائبه دلالة لأولي العقول على غيب أعظم، وفي طريقة عملها دلالة أعظم على وجود قادر عليم (1).
2 -
العالم المادي الكبير:
فلنترك هذا العالم الصغير المدهش، ولننظر في الكون الكبير، وسيكون مع الأجهزة الحديثة أكثر إدهاشا من الذرة وعالمها، ويذكر م. شعبان "أن كل ما كان يعرفه العلماء عن أجرام الكون قبل هذا التاريخ -تاريخ إطلاق تلسكوب هابل في الفضاء 1990 م-، لم يكن يتعدى 1% من مجموعها"(2). وليس لمن هو خارج هذه العلوم إلا أن يعجب من هذه المسافات والأحجام التي يذكرها علماء الفلك والفيزياء الكونية، وربما هذا أهم ما يذكرونه في كتبهم، حيث أن ما سوى المسافات والأحجام أمر يحتاج إلى إمكانيات هي فوق طاقة البشر، وإن مشروعًا واحدًا لدراسة كوكب من الكواكب يكلف من المال والأجهزة والعلماء ما يفوق إمكانيات البشر (3).
إذا نظرنا لما يقوله علماء الفيزياء والفلك عن الكون المادي، وهو عالم محسوس لرأينا من جهة: عِظم خلق الله، مما يجعل العقل السليم يقرّ بعلم الله الواسع وحكمته البالغة وقدرته التامة، ويجعل العقل السليم يعترف بصعوبة الإحاطة بعالم الشهادة فكيف بالغيب العظيم؟! فإن عالم الشهادة نجهل أكثره
(1) وانظر للمزيد: في ظلال القرآن، سيد قطب 2/ 1117 - 1118، وانظر: الإسلام يتحدى، وحيد الدين خان ص 59، تعريب ظفر الإِسلام خان.
(2)
الطريق إلى المريخ، م. سعد شعبان ص 193.
(3)
انظر مثلًا: ما كتب حول دراسة كوكب المريخ مثل: الطريق إلى المريخ، م. سعد شعبان، وانظر: البحث عن حياة على المريخ، دونالد، ترجمة د. إيهاب محمَّد. وكلاهما من سلسلة المعرفة الكويتية برقم (228) و (288).
فكيف بعالم الغيب؟! كما أن هذا العالم المشهود العجيب يدفع للإقرار بالغيب المجهول.
فهؤلاء العلماء يذكرون عن جانب الكون الكبير شيئًا عجيبًا يستحيل الإحاطة به، ومما يذكرون أن "القابل للرصد يتألف من تعنقدات "حشود" المجرات أو الأبراج. ويقدر عدد المجرات ما بين مئة مليون إلى مئة مليار مجرة. وتتألف المغيرة الواحدة من مئة مليار نجم تقريبًا، لنصفها على الأقل حجمٌ يزيد عن حجم الشمس؛ أي: أن الكون القابل للرصد الجوي يحوي على الأقل مئة مليار نجم" ومجموعتنا الشمسية تقع في أحد أذرعة درب التبانة، وهي مجرة من بين تلك المجرات، تحوي على "أكثر من مئتي مليار نجم، معظمها يشبه شمسنا"(1)، وقد تحتوي المجرة الواحدة "على نجوم يساوي حجمها ألف مليار حجم الشمس، وببلغ عددها مئة مليار نجم. . . . ويقدر عدد المجرات التي تؤلف الكون بمليار مجرة"(2).
ويقول التكريتي: "أما من ناحية عالم الفضاء الواسع فالأمر، قطعًا، أكثر صعوبة وتعقيدًا. لنأخذ مثالًا بسيطًا. يبلغ قطر مجرتنا "درب التبانة" 30 كيلو بارسيك؛ أي: مائة ألف سنة ضوئية، أو بليون بليون كيلو متر. . . ."(3).
لا شك أن سعة المجهول في عالم الشهادة، الكبير منها والصغير، تجعلنا أكثر تواضعًا أمام الغيب الأكبر، وعدم الخوض فيه، والاكتفاء بما ورد في الوحي، مما يدور حول الرب سبحانه، وآياته التي جعلها لأنبيائه، والملائكة، والوحي والرسل عليهم السلام، وعالم الملأ الأعلى، ومستقبل العالم، فإن العلم الحديث قد وسّع من مدارك الناس ودلّهم على صعوبة الإحاطة بعالم الشهادة فمن باب أولى عالم الغيب.
وقد عرض الدكتور محمود زيدان أقوالًا لعمالقة علماء الطبيعة حول العالم المادي الذي يصفونه، ويضعون قوانينه بأنّه "ليس العالم المادي في حقيقته، وإنما هو العالم كما يبدو لعقولنا، إنه عالم من صيغ رياضية مجردة. . . . أما
(1) التطور الموجه، د. هاني رزق، ضمن كتاب الإيمان والتقدم العلمي ص 13.
(2)
المرجع السابق، رزق ص 38.
(3)
المرجع السابق، التكريتي ص 50، وانظر: الإِسلام يتحدى ص 56 - 59.
العالم الحقيقي في موضوعيته بعيدًا عن دورنا فيه، فلا علم لنا به، ولذلك فحقيقة المادة أو حقيقة العالم مجهولة لنا تمامًا" (1)، ثم استعرض بعض الأبعاد الفكرية الجديدة التي ترتبت على التحولات العلمية الضخمة أوائل القرن العشرين (14 هـ)، ثم قال: "فهؤلاء علماء الطبيعة في هذا القرن -وقد فهموا المثالية بالمعنى الفلسفي الدقيق حين تحدثوا عن أولوية الوجود العقلي على وجود المادة، لكن ليس هذا المعنى هو كل ما أرادوه بالمثالية، إذ فهموها بمعان أخرى يمكن حصرها في النقط التالية:(أ) استحالة الوصول إلى معرفة موضوعية تمامًا عن العالم المادي، وإنما تقوم معرفتنا للعالم نتيجة تدخلنا فيه بقدراتنا العقلية وآلاتنا ومقاييسنا، (ب) معرفتنا "تركيب عقلي". . . . تلعب فيها الذات دورًا أساسيًا، وليست معرفتنا مطابقة موضوعية للواقع، (ج) معرفتنا للعالم المادي مصاغة في صيغ رياضية مجردة تبعد بنا عن المألوف عن المادة وتقربنا من وجود ذهني" (2).
وقال أيضًا: "وعلى آية حال فإن المواقف الفلسفية للعلماء تبين لنا أن العالم العملاق متأثر بنظرية الفلاسفة، وتظهرنا أيضًا على أن عالم المادة يدعو إلى الدهشة والقلق وليس كتابًا مفتوحًا يعرف أعماقه كل إنسان"(3).
فهذا التحول الكبير له دلالاته، فقد كان العلم ولاسيّما في صورته المادية قد اغترّ بعالم المحسوس، ورفض كل معرفة غيبية، وادعى المعرفة الكاملة بهذا العالم المادي، وأن النواقص التي فيه ستُحسم قريبًا وفي سنوات قليلة، ومن ثم فقد انتهى الغيب، ثم يحدث تغيّر جذري من داخل العلم ذاته، ويتحول العلماء إلى عوالم مدهشة في الكون الكبير وعالم الذرة الصغير، زعزعة كل هذه الدعاوى الفكرية التي بُنيت على العلم القديم، ليعترف العلماء بأن معرفتنا بعالم المادة ليست كما كان يتصور علماء القرن التاسع عشر.
وإن عالم المادة رغم ما يُظن فيه من بساطة ليحوي في داخله عالمًا عجيبًا
(1) من نظريات العلم المعاصر إلى المواقف الفلسفية، د. محمود زيدان ص 82.
(2)
المرجع ص 84. وهذا التحول القائم على إنكار الجوانب الموضوعية، وإعلاء الذاتية، فيه غلّو، وهو المقابل للغلّو البارز في دعاة الموضوعية، وهذا الانتقال من جهة إلى جهة، حالة مألوفة في الفكر الغربي، وهدى الله أهل الإِسلام إلى الوسط.
(3)
المرجع السابق، زيدان ص 100، وانظر: الأسس الميتافيزيقية للعلم، د. حسين علي ص 102 وما بعدها.
ومدهشًا، وهو العالم المادي الذي يتوقع العالم بساطته وسهولة عمله، ثم كشفت لنا الأجهزة الحديثة سذاجة التصور البسيط عن المادة، والحال أوسع مع الكائنات الحية، وفي كل شيء له آية تدل أنه الواحد، ومن الجميل أن نختم بمثال عجيب من عالم المادة، وهو الندف الثلجية، فقد نشاهد سقوطها، ونظن أنها ذات شكل واحد ثم سقطت كنقاط بيضاء جميلة تغطي الأرض، ولكن عندما تفرغ لها باحث، فكبرها وصور لنا تلك الندف، وبعد تكبيرها ظهر ما يُبهر الألباب ويدفعها لتسبيح المولى سبحانه.
يوضح الشكل المرفق التنوع المدهش في أنماط الندف الثلجية، وكلها تستند إلى الشكل السداسي. والندف الثلجية الاثنتا عشرة المبينة في الشكل تظهر في كتاب "البلورات الثلجية"" snow crystals"، وهو كتاب يحتوي على ألفي شكل لندف ثلجية بذل د. أ. بنتلي في تصويرها غاية جهده وعنايته طوال مدة تقرب من خمسين عامًا، ويقدم و. ج همفريز لهذا الكتاب بالنظرة التأملية الآتية: إن الثلج، الثلج الجميل، الذي يصفه الشاعر النشوان بأنّه غطاء الشتاء النظيف الأملس للغابة والحقل، ما برح منذ قديم الزمن يتحدى الأقلام أن تصفه، والفراش أن ترسمه وتصور آثاره العجيبة. والجمال الذي تشيعه في النفس أصغر ندفة منه أو أصغر بلورة تسبح بتؤدة بين السماء والأرض لا يقل عن ذلك سحرًا، وهو يلح علينا بإصرار؛ لأنه لا يقتصر على أن يحرك فينا الاستجابة للرقة والأناقة، التي تجعل منا بشرًا، بل يثير أيضًا رغبتنا وحب استطلاعنا في معرفة كيفية وسبب وجود هذه الجوهرة بالغة النقاء ذات الجمال الفائق والأشكال التي لا حصر لها.
ومصممو المنسوجات والفنانون يستوحون الأفكار من فهرس الندف الثلجية الذي وضعه بنتلي، ويستعينون بما يسميه همفريز "معرض الطبيعة الدائم للزخرفة التوشيعية وتصاميم الجواهر والحلي".
إن صغرى العواصف الثلجية تُسقط على الأرض تربليونات من الندف الثلجية، وربما كانت كل ندفة منها فريدة من نوعها، وما من أحد استطاع حتى الآن أن يفهم مجمل العمليات والظواهر الفيزيائية لكيفية تشكل الندف الثلجية، وإن كان جيمز الذي يعمل في مركز الفيزياء النظرية في سانتا باربرا، قد وضع لها، بعد سنوات طويلة من العمل المضني، نموذجًا رياضيًا يبعث على التفاؤل.
فهل تستطيع آليات الطبيعة أن تفسر جمال الندف الثلجية، أو زبد البحر،
أو غروب الشمس؟ إن جمال هذه الجوامد ينتج بالضرورة من قوانين الفيزياء والكيمياء، وهي قوانين جميلة في ذاتها، وبفضل قوانين الطبيعة هذه لا يمكن أن يتولد من ذلك كون بشع، فجمال الجوامد مركب في آلية الطبيعة ذاتها (1).
هذا ما يستطيع أن يقوله باحث يعيش في بيئة علمانية، وإلا فإن هذا النظام البديع والدقيق ليدلنا على أكثر من دلالة، أعظمها أن الذي خلق هذا الخلق العجيب يجب علينا الاستسلام له وقبول كل ما جاءنا منه سبحانه، فكما نجد من أنفسنا الخشوع لخالق هذه العجائب لابد من الاستسلام لما جاءنا من رسله من أنباء الغيب.
[صورة]
ثالثًا: دلالة المخلوقات الحية على الغيب:
يأتي الأمر أكثر عجبًا في عالم الكائنات الحية، وأن ما كشف في الكائنات
(1) انظر: العلم في منظوره الجديد، روبرت وجورج ص 46 - 66، والشكل ص 65، ترجمة د. كمال خلايلي. ضمن سلسلة عالم المعرفة الكويتية برقم (134).
المعروفة من تركيب أجهزتها وطريقة عيشها ليدل العاقل عما خلف ذلك، أما ما أضافه العلم المعاصر فهو الاكتشافات لعالم الكائنات المجهرية بعد تطور الأجهزة الحديثة، وهو عالم مدهش كان خافيًا مئات السنين عن الناس، وإن هذا العالم المخفي ليفتح القلب السليم للتصديق بالغيب الحقيقي الذي جاء خبره من السماء، فإن هذه الكائنات ما زال جزءٌ كبيرٌ منها في عالم الغيب، وما كشف عنها هو السطح في كثير منها وعمقها ما زال بعيد المنال، وقد كان نُفاة الغيب في فترة قريبة يعلنون للعالم الانتهاء من معرفة العالم، فيصدمهم ما يوقف مثل تلك المقولات ويخفف من غلوها، فيظهر من الكائنات الصغيرة ما يذهب بالألباب من طريقة عيشها وحياتها وعملها وأدوارها التي تقوم بها، وازدادت دهشة العالم مع مكتشفات علم الجينات في هذا القرن، والاقتراب من إكمال كشف الخارطة الجينية داخل الخلية، وما كُشف في هذا الباب له دلالات مهمة -فوق ما كشف في الباب المادي- من سعة عالم الغيب المخلوق الذي يحيط بنا فكيف بالغيب البعيد عنا؟!
سأكتفي في هذا القسم بشيء مما كشف حديثًا من عالم الجينات، وقد قال -تعالى-:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات: 21]، وإن في المعالم الظاهرة للإنسان ما يكفي من عجائب الخلق، فكيف لو نظرنا إلى ما هو أبعد من ذلك ولاسيّما في خلايا جسده، فكما أن الذرة هي العنصر المهم في عالم المادة فإن الخلية هي الكائن المهمّ في عالم الأحياء، و"يحوي الجسم البشري ما يقرب من 100 تريليون "مليون مليون" من الخلايا، معظمها يقل عرضه عن عُشر من المليمتر. ويوجد في الداخل من كل خلية بقعة سوداء تسمى النواة. ويوجد في النواة مجموعتان كاملتان من الجينوم البشري. . . . وتأتي إحدى مجموعتي الجينوم من الأم والأخرى من الأب. ومن حيث المبدأ، تحتوي كل مجموعة على الجينات نفسها التي يبلغ عددها ما بين 60 ألف جين و 80 ألفًا، وهي موجودة على الكروموسومات الثلاثة والعشرين نفسها"(1).
يقول د. الخلف: "لقد شاء الله -جل وعلا- أن يضع أكبر سر من أسرار خلق الإنسان ضمن ما يسمى المادة الوراثية الموجودة في كل خلية من خلايا
(1) الجينوم: السيرة الذاتية للنوع البشري، مات ريدلي، ترجمة د. مصطفى فهمي ص 11 - 12.
الجسم، وبشكل أدق فإن هذه المعلومات والأسرار وضعت داخل نواة الخلية التي لا يمكن رؤيتها إلا تحت المجهر بعد أن يجري تكبيرها آلاف المرات. "كيف يمكن أن نتصور أن ما يعادل 1.2 مليون صفحة "حوالي 3.2 بليون حرف" يمكن كتابتها ضمن حيز ضيق لا تتجاوز أبعاده بضعة ميكرونات "1 سنتيمتر يساوي 10 آلاف ميكرون"؟، والحيز الضيق هنا هو نواة الخلية. . . . ويعتقد العلماء أن المليارات الثلاثة من الحروف التي يتكون منها الجينوم يمكن كتابتها على خط طوله متران، وهو الطول الفعلي لمجموع الصبغيات الموجود داخل النواة. وهنا يبرز سؤال آخر هو: كيف يمكن كتابة حوالي 3.2 بليون حرف على مسافة مترين؟. . . ." (1) أما المادة الوراثية نفسها فهي موجودة على شكل خيوط رفيعة متطاولة ومتناثرة ضمن النواة وهذه الخيوط تسمى الحمض النووي " DNA" . . . . إن المادة الوراثية " DNA" الموجودة في كل خلية من خلايا الإنسان تتكون من 3.2 بليون عنصر كيميائي، وكل عنصر منها يمثل ما يسمى جزيئًا، وهو عبارة عن أحد العناصر المسماة: أدينين، سايتوزين، غوانين، ثايمين، ويرمز لهذه الجزيئات علميًا بالأحرف: A ،C ،G،T على التوالي. ولو أن هذه المليارات "3.2 بليون" من الجزيئات قد كتبت على شكل خط مستقيم. . . . لامتد هذا الخط إلى مسافة تقدر بخمسة آلاف كيلو متر. . . . ولو أردنا كتابة المعلومات الوراثية الموجودة في خلية واحدة من خلايا جسمنا لملأت مليون وخمسمائة صفحة من القطع العادي. ويقدر مجموع طول خيوط الحمض النووي الموجودة في خلية واحدة من خلايا الجسم بحوالي عشرة أمتار، ولو علمنا أن الجسم البشري يحوي حوالي "10 (13) " خلايا، فسيكون الطول الكلي لهذه الخيوط في الجسم ما يقارب "10 (11) " كيلومترات.
وللعلم فإن هذه الكتابة الطويلة للمعلومات الوراثية تتميز بأعلى درجات الدقة والإتقان الرائع، وإن كل حرف له محله الخاص، ولنتصور أن مجرد تغيير حرف من مكانه في هذه الكتابة الطويلة (5000 كم) قد يسبب موت الطفل الوليد، وهذا ما نسميه أمراض الطفرات الوراثية" (2).
(1) أخذت ما بين القوسين من موضع آخر من الكتاب وأدخلته هنا لمناسبته لذلك، العصر الجينومي. استراتيجيات المستقبل البشري، د. موسى الخلف ص 20.
(2)
العصر الجينومي. . . .، د. موسى الخلف ص 63 - 64، بتصرف يسير.
وحول معرفة الشفرة الوراثية يقول: "إن من أصعب الأمور التي تواجه العلماء، ليس في قراءة الشفرة فحسب، بل في الفهم الصحيح لهذه القراءة. إن القراءة الكاملة للذخيرة الوراثية ربما تكون ممكنة خلال الأشهر القادمة، أما موضوع الفهم الصحيح لهذه الكتابة فقد يمتد إلى عشرات أو مئات السنين، أو قد لا نصل أبدًا إلى الفهم الكامل والتام لكيفية عمل المورثات وكيفية تفاعلها بعضها مع بعض بشكل واضح ودقيق"(1).
ويقول: "إن المادة الوراثية الموجودة في خلية واحدة من خلايا الإنسان تحتوي على 3.2 بليون حرف، كل منها عبارة عن جزيء من الأحماض النووية المسماة أدينين، سايتوزين، غوانين، ثايمين، وبإمكان تلك الأحرف أو الجزيئات أن تعطي عددًا غير محدود من الكلمات. . . ."(2).
إن الكشوفات العلمية التي يهدي الله لها العلماء تزيد من حجم المساحة التي كنا نجهلها من عالم المخلوقات، وتفتح الباب لاحتمال وجود عوالم غائبة قد تُكتشف مع الأيام، ومن ذلك اكتشاف لغة جديدة كنا نجهلها، وهي اللغة الجينية المبنية على أربعة أحرف، ويخرج منها ملايين الكلمات التي تكوّن خارطتنا الوراثية المدهشة، وهي مسجلة في خلية واحدة، وكأنها كتاب، لو قدر لأحدهم قراءتها دون توقف لاحتاج لخمسين سنة من القراءة، وهذا يكشف أننا كنا أميين في كل تاريخنا البشري. ولا يعني هذا الكشف سهولة الأمر، فإن الكشف الحالي ما زال في بداياته، وهو مثل معرفة آلاف القطع التي تكون طائرة عملاقة، فمعرفة هذه القطع لا يعني أننا بالضرورة قادرون على صنع طائرة وقيادتها، كما أن هناك قضايا معقدة يصعب معرفتها، مثل عدم معرفة سبب موت خلايا معينة من هذه الملايين لتسبب أمراضًا معينة (3)، ومع أن ذلك ممكن في المستقبل من الناحية النظرية، ولكن تأتي المفاجآت من ظهور أشياء خفية جديدة تستعصي على الحل السريع، مما يجعل الباب مفتوحًا على مفاجآت تخفف من الغرور البشري.
(1) العصر الجينومي ص 64.
(2)
المرجع السابق ص 68.
(3)
انظر: المرجع السابق ص 20 ص 74 - 75.
إذا دخلنا الخلية وجدنا فيها النواة، ونجد في النواة الجينوم البشري المكون من 24 صبغية "كروموسوم"، طول هذه الصبغيات مجتمعة 3.2 بليون نوتيدة، مترتبة بانتظام ودقة متناهية، ويشابه الجينوم الكرة الأرضية، والصبغيات تشابه القارات في هذه الكرة، وتأتي بعدها الأقطار، والبلدان، وبعدها المحافظات، وبعدها البلدات، وبعدها الشوارع والبيوت التي تعد أصغر وحدة قياس، وهذه النوتيدات وحدة البناء الأساسية التي تدخل في تركيب جزيئات الـ"د. ن. أ" أو "ر. ن. أ" (1).
إن العالم السابق المدهش بكل هذه الأرقام الفلكية تتم عملياته المعقدة في حيز صغير يُكبّر ملايين المرات حتى يمكن رؤية شيء منه، أو الإحساس به إن لم نره وإنما نعرفه بشيء من آثاره، ثم هذه الجينات المدهشة تحوي وظائف تقوم بها بدقة عجيبة، وعند الخلل في العمل داخل ذلك العالم المجهري تحدث أمراض خطيرة. وهذا الخلق العجيب الخفي الذي يعمل بدقة عجيبة دلالة عظيمة من دلالات الآفاق والأنفس التي دلنا الله عليها، فتقوم الحجة على الخلق، ليعلموا أن ما جاء به الأنبياء من الغيب هو الحق، فهذا العالم الخفي العجيب الذي عُرف اليسير منه يدل أن الغيب يحيط بنا من كل مكان، وأن من كذّب بالغيب فقد كذب بكل حقيقة من حوله؛ لأن الوجود الحقيقى هو للغيب، وما عالم الشهادة إلا شيء صغير مما أذن الله بانكشافه لنا (2).
وفي خاتمة المبحث تذكير بأهم معالمه، وفيه بيان بأهمية الغيب في التصور الإِسلامي، وبيان معناه، وأقسامه، ثم الانحراف في الغيب وارتباط ذلك بالانحراف في الربوبية، لاسيّما مع ظاهرة الإلحاد التي عرفها الفكر الغربي الحديث، وارتباط دعاويه بالعلمية، ثم تحدثت عن الأصول المنهجية للتكذيب بالغيب ذات الصلة بالعلم الحديث وفلسفته، مثل الآلية والحتمية والسببية الجامدة والطبيعة والصدفة والعلمية الحسية والأسطورة وغيرها، ثم ختم البحث بذكر شيء من الردود على منكري الغيب من خلال نوع واحد مهم من الأدلة التي جاء القرآن على ذكرها كثيرًا، وهي نفس ما برع العلم الحديث في كشفه؛ أي:
(1) انظر: المرجع السابق ص 40.
(2)
وانظر: المزيد حول هذا في ظلال القرآن 2/ 1118 - 1120.
الاستدلال بعجائب المخلوقات وما تحويه من عجائب وأسرار على الغيب، فجعلتها في ثلاثة جوانب: أولها بيان مجمل الطريقة القرآنية لصعوبة الذكر التفصيلي في الباب، ثم ذكر ما كشف من عالم المخلوقات المادية وما كشف من عالم المخلوقات المجهرية.
أنتقل الآن إلى أمثلة من صور الانحراف التغريبي في الغيبيات، لاسيّما تلك التي تستند زورًا إلى العلم والعلمية، وبيان خطورتها العقدية في التكذيب بالغيب والكفر به.