المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القسم الثالث: دعوى مخالفة العلم لأبواب من الغيبيات - النظريات العلمية الحديثة مسيرتها الفكرية وأسلوب الفكر التغريبي العربي في التعامل معها دراسة نقدية - جـ ٢

[حسن الأسمري]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثاني التأثر المنهجي في الفكر التغريبي بالانحراف المصاحب للعلم الحديث

- ‌الفصل الأول التأثر المنهجي في مصدر التلقي وطرق الاستدلال

- ‌المبحث الأول التأثر المنهجي في مصدر التلقي

- ‌مصدر العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية:

- ‌المصدر في العلوم الاجتماعية:

- ‌أسباب الانحراف في المصدر:

- ‌1 - التبعية للفكر الغربي:

- ‌2 - ظروف الصراع وأحواله:

- ‌مكانة الوحي في التصور الإِسلامي وصور إقصائه كمصدر للعلم عند المتغربين:

- ‌1 - مذهب غلاة المتغربين ودعوتهم لإقصاء الوحي:

- ‌2 - مذهب التوفيقيين من المتغربين ودعوتهم لإقصائه كمصدر للمعرفة:

- ‌مناقشة الملفقين:

- ‌3 - القول بجعل النظريات العلمية في مقام النص الشرعي وتقديمها عليه:

- ‌المبحث الثاني التأثر المنهجي في منهج الاستدلال

- ‌مشكلة الموضوعية:

- ‌استبعاد جانب القيم بحجة الموضوعية:

- ‌الموضوعية وعلاقتها بالحقيقة:

- ‌نموذج موسع للتلاعب المنهجي:

- ‌أ- حسن حنفي:

- ‌ب - محمَّد أركون:

- ‌الفصل الثاني التأثر المنهجي في طريقة التعامل مع القضايا الغيبية الاعتقادية

- ‌المبحث الأول التأثر المنهجي في طريقة النظر للغيبيات

- ‌معنى الغيب في التصور الإِسلامي:

- ‌[مسألة] وللغيب أقسام:

- ‌ارتباط الانحراف في الغيب بالانحراف في الربوبية:

- ‌من أصول الانحراف في الغيب:

- ‌المثال الأول: لويس عوض:

- ‌المثال الثاني: هشام شرابي:

- ‌المثال الثالث: حسن حنفي:

- ‌المثال الرابع: محمَّد أركون:

- ‌المبحث الثاني أمثلة للتأثر المنهجي وبيان خطورتها الاعتقادية

- ‌القسم الأول: موضوعات عمَدية يُدّعى عدم إمكانية إثباتها علميًا:

- ‌القسم الثاني: دعوى وجود رأي علمي آخر حول بعض الغيبيات دون شرط المعارضة:

- ‌القسم الثالث: دعوى مخالفة العلم لأبواب من الغيبيات

- ‌الفصل الثالث التأثر المنهجي في طريقة التعامل مع القضايا الشرعية العملية

- ‌المبحث الأول التأثر المنهجي في طريقة النظر للشريعة

- ‌المراد بالشريعة:

- ‌الغيب مع الطبيعيات والشريعة مع الاجتماعيات:

- ‌أصول منهجية تغريبية للنطر في الشريعة تدعي العلمية:

- ‌أصل الأصول: تعميم الظواهر الاجتماعية على الدين الحق:

- ‌الأصل الثاني: التطور:

- ‌الأصل الثالث: علمية وعلمنة العلوم الاجتماعية ودعوى قدرتها أن تسدّ مسدّ الدين:

- ‌الأصل الرابع: النسبية:

- ‌المبحث الثاني أمثلة للتأثر المنهجي وبيان خطورتها

- ‌الأول: في باب الأخلاق الإِسلامية:

- ‌أولًا: تعريف الخلق:

- ‌ثانيًا: المشكلة الخلقية في العالم المعاصر ولاسيّما في الغرب:

- ‌تاريخ الفكر الأخلاقي في الغرب:

- ‌الإطار العلماني للأخلاق الجديدة:

- ‌النظريات الأخلاقية الجديدة:

- ‌ثالثًا: تحليل ونقد للنظريات الجديدة:

- ‌رابعًا: نماذج من الأخلاقيات المتغربة تحت غطاء العلمية:

- ‌النموذج الأول:

- ‌النموذج الثاني: من علم النفس:

- ‌النموذج الثالث: الموقف الوضعي:

- ‌النموذج الرابع: أخلاقيات العلم الجديدة:

- ‌النموذج الخامس: الرؤية المادية والماركسية:

- ‌الثاني: في باب العمل بالأدوية الشرعية للأمراض الجسدية أو النفسية:

- ‌الأمر بالتداوي في الإِسلام:

- ‌الإطار العلماني وأثره في مجال التداوي الجسدي والنفسي:

- ‌أثر الأسس الفلسفية للممارسة الطبية الحديثة:

- ‌في الجانب النفسي:

- ‌بعض مشكلات الطرح التغريبي حول المجال الطبي والتداوي:

- ‌أين هي المشكلات في هذا الباب

- ‌نموذج عن الإشكال التغريبي في هذا الباب:

- ‌الثالث: في باب حكم التعامل بالربا:

- ‌القسم الأول: مدخل:

- ‌القسم الثاني: الإطار الاجتماعي العام للتحول الاقتصادي الغربي:

- ‌القسم الثالث: الأصول النظرية العلمية للاقتصاد الحديث:

- ‌الرابع: في باب حجاب المرأة المسلمة:

- ‌الباب الثالث صور لدعاوى باطلة ونظريات منحرفة ظهرت في الفكر التغريبي حول الدين والعلم وخطورتها

- ‌الفصل الأول صور لدعاوى أظهرها الاتجاه التغريبي باسم العلم الحديث

- ‌المبحث الأول دعوى أهمية علمنة العلم ورفض التأصيل الإِسلامي مظاهرها وخطرها

- ‌تعريف العلمانية:

- ‌وقفتان حول المصطلح: "تاريخية المصطلح، وعلاقته بالعلم

- ‌المبحث الثاني دعوى التعارض بين الدين والعلم الحديث

- ‌الفرق بين دعوى التعارض التراثية والدعاوى الحديثة:

- ‌صور الدعاوى التغريبية:

- ‌أصول عامة حول دعوى التعارض بين الدين والعلم:

- ‌مناقشة الدعوى:

- ‌أولًا: أهمية رفع التعميم والإجمال:

- ‌ثانيًا: ما المقدم عند التعارض

- ‌ثالثًا: "موضوعات الغيب وموضوعات الشهادة - الأكثر إشكالًا

- ‌رابعًا: ملابسات الدعوى التاريخية والأيدلوجية:

- ‌خامسًا: التفسير العلمي للنصوص الدينية:

- ‌المبحث الثالث دعوى كفاية العلم الحديث لحاجة الإنسان وشموليته بدلًا عن الدين

- ‌الشمولية في الإِسلام وحاجة الناس إليه فوق كل حاجة:

- ‌مناقشة دعوى كفاية العلم وشموليته:

- ‌نماذج من الانحراف التغريبي حول هذا الباب:

- ‌النموذج الأول:

- ‌النموذج الثاني:

- ‌النموذج الثالث:

- ‌النموذج الرابع:

- ‌النموذج الخامس:

- ‌النموذج السادس:

- ‌الفصل الثاني صور من تأثر الفكر التغريبي بنظريات علمية منحرفة حول مفهوم الدين

- ‌التمهيد

- ‌المبحث الأول التأثر بنظرية داروين التطورية من علم الأحياء حول الدين

- ‌ظهور الدارونية العربية:

- ‌من البحث في أصل الحياة إلى المادية الإلحادية:

- ‌المبحث الثاني التأثر بنظريات من علم النفس حول الدين

- ‌صراع النظريات النفسية ودلالاتها في الميدان الفكري:

- ‌دخول علم النفس للثقافة العربية والمواقف تجاهه:

- ‌نظرية فرويد النفسية ولاسيّما ما له علاقة منها بالدين:

- ‌المبحث الثالث التأثر بنظريات من علم الاجتماع حول الدين

- ‌علم الاجتماع بين العلمية والأيدلوجيا:

- ‌كيف ينظر علم الاجتماع للدين

- ‌المتغربون وعلاقتهم بالمدارس الاجتماعية العلمانية:

- ‌علم الاجتماع الديني:

- ‌الخاتمة

- ‌الفهارس

- ‌ملحق مفهرس للألفاظ الغريبة والمصطلحات والطوائف والفرق والمذاهب والتراجم مع التعريف بها

- ‌أولًا: قائمة الألفاظ الغريبة والمصطلحات الواردة في ثنايا البحث

- ‌ثانيًا: قائمة بالطوائف والفرق والمذاهب الواردة في البحث

- ‌ثالثًا: قائمة المراجع والمصادر

- ‌نبذة تعريفية الإدارة العامة للأوقاف

الفصل: ‌القسم الثالث: دعوى مخالفة العلم لأبواب من الغيبيات

العظمى الحكيمة تسيّر كل شيء في الوجود، وأن الشيطان ليس له وجود مشخص. . . ." (1)، فمثل هذا الانحراف الذي يلف لويس ووالده يجعله يقول بمثل هذه المقولات الفاسدة بحجة انتمائه لمنطق العلم والعقل.

وكما سبق فهؤلاء مصممون على إدخال الأمور الشاذة أو المشتبهة ضمن العلم، وجعله هو الذي يتعارض مع الدين، بينما التعارض هنا هو بين الدارونية والدين، والدارونية تحمل في طياتها أشياء باطلة وأخرى خاطئة وثالثة مشتبهة أو مسكوت عنها ورابعة صحيحة، فليست شيئًا واحدًا من الوجهة العلمية، والأخطر من ذلك ما تشبعت به من بُعد مادي لا علاقة له بالعلم، ولهذا كان لعلماء الإِسلام موقفهم المميز من مثل هذه النظريات بخلاف من يقلد تقليد الأعمى.

* * *

‌القسم الثالث: دعوى مخالفة العلم لأبواب من الغيبيات

فهي إما أن تكون مخالفة حقيقية ويكون الحق ما ورد في الغيب؛ لأن معنى ذلك أن ما قدمه العلم ليس من الحقائق، أو أنها دعوى فقط، وهذا النوع هو الأكثر تلبيسًا على الناس، ويتحرك فيه المنحرفون بقوة؛ لأنهم يرونه دليلًا على بطلان الغيب أو بعضه، ودليلًا على صواب موقفهم التكذيبي.

وأفضل باب اتخذه المنحرفون مطية للتكذيب بالغيب باسم العلم هو باب المعجزات، ووضعوا في ذلك شُبَهًا كثيرةً، ففتنت الكثير من الخلق حتى بعض المنتسبين للشريعة، مما جعلهم يؤوّلون المعجزات حتى لا تُعارض العلم، وذلك أن العقلية العلمانية قد انحرفت في باب السببية، فتصورت حتمية جامدة لا تَغيُّر فيها، فلا أحد يستطيع تغييرها حتى من أوجدها، وعدّوا هذا أساسًا علميًا لا يمكن خرقه، ومن ذلك انتظام الكون بنظام حتمي لا يمكن خرقه، وتعد المعجزات خرقًا لهذه الحتمية، وهو أمر مستحيل في تصورهم، وبهذا تكون المعجزات وما في بابها من الغيبيات أمرًا يُبطله العلم بحسب دعواهم، وقد يضيفون لذلك دعاوى أخرى من شهاداتٍ لعلوم طبيعية لم تستطع بحسب زعمهم إثبات بعض المعجزات من مثل علم الحفريات والآثار وغيرها، إلا أن الباب

(1) انظر: أوراق العمر ص 62 نقلًا عن لويس عوض -الأسطورة والحقيقة، د. حلمي القاعود ص 27.

ص: 991

الأول هو الأبرز في فلسفة العلم العلمانية وهو القول بحتمية الطبيعة.

ويقع الانحراف هنا من طرفين مغاليين في باب السببية، طرف جعل الكون لعبة يمكن إحداث التغيير فيه بيسر وسهولة، وهذا مثل ما يزعمه أهل الكرامات الصوفية في كل أمم الأرض، حيث ينسبون لأشخاصٍ أبوابًا عجيبة من القدرة (1)، ويصبح الكون في أيديهم ألعوبة، وتكثر عندهم الحكايات الخرافية حول إحداث تغييرات مدهشة. يقابلهم قوم غلوا في الحتمية ومنع الجواز، وجعلوا أي خرق لحتمية الطبيعة من باب المستحيلات، وكل خرق حتى ولو كان من معجزات الأنبياء، فهو غير صحيح ومخالف للعلم، وأصبح الكون معهم آلة صماء عمياء، ولا يقدر أحد على فعل شيء فيها ولو كان من خلقها.

وأصحاب الموقف الثاني هم المقصود، فماذا تعني الحتمية أولًا؟ "الحتمية العلمية مبدأ يفيد عمومية القوانين الطبيعية، وثبوتها واطرادها. فلا تخلف ولا مصادفة. إذ يعني: أن نظام الكون ثابت شامل مطرد"، والحتمية في الطبيعة تمنع الجواز والإمكان، بل كل ما فيها ضروري، ولما كانت الضرورة تعني استحالة النقيض، كانت الحتمية العلمية تعني أن كل ما يحدث لابد وأن يحدث، ويستحيل أن يحدث سواه (2).

مدخل المشكلات في الباب:

يأتي الانحراف في باب المعجزات من الانحراف في باب الإيمان بالله، ويأتي من أصلين خطيرين: من الإلحاد، أو من فساد التصور حول الربوبية، لاسيّما في باب قدرة الرب سبحانه.

[1]

- أما الملحد فقد قطع الطريق على نفسه، وأفسد عليها حياتها بإنكاره الحقيقة المطلقة. وقد اشتهر الإلحاد داخل الفكر الغربي في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر وإن كان قد عرف من قبل، وارتبط غالبًا بالفلسفات المادية، وتبنى

(1) لا يدخل في هذا الباب كرامات أولياء الله الصالحين، وإنما المقصود تلك الأعاجيب التي نجدها عند غلاة المتصوفة والقبوريين والباطنيين وأمثالهم، وهي معروفة عند النصارى حول رهبانهم وقديسيهم، وعند غيرهم.

(2)

انظر: فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية، د. يمنى الخولي ص 56 - 57، وانظر: موسوعة بدوي 2/ 450.

ص: 992

القول بحقيقة واحدة هي المادة والمادية، وأسس عليها مفهوم الطبيعة الأزلية الأبدية، التي لا موجد لها سواها، ومن ثمّ لا تغير فيها ولا تغيير حتى من خالقها؛ لأنه لا خالق لها عندهم، ولذا ارتبط إنكار المعجزات بالملاحدة، وإنكارهم لها مرتبط أصلًا بإلحادهم وليس بالحقائق العلمية (1). وهؤلاء مهما بلغت عقولهم وعلومهم وحقائقهم فهم من أرذل الخلق وأحطهم بصيرة، إذ قد أنكروا أشرف حقيقة وأعظمها فكيف يُقبل قولهم أو يُوثق في رأي لهم، ومع ذلك فسيتخذهم الشيطان مطية لبثّ الإلحاد ونشر الشبهات، ومقاومتهم واجبة إذا أثّرت شبهاتهم على الخلق. ومن خطر أمرهم انتشار بعض مفاهيمهم الإلحادية داخل فلسفة العلم الحديثة، ومن ذلك مفهوم الطبيعة التي لم يخلقها أحد والتي تسير بقوانينها الخاصة التي لا يمكن حدوث أي خرق لها. وهذا مُتفِق مع مذهبهم الإلحادي، فإذا كانوا لا يؤمنون بالله فمن غيره يستطيع خرق سنن الطبيعة؟

فهذا هو النموذج الفرعوني الحديث، الذي ينكر أعظم الحقائق وأصرحها وأوضحها، ومع ذلك فقد جادل نبي الله موسى عليه السلام من هو مثلهم، فقد جادله موسى عليه السلام وكشف كفره وكذِبه. ومع الإلحاد الحديث يظهر أهمية مواجهته من قبل المسلمين ودفع شبهاتهم التي قد تتسرب للمطلعين على العلوم العصرية ممن ليس عندهم معرفة شرعية، فيسبق لقلوبهم شيء من هذه الشبهات فتؤثر فيهم.

وإن كان قد حدث انحسار للإلحاد الفج الذي برز في القرن التاسع عشر، لاسيّما بعد تهاوي المفاهيم الفلسفية المعتمدة على العلم الطبيعي التي أسسوا عليها إلحادهم، كما سبق ذكر ذلك في الباب الأول، ومع ذلك فما زالت شبهاتهم تسبح في ميدان الأفكار، ويستثمرها بعض الكارهين للإسلام أو للدين من أجل تشويهه، مما يدفع لأهمية الحذر.

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: إن "الزنادقة المتأخرين الذين أنكروا وجود الباري، وأنكروا جميع ما أخبرت به الرسل والكتب السماوية من أمور الغيب، ولم يثبتوا من العلوم إلا ما وصلت إليه حواسهم وتجاربهم القاصرة على

(1) انظر: القول الفصل بين الذين يؤمنون بالغيب والذين لا يؤمنون، الشيخ مصطفى صبري ص 78.

ص: 993

بعض علوم الكون، وأنكروا ما سوى ذلك، وزعموا أن هذا العالم وهذا النظام الموجود فيه لا يمكن أن يغيره مغير، أو يغير شيئًا من أسبابه، وأنه وجد صدفة من غير إيجاد موجد، وأنه آلة تمشي بنفسها وطبيعتها، ليس لها مدبر ولا رب ولا خالق، وهؤلاء جميع أهل الأديان يعرفون مكابرتهم ومباهتتهم؛ لأنهم كما عدموا الدين بالكلية فقد اختلت عقولهم الحقيقة، إذ أنكروا أجلى الحقائق وأوضحها، وأعظمها براهين وآيات، وتاهوا بعقولهم القاصرة وآرائهم الفاسدة، هؤلاء أمرهم معلوم" (1).

وقد ناقش الشيخ مصطفى صبري أمثال هؤلاء كثيرًا، واستأنس في الرد عليهم ببعض مقولات العقلاء الغربيين الذين عاصروا فتنة الإلحاد وإنكار المعجزات التي كانت من أدلة النبوات، ومن تلك الأقوال ما نقله عن شيله وريتجه:"إن الإيمان بالمعجزات لا ينفك عن الإيمان بالله"، وهي حقيقة مهمة؛ لأن من شك في المعجزة أو أنكرها، فذاك مؤشر على مشكلة تتعلق بالإيمان بالله.

ونقل عن "استوارت ميل" قوله: "إن من لا يؤمن بموجود فوق الطبيعة، ولا بتدخله في شؤون العالم، لا يقبل فعل إنسان خارق للعادة على أنه معجزة، ويؤوله مطلقًا بما يخرجه عن كونه معجزة، لكن إذا أومن (2) بالله فلا يكون تأثيره في العالم وسلطته عليه فرضية محضة بل احتمالًا جديًا. والحكم بعد تدخل الله في شؤون العالم إنما يمكن بمعرفة السنة الإلهية في الماضي، أو بمعرفة ما يلزم منطقيًا أن تكون السنة الإلهية كذلك"(3).

ونقل عن "استانلي" وهو منطقي إنجليزي: "القدرة التي خلقت العالم لا تعجز عن حذف شيء منه أو إضافة شيء إليه، ومن السهل أن يقال عنه: إنه غير متصور عند العقل، لكن الذي يقال عنه: إنه غير متصور ليس غير متصور إلى درجة وجود العالم". وعلق الشيخ: "يعني: لو لم يكن هذا العالم موجودًا، وقيل لمن ينكر المعجزات ولا يتصور وجودها: سيوجد عالم كذا، كان جوابه: إن

(1) تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير الأحكام، عبد الرحمن السعدي ص 183 - 184.

(2)

هكذا هي (أومن) وكأن الأنسب: آمن.

(3)

القول الفصل بين الذين يؤمنون بالغيب والذين لا يؤمنون، الشيخ مصطفى صبري ص 24.

ص: 994

هذا غير متصور، وكان تصوره أشدّ من نفي تصور المعجزات" (1)، ونجد التنبيه القرآني الأعلى شأنًا على هذا المعنى في قوله -تعالى-:{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} [يس: 78 - 83]، فقد عجز أن يتصور الأقل مع أن الأعظم منه أمام عينيه، ومثل ذلك في قوله -تعالى-:{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)} [غافر: 56 - 57].

[2]

- أما فساد التصور حول الربوبية، فيأتي من الانحراف في تصور القدرة، فبعضهم قد ترك الامتثال للوحي في باب الإيمان بالله وصفاته وأفعاله، وتأثروا بمقولات المعطلين الحديثة والقديمة، ومن ذلك تأثرهم بما شاع في الفكر المادي حول الطبيعة التي لا يمكن خرقها، ومن قال بخرقها فقد خالف العلم بحسب زعمهم. فهؤلاء عَظُمت عندهم الطبيعة حتى أصبحت هي التي تحدد قدرة الله، بينما يقوم التصور الإِسلامي على الانطلاق من الوحي في بيان صفات الله وأفعاله، فنعرفه بالطريق التي عرفنا بها بذاته وبصفاته سبحانه، ومن عظم عنده الإيمان بالله علم أنه هو خالق الكون وهو المسخر له والمدبر له وواضع السنن التي يسير بمقتضاها، وهو القادر على خرق تلك السنن متى شاء لحكمة هو يعلمها سبحانه.

قال الشيخ السعدي: "آيات الأنبياء، وكرامات الأولياء، وما يخرقه الله من الآيات، ومن تغيير الأسباب، أو منع سببيتها، أو احتياجها إلى أسباب أخر، أو وجود موانع تعوقها هي من البراهين العظيمة على وحدانية الله، وأنه على كل

(1) المرجع السابق ص 25، وقد استعرض الدكتور مفرح القوسي جهود الشيخ مصطفى صبري في مقاومة هذه الأفكار بخاصة وغيرها في بحثه المميز: الشيخ مصطفى صبري وموقفه من الفكر الوافد، وانظر: مناقشة العقاد لنفاة المعجزة بحجج علمية عصرية: التفكير فريضة إسلامية ص 79 - 86، وانظر: أفي الله شك، د. حمد المرزوقي ص 123 - 125.

ص: 995

شيء قدير، وأن أقدار الله لا يخرج عنها حادث جليل ولا حقير، وأن هذه المعجزات والكرامات والتغييرات لا تنافي ما جعل الله في هذه المخلوقات من الأسباب المحسوسة والنظامات المعهودة، وإنك لا تجد لسنة الله تبديلًا ولا تحويلا؛ فإن سنن الله في جميع الحوادث السابقة واللاحقة قسمان:

أحدهما: وهو جمهور الحوادث والكائنات والأحكام الشرعية والقدرية وأحكام الجزاء: لا تتغير ولا تتبدل عما يعهده الناس ويعرفون أسبابه، وهذا القسم أيضًا مندرج في قدرة الله وقضائه، ويستفاد من هذا العلم بكمال حكمة الله في خلقه وشرعه، وأن الأسباب والمسببات من سلك طرقها على وجه كامل أفضت به إلى نتائجها وثمراتها، ومن لم يسلكها أو سلكها على وجه ناقص لم يحصل له الثمرات التي رتبت على الأعمال شرعًا ولا قدرًا، وهذه توجب للعبد أن يجد ويجتهد في الأسباب الدينية والدنيوية النافعة مع استعانته بالله، والثناء على ربه في تيسيرها وتيسير أسبابها وآلاتها، وكل ما تتوقف عليه.

والقسم الثاني: حوادث معجزات الأنبياء التي تواترت تواترًا لا يتواتر مثله في جميع الأخبار، وتناقلتها القرون كلها. . . . فهذا القسم ليس عند الخلق اهتداء إلى أسباب هذه الحوادث، ولا جعل لهم في الأصل وصول إلى حقيقتها وكنهها، وإنما هي حوادث قدرها الرب العظيم الذي هو على كل شيء قدير بأسباب وحكم وسنن لا يعقلها الخلق، ولا لحواسهم وتجاربهم وصول إليها بوجه من الوجوه، وبها آمن الرسل من أولهم إلى آخرهم، وأتباعهم الأولون منهم والآخرون، وبها يعرف عظمة الباري، وأن نواصي العباد بيده، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ويعرف بذلك صحة ما جاءت به الرسل، كما يعرف أيضًا بالقسم الأول، وكما أنه لا سبيل إلى العباد في هذه الدار إلى إدراك كنه صفات اليوم الآخر، وكنه ما في الجنة والنار، وإنما يعلمون منها ما علمتهم به الرسل، ونزلت به الكتب، ولا سبيل إلى أهل هذا الكون الأرضي للوصول إلى العالم السماوي، ولا سبيل لهم إلى إحياء الموتى وإيجاد الأرواح في الجمادات، فكذلك هذا النوع العظيم من حوادث الكون" (1).

(1) تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير الأحكام، الشيخ عبد الرحمن السعدي ص 182 - 183.

ص: 996

يتقابل أمران عند المنحرفين في هذا الباب: أحدهما من جهة تصورهم لقدرة الله، والآخر من جهة تصورهم للإحكام والضرورة البادية في الطبيعة؛ فالأصل في الأول الإيمان بما وصف الله به نفسه وبما وصفته به رسله، وهم تصوروا قدرته بمقياسهم الخاص، فانحرفوا في ذلك، والأصل في الثاني أن يؤمن الإنسان بأن الكون من خلق الله، وأنه لا يخرج عن ملك الله، وأن ما فيه من إحكام دليل على أن من خلقه عليم حكيم، وأنه قادر على خرقه بقدرته لحكمة يعلمها سبحانه، وكما دلّ إحكام الكون على خالقه، فإن المعجزات تدل على كمال قدرته وعلى نبوة الأنبياء.

قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: "وإن كان اسم المعجزة يعم كل خارق للعادة في اللغة وعرف الأئمة المتقدمين كالإمام أحمد بن حنبل وغيره -ويسمونها: الآيات- لكن كثيرًا من المتأخرين يفرقون في اللفظ بينهما، فيجعل المعجزة للنبي، والكرامة للولي. وجماعهما الأمر الخارق للعادة.

فنقول: صفات الكمال ترجع إلى ثلاثة: العلم، والقدرة، والغنى، وإن شئت أن تقول: العلم والقدرة، والقدرة إما على الفعل وهو التأثير، وإما على الترك وهو الغنى، والأول أجود. وهذه الثلاثة لا تصلح على وجه الكمال إلا لله وحده، فإنه الذي أحاط بكل شيء علمًا، وهو على كل شيء قدير، وهو غني عن العالمين. وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبرأ من دعوى هذه الثلاثة بقوله:{قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50] وكذلك قال نوح عليه السلام: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)} [هود: 31]. فهذا أول أولي العزم، وأول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض. وهذا خاتم الرسل وخاتم أولي العزم، كلاهما يتبرأ من ذلك" (1).

وقد ورد ذكر القدرة كثيرًا في القرآن، وجاءت مقرونة بالعلم، وجاءت عقب ذكر ملكه للسماوات والأرض، وهي بيّنة ظاهرة لا ينكرها إلا جاحد، وقبل النظر في ما ورد من آيات أذكر معناها عند أهل العلم:

(1) الفتاوى 11/ 311 - 312.

ص: 997

قال الشيخ محمَّد هراس: "وأما القدرة؛ فهي الصفة التي تتعلق بالممكنات إيجادًا وإعدامًا، فكل ما كان ووقع من الكائنات واقع بمشيئته وقدرته"(1).

قال الشيخ ابن عثيمين حول هذه الآية {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12]: "القدرة هي وصف يتصف به الفاعل يتمكن به من الفعل دون عجز، فهو على كل شيء قدير. يقدر على إيجاد المعدوم وعلى إعدام الموجود، فالسماوات والأرض كانت معدومة، فخلقها الله عز وجل، وأوجدها على هذا النظام البديع. . . . وذكر الله عز وجل العلم والقدرة بعد الخلق؛ لأن الخلق لا يتم إلا بعلم وقدرة"(2).

ومما جاء في اقتران القدرة بالعلم:

قوله -تعالى-: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54].

وقوله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [النحل: 70].

وقوله- تعالى-: {إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 50].

وفي كمال قدرته سبحانه وتعلقها بكل شيء آيات كثيرة:

قال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20 وفي آية: 106 وفي آية: 109 وفي آية: 148]، [آل عمران: 165] [النحل: 77][النور: 45][العنكبوت: 20][فاطر: 1].

وقال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 259][الطلاق: 12].

وقال -تعالى-: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284][آل عمران: 29 وفي آية: 189][المائدة: 17 وفي آية: 19 وفي آية: 40][الأنفال: 41][التوبة: 39][الحشر: 6].

وقال -تعالى-: {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26][التحريم: 8].

وقال -تعالى-: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 120][هود: 4][الروم: 50][الشورى: 9][الحديد: 2][التغابن: 1][الملك:1].

(1) شرح العقيدة الواسطية، العلامة محمَّد هراس ص 125 - 126، بعناية علوي سقاف.

(2)

شرح العقيدة الواسطية، الشيخ محمَّد ابن عثيمين 1/ 157، بعناية أشرف عبد المقصود.

ص: 998

وقال -تعالى-: {فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17].

وقال -تعالى-: {وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج: 6].

وقال -تعالى-: {إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39][الأحقاف: 33].

وقال -تعالى-: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)} [الشورى: 29].

وقال -تعالى-: {وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 7].

ومعظم المنكرين للمعجزات المكذبين بها بحجة مخالفتها للعلم، تأتي دعواهم من خلال النظر في السماوات والأرض المسخرة الثابتة على سنن لا تتغير ولا تختل، فاستحال عندهم خرقها بعد أن كشف العلم الحديث شيئًا من أسرار هذا الإحكام العجيب، وقد غفل هؤلاء أو تغافلوا أن من خلقها ووضعها بهذه السنن وبهذا التسخير، هو من خلق ما يخرق العادة من المعجزات، فهو الخالق هنا وهناك سبحانه، وهو الذي أخبرنا بهذا وذاك سبحانه، وقد جاء ذكر القدرة في آيات بعد ذكر السماوات والأرض، وفي ذلك دلالات مهمة: فعظمها يدل على الخالق القادر القوي العليم الحكيم سبحانه، والذي خلقها هو المالك لها، والمالك يتصرف في ملكه كيف شاء سبحانه، فكيف تأتي عقول قاصرة لتضع حدودًا لما يجوز في حق الله وما يمتنع عنه، دون أن يرجعوا لقوله ولما وصف به نفسه وبما وصفته به رسله، ولا شك أن هذا الإحكام في الكون دليل على وجود خالقه وعلى مدبره ومسخره، ولكن من تمام قدرته وملكه أن يتصرف في ملكه كيف شاء سبحانه، ومن الآيات التي ذكرت الكون العظيم ثم ختمت بالقدرة:

قوله -تعالى-: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)} [آل عمران: 189].

وقال -تعالى-: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 17].

وقال -تعالى-: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)} [المائدة: 40].

وقال -تعالى-: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)} [المائدة: 120].

ص: 999

وقال -تعالى-: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)} [النحل: 77].

وقال -تعالى-: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2)} [الحديد: 2].

وقال -تعالى-: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} [فاطر: 1].

وقال -تعالى-: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12].

وقال -تعالى-: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} [الملك: 1].

فمن يتصف بهذه القدرة الكاملة ومن بيده الملك الكامل هو الذي جعل تلك المعجزات لأنبيائه، ويصدق بها المؤمن، أما من عَظُمت عنده الطبيعة لدرجة خروجها عن ملك الله، بظاهر قوله أم بلازمه، فما ذاك إلا من تصور مغلوط عن مفهوم الحتمية البادية في الطبيعة، ومن انحراف عظيم في باب الإيمان بالله وبرسله.

نموذج من الانحراف في باب المعجزات:

تأتي الطبيعة بحوادثها وحتميتها مفهومًا يتحكم برؤية هذا النموذج الآتي، تتبدى الطبيعة عنده أساسًا ثابتًا يتكسر عليه كل شيء حتى ما جاء به الوحي من معجزات الأنبياء عليهم السلام (1)، وقد ذكر -مثلًا- ناموس المجموعة الشمسية الذي كشفه علماء الفلك، ثم علق:"هل من المعقول أن يغيّر الله هذا الناموس، الذي هو ناموسه وناموس الكون الأبدي، كأن تشرق الشمس من مغرب الأرض، والعكس بالعكس، إكرامًا لخاطر أحد أنبيائه؟ إن مثل هذا التغيير يتضمّن تغيير وضع الكواكب في المنظومة الشمسية، بل وضع الكون كله،. . . ."(2).

الإنسان "الديني يفكر من خلال الفكر الديني الذي يقبل تحول عصا موسى إلى ثعبان حقيقي، وتفجير الماء من الصخر بضربة من عصاه، بل وتحول النار

(1) انظر: هكذا تكلم العقل. . . .، د. حيدر غيبة ص 128 - 129.

(2)

المرجع السابق ص 226.

ص: 1000

إلى برد وما شابه ذلك؛ أو بتعبير آخر: يقبل وقوع المتقابلات المتضادة على شيء واحد وفي الوقت نفسه، كأن يكون اللون الأبيض أسود، ويكون الحار باردًا" (1)، وهذا من باب التأثر بالدراسات الإنسانية التي تهتم بالإنسان وقت جهله وقبوله للخرافة والأسطورة، ومن ذلك قوله بالمتناقضات وقبوله للمستحيلات، وقد وجدوا في النماذج المنعزلة في إفريقيا وأمريكا وغابات آسيا من قبائل تقوم على أساطير عجيبة وطقوس غريبة، ثم جعلوا هذا النموذج هو كمن جاءهم الأنبياء أعلم البشر بأعظم علم (2)، وشتان بين النموذجين، قال -تعالى-:{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)} [الأنعام: 48 - 50]، وقال -تعالى-:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9].

ومع مثل هذا الإنكار لوجود معجزة بسبب هذه الطبيعة الصلبة يأتي التكذيب بمعجزات الأنبياء وتأويلها بتأويل لا يقبله عاقل من الكفار فكيف يأتي مثل ذلك من مسلم! حيث تحول تلك المعجزات إلى سخافات وتقدم تلك السخافات باسم العقل: "ترى ما هو تأويل مُعجزتَي تحول العصا إلى حية أو ثعبان وصيرورة يد موسى بيضاء؟ إن ما يستخلصه العقل من المعجزة الأولى أنّ موسى أتقن فنون السحر وأنه استخدم هذا الفنّ ضد خصومه. . . ."، أما إخراج اليد البيضاء فله احتمالان: إما أنه مصاب بالبرص، أو أنه وجد صبغة بيضاء لوّن بها يده (3). ومن عجائب مدّعي العلمية والعقلانية أن يأتي منهم ما يكشف سخافة آرائهم وبعدها عن منطق العقل، ومن ذلك مثل هذا التأويل الذي قدمه عن معجزتَي موسى عليه السلام، وحقيقة قوله أن موسى عليه السلام لم يأت بأية معجزة، وإنما تعلم فنون السحر، والحيل السريعة، وخفة اليد، والحركة السريعة الخاطفة، "لقد

(1) المرجع السابق ص 31.

(2)

لذلك مزيد في الفصل الثاني من الباب الثالث.

(3)

هكذا تكلم العقل ص 128 - 129، وانظر: ص 226 - 227.

ص: 1001

اعتمد موسى النبي على أعمال سحرية تبدو كالمعجزات للاستعانة بها على تصديق أتباعه. . . ." (1)، مع أن السحر من أعظم المحرمات التي حاربها الأنبياء، فانظر كيف حول هذا الرجل نبيًا من أنبياء الله إلى ساحر ومحتال، أو أنه وجد بعض الحالات العادية فاستغلها فيصف نبيًا من أنبياء الله وكأنه شخصية انتهازية تتلاعب بعقول الناس من أجل تحقيق مصلحة، وكما يقول فالمن والسلوى ليس "سوى هبة من هبات الطبيعة التي استغلها موسى، كعادته، وأعلن لشعبه بأن الله أنزلها عليهم كنتيجة لدعائه لهم، وذلك بهدف تثبيت قيادته لهم ومواصلة مسيرتهم" فما هو إلا مادة لزجة حلوة تقطر من بعض الأشجار (2).

ولماذا كل هذا التكذيب بآيات الأنبياء؟ السبب هو هذا الفهم الفاسد عن الطبيعة، طبيعة آلية صلبة لا أحد يستطيع فعل شيء فيها حتى خالقها. وكما يقول:"ونحن الذين نعرف أن نواميس الطبيعة لا تتغير "وهي بحد ذاتها معجزة"، لا يمكننا أن نصدق تحول ماء النيل إلى دم بمجرد ضربة بعصا موسى. . . . وكذلك الحال مع آفات الضفادع والذباب والبعوض وغيرها، فإنها مع حساب ما فيها من مبالغة لا تعدو كونها حوادث طبيعية. . . ."(3)، وكما يزعم فإن معجزات موسى عليه السلام لا يقبلها العقل السليم ولا يصدقها، وإنما يمكن تأويلها لتصبح معقولة (4).

تأتي الطبيعة الصلبة أيضًا وناموسها على معجزات نبي آخر من أنبياء الله وهو عيسى عليه السلام، فهذا الناموس الطبيعي يجعل "من المتعذر أن يكون للإنسان غير المتعلم أو المتدرّب قدرة على صنع الشفاء؛ لأن الأمراض موضوع عِلْم عظيم هو علم الطب الذي لم يكن المسيح ضليعًا به. ولا يعقل أن يشفى المريض بمجرد تعلّقه بثوب المسيح. . . . ولا يمكن أن يشفى الأعمى من عماه بمجرد لمس المسيح لعينيه. وكذلك الأمر، من المستحيل أن يكون للمسيح أو أي إنسان آخر قدرة على إحياء الموتى الحقيقيين. . . ."(5)، ولكن هذه

(1) المرجع السابق ص 163.

(2)

انظر: المرجع السابق ص 230.

(3)

المرجع السابق ص 129، وانظر: الأسس الفلسفية للعلمانية، عادل ظاهر ص 147.

(4)

انظر: هكذا تكلم العقل ص 162.

(5)

المرجع السابق ص 189.

ص: 1002

المستحيلات هي التي جعلت من علاج عيسى عليه السلام معجزة عظيمة، بينما المنكر لها قد جعل هذه الاستحالة دليلًا على نفيها أو تأويلها، وقد استثنى من ذلك ما قبله عقله منها، فقبل بعض صور تأثير العلاج فقال:"إنما يبقى شيء مهم، لابد من قوله، وهو أن الإنسان يستطيع بقوة روحية ذاتية، لاسيما إذا ساندتها قوة روحية خارجية عظيمة كالتي كانت للسيد المسيح خلال حياته، أو لمثيله من الأولياء وبعض العلماء والحكماء الصالحين أثناء حياتهم أن تؤثر على نفس المريض. . . ."(1).

ويتورع هذا الكاتب تورعًا باردًا فيقول: "أما معجزات موسى وعيسى التي وردت في التوراة والإنجيل، وحكاها القرآن، فنحن لا ننكرها، كحوادث، ما دامت قد وردت على ما وردت عليه في الكتب المقدسة المذكورة، وإنما نرى وجوب تأويلها وفق ما يتصوّرها العقل في الواقع؛ أي: على الشكل الذي يؤيد نواميس الكون ومنه الطبيعة، ولا يغيّرها"(2)، ويقول:"ولا نرى حاجة لاستعراض سائر معجزات موسى لتبيان إمكان تأويلها إلى حقيقتها الواقعية، ولإثبات أن ما كان يُعتبر معجزة أو إعجازًا في عهده، لم يعد كذلك في عهد ارتقاء العلوم والمعارف، وارتياد الفضاء الواسع. ويمكننا بالأسلوب عينه تأويل معجزات السيد المسيح عيسى عليه السلام"(3).

فيكون التأويل هو الأداة لتشذيب كل معجزات الأنبياء التي لم تتقبلها الطبيعة، ولا نواميسها.

إن مشكلة المنكرين للمعجزات تعود إلى انحراف إيمانهم بالرب سبحانه، فهناك من عَظُمت عنده الطبيعة حتى أصبحت أكبر من الله وإن لم يُصرّح بذلك، فكأنها هي التي تتحكم بخالقها وليس الخالق هو المدبر لها والمسخر لها. وبهذا يتصورون حقيقة الرب سبحانه بمقياس عقولهم وبمقياس الطبيعة، مع أن هذه المعقولات والمعلومات تتغير وتتطور، فكيف يقاس كلي القدرة والعلم والكمال بالمتحول من معارف الناس وتصوراتهم عن الطبيعة! نعم يرد في آيات الأنبياء ما

(1) هكذا تكلم العقل ص 189 - 190.

(2)

المرجع السابق ص 225.

(3)

المرجع السابق ص 230.

ص: 1003

تحار فيه العقول مما يجعلها بين خيارين: إما التسليم بالغيب الصادق أو التكذيب به، ولكن ليس في الآيات ما تستحيله العقول، وما يذكرونه من صور الاستحالة فهي استحالة ترتبط بمصدرها وإطارها من معقولات ومعلومات تجمعت في ظلّ تصور علماني، فهي استحالة ظنية وليست حقيقية، فقد ارتبطت استحالتهم بالفيزياء الكلاسيكية حتى نهايات القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، ثم انهارت تلك المستحيلات مع نظرية الكم ونظرية النسبية، وظهر إطار جديد قد ترتبط به استحالات جديدة، ولهذا يكون الحق في باب الغيبيات بطريق واحد هو الارتباط بالوحي؛ لأنه خبر صادق وحق وإطار نهائي وقمة عالية لا يعلوها شيء وبهذا يختفي ضلال العقول.

ولكن المتغربين لا يجدون في الغرب العلماني إلا ما يناسب هواهم فيسقطون عليه، ويتخذونه ذريعة للتكذيب، وعندما ظهر من المفكرين من يبيّن أن العلم الحديث لا يُكذّب بأمور الغيب بل فيه ما يدل على كثير من أصوله، لم يعجب هذا الموقف مفكرًا علمانيًا صرفًا كالعظمة الذي دافع عن كل شواذ الفكر، وصورهم كأبطال، فقال في نقده لمثل هذا المفكر:"وتوسط الساحة خطاب غيبي تجهيلي بالغ الرجعية، فأصبح تسخير سليمان الجن وركوبه الريح وكلامه مع الطير، وشق موسى البحر، حقائق وضعية،. . . ."(1)، وقد جاء هذا النقد في سياق عجيب، فقد عرضه في مساق دفاعه عن العلمانية ونمو العلمانية العربية، وركّز على فترة اشتهارها بالدهرية ثم فترة اشتهارها بالإلحاد، ثم حركتها تحت مصطلح العلمانية، مادحًا ومثنيًا ثم وقع الانعطاف بظهور الصحوة الإِسلامية، وجاء حديثه السابق في سياق ذمّه لهذا التحول، ومن ذلك عودتها إلى الإيمان بالمعجزات.

ومن بين من ينظر فقط لما يناسب هواه نجد كاتبًا آخر قد انغمس في تيارات مادية فلا ينظر إلا بعينيها ولا يتنفس إلا من رئتيها، فيقول في هذا الباب العظيم: "لا أعتقد أن الجيولوجيين سوف يرتاحون كثيرًا، من جهة نظر علمهم، إلى الآيات القرآنية التي تروي كيف شق موسى البحر الأحمر بعصاه، كما أنه ليس صحيحًا أن علماء الفيزياء والكيمياء لن يجدوا أي تناقض بين قوانين

(1) العلمانية من منظور مختلف ص 293.

ص: 1004

علومهم وبين الآيات القرآنية التي تروي كيف تحولت النار فجأة إلى برد وسلام على إبراهيم. كما أن علماء الفلك "وليس التنجيم" سوف يجدون بعض الصعوبة، لا شك، في التوفيق بين معلوماتهم العلمية عن النيازك والشهب من ناحية وبين الآيات القرآنية التي تعلمنا أن الشهب هي لرجم الشياطين والجن حين تحاول الصعود إلى السماء واستراق السمع "أي: الاستماع إلى أحاديث الملائكة" من ناحية ثانية"(1) وذلك في رده على القائلين بعدم وجود تعارض بين الإِسلام والعلم.

فهذا الكاتب قد يرى سبب رفضهم لمثل هذه الآيات هو علميتهم، من جيولوجيين وكيميائيين وفيزيائيين وفلكيين، وما يهمنا أن الكاتب يريد الاستناد للعلم في التكذيب بهذه الخوارق للمألوف، والحقيقة أن العلماء منهم من انحبس في عالم هذه الطبيعة فكفر بآيات الأنبياء، ومنهم من خرج عن هذا الإطار، فأثبت الضرورة والحتمية البارزة في الطبيعة واستثنى من ذلك معجزات الأنبياء لتدخل في باب الجواز والممكن، فاجتمع عندهم دون إشكال الضرورة والحتمية مع الجائز والممكن.

ومن النماذج الخطيرة في هذا الباب ما قدمه محمَّد أركون، فهو يدرس المعجزات ضمن مفاهيم أخذها عن العلوم الاجتماعية والإنسانية مثل: الأسطورة، اللامفكر فيه، الدوغمائية، العجيب الخلاب، وغيرها من المفاهيم ذات الإجراءات العملية في تطبيقاته على القضايا الدينية ومنها المعجزة، ومن بينها "العجيب الخلاب" الذي ناقش من خلاله "المعجزات".

يدور المفهوم حول ظواهر لا يمكن إدراجها ضمن التفسير السببي الطبيعي، مما يدفع الإنسان إلى اقتراح سبب خارق، وهو عند العقلية الدينية يكون بالمعجزات، ويفسر ميتافيزيقيا عند العقل الفلسفىِ، فتكون مهمة هذا المفهوم دراسة مثل هذه القفزة التي تذكر تفسيرًا يخرق العادة لظواهر لم يستطع الإنسان تفسيرها (2).

ومثل هذا المفهوم المنهجي مثل غيره من المفاهيم التي تكتسب مكانتها من

(1) نقد الفكر الديني، د. صادق العظم ص 26.

(2)

انظر: الفكر الإِسلامي قراءة علمية، محمَّد أركون ص 187 - 188.

ص: 1005

تماسكها الداخلي وإجرائيتها الخارجية، فلا يوجد اعتراض عليه عندما يطبق على ظواهر بشرية واجتماعية، فمن المسلم به أن كثيرًا من المجتمعات والطوائف تخلع المعجزات حول شخصيات مهمة وتصنع القصص الكثيرة حولهم، وانظر ما يوجد عند عوام الوثنيين وما يوجد من طوام عند غلاة المتصوفة، ولكن أركون كعادته لا يتوقف بمثل هذه المنهجيات عند حدودها بل هو من دعاة توسيعها وتطبيقها على الإِسلام، الدين الحق، دون تفريق بين المختلفات، لهذا نجده يطبق ما يصح على مقولات الدجالين والسحرة وما تختزنه ذاكرة الأمم التي انحرفت من معجزات مكذوبة، نجده يطبق ذلك على الإِسلام أيضًا، وذلك أنه حسب قناعته الشخصية أن هذه المعجزات لا يقبلها العقل العلمي ولكن يمكن للعقل العلمي أن يتفهم لماذا النفوس البشرية تقول بها وتتقبلها وتصدقها.

ومثل هذه التسوية هي المزلق الخطير، صحيح أن المعجزة ترتبط بالأنبياء عليهم السلام وبيننا وبينهم مسافة زمنية، ولكن ذلك قد نقل إلينا بالنقل الصحيح، فهي من الغيب لنا ولكن غيرنا قد شاهدها ونقلها إلينا، والعبرة هنا: هل صح بها النقل أم لا؟

أما أركون فهو ينطلق من مسلمة يريد فقط إثباتها، المسلمة عدم وجود المعجزات وخوارق الطبيعة الدينية، وكل ما هنالك هو لغة دينية "مرتبطة بالمنطق الشعري أكثر من ارتباطها بالمنطق العقلاني. إنها تغذي الخيال وتهزّ العاطفة أكثر مما تسجن "أو تحجز" القارئ في مقولات. . . . عقلية"(1).

وأختم هذه الظاهرة الإنكارية للمعجزات أو إهمالها بسبب هذا التصور الفلسفي والعلمي عن الطبيعة بحالةٍ وقعت مع مجموعة من الكتاب المتغربين ومن تأثر بهم، فقد وقع تحول بارز عند مجموعة من المتغربين منتصف القرن الرابع عشر/ العشرين في نوع الكتابة الفكرية، حيث ظهرت لهم كتابات عن السيرة النبوية، "على هامش السيرة" لطه حسين، "حياة محمَّد" لهيكل، "عبقرية محمَّد" للعقاد، وإن كان العقاد لا يُحسب على المتغربين، وقريبا من طريقة العقاد ما كتبه محمَّد فريد وجدي "السيرة النبوية تحت ضوء العلم والفلسفة"(2).

(1) انظر: المرجع السابق ص 207.

(2)

انظر حول هذه الكتب، القول الفصل بين الذين يؤمنون بالغيب والذين لا يؤمنون، الشيخ =

ص: 1006

وهناك ملاحظة بارزة في هذه الكتابات حول السيرة النبوية، وهي تذبذبها حول معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد تناولها الشيخ مصطفى صبري بالنقد والكشف، فهم يهملون الحديث عن هذه المعجزات، أو يذكرونها ثم يؤولونها، أو ينكرونها، لعدم موافقتها للعلم والعقل، وبأنها لم ترد في القرآن، وأن معجزة النبي صلى الله عليه وسلم كانت في القرآن فقط. ولا شك أن معجزة النبي صلى الله عليه وسلم كانت في القرآن، فهو الذي ورد به التحدي في آيات، قال ابن كثير رحمه الله في مقدمة تفسيره:"عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة" (1). . . . وفي هذا الحديث فضيلة عظيمة للقرآن المجيد على كل معجزة أعطيها نبي من الأنبياء، وعلى كل كتاب أنزله، وذلك أن معنى الحديث: ما من نبي إلا أعطي من المعجزات ما آمن عليه البشر؛ أي: ما كان دليلًا على تصديقه فيما جاءهم به واتبعه من اتبعه من البشر، ثم لما مات الأنبياء لم يبق لهم معجزة بعدهم إلا ما يحكيه أتباعهم عما شاهده في زمانه، فأما الرسول الخاتم للرسالة محمد صلى الله عليه وسلم فإنما كان معظم ما آتاه الله وحيًا منه إليه منقولًا إلى الناس بالتواتر، ففي كل حين هو كما أنزل، فلهذا قال: "فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا"، وكذلك وقع، فإن أتباعه أكثر من أتباع الأنبياء لعموم رسالته ودوامها إلى قيام الساعة، واستمرار معجزته؛ ولهذا قال الله:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)} [الفرقان: 1]، وقال -تعالى-:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء: 88]، ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه فقال:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)} [هود: 13]، ثم تحداهم إلى أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، فقال:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)} [يونس: 38]، وقصر التحدي على هذا المقام في السور المكية

= مصطفى صبري ص 9 وما بعدها، وانظر حول هذا التحول التغريبي ما كتبه د. فهمي جدعان: أسس التقدم عند مفكري الإِسلام ص 332 وما بعدها.

(1)

البخاري برقم (4598) باب كيف نزل الوحي. . . . في كتاب فضائل القرآن، ومسلم برقم (217) باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. . . . في كتاب الإيمان.

ص: 1007

كما ذكرنا وفي المدنية أيضًا كما في سورة البقرة، حيث يقول -تعالى-:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)} [البقرة: 23 - 24] فأخبرهم بأنهم عاجزون عن معارضته بمثله، وأنهم لا يفعلون ذلك في المستقبل أيضًا، وهذا وهم أفصح الخلق وأعلمهم بالبلاغة والشعر وقريض الكلام وضروبه، لكن جاءهم من الله ما لا قبل لأحد من البشرية من الكلام الفصيح البليغ، الوجيز، المحتوي على العلوم الكثيرة الصحيحة النافعة، والأخبار الصادقة عن الغيوب الماضية والآتية، والأحكام العادلة والمحكمة، كما قال -تعالى-:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115]. . . . " (1).

ولكن وإن كانت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم التي تحدى بها هي القرآن فإن هناك آيات أخر عظيمة وقعت لنبينا صلى الله عليه وسلم، وجمعها العلماء في كتب مفردة، وهي مما يُصدّق بها المؤمن، ومن آمن بما وقع من آياتٍ لأنبياء الله السابقين فمثلها ما وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم من آيات. أما ما وقع لهؤلاء المتغربين أو المتأثرين بالتغريب من إغفال لهذه الآيات أو من إنكار لها فهو من باب التأثر بالإنكار المادي للمعجزة، فقد ولّد عندهم حساسية تجاه المعجزة، فتجد أحدهم إذا وجد مخرجًا لرفضها سلكه، ولا شك أنه مع انحرافه الخطير فهو ليس كمن أعلن إلحاده الصرف. والبعض قد يُقدّم تنازلات من حسن نية وما علم أنه أخطأ في اجتهاده، وقد توسع الشيخ مصطفى صبري في مناقشتهم والرد عليهم في كتبه.

قال الشيخ السعدي: إن "بعض أهل العلم العصريين الذين يتظاهرون بنصر الإِسلام، والدخول مع هؤلاء الزنادقة في الجدال عنه يريدون باجتهادهم أو اغترارهم أن يطبقوا السنن الإلهية وأمور الآخرة على ما يعرفه العباد بحواسهم، ويدركونه بتجاربهم، فحرفوا لذلك المعجزات، وأنكروا الآيات البينات، ولم يستفيدوا إلا الضرر على أنفسهم، وعلى من قرأ كتاباتهم في هذه المباحث؛ إذ ضعف إيمانهم بالله بتحريفهم لمعجزات الأنبياء تحريفًا يؤول إلى إنكارها، وإنكارهم هذا النوع العظيم من قضاء الله وقدره، وضعف إيمان من وقف على

(1) فضائل القرآن، لابن كثير ص 8 - 9.

ص: 1008

كلامهم ممن ليست له بصيرة، ولا عنده من العلوم الدينية ما يبطل هذا النوع، ولم يحصل ما زعموه من جلب الماديين إلى الهدى والدين، بل زادوهم إغراء في مذاهبهم، لما رأوا أمثال هؤلاء يحاولون إرجاع النصوص الدينية، ومعجزات الأنبياء، وأمور الغيب إلى علوم هؤلاء القاصرة على التجارب المدركات بالحواس، فيا عظم المصيبة! ويا شدة الجرم المزوق! ولكن ضعف البصيرة والإعجاب بزنادقة الدهريين أوجب الخضوع لأقوالهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله" (1).

وقال سيد قطب في تفسيره قوله -تعالى-: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} [الأنبياء: 69]: "إن الذين يقيسون أعمال الله سبحانه إلى أعمال البشر هم الذين يسألون: كيف كان هذا؟ وكيف أمكن أن يكون؟ فأما الذين يدركون اختلاف الطبيعتين، واختلاف الأداتين، فإنهم لا يسألون أصلًا، ولا يحاولون أن يخلقوا تعليلًا علميًا أو غير علمي. فالمسألة ليست في هذا الميدان أصلًا. ليست في ميدان التعليل والتحليل بموازين البشر ومقاييس البشر. وكل منهج في تصور مثل هذه المعجزات غير منهج الإحالة إلى القدرة المطلقة هو منهج فاسد من أساسه؛ لأن أعمال الله غير خاضعة لمقاييس البشر وعلمهم القليل المحدود"(2).

وفي خاتمة هذه الفقرة تلخيصٌ لها، فقد ظهر القول بتعارض العلم والدين، وقد استند أهل الإلحاد في الفكر الغربي على المعجزات، حيث أثّر فيهم الفكر المادي في تصور الطبيعة، وقد امتد هذا الأثر إلى المتغربين العرب، وقد جعلوا هذه المعارضة المزعومة سندًا للتكذيب بالدين أو لتحريفه، وقد ظهر هذا إما بسبب الإلحاد وإنكار وجود الرب سبحانه، أو بسبب الانحراف في حقيقة الربوبية، لاسيّما في باب القدرة الإلهية، وقد انساق المتغربون في هذا الباب، فوقع منهم انحراف عظيم، وتسبب فكرهم بخطر عقائدي عليهم وعلى المسلمين.

وبهذا نصل لنهاية هذا المبحث، وفيه ظهر أن الأمثلة التي وقع الانحراف

(1) تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير الأحكام، الشيخ عبد الرحمن السعدي ص 184.

(2)

في ظلال القرآن 4/ 2388.

ص: 1009

فيها باسم العلم ونظرياته، إما أن غاية ما عندهم أن العلم لم يدلّ على بعضها، وقد رأينا أن عدم الدليل المعين لا يعني عدم المدلول المعين. أو أن غاية ما يقولونه: إن العلم يقدم تصورًا جديدًا، إما مشاركًا عند بعضهم للتصور الديني أو مقدمًا عليه عند الغلاة منهم، وقد رأينا أن هذا الباب لا توجد فيه حقائق علمية، والنظريات فيه متنوعة، وفلسفة العلم المعاصرة تقول بأن ما نعرفه عن العالم أمر نسبي، وتدخل فيه الذات بوصفها مشاركًا في العرض مما يعني استحالة الموضوعية أو صعوبتها في مثل هذا الباب، واستحالة معرفة الحقيقة الموضوعية لمثل هذه الموضوعات أو صعوبتها، ومثل هذا النوع يقدم التصور الإِسلامي منهجه واضحًا: أن القطعي هو المقدم، والقطعي هنا هو خبر السماء، وما وجد من أبو اب محتملة وتثير مشكلات، فلابد من اجتماع العلماء المسلمين في البابين: العلم الشرعي والعلم التجريبي، لرفع الإشكال. وأخيرًا تجرُّؤهم بادعاء وجود ما ينقض الغيب ويثبت بطلانه من ميدان العلم، مستندين في ذلك على المعجزات، وقد رأينا أن هذا ناتج عن تصور مادي عن الطبيعة مع إلحاد أو انحراف في الربوبية، فضلًا عن أن فلسفة العلم المعاصرة بدأت تتذبذب بين الحتمية واللاحتمية، فهناك ظاهرة تثبت الحتمية وهناك أخرى تخرقها، والحق أحق أن يتبع، فمن عرف كمال قدرة الله وكمال ملك الله علم أن هذا الكون يسير بانتظام عجيب يدعو القلوب السليمة للتسليم بخالقها، ومن ذلك التسليم بتمام ملكه في أن يفعل ما يشاء سبحانه، ومن ذلك ما يحدثه من خرق للطبيعة أو للمألوف لحكمة يعلمها سبحانه.

وبعد أن عُرِض باب الإشكالات في باب العقيدة ينتقل البحث إلى باب آخر، هو باب الشريعة، حيث وقع فيه من قبل المتغربين انحرافات باسم العلم ونظريات.

ص: 1010

الفصل الثالث التأثر المنهجي في طريقة التعامل مع القضايا الشرعية العملية

وفيه مبحثان:

• المبحث الأول: التأثر المنهجي في طريقة النظر للشريعة.

• المبحث الثاني: أمثلة للتأثر المنهجي وبيان خطورتها.

ص: 1011