المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌خامسا: التفسير العلمي للنصوص الدينية: - النظريات العلمية الحديثة مسيرتها الفكرية وأسلوب الفكر التغريبي العربي في التعامل معها دراسة نقدية - جـ ٢

[حسن الأسمري]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثاني التأثر المنهجي في الفكر التغريبي بالانحراف المصاحب للعلم الحديث

- ‌الفصل الأول التأثر المنهجي في مصدر التلقي وطرق الاستدلال

- ‌المبحث الأول التأثر المنهجي في مصدر التلقي

- ‌مصدر العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية:

- ‌المصدر في العلوم الاجتماعية:

- ‌أسباب الانحراف في المصدر:

- ‌1 - التبعية للفكر الغربي:

- ‌2 - ظروف الصراع وأحواله:

- ‌مكانة الوحي في التصور الإِسلامي وصور إقصائه كمصدر للعلم عند المتغربين:

- ‌1 - مذهب غلاة المتغربين ودعوتهم لإقصاء الوحي:

- ‌2 - مذهب التوفيقيين من المتغربين ودعوتهم لإقصائه كمصدر للمعرفة:

- ‌مناقشة الملفقين:

- ‌3 - القول بجعل النظريات العلمية في مقام النص الشرعي وتقديمها عليه:

- ‌المبحث الثاني التأثر المنهجي في منهج الاستدلال

- ‌مشكلة الموضوعية:

- ‌استبعاد جانب القيم بحجة الموضوعية:

- ‌الموضوعية وعلاقتها بالحقيقة:

- ‌نموذج موسع للتلاعب المنهجي:

- ‌أ- حسن حنفي:

- ‌ب - محمَّد أركون:

- ‌الفصل الثاني التأثر المنهجي في طريقة التعامل مع القضايا الغيبية الاعتقادية

- ‌المبحث الأول التأثر المنهجي في طريقة النظر للغيبيات

- ‌معنى الغيب في التصور الإِسلامي:

- ‌[مسألة] وللغيب أقسام:

- ‌ارتباط الانحراف في الغيب بالانحراف في الربوبية:

- ‌من أصول الانحراف في الغيب:

- ‌المثال الأول: لويس عوض:

- ‌المثال الثاني: هشام شرابي:

- ‌المثال الثالث: حسن حنفي:

- ‌المثال الرابع: محمَّد أركون:

- ‌المبحث الثاني أمثلة للتأثر المنهجي وبيان خطورتها الاعتقادية

- ‌القسم الأول: موضوعات عمَدية يُدّعى عدم إمكانية إثباتها علميًا:

- ‌القسم الثاني: دعوى وجود رأي علمي آخر حول بعض الغيبيات دون شرط المعارضة:

- ‌القسم الثالث: دعوى مخالفة العلم لأبواب من الغيبيات

- ‌الفصل الثالث التأثر المنهجي في طريقة التعامل مع القضايا الشرعية العملية

- ‌المبحث الأول التأثر المنهجي في طريقة النظر للشريعة

- ‌المراد بالشريعة:

- ‌الغيب مع الطبيعيات والشريعة مع الاجتماعيات:

- ‌أصول منهجية تغريبية للنطر في الشريعة تدعي العلمية:

- ‌أصل الأصول: تعميم الظواهر الاجتماعية على الدين الحق:

- ‌الأصل الثاني: التطور:

- ‌الأصل الثالث: علمية وعلمنة العلوم الاجتماعية ودعوى قدرتها أن تسدّ مسدّ الدين:

- ‌الأصل الرابع: النسبية:

- ‌المبحث الثاني أمثلة للتأثر المنهجي وبيان خطورتها

- ‌الأول: في باب الأخلاق الإِسلامية:

- ‌أولًا: تعريف الخلق:

- ‌ثانيًا: المشكلة الخلقية في العالم المعاصر ولاسيّما في الغرب:

- ‌تاريخ الفكر الأخلاقي في الغرب:

- ‌الإطار العلماني للأخلاق الجديدة:

- ‌النظريات الأخلاقية الجديدة:

- ‌ثالثًا: تحليل ونقد للنظريات الجديدة:

- ‌رابعًا: نماذج من الأخلاقيات المتغربة تحت غطاء العلمية:

- ‌النموذج الأول:

- ‌النموذج الثاني: من علم النفس:

- ‌النموذج الثالث: الموقف الوضعي:

- ‌النموذج الرابع: أخلاقيات العلم الجديدة:

- ‌النموذج الخامس: الرؤية المادية والماركسية:

- ‌الثاني: في باب العمل بالأدوية الشرعية للأمراض الجسدية أو النفسية:

- ‌الأمر بالتداوي في الإِسلام:

- ‌الإطار العلماني وأثره في مجال التداوي الجسدي والنفسي:

- ‌أثر الأسس الفلسفية للممارسة الطبية الحديثة:

- ‌في الجانب النفسي:

- ‌بعض مشكلات الطرح التغريبي حول المجال الطبي والتداوي:

- ‌أين هي المشكلات في هذا الباب

- ‌نموذج عن الإشكال التغريبي في هذا الباب:

- ‌الثالث: في باب حكم التعامل بالربا:

- ‌القسم الأول: مدخل:

- ‌القسم الثاني: الإطار الاجتماعي العام للتحول الاقتصادي الغربي:

- ‌القسم الثالث: الأصول النظرية العلمية للاقتصاد الحديث:

- ‌الرابع: في باب حجاب المرأة المسلمة:

- ‌الباب الثالث صور لدعاوى باطلة ونظريات منحرفة ظهرت في الفكر التغريبي حول الدين والعلم وخطورتها

- ‌الفصل الأول صور لدعاوى أظهرها الاتجاه التغريبي باسم العلم الحديث

- ‌المبحث الأول دعوى أهمية علمنة العلم ورفض التأصيل الإِسلامي مظاهرها وخطرها

- ‌تعريف العلمانية:

- ‌وقفتان حول المصطلح: "تاريخية المصطلح، وعلاقته بالعلم

- ‌المبحث الثاني دعوى التعارض بين الدين والعلم الحديث

- ‌الفرق بين دعوى التعارض التراثية والدعاوى الحديثة:

- ‌صور الدعاوى التغريبية:

- ‌أصول عامة حول دعوى التعارض بين الدين والعلم:

- ‌مناقشة الدعوى:

- ‌أولًا: أهمية رفع التعميم والإجمال:

- ‌ثانيًا: ما المقدم عند التعارض

- ‌ثالثًا: "موضوعات الغيب وموضوعات الشهادة - الأكثر إشكالًا

- ‌رابعًا: ملابسات الدعوى التاريخية والأيدلوجية:

- ‌خامسًا: التفسير العلمي للنصوص الدينية:

- ‌المبحث الثالث دعوى كفاية العلم الحديث لحاجة الإنسان وشموليته بدلًا عن الدين

- ‌الشمولية في الإِسلام وحاجة الناس إليه فوق كل حاجة:

- ‌مناقشة دعوى كفاية العلم وشموليته:

- ‌نماذج من الانحراف التغريبي حول هذا الباب:

- ‌النموذج الأول:

- ‌النموذج الثاني:

- ‌النموذج الثالث:

- ‌النموذج الرابع:

- ‌النموذج الخامس:

- ‌النموذج السادس:

- ‌الفصل الثاني صور من تأثر الفكر التغريبي بنظريات علمية منحرفة حول مفهوم الدين

- ‌التمهيد

- ‌المبحث الأول التأثر بنظرية داروين التطورية من علم الأحياء حول الدين

- ‌ظهور الدارونية العربية:

- ‌من البحث في أصل الحياة إلى المادية الإلحادية:

- ‌المبحث الثاني التأثر بنظريات من علم النفس حول الدين

- ‌صراع النظريات النفسية ودلالاتها في الميدان الفكري:

- ‌دخول علم النفس للثقافة العربية والمواقف تجاهه:

- ‌نظرية فرويد النفسية ولاسيّما ما له علاقة منها بالدين:

- ‌المبحث الثالث التأثر بنظريات من علم الاجتماع حول الدين

- ‌علم الاجتماع بين العلمية والأيدلوجيا:

- ‌كيف ينظر علم الاجتماع للدين

- ‌المتغربون وعلاقتهم بالمدارس الاجتماعية العلمانية:

- ‌علم الاجتماع الديني:

- ‌الخاتمة

- ‌الفهارس

- ‌ملحق مفهرس للألفاظ الغريبة والمصطلحات والطوائف والفرق والمذاهب والتراجم مع التعريف بها

- ‌أولًا: قائمة الألفاظ الغريبة والمصطلحات الواردة في ثنايا البحث

- ‌ثانيًا: قائمة بالطوائف والفرق والمذاهب الواردة في البحث

- ‌ثالثًا: قائمة المراجع والمصادر

- ‌نبذة تعريفية الإدارة العامة للأوقاف

الفصل: ‌خامسا: التفسير العلمي للنصوص الدينية:

إطارين "الدين" و"العلم" أو بين منهجين "الخبر" و"الحس" أو بين مرجعيتين "النص" و"التاريخ".

‌خامسًا: التفسير العلمي للنصوص الدينية:

مما يقلب الدعوى إلى نقيضها ما ظهر من صنوف التفسير العلمي للنصوص الشرعية فضلًا عن جهود لدراسة الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة، لتُثبت بأن العلم لا يعارض الوحي، بل إن الوحي قد سبقت فيه إشارة أو نص إلى موضوعات ما عرفها البشر إلا في العصور المتأخرة، ليقيم الله سبحانه حجته على خلقه بما برعوا فيه، فإن كان العرب قد برعوا في اللسان فقد نزل عليهم الوحي بإعجازه البياني، وإذا كان الناس اليوم قد برعوا في العلوم، فقد جاء الوحي بما يدل أنه من خبر السماء عندما رجعوا إلى نصوص تتعلق ببعض المكتشفات الحديثة، قال -تعالى-:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا في الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} [فصلت: 53]، قال ابن كثير رحمه الله:"على كون القرآن حقًا منزلًا من عند الله، عز وجل، على رسوله صلى الله عليه وسلم"(1).

يتفق هذا الوضع الجديد مع مبدأ من مبادئ الباحث وهو: أن البشر كلما اجتهدوا للبحث عن الحقائق بعقولهم أو علومهم، فإن ما يصلون إليه من حقائق لا يعارض الوحي إن لم يجدوا في الوحي ما يدل عليه، وأن البشر كلما بلغ بحثهم عن الحقيقة قوةً وإتقانًا ووضوحًا، فإنهم يقتربون أكثر من حقيقة الوحي في أموره الكونية والخلقية.

وإن هناك لدلالة مهمة فيما أبداه أهل التفسير العلمي للنصوص الشرعية أو أهل الإعجاز العلمي أو أهل التأصيل الإسلامي للعلوم، هذه الدلالة تؤكد بأن دين الإسلام لا يمكن بحال من الأحوال أن يتعارض مع العلوم الصحيحة، لا شك بوجود مشاكل في هذا النوع من النشاط، وهناك أخطاء، وهناك تجاوزات، يرجع الكثير منها بسبب دخول أناس إلى هذا الميدان وهم ليسوا أهلًا لذلك، إما

(1) انظر: تفسير ابن كثير ص 1177، وقد عرض الدكتور كارم السيد ذاك النشاط الكبير للتفسير العلمي في كتابه: الإشارات العلمية في القرآن الكريم ص 34 وما بعدها، وانظر حول تقييم هذا النشاط: التفسير العلمي للقرآن في الميزان، أحمد أبو حجر.

ص: 1238

أن عندهم معرفة بالعلم الشرعي ثم اقتحموا العلوم العصرية دون أن يُلموا بها جيدًا، فوقع بسبب ذلك أخطاء وتجاوزات، هذا إذا استبعدنا متاجرة بعضهم بمثل هذه الكتابات إذ نكتفي بالجانب المنهجي منها. فأقول إن لمثل هذا النشاط فيما صحّ منه وسَلِم من الأخطاء والتجاوزات لدلالات مهمة لا يمكن لعاقل أن يتنكر لها، وهي: أن العلم الصحيح لا يعارض بحال النقل الصحيح، بل إن العلم الصريح الصحيح المحقق ليدل على ما دلّ عليه النقل، ويكفينا من كل هذا النشاط الكبير في بابنا هذا مثل هذه النتيجة.

دراسة لبعض النماذج التغريبية التي ترفع من شأن دعوى التعارض:

سبق في الباب الأول نموذج دخول المشكلة -أي: مشكلة دعوى التعارض- عبر الصحافة من خلال كُتاب نصارى تأثروا بالاتجاهات المادية في أوروبا (1)، ومع ذلك فقد حاولوا عرضها بأسلوب غير مستفز رغم ما أثاره ذلك من عاصفة، واشتهر في أثناء عرض نظرية الفلك الجديدة ونظرية التطور، وقد كانت العاصفة داخل النصارى رغم أن الصحف التي يتولاها النصارى موجهة للجميع.

فلقد حرصوا على عدم التصادم ولوّحوا بمنهج التأويل كحل للمشكلة، وقد سبق تحليلها بما يناسب وضعها في سياق التفاعل والتأثر في الباب الأول، إلا أنه بعد دخولها جاء من يتجاوز التأويل ويدعوا بزعمه إلى ترك تلك الأوهام الدينية والاكتفاء بالعلم، نأخذ مثلين مؤشرًا على التوجه الجديد عبر الصحافة في بدايات إثارة المشكلة:

المثال الأول: كانت مجلة "الهلال" تركز على الجانب التربوي، وفي أحد الأعداد عرضت مقالًا لـ"أمير بُقْطُر" عن "الجيل المصري المقبل - تكوينه من ناحيتي الأخلاق والشخصية" فذكر نماذج للتربية في مدارس الغرب، ثم لفت إلى أهمية الحوار والسؤال ومن ذلك مثلًا قوله: "إذا تعارض الدين مع العلم فأيهما تصدق؟

ما الفائدة من الدعاء لله أن ينزل الغيث "المطر" في فترات الجفاف، طالما نحن نعلم أن المطر خاضع لقوانين طبيعية جوية هيهات أن يعمل الخالق

(1) انظر: الفصل الرابع من الباب الأول، مبحث الصحافة ص 611.

ص: 1239

على كسرها" (1).

المثال الثاني: نجده في الصحافة التركية بعد تحولها إلى دولة علمانية فكتب أحدهم مقالة: "على أبواب افتتاح الجامعة"، ومما قاله:"إننا بينما ندرس نظرية داروين في النشوء والارتقاء من جانب، نلقن الصغار في المدارس الابتدائية في دروس الدين معلومات غير علمية من جانب آخر، فمثلًا نلقنهم مثل هذا الدعاء: "يا رب! أنت خالقي وخالق أبي وأمي وخالق الأحياء والجمادات وأنت رازقنا""(2).

يلفت المثالان السابقان النظر إلى وجود توجه جديد، فلم يعد الأمر مكتفيًا بعرض المشكلة في الصحافة بطريقة غير مستفزة ولم يعد هناك الحرص على عرض وسائل منهجية للتوفيق، بل أصبح التحيز مع التغريب، ومع إثبات صحة الدعوى، ومع إقصاء الدين، ومع تعميق المشكلة، حتى داخل التعليم ذاته، وحتى مع الأطفال، أصبحت الدعوى ستارًا لإعلان الإلحاد ذاته، فمن الواضح في المثالين أن الأمر تجاوز دعوى التعارض بين موضوعات إلى إطار جديد لا مكان فيه للدين.

ننتقل الآن إلى بعض النماذج الفكرية، نراها تتحرك بين مستويات مختلفة من أنواع التعارض الأربعة، هي لا تعرض الدعوى إلا لانتقاص الموقف الديني وإحلال الموقف اللاديني مكانه، وتتميز النماذج الفكرية بعدم حرصها على العرض العلمي للإشكالية؛ لأن هدفها في الأساس هدف أيدلوجي يوجه نشاطهم الفكري.

نجد أولًا أحد المدافعين عن العلمانية ممن يتبنى نشر الدعوى حجةً للعلمانية، وهو الدكتور "عزيز العظمة"، ففي عرضه لطائفة الصحفيين النصارى في بداية القرن من أمثال:"شبلي شميل" و"سلامة موسى" التي تبنت الإلحاد "ظاهرًا" وأخذت بمادية صريحة ترتب "عليها الإفصاح بكل وضوح عن تعارض أساسي تغاضت عنه الإصلاحية الإسلامية والاعتذارية المسيحية، وهو تعارض الدين والعلم، وبذلك ليس للإنسان شرائع منزلة إلا ما أنزله جهله عليه من

(1) انظر: الاتجاهات الوطنية. . . .، د. محمَّد محمَّد حسين 2/ 352.

(2)

انظر: موقف الدين من العلم، د. علي باشكيل ص 44 - 45، من الحاشية.

ص: 1240

الخرافات والأوهام، فشرائع الإنسان من صنع الإنسان وهي تابعة لحاله من الانحطاط والارتقاء" (1)، وأن الإسلام بحسب أحد أتباع "شميل" لا صلة له بالعلم، وأنه لا يساير العلم، وهو يتحدث عن نار موسى والنفخ في فرج مريم (2). والدكتور "العظمة" أثناء عرضه لهذا التيار الذي يغرس في تاريخنا الفكري المعاصر بذور هذه الدعاوى يعرضه كتيار يمتثل الحضارة الكونية العالمية ويمثلها في فكرنا.

ويظهر في كلام "العظمة" بأن التعارض الأساسي ليس بين الدين والعلم، وإنما هو بين الدين والمادية الملحدة، فقد صرّح بأنها أخذت بمادية صريحة ملحدة، وهنا تبرز عادة هذه التلاعبات الفكرية بالمصطلحات، ومن ذلك وضع مصطلح على معنى لا يوافقه، أو وضع المصطلحات المعممة لمعاني ليست بعامة طريقةً لإنعاش تلك الدعوى وغرسها في فكرنا المعاصر.

نجد في الأفكار المتغربة عدة نماذج، من أشهرها نموذجان، الأول: يرى بوجود تعارض بسبب جعل الدين والعلم على صفة واحدة مع أنهما يشكلان مجالين مختلفين، وبسبب عدم إدراك ذلك بحسب الدعوى يقع التعارض، ولهذا تظهر عند أصحابها أهمية الفصل بينهما والتوفيق عند الحاجة، والثاني: يرى وجود التعارض مع استغلال هذا التعارض لإثبات خرافة الدين ومن ثم أهمية التخلص منه.

النموذج الأول: التوفيقي:

يعد المفكر المشهور "زكي نجيب محمود" أشهر من تبنى هذا الموقف، وقد تقلّب منهجه الفكري في مراحل، وصل بعضها من التطرف إلى تبني "الوضعية" عادًّا إياها الفلسفة الأمثل في التمذهب، وتأثر بها إلى أبعد حد، لدرجة انفصاله عن هويته وتاريخه وثقافته، وتبني النموذج الغربي، ثم جاء له تحول في آخر حياته نحو التراث، فأبرز أهمية التوفيق بين الفكر الحديث والتراث، فيظهر في مشروعه دعوى التعارض العام دون ذكر محدد للموضوعات، ولكن الذي يتميز به هو منهجه التوفيقي.

(1) العلمانية من منظور مختلف، د. عزيز العظمة ص 183.

(2)

انظر: المرجع السابق ص 186.

ص: 1241

حافظ "زكي" على مبادئ معينة من مرحلته الوضعية، أبرزها أن الحقيقة لا توجد إلا في العلم، وهي إما استنباطية كالرياضيات أو حسية استقرائية كالطبيعيات، ويكون العلم في النهاية إما الاستنباطي أو الاستقرائي، أما الدين فهو لا ينتمي إلى العلم، ولكنه موجود فأين نضعه؟ بما أن الإنسان مكون من عقل ووجدان، فيكون حظ العقل العلم وحظ الوجدان الدين، الوجدان هو فضاء الدين والأدب والفن وكل ما ليس بعلم.

ويجد أن التقسيم: "العقل والوجدان" يرفع مشكلة التعارض، فالعلم لا يقبل إلا بما يمكن أن نتأكد منه؛ أي: بما يقبل التحقق، أما الوجدان فيقبل ما نرتاح إليه، حتى وإن لم نجد وسيلة للتحقق من صحته.

وهنا يختفي التعارض لا لعدم وجوده وإنما لاختلاف المجالين، فلا يقال مثلًا بأن الأدب والفن يتعارض مع العلم؛ لأن أصحابها إنما يعبرون عن مشاعرهم، ولكن "زكي" لا يبين لنا الفرق بين الدين وهذه النشاطات الوجدانية، لو كان الدين تعبيرًا عن المشاعر لجعلناه في قسم الوجدان ولكنه ليس كذلك، إنه أخبار وشرائع وعقائد جاء بها الوحي. قد يأتي موضوع علمي يخالف مجال الآداب والفنون فلن تجد من يعترض وينكر ذلك، سيقول الجميع باختلاف المجالين، ولكن لو جاء ما يوهم التعارض مع الدين فلن تجد من يسكت؛ لمجيء ما يُصادم ما يعتقده الإنسان من إطار للتصور والعمل، فهو أتى بحل يزيد من المشكلة ولا يحلها، هذا إن كان هناك مشكلة. يقول:"الإنسان يعش في حياته الإدراكية في دائرتين -دائرة العقل ودائرة اللاعقل- اللاعقل هذا يشتمل على مصادر فرعية كثيرة، من بينها ما ذكرته من فن وأدب ودين وغير ذلك. أما دائرة العقل فتنحصر فقط في ما يمكن أن يخضع لقوانين الفكر والاستدلال .. أكرر أن محتوى الدائرة الثانية يعتمد على إدراكات مباشرة، فورية؛ ففي الدين، الإدراك إيماني وليس برهانيًا. إذا قيل لك هنا إن الله موجود، ففي إمكانك أن تصدق وتؤمن، من غير أن تطلب برهانًا على ذلك. هذا إيمان -هكذا أيضًا الأدب والفن: تعطي لوحة أو قصيدة، ففي مثل لمعة البرق تتعلق بها أو تنفر منها. . . ."(1).

(1) طريقنا إلى الحرية، زكي نجيب محمود ص 134 حاوره "أحمد عثمان".

ص: 1242

من الواضح عند الوضعيين إفقارهم العقل وحصره في أبواب ضيقة ومنعه من التوسع، وله حسناته وسلبياته، ولكن الخطأ هو إخراج الدين من مجال العقل؛ وذلك أن الدين قد جاء بأعظم الأدلة العقلية التي يصل بها العاقل إلى الحق، وقد سبق بيان ذلك في الباب الثاني، والخطأ الأعظم هو جعل الدين يوازي الأدب الفن، فيُحبس هناك ويمُنع خروجه من تلك الدائرة غير البرهانية "إن المكان -أي: مجال العقل- لا يدخله إلا من في يده جواز دخول إليه. وليس للدين أو الإيمان جواز دخول إلى بيت العقل. في الدين أنت تؤمن بالآيات الكريمة أو بوجود الله، دون أن تطلب انتقالات استدلالية أو برهانية" (1).

تجاهلت هذه الرؤية -حول مجال العقل- القسمة الأصوب، فإن العلم قد يكون مصدره الاستنباط كالرياضي، وقد يكون مصدره الاستقراء والحس كالتجريبي، وقد يكون مصدره الخبر الصحيح كالنبوات وما فيها من دين، فإن الخبر المتواتر أقوى من الرياضي والطبيعي، والنبوة حدث وقع وانتهى فلا يُطلب فيه الإثبات بالتجريب؛ لأنه لا نبي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن المطلوب هو صحة الخبر، وبهذا يكون الخبر ذا حقيقة موضوعية خارجية، ولا يرتبط قبوله بالوجدان فقط مثل قصيدة بلمعة البرق فيُقبل أو يرفض، وإنما بإثبات صحته عن طريق التواتر، وعلى هذا فالتصور لهذه الثنائية غير سليم.

وكما وقع الإشكال في التصور الثنائي وقع في طريقة التوفيق بين المتعارضين، فهو يذكر ضرورة الجمع بين الشرع والعقل ولكن كيف؟ "فنقول: إن أهم ما وصل إليه "العقل" البشري، بحركته الاستدلالية التي أشرنا إليها، هو "العلوم" وماذا يكون أي علم إلا مجموعة أحكام، أو قوانين، استدلها الباحثون من الظواهر التي تقع في مجاله؟ فإذا كان هنالك نص شرعي، فيه ما يتصل من بعيد أو من قريب، بموضوع ذلك العلم، فإن "العقل" يقضي بألا يتناقض فهمنا للنص الشرعي مع ما قد قرره جانب العلم، وإلا كان العقل هنا بمثابة من يحكم بالصواب للنقيضين معًا وفي آن واحد" (2)، وهذا القسم الذي يتحدث عنه يناسب

(1) المرجع السابق ص 152، والجملة المعترضة من الباحث.

(2)

رؤية إسلامية، د. زكي نجيب ص 208.

ص: 1243

ما جعلته من باب التعارض بين "الموضوعات" وهو النوع الأول، وقد ذكر القسم الأخير، أي الذي هو من باب التعارض في العمليات، فيقول:"بل ربما كانت -وكثيرًا جدًا ما تكون- مقابلة بين نص شرعي في ناحية ومشكلة اجتماعية أو فردية، في ناحية أخرى، بحيث لا تجد تلك المشكلة حلها العقلي -أي: حلها العلمي- متفقًا مع ما يدل عليه ظاهر النص الشرعي، فماذا نحن صانعون؟ "(1).

يرجع "زكي" في الحل إلى الشيخ "محمَّد عبده" مستعينًا بآلته التأويلية (2)، ولكن بعد بعض التعديلات عليها، وسؤالنا قبل الذهاب إلى التوفيق -وهو مطلب صحيح في العموم- هل يصح هذا التعارض؟ وأي طريق يخدم التوفيق هنا؟

بالرجوع إلى معياري: "تحديد المراد، وتعيين القطعي" الذين سبق ذكرهما نجد أن هذه الدعوى يذهب جزء كبير منها، ولكن على العكس من ذلك فالمفكر التوفيقي لا يريد ذلك -بحسب ظاهر النص وبحسب المشروع الفكري له- لأن حقيقة التوفيق هنا تنحصر في أخذ ما له صلة بالفكر الحديث مع التضييق المتدرج لمساحة الدين، وهي بارزة في جانب العمليات. لذا فهو يرفض التوفيق بمعنى: حذف المفكر المسلم ما يراه متعارضًا مع عقيدته؛ لأنه هنا لا يضيف شيئًا جديدًا بحسب كلامه (3)، وهذا غير صحيح فإنه يضيف النافع الصحيح ويترك ما سوى ذلك.

يوضح منهجه بمثال: فلو كان الدين هو "أ. ب. ج" والعلم هو"س. ب. ج"، فيظهر أن الاختلاف هو بين "أ"، "س" والسؤال: هل هما يتعارضان أو يتكاملان، فإذا كان التوفيق مستحيلًا فهما متعارضان، وإن كان ممكنًا فهو تعارض ظاهري، وعليه فالتوفيق هو في "التعارض الظاهري" وذلك بأن أبتكر صورة جديدة تدمج بين "أ. س""دمجًا يلد لنا مخلوقًا جديدًا، لا هو الطرف الأول كما كان، ولا هو الطرف الثاني كما كان"، وتكون حقيقة التوفيق ضربًا من رؤية الشيء الواحد من جانبين يتكاملان ولا يتعارضان (4).

(1) المرجع السابق ص 209.

(2)

انظر: المرجع السابق ص 209.

(3)

انظر: رؤية إسلامية ص 210، (لأنه لو كان الأمر كذلك، فكأن المسلمين ما نقلوا عن غيرهم شيئًا).

(4)

انظر: المرجع السابق ص 210 - 212.

ص: 1244

تعد فكرة الابتكار السابقة صورة جيدة رغم بعض المشاكل التي تخترقها، وهي فكرة يجتهد أصحاب التأصيل الإسلامي في إبداعها، ولكن من منظور مختلف، وأبرز المشاكل التي تُفسد هذا التصور أن الأصل العام لمفكر الوضعية العربية ما زال قائمًا -أي: القسمة الثنائية إلى: "عقل ووجدان"-، بينما مثل هذا الابتكار يتوجه إلى الحقائق الموضوعية الخارجية، كما أن هذا الرأي يُخفي خلفه الهمّ الفكري الذي يقوم على التوسع في أخذ الحضارة الغربية كونها النموذج الأرقى، ولا يبقى من هويتنا إلا القالب اللغوي فقط، يقول في أحد كتب المرحلة الأخيرة من حياته:"نريد لأبناء عصرنا أن يستخلصوه من تراثهم -شكلًا لا مضمونًا- وهو ألا يجعلوا بين العقل والإيمان تعارضًا، بل أن يجعلوا بينهما تعاونًا على الوصول إلى هدف واحد، فلكل من الأداتين قسطها من الفهم وتنظيم السلوك؛ وإذا كان الأولون قد جعلوا التعارض مقصورًا على النص القرآني والأحاديث، هل يعملون فيها العقل بالتأويل، أو يقبلونها بظاهر لفظها، فنحن اليوم نجعل التعارض أو التعاون بينهما في ضدين آخرين، هما: الدين من ناحية، والعلم من ناحية أخرى؛ فإذا شئنا أن يكون لنا موقف نستمده من تراثنا، فليكن هو موقف المعتزلة والأشاعرة معًا، فمن المعتزلة نأخذ طريقتهم العقلية، ومن الأشاعرة نأخذ الوقوف بالعقل عند آخر حد نستطيع بلوغه، وبهذا نجعل الدين موكولًا إلى الإيمان، ونجعل العلم موكولًا إلى العقل، دون أن نحاول امتداد أي من الطرفين ليتدخل في شؤون الآخر"(1)، ويقول في الكتاب نفسه:"وأحسب أني لو سألت الآن: كيف ننتقل من فكر قديم إلى فكر جديد؟ كان الطريق إلى الجواب واضحًا، وهو أن أستخدم الألفاظ -التي هي في الحقيقة دالة على رؤوس الموضوعات- استخدامًا يساير العصر في مفهوماته ومضموناته حتى ولو كانت هي نفسها الألفاظ التي استخدمها الأولون، لكنهم استخدموها بمفهومات ومضمونات مختلفة"(2).

يصبح الابتكار هنا في الحقيقة صورة من صور التأويل المعروفة، والمصطلحات لا تغير الحقائق، فالابتكار هو في النهاية تأويل، فنأخذ من تراثنا

(1) تجديد الفكر العربي، د. زكي نجيب ص 136.

(2)

المرجع السابق ص 183.

ص: 1245

اللفظ ونملؤه بمضمون جديد، ومع أنه أخذ بطريقة أهل التأويل من المعتزلة والأشاعرة، إلا أنه عاد إلى نتيجة تناقض ما أخذ به، حيث عاد إلى القسمة الثنائية، ومنع دخول أحد القسمين على الآخر، وكان الأصح لتجنب كل هذا: أن نحدد ما هو الديني وما هو العلمي؟ وهل هما قطعيان؟ ثم ننظر كيف يتم التوفيق بينهما، وإلا فبهذه الصورة المفتوحة تكون النتيجة التلاعب بالدين بحجة قبول كل ما جاء في الحضارة الحديثة.

وللأسف فكل هذا التنظير لا يخلق شيئًا على مستوى التطبيق حتى لو أبقيناه على المستوى الذي يريده مفكر الوضعية، ومن ذلك ما قاله من أمثلة في أثناء حديثه عن بعض معوقات النهضة العربية، من "عدم القدرة على خلق الروح العلمية كجزء عضوي في رؤيتنا للأشياء بحيث يتعود الناس جميعًا، عن طريق التدريب على رد النتائج إلى أسبابها الحقيقية" وذكر مثالين على ذلك:

1 -

كتب البعض عن سبب الانتصار في حرب أكتوبر (1973 م): "أن التدريب الجيد والروح الجديدة هما اللذان أديا إلى هذا النصر المبين، فاحتج كتاب آخرون بقولهم: "كيف يكتبون ذلك وينسون عون الله، إذ حضر الملائكة وحاربوا في صفوف جنودنا؟ "".

2 -

"يحتج البعض عندما يرد شفاء المريض إلى مهارة طبيبه المعالج، ويقولون إن الشافي هو الله"، ثم علق:"هذا المنحى من التفكير يعطل، على نطاق واسع تفكيرنا العلمي"(1).

من الواضح أن النظرة العلمية عند هذا المفكر ترجع إلى تحديد سبب النصر بالإعداد الجيد، وشفاء المريض إلى مهارة الطبيب، وهي فعلًا من الأسباب ولا اعتراض عليها عند أهل السنة، وإن كان يوجد بعض طوائف المسلمين يقولون بمذهب الجبرية وينكرون الأسباب. وقد تظهر علوم تنجح في تحديد هذه الأسباب فنرجع الفضل إلى هذا العالم أو ذاك في كشفه للأسباب، ولكن هل هذه النظرة العلمية تتعارض مع إعادتها إلى الرب سبحانه، الذي بيده كل شيء، وهو الفعال لما يريد؟ نعم توجد معارضة لو افترضنا أن هناك من ينكر الأسباب، مع أن العلم عمدته على السببية، فيقع التعارض، وعندها يقوم من

(1) انظر: طريقنا إلى الحرية، د. زكي نجيب ص 38 - 39.

ص: 1246

توهم هذا التعارض بطلب الحل. ولكن أهل السنة يرون أن الأسباب مؤثرة في مسبباتها مباشرة، لكن من الذي جعلها مؤثرة؟ إنه الله سبحانه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:"وأما أهل الهدى والفلاح. . . . فيؤمنون بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شيء قدير، أحاط بكل شيء علمًا، وكل شيء أحصاه في كتاب مبين". إلى أن قال: "ومع هذا لا ينكرون ما خلقه الله من الأسباب، التي يخلق بها المسببات، كما قال -تعالى-: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57] وقال -تعالى-: {يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 16] وقال -تعالى-: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26]، فأخبر أنه يفعل بالأسباب. ومن قال يفعل عندها لا بها، فقد خالف ما جاء به القرآن، وأنكر ما خلقه الله من القوى والطبائع، وهو شبيه بإنكار ما خلقه الله من القوى التي في الحيوان التي يفعل الحيوان بها مثل قدرة العبد. كما أن من جعلها هي المبدعة لذلك فقد أشرك بالله، وأضاف فعله إلى غيره، وذلك أنه ما من سبب من الأسباب إلا وهو مفتقر إلى سبب آخر في حصول مسببه، ولابدّ له من مانع يمنع مقتضاه إذا لم يدفعه الله عنه، فليس في الوجود شيء يستقل بفعل شيء إلا الله وحده"(1)، وبمثل هذا القول المبني على الفهم والعلم بالوحي يقع التوفيق ويسقط التعارض، فليجتهد علماء العلوم المختلفة في اكتشاف الأسباب لكن دون أن تُجعل هي الفاعلة وحدها.

توجد في المثالين بعض الإشكالات التي تحتاج إلى تصحيح، فإن قوله بحضور الملائكة قول يحتاج إلى دليل، فإن الناس ربما يتساهلون في القول بهذه الأمور المغيبة، وهي من الأمور التي لا تُعلم في الغالب إلا بالوحي، وليس حضورها مما ينفي الأسباب، كما أن القول بأن الشافي هو الله سبحانه لا يعني إنكار السبب من مهارة الطبيب أو القوة المؤثرة الموجودة في الدواء، فكل سبب مؤثر في حصول مسببه ولكن كل سبب مفتقر إلى سبب آخر.

إن الروح العلمية التي يدعو إليها المؤلف هي مما يتعارض مع الدين؛ لأنه

(1) التدمرية، لابن تيمية ص 209 - 211، بتحقيق محمَّد السعوي.

ص: 1247

يريد النظر فقط في الأسباب وإغفال النظر في مسبب الأسباب، وفي مدبر الكون والفعال لما يريد سبحانه، فأين التوفيق الذي يطرحه في مشروعه؟ بينما النظرة الصحيحة في حقيقة الموقف الديني وموقف أهل العلوم يظهر منها عدم وجود تعارض، فهي تثبت السبب وتحث على معرفته، ونسبة المُسبَبات إليه، مع إدراك عدم خلو سبب من مؤثر، وافتقاره دائمًا إلى سبب آخر، وأن كل ذلك لا يتعارض مع الإيمان بتقدير الله سبحانه لها.

ومن نظر في أغلب ما يعرضه أهل الفكر مما يزعمونه تعارضًا بين الدين والعلم يجده يدخل في مبحث السببية (1)، وذلك أن العلوم في الغالب إنما هي في النهاية البحث عن قانون أي عن سببية، فيُقصر أهل العلوم في الاكتفاء بما اكتشفوه من سبب، ويقصر بعض أهل الدين بنفي هذا السبب، فيُظن بأن هناك تعارضًا، أو يُظن أن أهل الدين عندما يربطون كل شيء بالله سبحانه أنهم ينكرون الأسباب، وكيف ينكرونها والرب سبحانه هم من أخبرنا بوجودها. فليكتف أهل العلوم في بحثهم بإدراك الأسباب الظاهرة ولكن لا ينكروا وجود مسبب الأسباب وخالقها ومدبرها، والغالب أنهم لا ينكرونها، وإنما يقع الإنكار من أهل المذاهب الفكرية، وهو أوضح مع تلك التي اتخذت موقفًا معاديًا من الدين، وهو أبرز ما يكون في الماديين والوضعيين بسبب إلحاد الكثير من زعمائهم، وقد سبق ذكر قول "نيوتن" أحد أهم علماء العصر الحديث في الفيزياء من "أن الكون لا يمكن أن يعمل دون وجود إله"(2).

كانت الوقفة مع أحد أبرز النماذج الفكرية المعاصرة، توقفت معه؛ لأنه يرتبط بمذهب فكري له صلة كبيرة بالعلوم، وهو المذهب الوضعي، وقد اجتهد صاحب هذا المذهب في رفع شأن العلم وأحسن في ذلك، ولكنه وقع في الغلو عندما جعله الممثل الوحيد للحقيقة، وجعله الوحيد الذي يملك جواز الدخول إلى العقل بينما الدين مع الأدب والفن في ساحة الوجدان، ولم يفرق بين أن الدين يملك أخبارًا وحقائق موضوعية بينما الأدب والفن إنما هما تعبير عن المشاعر، وقد كشف البحث أثر ذلك في جعل الدين في مسار والعلم في مسار،

(1) انظر: الفصل الثاني من الباب الثاني، مبحث المعجزة ص 1031.

(2)

إسحاق نيوتن والثورة العلمية، جيل .. ص 101.

ص: 1248

وما تبعه من منهج للتوفيق بينهما، وإذا كان التصوّر غير صحيح فإن عملية التوفيق تكون من العبث.

ورغم ما يلحظه الباحث من أشياء جيدة في فكر هذا المفكر إلا أن أثر التصورات الفاسدة أفسدت عليه مشروعه الفكري، وهو يبقى أحسن حالًا من الصنف الثاني الذي لم يُظهر أي اعتبار للدين، بل انخرط في اجترار مقولات إلحادية، بينما هذا المفكر الوضعي قد اجتهد في التحليل والنقد لكثير من الأوهام والانحرافات في عصرنا وأمتنا ولكن جهله بالإِسلام الذي اعترف بأنه لم يقرأ فيه إلا في سن متأخرة جعله يتحرك بغشاوة فكرية أفسدت مشروعه الفكري، وجعلته يصب في خدمة التغريب والوجهة العلمانية.

النموذج الثاني: اللاتوفيقي:

يتبنى أصحاب هذا النموذج موقفًا عدائيًا فجًا من الدين، ويرفعون تبعًا لذلك دعوى التعارض لأقصى حدٍ ممكن، ولا يتبنون من الفكر الغربي إلا ما يعارض الدين، فإن ظهر رمز فكري غربي له رؤى يُشتم منها الاقتراب من الدين هاجموه تبعًا لمهاجمة من ينتمون لهم من الغربيين، لا تظهر عندهم حالة التعارض إشكالًا معرفيًّا يحتاج إلى بحث ومعالجة، وإنما أداة في صراعهم مع الدين، ولهذا نجدهم يركزون على إسرائيليات موجودة في كتب التفسير أو أحاديث موضوعة أو أقوال شاذة أو حتى نصوص من المتشابه الذي حقه الرد إلى المحكم، وفي المقابل يتوسعون في الاغتراف من الثقافة الغربية بما في ذلك ما يُعارض الدين، بحجة أن ما ينتمي إلى الحضارة الغربية فهو ينتمي إلى العلم.

ينتمي مجموعة من أفراد هذا النموذج إلى الاتجاهات اليسارية التي عرفها العالم الإسلامي من خلال الأحزاب الشيوعية وغيرها، ومن لم يكن منتميًا لهم فقد استفاد منهم فيما يتعلق بمعارضة الدين؛ ذلك أن الاتجاهات اليسارية جعلت من أصولها تحطيم الدين، وكوّنت بذلك تراثًا كبيرًا، أصبح كل كاره للدين يغترف منه وإن لم ينتسب إلى هذا التيار، وقد برز الموقف اليساري بعد أن تبنت مجموعة من الأحزاب العربية الاشتراكية وازداد حماسها لغيها مع ظهور الصحوة الإسلامية.

أذكر أربعة أمثلة، أولها ماركسي "د. العظم"، والبقية وإن لم يكونوا كذلك

ص: 1249

فإنهم يُعلنون مواقف شديدة على الطريقة الماركسية، أولهم متعصب للعلمانية ومحارب للموقف الديني "د. زكريا"، والثاني يعطي صورة لأساليب التلاعب دون أن يكون هناك مضمون فكري "د. عيد"، والثالث يمثل المرحلة الأخيرة من الأفكار المتعلمنة تحت شعار الليبرالية "د. النابلسي".

المثال الأول: صاحب دعوى المعارضة المطلقة "الماركسي":

هذا هو حال الماركسيين، ولا شك أن هناك تعارضًا مطلقًا، فلا يوجد أي إمكانية التقاء بين الإلحاد والإيمان، وتبعًا لذلك فهو يذهب بالدعوى إلى أقصى درجات الغلو دون أن يُقدم أي دليل، فيستخدم الألفاظ العامة ويتبنى أفكارًا مريضة ويجعلها دليلًا على التعارض، فإن بحثت عن شيء من العلوم التي معه فلا تجد شيئًا.

يعترض على وجهة النظر "السائدة" التي ترى أن النزاع بين الدين والعلم نزل ظاهري ويرى العكس "إن الدين، كما يدخل في صميم حياتنا وكما يؤثر في تكويننا الفكري والنفسي، يتعارض مع العلم ومع المعرفة العلمية قلبًا وقالبًا، روحًا نصًا"، ثم يتحدث عن الإسلام:"يحوى الدين الإسلامي آراء ومعتقدات تشكل جزءًا لا يتجزأ منه عن نشوء الكون وتركيبه وطبيعته، عن تاريخ الإنسان وأصله وحياته خلال العصور. وليس من الضروري أن نشدد بأن هذه الآراء والمعتقدات تتعارض تعارضًا واضحًا وصارخًا مع معلومتنا العلمية عن هذه المواضيع بالذات"(1)، وهذا النوع يمكن أن نسميه تعارض الموضوعات، وهناك تعارض المنهج الذي يقول عنه:"إن الخلاف والنزاع بينهما يجريان إلى أعمق من ذلك بكثير عندما يمسان مشكلة المنهج الذي يجب اعتماده في الوصول إلى قناعاتنا ومعارفنا في هذه المواضيع المذكورة، والطريق التي يجب أن نسلكها للتيقن من صدق هذه القناعات أو كذبها. إن الإسلام والعلم في هذا الأمر على طرفي نقيض"، فمصدر الأول هو النقل بينما الثاني يعتمد على الملاحظة والاستدلال (2).

ثم يتحدث عن رؤية فيورباخية ماركسية حول الإشكالية فيقول: "هناك تشابه

(1) نقد الفكر الديني، د. صادق العظم ص 15.

(2)

نقد الفكر الديني ص 15 - 16.

ص: 1250

بين الدين والعلم في أن كليهما يحاول أن يفسر الأحداث وأن يحدد الأسباب، إن الدين بديل خيالي عن العلم"، إلى أن قال: "إن محاولة طمس معالم النزاع بين الدين والعلم ليست إلا محاولة يائسة للدفاع عن الدين" (1).

تعطي هذه الشواهد صورة عن التصور الماركسي، وهي تصح لو وضع مكان العلم مصطلح الماركسية، ولاسيّما رؤيتها حول الدين الحق. إن العبارات المستخدمة لتَدُل على ذلك، مثل: يتعارض قلبًا وقالبًا، نصًا وروحًا، ومثل: تعارضًا واضحًا وصارخًا، ومثل: إنهما في طرفي نقيض، ومثل: إنه خيالي. لو كان هذا التعارض بكل هذا الوضوح المزعوم لما رأينا من أصحاب هذه العلوم في الغرب من يرفضه، ويرى بعدم وجود التعارض، ولما رأينا الكثير من عقلاء المسلمين وأذكيائهم قد درسوا هذه العلوم في الغرب، ولم يصلوا إلى ما وصل إليه الماركسي وأمثاله، فكل هذه الجمل من التلاعب اللغوي بالكلمات التي لا حقيقة لها إلا عند من يرى بأن الماركسية هي علمية وحقائقها من الأمور المسلمة.

من الأمثلة التي يكررها المثبتون للتعارض: "وجود الكون ووجود الإنسان"، وهي مثلان أثيران عند أهل هذا الاتجاه، وهما المثلان اللذان تُركز عليهما المادية لإنكار الدين بحجة مخالفته للعلم فيهما، حيث عرف القرن التاسع عشر في أوروبا نجاحًا للتيار المادي الذي أراد إثبات أزلية الكون وأبديته معتمدًا على نظرية "نيوتن"، وأنه يمكن تفسير ميكانيكيته بقوانين تُقْصي حاجة العالم إلى افتراض وجود خالق مدبر وحافظ للكون، وكما يقول "لابلاس":"بأن الله فرضية لست في حاجة إليها"، مع أن "نيوتن" نفسه الذي تعتمد عليه ماديتهم لا يقول بهذا القول، إلا أن الفيزياء الحديثة أصبحت تختلف عن النظرة المادية الميكانيكية للكون، فما بقي يُصرّ على النظرة المادية إلا الماركسيين وأمثالهم.

وبالمثل -فإن مادية القرن التاسع عشر- تعززت بنظرية داروين حول الإنسان، مفترضة أسبقية المادة وأنه بالصدفة ظهرت خلية في طينة ما، وعبر ملايين السنيين تطورت إلى هذا الإنسان العجيب، فمن السخافة جعلها ندًا لما جاء به الدين، لهذا جاء من الدارونيين أنفسهم من أثبت أن الإنسان خلق مستقل

(1) المرجع السابق ص 17.

ص: 1251

أو له وجود مستقل، قد تكون الدارونية القديمة أو المطورة جزء من علم الأحياء الحديث، ولكن هناك في المقابل تيار علمي غير مقرّ بهذه النظرية، فضلًا عن وجود تيار ثالث يرى إمكانية رفع التعارض بين الدين والدارونية. والمقصود هنا بأن من يرى التعارض بين الدين والعلم في وجود الإنسان إنما هم الماديون باعتمادهم على نظرية داروين في صورتها القديمة، ويُغفلون ما سوى ذلك، وهذا ليس لقناعة علمية؛ فإن "العظم" وأمثاله ليسوا من علماء الأحياء حتى نقول بأنه أخذ النظرية عن قناعة، فإذا كان الأمر كذلك فلما يقال بالتعارض مع أن هناك من طورها بحيث تقترب من الدين، وهناك من رأى إمكانية التوفيق بينها وبين الدين، وهناك من يعتقد عدم صحتها ولكنه يعزي المشكلة إلى أن البديل لها هو الاعتراف بالخلق وهذا ما يرفضه العلم بسبب تمكن بعض الملحدين من زمامه (1). يكشف لنا مثل هذا التصرف البعد الأيدلوجي الذي غلب على البعد المعرفي، المادية هنا تطغى على العلمية، فكُره الدين أعمى أبصارهم وجعلهم يتحمسون لكل ما يعارضه.

فمن النوع الأول: ينبه هذا الماركسي بأنه سيتوجه "إلى مثال يبين بجلاء كيف يقودنا البحث العلمي إلى قناعات وتعليلات تتنافى مع المعتقدات الدينية. . . ."، ثم ذكر بأن "القارئ يعرف التعليل الإِسلامي التقليدي لطبيعة الكون ونشأته ومصيره: خلق الله هذا الكون في فترة معينة من الزمن بقوله كن فكان"، ثم ذكر "حادثة طرد آدم وحواء من الجنة"، وذكر أن الله "يتدخل من وقت لآخر في نظام الطبيعة فتكون المعجزات، أما الطبيعة فقد حافظت على سماتها. . . .".

(أما النظرية العلمية حول الموضوع ذاته فلا تعترف بالخلق من لا شيء، ولا تقر بأن الطبيعة كانت من البداية كما هي عليه الآن"، ثم انتقل فجأة ليؤكد هذه النظرة العلمية بما نقله عن فيلسوف ملحد مشهور، فقال: "لقد عبر الفيلسوف والعالم الإنكليزي المعاصر برتراند رسل عن هذه النظرة العلمية في قطعة أدبية جميلة"، ثم ساقها في ما يقرب من صفحة ثم قال: "هذا المقطع الذي كتبه رسل يلخص لنا بكل بساطة النظرة العلمية الطبيعية للقضايا التالية: نشوء الكون وتطوره، نشوء الحياة وتطورها، أصل الإنسان ونشأته وتطوره، نشوء

(1) سبق الحديث عن شيء من ذلك في الفصل الثاني من الباب الثاني ص 1014.

ص: 1252

الديانات والعبادات والطقوس وتطورها، وأخيرًا يشدد على أن النهاية الحتمية لجميع الأشياء هي الفناء والعدم ولا أمل لكائن بعدها بشيء، إنه من السديم إلى السديم يعود" (1)، والنظرة العلمية لا مكان فيها للاعتراف بالغيبيات حتى ولو كان الخالق سبحانه فلا مكان له، وهذا "لابلاس" يقول: "الله فرضية لا حاجة لي بها في نظامي"، وهذا "نيتشه" يعلن موت الإله، وأن الله الذي مات في أوروبا بدأ يحتضر في بقية العالم مع التقدم العلمي (2).

ينعدم إمكانية النقاش الفكري مع مثل هذا الهذيان، ومع مثل هذه المادية الفجة، ولكن يبقى التأكيد على أهمية التفريق بين "الرؤية المادية" وبين "الرؤية العلمية"، فالرؤية العلمية تبقى عند الظواهر، ولكن عندما تتجاوز ذلك إلى إنكار العلل والغايات فهي تتحول إلى "رؤية مادية ملحدة"، وقد وقع بعض العلماء في ذلك، حيث تجاوزوا ميدانهم إلى ميدان ليس من تخصصهم، فجعلوا ما لم يدل عليه العلم غير علمي حتى الغيبيات، ومثل هذا لا يعد تعارضا مع الدين، المعارض للدين هو ما يثبتون وجوده ويثبتون في الوقت نفسه أنه يعارض الدين، وهذا الذي لم يقل به عقلاء العلماء -وهو الذي ينفي وجوده أهل الإِسلام- فهناك طائفة مهمة من العلماء يرون ضحالة الرؤية المادية، كما أن هناك تيارات فكرية وفلسفية تعادي هذه الرؤية المادية، أما أهل الدين الحق فهم ينظرون فيما يثبت من العلم فلم يجدوا شيئًا في العلم يعارض الدين معارضة معتبرة.

ومن النوع الثاني، حول آدم عليه السلام، فيقول:"جاء في القرآن مثلًا أن الله خلق آدم من طين، ثم أمر الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس، مما دعا الله إلى طرده من الجنة. هل تشكل هذه القصة أسطورة أم لا؟ "، إلى أن قال:"إن كانت هذه القصة القرآنية صادقة صدقًا تامًا وتنطبق على واقع الكون وتاريخه "إنها كلام منزل" لابد من القول إنها تتناقض تناقضًا صريحًا مع كل معارفنا العلمية، ولا مهرب عندئذ من الاستنتاج بأن العلم الحديث على ضلال في هذه القصة"(3).

(1) انظر: نقد الفكر الديني ص 18 - 19.

(2)

انظر: المرجع السابق ص 19.

(3)

نقد الفكر الديني ص 25 - 26.

ص: 1253

فانظر إلى هذا الهوس المادي في قوله: "تتناقض تناقضًا صريحًا مع كل معارفنا العلمية" مع أن بعض الدارونيين يرون بأن الإنسان له وجود مستقل، كما أن هناك من العلماء من يعارض هذه النظرية، فضلًا عن وجود الكثير من المفكرين يرفضونها، فأين نجد لقوله:"كل معارفنا العلمية" مكانًا نضعه فيه؟

أما إذا كان مقصده قصة خلق آدم، فإنها أمر لم يكن ليُعلم إلا بخبر الصادق، وهو أمر لم يأت إلا عن طريق النبوات، ولذا فيقال هل يوجد في العلم ما ينفيها؟ أما قولهم إنه لم يدل عليها، فقد سبق بأن عدم دلالة العلم على شيء لا يعني عدم صحته، فإن العلم له حدود من جهة كما أنه يتطور من جهة أخرى، ومع ذلك فإذا جاءنا شيء من الغيبيات ولا يوجد عليه دليل استقرائي أو استنباطي، فإننا نبحث عن صحة الخبر، وخلق آدم عليه السلام مما تواتر ذكره عند أهل النبوات.

والخلاصة أننا مع هذا المثال لا نجد "العلم" حتى نبحث عن حقيقة تَعَارُضه مع الدين وإنما نجد "المذهب المادي"، في صورته الإلحادية الفجة. ولا شك بأن التعارض بين الدين والرؤية المادية الإلحادية قائم إلى أقصى حدوده، بل إن كثيرًا من أهل العلوم يعارضون المذهب المادي إلى أقصى الحدود فمن باب أولى أهل الدين.

المثال الثاني: على دعوى تعارض الإطار والتشريع والتعصب للعلمانية:

يعد الدكتور "فؤاد زكريا"، أحد الرموز الفكرية العربية المعاصرة، وهو من المدافعين بقوة عن العلمانية، والمجادل بقوة للصحوة الإِسلامية حول مشروعها الإِسلامي، وهو ذو صلة بفلسفة العلوم، وله جهود مميزة فيها، إلا أن تعصبه للعلمانية أعماه عن الحق، ومع صلته بالعلم عبر الفلسفة فهو لم يقدم شيئًا حقيقيًا يؤكد إشكالية التعارض بين الدين الحق والعلم الصريح، وتحرك عوضًا عن ذلك في مستوى التعارض بين الإطار الإِسلامي والإطار العلماني، أو في مستوى الجانب العملي والتشريعي.

نجده في المستوى الأول -وفي أثناء خصامه مع الصحوة الإِسلامية- ناقدًا قولها بأن الغرب عرف الصراع بين الدين والعلم فاحتاجت للعلمانية بخلاف الإِسلام، ويردّ بأن ذلك الصراع وقع عندنا أيضًا. ونتوقع أن يذكر شواهد

ص: 1254

صحيحة على تعارض حقيقي بين الإِسلام والعلم وتتفاجأ بتحويله المسار إلى جانب آخر، فيقول بأنه وقع عندنا "تصادم بين الدين والعلم في ظل الحضارة الإِسلامية. فماذا يقول هؤلاء عن المحن التي ألمت بالمعتزلة، وابن رشد، والسهروردي، والحلاج، على سبيل المثال؟ "، ويُعد هذا شاهدًا من القديم، ويضيف شاهدًا معاصرًا فيقول:"ماذا نقول عن الاضطهاد الذي ألحقه رجال الدين، أو مؤسسة الأزهر، بطه حسين، وعلي عبد الرازق، ومحمد أحمد خلف الله، وكثير غيرهم من المفكرين"، ثم قال:"قد يقال إن الحالات السابقة تتعلق بشخصيات كانت تتحدى مبادئ دينية أساسية، وكان الصدام معها محتومًا. ومع عدم اعترافنا بصحة هذا الدفاع، فإنا سنجد الوضع مماثلًا في تعامل رجال الدين الإِسلامي مع كثير من النظريات العلمية والفكرية الحديثة. فما زال دارون وفرويد حتى اليوم موضوعين في القائمة السوداء، لدى جميع المفكرين الإِسلاميين، ولاسيّما رجال الدين منهم، وما تزال تعاليمهما ونظرياتهما تُلعن كل صباح ومساء على أيدي أشخاص لم يقرؤوا عنهما إلا ما كتبه شركاؤهم في الفكر. بل مجرد الإشارة إلى اسميهما، ومعهما اسم ماركس بالطبع، يُعد من المحرمات في أكثر البلاد تمسكًا بالتعاليم الشكلية للإسلام"(1)، وأقف مع هذا النص:

1 -

كنا نتوقع أنه سيذكر أمثلة على التصادم بين "الدين والعلم" فهذا هو ينقلنا إلى صراعات اجتماعية وسياسية وفكرية لا علاقة لها بميدان العلم، وكان الأولى الوقوف مع الدعوى دون الالتفاف عليها، فقد وجدنا أنفسنا أمام أسماء أشخاص وليس أمام علوم ونظريات حقائق. كان الصراع في أوروبا واضحًا في ميدان العلم قبل طرح العلمانية، بين دين محرف وعلوم جديدة، فهي نظرية علمية تنتمي للعلم سواء كانت صحيحة أو خاطئة أو مجرد إجراء نظري، المهم أنها تنتمي لميدان العلم، وهذا لا نجده في الأمثلة التي ذكرها من العالم الإِسلامي، فلا أحد ينتمي إلى العلوم الرياضية الاستنباطية أو العلوم الطبيعية التجريبية وإنما هي أسماء في ميدان الفلسفات والأفكار.

كما أن الأسماء العربية المعاصرة لا يُسلم له بحصول اضطهاد في حقهم،

(1) الصحوة الإِسلامية في ميزان العقل، د. فؤاد زكريا ص 67.

ص: 1255

إذا توحي العبارة بصنوف التعذيب والحرمان والسجن والقتل والوحشية التي عرفتها أوروبا، بينما هو نزاع فكري على الصحف، وفي الحياة الثقافية مما يوجد في كل مكان. أيضًا أين هو الاضطهاد مع تلك المكاسب الكبيرة التي حصل عليها هؤلاء والمناصب العالية التي ارتقوها؟

2 -

أما الاتهام بوجود تصادم بين الدين والعلم بسبب الموقف السلبي للمفكرين الإِسلاميين مع دارون وفرويد وماركس والتعامل السلبي لرجال الدين الإِسلامي "مع كثير من النظريات العلمية والفكرية الحديثة"، فإن هذا الموقف السلبي لا علاقة له بموضوع العلاقة بين الدين والعلم، فهو صراع على مستوى الأفكار وليس على مستوى العلم، فإن "دارون وفرويد وماركس" ليسوا هم العلم، وإنْ انتمى نشاط بعضهم إلى العلم، فليس من واجب المسلمين إدخال كل ما صادفوه من الأفكار والعلوم أو التوافق معها، قد يصح هذا في أمة لا دين لها ولا تاريخ لها ولا هوية لها، وقد يصح في أمه لا يوجد لديها ما تزن به ما حولها. فليس كل ما ظهر في الغرب يجب علينا اتباعه -حتى وإن انتمى لمجال العلم- إلا بعد تمحيصه والتأكد من حاجتنا إليه، وعند الصحوة الإِسلامية -التي يخاصمها الكاتب- من المتخصصين في العلوم ما يؤهلها لإبداء الرأي في "فرويد" و"ماركس" وغيرهم، كما أن الأمة الإِسلامية عمومًا فيها من أهل العلوم ما يؤهلهم لبيان المناسب من غير المناسب، وليست خصومتهم مع أفكار "ماركس" و"فرويد" خصومة مع العلم وإنما مع موقفهما الإلحادي، فإنهم يرون بأن نشاطهما العلمي يصل لنتائج غير علمية مثل قولهما بأن الدينَ وهمٌ وخرافة وخطر على البشرية، ثم تبحث عن سند علمي لدعواهما فلا تجد، عندها تعلم بعدها عن العلم. فمن الطبيعي أن يقع التصادم والتعارض بين الفكر الإِسلامي والفكر الماركسي مثلًا، ولكن هذا لا يُعد من التعارض بين الدين والعلم.

ننتقل إلى مستوى آخر -الثاني- من التعارض يدّعيه الكاتب بين الدين والعلم، وهو التعارض العملي فيقول: "قد يقال أيضًا إن تلك النظريات كانت تنطوي على نتائج تهدد القيم تهديدًا خطيرًا، ولكن، حتى لو صح هذا الدفاع، فماذا نقول عن كشوف علمية محايدة لم تكن تستهدف المساس بالدين من قريب أو بعيد، كالهندسة الوراثية وأطفال الأنابيب؟ إن أمثال هذه الكشوف ما زالت تحتاج إلى مباركة هيئات دينية عليا قبل أن تصبح مشروعة في المجتمع

ص: 1256

الإِسلامي. . . ." (1)، فتحمس الكاتب للعلمانية جعله ينفر من كل إطار إسلامي لحياة المسلمين، فإنه في كل مكان لابد من إطار، وكل المجتمعات البشرية لا تعيش دون قيم وثقافة ونظام وأخلاقيات وتشريعات تحيط أي نشاط له صلة بالمجتمع، فهناك فرق بين الجانب العلمي وتطبيقاته، والأمران يحاطان بالتوجيه في الإطار الإِسلامي، فرائد المسلم وموجّهه هو الدين، وهو لا يجد نفسه إلا في البحث عن حكم الله سبحانه والامتثال له. فهذا النوع لا يدخل في باب التعارض بين الدين والعلم، وإنما هو في حاجة إلى تشريع، وشريعتنا هي الإِسلام، فما كان موافقا للإسلام قبلناه وما كان مخالفًا لأوامره ونواهيه من التطبيقات لم نقبل به ويصبح معارضًا للشرع، فليس كل ما صح في العلم تقبله الأمم والثقافات والشرائع فما بالك بشريعة الإِسلام الخاتمة، عندها لا يكون حرص المسلمين على الحكم الشرعي من المعارضة للعلم، وإنما هي من باب البحث عن موافقته للشرع، فالعلم هنا صحيحٌ من وجه، ولا ينكر الدين قيامه وتحققه، ولكن ليس كل صحيحٌ بجائز أو نافع؛ لوجود جوانب أخرى تكتمل الصورة بها، فإن الجوانب العملية قد يصح وجهها المادي ولكن لا يصح وجهها الإنساني، كما سبق بيان ذلك في الفصل الثالث من الباب الثاني.

لقد كشف لنا هذا المفكر عن نوعين من دعوى التصادم والتعارض لا حقيقة لهما، حيث جعل التصادم بين الدين والأفكار هو من التصادم بين الدين والعلم، وليس الأمر كذلك، وفي المثال الثاني جعل التطبيقات العملية هي دليل على التصادم، ولا أدري كيف لمفكر مشهور أن يقول بمثل هذا القول وهو يعلم أنه حتى في البلاد العلمانية عندما يراد تطبيق بعض الاكتشافات العلمية فلابد من تشريع لذلك.

المثال الثالث: مثال على أساليب التلاعب بدعوى التعارض:

تفاجئك بعض دور النشر التغريبية بإخراجها مجموعة من الكتب في طباعة فاخرة ذات مضمون ومحتوى سقيم، ومن ذلك ما تخرجه دار "الطليعة" للدكتور "عبد الرزاق عيد". أقف مع أحد كتبه (2) حيث أظهرَ فيه دعوى التعارض ودافع

(1) الصحوة الإِسلامية في ميزان العقل ص 68.

(2)

بعنوان: (سدنة هياكل الوهم/ نقد العقل الفقهي (يوسف القرضاوي بين التسامح والإرهاب)، د. عبد الرزاق عيد).

ص: 1257

فيه وبقوة على العلمانية، فهو كاتب عنده قدرة على التطويل دون أن يأتي ببينة على دعواه سوى تشكيل الألفاظ بصور مختلفة، فقد خصّ الشيخ "يوسف القرضاوي" بكتاب وجعل نقده ستارًا للدعوة إلى العلمانية. تكلم في القسم الثالث منه على دعوى التعارض، ومن ذلك قوله:"ومن ثمّ فإن أخطر الجهالات إنما تتم باسم العقل والعلم، وأكبر دلائل هذا الجهل المقنّع بالعلم، حديث الشيخ عن عدم التعارض بين "حقائق العلم وقواطع الإِسلام، فلا مجال للصراع بينهما كما حدث في ظل أديان أخرى، فالدين عندنا علم، والعلم عندنا دين". إن فكرة عدم التعارض بين الدين والعلم التي طالما يرددّها العقل الفقهي بطمأنينة تدعو للدهشة، وكأنهم يكفي أن يقولوا ذلك حتى تكون الأمور كذلك، كأوليات التفكير السحري، القائم على الحقيقة الكامنة في الكلمات وليس في الواقع. . . ."(1).

نتوقع أن نجد بعد هذا النص الساخن إشكاليات حقيقية مستعصية على الجميع، ومنذرة بتعارض لا حلّ له، وصعوبات تزلزل مقولة الشيخ القرضاوي، ثم نبحث في كل القسم المخصص للموضوع فلا نجد إلا كلمات وجمل مزعجة لا تسمن ولا تغني من جوع، كلها استهزاء وسخرية، ثم تبحث خلفها عن قضايا فكرية جوهرية تستحق النقاش فلا تجد، بل تجد مع السخرية شيئًا من الكذب الذي لا يشك فيه عاقل (2).

يعود بعد صفحات من السباب والشتائم فيقول: "والعجب أن الفقهاء سُعاة بريد السماء من مديري المقدس، لا يفتأون يرددون في كل مناسبة أن الإِسلام لا يتناقض مع العلم، مضيفين عبارة "كما حدث في ظل الأديان الأخرى" بحسب تعبير الشيخ"(3). ونتوقع أن نجد بعد هذا النص أيضًا شيئًا ذا بال التي سيوردها كدلائل، فلا نجد إلا كلامًا قد سبق وقاله في الصفحات السابقة، ثم بعد عدد من المقاطع يتفضل علينا بمثال دليلًا على دعوى التعارض: "أعني قصة نشأة

(1) المرجع السابق سدنة هياكل الوهم ص 233.

(2)

وكمثال ادعاءه بتجويز الشيخ البوطي للأفلام الإباحية على اعتبارها لأجساد صليبية ص 234، ومع أنه قد خصص أحد كتبه في نقد البوطي (سدنة هياكل الوهم: نقد العقل الفقهي "البوطي نموذجًا")، وتوقعتُ أن أجد هذا النص موثقًا فيه، فلم أجده.

(3)

المرجع السابق ص 236.

ص: 1258

الكون. فكلها -الديانات- تتفق حول أن بداية نشأة البشر كانت مع آدم وحواء، ومن ثم فإن عمران الأرض كان نتاج خطيئة آدم وطرده من الجنة، وأن البشرية بكاملها تدفع ضريبة خطيئة آدم هذه التي أغوته بها زوجه حواء، فكانت رفيقته في اللعنة" (1)، هكذا يقول بمثل هذه السخرية والاستخفاف بآدم وحواء عليهما السلام، فكيف بما هو دون ذلك.

وبعد هذه الفجاجة عاد بعد جولة من الكلام ليتساءل: "أليس جميع الديانات قد رفضت نظرية داروين مثلًا؟ هل الإِسلام الذي لا يرى تعارضًا بين العلم والدين "كما حدث في الأديان الأخرى" على حد زعم القرضاوي، أخذ موقفا خاصًا .. واعترف بنظرية داروين. . . ."(2)، وكأن شرط إثبات صحة الإِسلام مرتبط بقبولنا لنظرية "داروين"، في حرص منه على الخلط بين الأمور، فهؤلاء لا يفرقون بين الأمور المختلفة، فإن الإِسلام إذا وجد حقائق أثبتها العلم وتأكد منها العالَم فلن تجده رافضًا لصحته؛ لأن الإِسلام أوجب على أتباعه الاعتراف بالصواب مهما كان، ونظرية "داروين" ليست من الحقائق التي تجبرنا على التوفيق والتسليم بها.

يفضل الكاتب موقف النصرانية عندما انسحبت وتركت العلم، وما مارسته من المكر والدهاء أمام أعنف الأفكار، مثل ما عبر عنه "نيتشه":"بموت الله" بأن الذي مات هو إله الفلاسفة التجريدي، "فلم تشأ الكنيسة أمام الحقائق العلمية الجبارة في شتى حيزات الوجود الطبيعي والإنساني أن تعود للتشدق بفتاوى قروسطية في رفض هذا وإدانة ذاك، وتكفير خيرة ما أنجبه العقل البشري في القرون الأخيرة كما يفعل مشايخنا الإجلاء. ."(3)، وإلى الآن تتواصل الألعاب الكلامية دون أن نجد خلفها أي قضايا تستحق التوقف باستثناء هذا الغلو العلماني الذي لم يتقبله حتى اليهود والنصارى، ثم أتحفنا بعد هذا الهجاء بدليل للدعوى، حيث قام بنقل صفحات من كتاب "صادق العظم":"نقد الفكر الديني" دليلًا على صحة دعواه، فأصبحت كل هذه المقدمات الكلامية من أجل نقل

(1) سدنة هياكل الوهم ص 237، ولفظة (الديانات) المعترضة من الباحث، وهي مأخوذة من سياق كلامه.

(2)

المرجع السابق سدنة هياكل الوهم ص 238.

(3)

المرجع السابق ص 239.

ص: 1259

بعض صفحات كتاب العظم، التي هي في النهاية مقولات ماركسية لا علاقة لها بميدان العلم. ومع ما تلقاه الماركسية من نقدٍ حتى من قبل الماركسيين المتحولين، وعدم القبول للتيار الماركسي في تيارات التغريب الغربي، إلا أن مسألة الطعن في الدين التي قام بها الماركسيون تلقى رواجًا عند المتغربين المعاصرين، وهذا النموذج يتكرر بكثرة، أي النموذج الشتائمي الذي يُكثر من ادعاءات التعارض بين الدين والعلم ثم يُحيلك في النهاية إلى مقولات ماركسية على أنها هي العلم.

المثال الرابع: المثال الليبرالي:

كان المصطلح الغالب في وصف المتغربين في النصف الثاني من الرابع عشر/ العشرين: اليسار والحداثة والقومية، ولكن مع انحسار اليسار في العالم، ولاسيّما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي طفح على السطح مصطلح الليبرالية ليأخذ بمجموعة من المفكرين القدامى فضلًا من استئثاره بالشباب الجدد. ويبرز الدكتور "شاكر النابلسي"، كأحد المنافحين عن الليبرالية والمهتمين بعلمنة المجتمع، أكتفي من هذا المفكر بما أثاره في موضوع دعوى التعارض.

ففي أثناء حديثه عن رؤية ما يسميه باليمين العربي عن العلمانية، وسبب رفضهم لها بأنها نُقلت إلينا ملتبسة بمشاكل غربية لا علاقة لنا بها، والمشكلة هنا بأن الغربي يرى الدين والعلم متضادين متعارضين، بينما وبحسب رأي أهل اليمين فإنهم لا يرون تضادهما ولا اختلافهما، فلماذا تُنقل إلينا بهذه الإشكالية؟.

فجاء "النابلسي" مدافعًا عن صحة رؤية الغربي في دعوى التعارض قائلًا: "ولكن ما تفسير الشواهد الآتية في العالم الغربي المسيحي وفي العالم الإِسلامي، التي تشير كلها إلى تعارض الدين مع العلم وتضاد الدين للعلم. وأن كل واحد منهما يسعى لإلغاء الآخر. . . ."(1)، وعندما نبحث عن الشواهد إذا بها الشواهد نفسها التي يكررها أغلبهم، لا جديد فيها، ولا علاقة لها بالعلم، ولا صحة لكونها شواهد على دعوى التعارض، يقذف أحدهم بالدعوى ثم يعيد تكرير الشواهد التي يذكرونها في العادة، وسأذكر بعض ما قاله:

(1) الفكر العربي في القرن العشرين، شاكر النابلسي 2/ 210.

ص: 1260

1 -

لماذا قتْل أو طرْد أو تشريد عشرات المفكرين والفلاسفة في تاريخ المسلمين لولا التعارض بين رجال الدين ورجال العلم (1).

2 -

لماذا ترفض الماركسية التي هي بحسب قوله: "تُشكل علميًا نصف التاريخ الحديث الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للبشرية"، فهذا عنده من التعارض بين رجال الدين والعلم (2).

3 -

"لماذا ما زال تطبيق المناهج العلمية الغربية المختلفة على التاريخ الإِسلامي وشواهده وآلياته وكيفية كتابته ومصادره وإخضاع هذا التاريخ للحفر والتفكيك والتأويل والتفسير على ضوء النظريات الإبستمولوجية "المعرفية" الحديثة غير مرغوب فيه وممنوع. . . ."(3).

وفي باب النظريات العلمية يقول:

1 -

"لماذا ما زالت بعض المدارس والمعاهد العلمية التي تشرف عليها الكنيسة حتى الآن في الغرب، وخاصة في أمريكا، تمنع تدريس كافة النظريات العلمية التي فيها رائحة معارضة لتعاليم الدين وخاصة ونظرية التطور لداروين. . . .؟ "(4).

2 -

"لماذا ما زالت كثير من المدارس في أنحاء مختلفة من العالم العربي تُحرّم وتمنع الكثير من النظريات العلمية التي تعارض نظرية الخلق والتطور التي جاءت في القرآن وعلى رأسها نظرية التطور والنشوء ونظريات فرويد في علم النفس. . . ."(5).

وفي باب المعارضة الشرعية يقول:

1 -

لماذا يمنع تدريس علم الجنس لولا التعرض بين رجال الدين ورجال العلم (6).

(1) انظر: الفكر العربي في القرن العشرين 2/ 218.

(2)

انظر: المرجع السابق 2/ 226.

(3)

المرجع السابق 2/ 218.

(4)

المرجع السابق 2/ 210.

(5)

الفكر العربي في القرن العشرين 2/ 210 - 211.

(6)

انظر: المرجع السابق 2/ 216.

ص: 1261

2 -

لماذا تمنع المرأة من تخصصها في الأمراض التناسلية للرجال ما دامت هذه رغبتها لولا التعارض (1).

هذه أهم الشواهد التي قدمها الكاتب دليلًا على تعارض الدين والعلم، ومن ثم خطأ من قال بعدم وجود التعارض، ويتضح أن متقدمهم ومتأخرهم يكرر الشواهد نفسها بنصّها أو بمعناها أو بنوعها، وأن المقصود الدفاع عن العلمانية وليس البحث عن الحقيقة، ولا يفرقون بين التعارض المعتبر والتعارض الأيدلوجي، والثاني غالب على شواهدهم، وهو تعارض غير معتبر؛ لأنه تعارض غير صحيح، ونحن إنما نتكلم على وجود تعارض حقيقي بين الدين والعلم بالشروط المعتبرة عند العقلاء.

والكاتب هنا لا يعيد التعارض إلى مشكلة بين الدين والعلم، وإنما إلى مشكلة بين رجال الدين ورجال العلم، ورغم أنه يضعها بين رجال المجالين إلا أن الشواهد والسياق يجعلها بسبب من يسميهم رجال الدين، فهم سبب إشكاليه التعارض "ونحن نقول هنا رجال الدين، وليس الدين نفسه لأن رجال الدين بفقههم وتفسيراتهم وتحليلاتهم وبإسقاطاتهم الشخصية الخاصة هم الذين في النهاية يحرمون ويحللون الكثير من المحرمات ويحرمون الكثير من المحللات"(2)، فإذا رجعنا إلى الشواهد السابقة نجد فيها:

1 -

التضليل، فقد يشعر القارئ مع الشاهد الأول بأن هناك مجزرة تاريخية ارتكبت في حق العلماء من قبل رجال الدين كما حدث في أوروبا في الصراع بين الكنيسة والعلم، وإن حدث شيء من العقوبة أو الاعتداء على أحد فليس ذلك بسبب ما عنده من علم.

2 -

الخلط بين العلم والمذاهب الفكرية، فالماركسية مثلًا أو بعض المناهج الفلسفية التي عرفها الفكر الغربي لا تُعد هي العلم، فالعلم له موضوعاته وله مناهجه، وللفلسفة موضوعاتها ومناهجها، فالرؤية الماركسية حول الدين لا يمكن قبولها مطلقًا ولا علاقة لها بالعلم، كما أن المناهج التاريخية التي تحوّل الإِسلام إلى "ظاهرة تاريخية" لا علاقة لها بالسماء والملائكة والوحي والنبوة

(1) انظر: المرجع السابق 2/ 217.

(2)

المرجع السابق 2/ 211.

ص: 1262

الرسالة لا يمكن قبولها مطلقًا ولا علاقة لها بالعلم. إن ما يدعيه الكاتب هو تعارض حقيقي ولكنه ليس بين الدين والعلم وإنما بين الدين والإلحاد. أما بقايا الأفكار الماركسية التي لا علاقة لها بالدين أو المناهج المعرفية غير الأيدلوجية، فهي كغيرها من المعارف، تقبل الصواب والخطأ وليست هي مما يبحث هنا.

3 -

يكرر هؤلاء في العادة نظرية "داروين" أو "ماركس" أو "فرويد"، وقد سبق الكلام عليها، ولكن هنا لفتة ذكرها الكاتب، فإن الغرب وإن منعها في بعض مدارسه لم يمنع ذلك من تقدمه؛ لأن التقدم المادي والمعرفي لا يرتبط بنظرية "داروين" أو "فرويد"، ولذا يكون الامتناع أحيانًا عن الشيء؛ لعدم وجود فائدة له أو لعدم تحوله إلى حقيقة علمية، فنظرية "فرويد" خالفها مجموعة من الفرويديين، فما بالك بمدارس أخرى لعلم النفس، وبما أننا أمة مستهلكة للمعرفة، فلماذا نأخذ كل شيء؟ لماذا لا نكتفي بما تحققت صحته وبانت منفعته؟ فضلًا عن أن نرفع ذلك إلى موقع الحقائق الكبرى التي تجد ما يؤهلها لمعارضة الدين!

4 -

نجد في النموذج الأخير "تدريس الجنس أو دراسته" موضوعًا لا علاقة له بالتعارض بين الدين والعلم، فالدين هنا لا يعارضها بمعنى إلغاء حقائقها وإنما يوجه الدين إلى أولى الصور بتعلمها وتعليمها، بينما الكاتب هنا يدخل أمورًا -كغيره- لا علاقة لها بمفهوم التعارض الذي يُبرز كإشكالية في المجال الثقافي. فلا يوجد أحد يقول إن هذه المعلومات غير صحيحة، ولكن ما الضوابط لنشرها في المجتمع؟ وكيف يكون ذلك؟ وهي مسألة تختلف كما سبق في الأمثلة السابقة عن دعوى التعارض.

جاء التنويع في الأمثلة؛ لأن كل مدعي للتعارض يبرز الدعوى في سياق، ثم يركز على جانب من الجوانب في دعواه، بينما الآخر يركز على جانب آخر، وثالث يركز على جانب ثالث وهكذا، وإن كانت في نهاية الأمر وعبر تحليلها تعود إلى شواهد محدودة يغلب عليها سياسة التعميم أو الإجمال أو التلبيس، وما قدموه من شواهد في باب العلم قليل، وهو مع ذلك ليس من الحقائق القطعية، وليس مما يترتب عليه تخلّف أمتنا وضعفها. فلماذا يحرص هؤلاء على ما يعارض الدين، ويرون أنه سبيل تقدمنا؟ بينما المجال واسع في العلوم النافعة والصحيحة والمقطوع بصوابها! لماذا لم تتوجه هممهم إلى تصفية الوافد ونقد ما يصطدم بديننا منه؟ لولا

ص: 1263

هواهم فيما يُعارض الدين وتأثرهم بمذاهب غربية لا تبالي بالدين!

أليس من المفترض من هؤلاء المطلعين على الأفكار الحديثة والعلوم العصرية وفلسفاتها أن يختاروا لأمتهم: أزكاها وأنفعها وأصوبها، بدل تهافتهم على الظنيات أو على فلسفات لا علاقة لها بالعلم، أو هي مما ينطبق على أديان باطلة وليس على الدين الحق، أو على أفكار مريضة معادية للدين؟ لماذا كل هذا الإصرار على نظريات معينة هي مجال اعتراض حتى داخل ميدان العلم ذاته؟ إن هذه الأسئلة تأتي بحق بعد أن رأينا بأن ما يقدمونه من شواهد على التعارض لا يدل على إشكال معرفي واشتباه منهجي، وإنما عن هوى أو أيديولوجيا قبيحة وصريحة.

المثال الخامس:

لم يسلم مجال علمي أو فكري دخله المتغربون من إثارة التعارض بين الدين والعلم الحديث، مستندين في ذلك إلى نظريات العلم، وقد يصرحون بذلك وقد يفعلون ما هو أخطر من بثّ السمّ دون تصريح، ومن ذلك هذا المثال: فقد أخرج لويس عوض كتابًا حول فقه اللغة العربية بعنوان "مقدمة في فقه اللغة العربية"، واعتمد فيه كثيرًا على بحوث المستشرقين التي تعاملت مع اللغة العربية غالبًا بانتقاص واضح، وما يهمنا هنا هو ذكر إقحام مشكلة التعارض في باب بعيد عن مشكلة العلاقة بين الدين والعلم، ففي حديثه عن نشأة اللغة العربية مرّ بمسألة ذات علاقة بالموضوع حول إنكار أن تكون أرض اليمن قد عرفت الخصوبة في يوم من الأيام، وانتقل إلى نظريات جيولوجية تثبت وجهة نظره، مع أنه يوجد رأي جيولوجي آخر يثبت مرور أرض اليمن في مرحلة قديمة بخصوبة، وهذا ما نجده من حديث القرآن حول أرض سبأ وما كان فيها من خصوبة، وهو يعترض على القول الثاني ويؤيد الأول، ولا شك أن في هذا نوع من إبداء رأي يخالف ما ورد في القرآن، مع أنها مسألة تحتاج حتى عند القول بالخصوبة لتفسير شرعي يعطي نوعًا من التوضيح عن حدود تلك الخصوبة، وليس هذا مجال بحثها، وإنما المقصود كيف أنه تثار مثل هذه المعارضات للوحي باسم العلم في كل فرصة يجدونها (1).

(1) انظر كلامه ص 39 من كتابه: مقدمة في فقه اللغة العربية، وانظر: بعض مناقشات =

ص: 1264

وفي النهاية يمكن القول أن دعوى التعارض هي أكبر دعوى تاريخية عرفها الفكر البشري، وأن هذه الدعوى تظهر بأشكال مختلفة، وهي دعوى عندما تقام ضدّ الدين الحق ذات نسب بدعوى إبليس عندما امتنع عن السجود مدعيًا التعارض فقال:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12](1)، وما كان من هذا النوع فهو قابل للتجدد ما بقي إبليس، وهو باق إلى قيام الساعة. ومع ذلك فقد يلتبس الأمر على بعض الناس، وعلاج ذلك يكون بالعلم القطعي.

وبعد أن عُرض معنى التعارض وصوره وطرق الناس في التعامل معه، وصور تعامل المتغربين معه، ينتقل البحث إلى دعوى ثالثة حول العلاقة بين الدين والعلم، وهي: دعوى كفاية العلم الحديث لحاجة الإنسان وشموليته بدلًا عن الدين.

= المخالفين له، نفس الكتاب ص 19 - 20، وقد تكونت لجنة وقت طباعة الكتاب ومنعته من التوزيع لما فيه من أخطاء دينية وعلمية، ومن بين الدراسات الموسعة في نقد لويس ما أخرجه محمود شاكر رحمه الله، بعنوان: أباطيل وأسمار.

(1)

انظر: الصواعق المرسلة .. ، لابن القيم 3/ 998، بتحقيق د. علي الدخيل الله.

ص: 1265