الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العملية على العقل ثم تحولت إلى العلم، فالعلمانية هي رؤية للحياة مغايرة للرؤية الدينية، وبما أن الحياة هي الحركة والعمل والقول؛ فقد قامت العلمانية بإقصاء الدين وكل تنظيماته للحياة، وفتحت الباب للعقول لتُشرّع لهذه الحياة، وقد كان هذا سائدًا في دعوات العلمانيين في عصر التنوير، ثم تحول في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر للوضعية التي تعني في جانب منها العلمية، فقيل: إن الدور يكون هنا للعلم، والعلم هنا هو العلوم الاجتماعية المعلمنة، وقد برز ذلك مع منتصف القرن الثالث عشر / التاسع عشر وهو السائد إلى الآن، وهناك جهود لترسيخ علمية الاجتماعيات وتأكيد السير في علميتها، وهو جهد حسن؛ لأنها من وجهة نظر إسلامية لو سارت السير الصحيح لاتفقت نتائجها مع الدين؛ لأن الحق في الخبريات والطلبيات واحد، ولكن هذه العلوم تأثرت كثيرًا بمشكلة العلمنة، مما جعلها تهرب من الدين وتنفر منه وترفضه كمصدر للمعرفة وتحيل البشر للمجهول، وهذا أكبر عائق للعلمية وأكبر مفسد لها.
ومن الملاحظ وجود فرق غريب بين الأمر في الغرب وبين المتغربين؛ ففي الغرب نشاط علمي دنيوي لاهث لا يقف، ويريد بعض أهله تأسيس حياتهم على هذا العلم بعد أن فقدوا ثقتهم في الدين، ولكن هذا غير موجود في المتغربين، فما عندهم هو محض التقليد، فأغلب من عُرف عنهم العناية بالعلم الحديث من المسلمين لم يعرف عنهم حرص على التغريب وعلمنة العلم واصطناع عداوة بين الدين والعلم الحديث، بخلاف البعيدين عن العلم والمنشغلين بالفلسفة والآداب والفنون، فتجدهم أحرص على العلمنة دون أن يكون فيهم علماء في العلوم البشرية في الغالب.
الأصل الرابع: النسبية:
تأتي النسبية ضمن الأصول الموجهة لهذا الميدان، وهي تأتي كنتيجة منطقية لعلمنة الحياة العملية وفصلها عن أي مصدر كامل وثابت، وتأتي كنتيجة منطقية أيضًا لتحويل الجانب العملي الديني إلى ظواهر اجتماعية يصدق فيها ما يصدق في كل الظواهر الاجتماعية، فهي ظواهر كما يقولون أنتجها الإنسان أو المجتمع أو الطبيعة، إنها عندهم من الأرض وليست من رب العالمين، دون تفريق بين أديان الباطل ودين الحق، وهنا تصبح النسبية مفهومًا متوافقًا مع أرضيّة الظواهر وعلمنة العمل.
ولا شك أن النسبية العملية قد تعززت بنظرية النسبية الفيزيائية، فإذا كانت الظواهر المادية ذات مظهر نسبي بوجهٍ ما؛ فمن باب أولى الظواهر الاجتماعية العملية، وإن كان القول بالنسبية أقدم من نظرية النسبية الفيزيائية المعاصرة بكثير. وللنسبية حضور قوي في الفكر الغربي مصدر المتغربين، وكما يقول خليل أحمد:"تهيمن النسبوية على عصرنا وتفعل في الفلسفة الحديثة كـ"وسواس خناس" يوسوس في عقول الغربيين: "موت الإله"، "موت الإنسان"، "موت الفن"،. . . ."(1)، فما المقصود بها؟
"النسبية مذهب من يقرر أن كل معرفة "أو كل معرفة إنسانية" فهي نسبية. والنسبية الأخلاقية. . . . مذهب من يقرر أن فكرة الخير والشر تتغير بتغير الزمان والمكان، من غير أن يكون هذا التغير مصحوبًا بتقدم معين"(2).
وهناك "نسبية المعرفة"، ومن معانيها:"أن المعرفة الإنسانية نسبة بين الذات العارفة والموضوع المعروف، وأن العقل الإنساني لا يحيط بكل شيء، وإذا أحاط ببعض جوانب الأشياء صبها في قوالبه الخاصة"(3)، وخلاصتها:"ترجع إلى القول أن العقل لا يستطيع أن يعرف كل شيء، فإذا عرف بعض الأشياء لم يستطع أن يحيط بها إحاطة تامة. وما من فكرة في العقل إلا كان إدراكها تابعًا لمعارضتها بفكرة سابقة مختلفة عنها أو شبيهة بها"(4).
تتجه فلسفة العلم المعاصرة لتأكيد نسبية المعرفة في باب العلوم الطبيعية وإن كان ضمن معنى ضيق ليس هو ما يتبادر لأصحاب المعرفة العامة، ومع ذلك فلها أبعادها في بقية العلوم والأفكار والأيديولوجيات. وفي الغالب أن صاحب المنظور الإِسلامي يتفق مع هذا الموقف النسبوي، ويراه صحيحًا ما دام الأمر يتعلق بما يتصوره البشر عن العالم من حولهم وما يقومون به من عمل وفق مبادئهم وقيمهم التي يتفقون عليها بعيدًا عن المصدر السماوي، فمهما بلغت عقلية الفكرة وعلميتها فهي محكومة بحدود البشر، ولذا تبقى
(1) مفاتيح العلوم الإنسانية، د. خليل أحمد ص 431.
(2)
المعجم الفلسفي، د. جميل صليبا 2/ 466.
(3)
المرجع السابق 2/ 466.
(4)
المرجع السابق 2/ 467.
معرفتهم مهما بلغت معرفةً نسبيةً ما لم تهتد بهدي الوحي وما لم تستنير بنوره.
وقد عرض "سالم يفوت" مجموعة مؤلفات جديدة في فلسفة العلم ثم قال: "فقد أكد هؤلاء، رغم اختلافهم، أن الحقيقة العلمية ليست حقيقة إلا بالنظر إلى المعايير والمواثيق التي ولّدتها، والتي هي معايير ومواثيق تحكم النظرة العلمية للفترة أو العصر، وتجعل العالم خاضعًا لقوانين وضوابط، على ضوئها يمنح الاكتشاف أو التجديد مشروعيته أو صلاحيته، شريطة أن ينصب في القنوات المعتمدة والمتبعة، وألا يناقض البنية العلمية السائدة والرسمية. وأكدوا كذلك أن تاريخ الأفكار العلمية يحكمه جدل التقدم والنفي، فتقدمه يتم عبر مراجعات وإعادة سبك، ومقاطعة مع الماضي أحيانًا والتخلي عنه. فتاريخ العلم هو تاريخ العقلانية المتزايدة باستمرار، أو تاريخ غزو المعقول للامعقول. وبهذا المعنى أمكن الحديث عن نسبية الحقيقة العلمية وتبعيتها لدرجة المعقولية التي يبلغها العلم، والتي ما يلبث أن يتنكر لها ليحيلها إلى لا معقولية"(1)، فهذا المعنى الذي تؤكده فلسفة العلم المعاصرة ويأخذ به يفوت صحيح في الجملة ما دامت تلك المعرفة لا تجد ركنًا تستند إليه، وهي أكثر وضوحًا في الجوانب الغيبية التي يكون الحديث عنها غالبًا من رجم الغيب، وفي الجوانب العملية؛ لأن حياة الإنسان أعقد بكثير من الجوانب الطبيعية، فإذا أمكن القول بوجود نسبية من نوعٍ ما في الطبيعة الجامدة، وهي التي يُظَن تيسر الإمساك بحقيقتها، فإنها في جانب حياة الإنسان ومصالحه التي تجلب له، والمفاسد التي تدفع عنه تكون أكثر صعوبة على العقل الإنساني، ومن هنا حاجة البشر لشريعة الرحمن الرحيم العليم الحكيم سبحانه.
ومن بين الأمثلة التي تؤصل لهذا المبدأ ما نجده في دراسة اجتماعية لميدان الأخلاق، يعرض صاحبها لقواعد أساسية يفرضها المنهج العلمي لدراسة الظواهر الخلقية، وذكر قاعدة النسبية:"قاعدة الإيمان بالحقيقة النسبية " Relativity" حيث إن موجودات العالم التي تحيط بنا هي "أشياء موضوعية"، أما ما نتصوره أو ما نتمثله فهو "تصورات" أو "أشياء ذاتية" ولا ينبغي إطلاقًا أن
(1) الموسوعة الفلسفية العربية 2/ 1329، مادة (النسبية) لسالم يفوت.
نفرض ما "نتصوره" على موجودات موضوعية، وإنما يكون التوازن الحقيقي بين العقل والوجود، هو في محاولة إخضاع ما هو "ذاتي" إلى ما هو "موضوعي".
حيث ترتبط تصوراتنا وأفكارنا بتصورات أخرى قائمة في بنية المجتمع، كما تتصل أفكارنا بأفكار أخرى قائمة في بنية المجتمع، كما تتصل أفكارنا بأفكار أخرى وردت من حركة التاريخ. واستنادًا إلى "بنية المجتمع من جهة" وإلى "روح العصر، من جهة أخرى صدرت وأصبحت كل المعارف والأشياء والتصورات نسبية "" Relative"(1) .
وأختم هذه الأصول الخطيرة بمثال ينطبق على أكثرها لمفكر معاصر هو "د. حسن حنفي"، فهو ممن توسع في تبديل الشريعة تحت ضغط وتأثير منهجيات مختلفة ترجع إلى كيفية التعامل مع الأصول والنصوص الدينية، وقد ذكرت طريقته في التعامل مع القضايا الغيبية في فقرات سابقة، وظهر منها أن تفسيراته لا تخضع لضابط واضح، بل هي مفتوحة على ما أسماه "الشعور"، وهو مصطلح غامض، ولكن التطبيقات تكشف أن مفهوم الشعور أقرب لمفهوم الهوى، ما يهواه الفرد وما تهواه الجماعة، حتى وإن خالف ما أخبر الله به وما أمر به.
ومن ذلك إخضاع الشريعة للتبديل والتغيير وفق المصالح والأهواء، وأكبر دليل له هو مبحث أسباب النزول (2)، فهذا المبحث -عند حنفي- يؤكد أن الأحكام ترتبط بالمصالح، وإذا تغيرت هذه المصالح فمن الخطأ الثبات على الأحكام، ثم يُخضع كل الشريعة لمثل هذه الرؤية، فتصبح شريعةً لا تعرف الثوابت والأصول والأمور القطعية، وهذا أمر في غاية الخطورة، فهو من التلاعب بشرع الله سبحانه، فالشريعة إنما جاءت لتغيير أحوال الناس الفاسدة ومعالجة الأمراض وإصلاح العباد وتزكية نفوسهم، ولم تأت لموافقة أهوائهم.
يقول: "وإن أهم ما يميز التراث في أصوله وفي نشأته وتطوره هو حركته
(1) قضايا علم الأخلاق دراسة نقدية من زاوية علم الاجتماع، د. قباري إسماعيل ص 22 - 23.
(2)
انظر: مبحث: ماذا تعني أسباب النزول؟ في كتابه: الدين والثورة، حسن حنفي 7/ 69.
وعدم ثباته. فالوحي قد تغير طبقًا لحاجات الواقع، والتشريع يتغير طبقًا لتغيرات العصر. . . ." (1)، والأمر في التغيير يخضع للجماهير واحتياجات العصر فيتم "عرض الموروث القديم على احتياجات العصر ومطالبه. فهي التي تفسر القديم" (2).
(1) التراث والتجديد، حسن حنفي ص 55.
(2)
انظر: المرجع السابق ص 56، وانظر: ص 38، 124 - 126.