الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على العلم وهم الذين رصَدَ هذا البحث مواقفهم وحلَّلها. ومن ينظر في الموضوعات والأمثلة -من باب الغيب- التي انحرف فيها هؤلاء تحت دعوى العلمية يجد لها ثلاث صور، وهي:
1 -
دعوى عدم إمكانية إثباتها علميًا.
2 -
دعوى وجود رأي علمي آخر حول هذه الأمثلة دون شرط المعارضة.
3 -
دعوى معارضتها للعلم.
ويغلب على أصحاب القول الأول والثالث إعلان مواقف إلحادية، فيكذبون بالعقائد بحجة أن العلم لم يستطع إثباتها، أو لأن العلم له قول يعارضها معارضة تامة، فيقدمون العلم لما له من قبول بزعمهم عند كل العقلاء. أما الثاني فأصحابه يقرون بوجود آراء علمية أخرى في موضوعات قد تحدث عنها الدين، ولكن فيهم من يراه من باب الاختلاف في أسلوب الخطاب، فالدين يسلك الطريق الأدبي والعلم يسلك الطريق العلمي، فهما عند أهل هذا القول مجالان مختلفان، الدين له طريقته والعلم له طريقته، ويمكن قبولهما وتصاحبهما. ولكن حقيقة هذا القول هو التكذيب بحقائق الغيب الدينية؛ لأنه في النهاية يدّعي أن الخبر الديني ليس له حقيقة موضوعية، فهو من جهة يُكذّب بوجود حقائق يعبر عنها الخبر الديني من قضايا الغيب ولكنه يجد أن الأسلوب الديني -إذا أخذ بفهمهم السابق- له أهميته في حياة الناس؛ لأن البشر لا يعيشون فقط على الحقائق الحسية، بل هم في حاجة إلى مثل هذه الأساليب الدينية.
وقد اخترت خمسة أمثلة وقع فيها الانحراف التغريبي، منها ما يرجع للنوع الأول؛ أي: عدم دلالة العلم الحسي عليها، ومن ذلك مثلًا: المخلوقات الغيبية، مثل: الملائكة والجن أو موضوع غيبي مثل الوحي. ومنها ما يرجع للنوع الثاني؛ أي: وجود قول علمي بجانب القول الديني، وهو بارز في المخلوقات المحسوسة، مثل خلق الكون، أو خلق الإنسان. ومنها ما يرجع للنوع الثالث؛ أي: وجود معارضة للعلم، مثل المعجزات.
القسم الأول: موضوعات عمَدية يُدّعى عدم إمكانية إثباتها علميًا:
قد يكون الموضوع من الغيب المطلق، الذي لا يمكن معرفته بالحس،
الذي هو طريقة العلوم التجريبية ومعيارها. ومثل هذا جوابه المشهور هو أن عدم الدليل المعين على موضوع لا يعني عدم هذا الموضوع، فإن عدم الدليل المعين لا يدل على عدم المدلول المعين، وإنما السؤال: هل دلّ العلم على استحالته أو على نفيه؛ لأنه على النافي مثل ما على الثبت، وهم حجتهم هنا فقط عدم دلالة العلم عليه.
ويقع الغلط هنا من اختزال العلم وطرق تحققه بطريق واحد هو الطريق التجريبي، وهذا قد يُفهم عند من لم يعرفوا النبوة. أما من أكرمهم الرب سبحانه برسول وبكتاب، فعندهم طريق أعلى للعلم. ومن الأمور التي يقبلها العقل أن العلم بابه واسع وأدلته كثيرة، وأن الحق لا يمكن أن تتعارض فيه الأدلة، ولكن لا يشترط أن تدل على كل موضوع من موضوعاته كل الأدلة، إنما المهم أن يوجد دليل عليها، فإن الإِسلام يطالب بالدليل على أمور الدين، ويطلب من المكذبين دليلهم على ما كذبوا به، قال -تعالى-:{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)} [البقرة: 111]، قال الشيخ السعدي:"وهكذا كل من ادعى دعوى، لابد أن يقيم البرهان على صحة دعواه، وإلا فلو قلبت عليه دعواه، وادعى مدع عكس ما ادعى بلا برهان لكان لا فرق بينهما، فالبرهان هو الذي يصدق الدعاوى أو يكذبها، ولما لم يكن بأيديهم برهان، عُلِمَ كذبهم بتلك الدعوى"(1).
وقال -تعالى-: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)} [الأنبياء: 24]، قال الشيخ السعدي: "أي: حجتكم ودليلكم على صحة ما ذهبتم إليه، ولن يجدوا لذلك سبيلًا بل قد قامت الأدلة القطعية على بطلانه، ولهذا قال:{هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} ؛ أي: قد اتفقت الكتب والشرائع على صحة ما قلت لكم، من إبطال الشرك، فهذا كتاب الله الذي فيه ذكر كل شيء، بأدلته العقلية والنقلية، وهذه الكتب السابقة كلها، براهين وأدلة لما قلت.
ولما علم أنهم قامت عليهم الحجة والبرهان على بطلان ما ذهبوا إليه، علم أنه لا برهان لهم؛ لأن البرهان القاطع، يجزم أنه لا معارض له، وإلا لم
(1) تفسير السعدي ص 62 - 63.
يكن قطعيًا، وإن وجد فيه معارضات، فإنها شبه لا تغني من الحق شيئًا.
وقوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ} أي: وإنما أقاموا على ما هم عليه، تقليدًا لأسلافهم يجادلون بغير علم ولا هدى، وليس عدم علمهم بالحق لخفائه وغموضه، وإنما ذلك، لإعراضهم عنه، وإلا فلو التفتوا إليه أدنى التفات، لتبين لهم الحق من الباطل تبينًا واضحًا جليًا ولهذا قال:{فَهُمْ مُعْرِضُونَ} " (1).
وقال -تعالى-: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)} [النمل: 64]، وفي الآخرة يُطلب من هؤلاء المكذبين برهانهم، قال -تعالى-:{وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)} [القصص: 75].
فطريقة المتغربين المكذبين بشيء من الغيب لعدم دلالة العلم عليه طريقة فاسدة، فهي من جهة تقوم على تقليد الملحدين الذين كفروا بالنبوات وشكوا فيما بين أيديهم من الوحي، ومن جهة تقوم على اختزال العلم في المحسوس فقط، وهو حتى عند من لم يعرف النبوة يبقى في دائرة الاحتمال، فكيف وهي أمور تواتر ذكرها عند البشر، وجاء الوحي بخبرها، فامتلأ القرآن بالحديث عنها بأصرح خطاب، فما يبقى بعد ثبوت الدليل عليها إلا الكفر المحض.
لقد دلّ الخبر على أمور الغيب، وقد بثّ الله في الخبر كل أنواع الأدلة التي تثبت لكل عاقل يطلب الحق صحة موضوعات الغيب، وقد نشأ في العالم الإِسلامي علم خاص يهتم بسلامة الخبر وصحته وهو علم السند، وهو علم اختصت به أمة الإِسلام فلا يُعرف عند أي أمة في الأرض، وهو علم عظيم ودقيق لا يسمح لأي خلل أن يؤثر في الخبر، وكل المحاولات التي قامت لإفساد الخبر أصابها الفشل، ومن نظر في هذا العلم وتأمل فيه لعلم أن هذا العلم العجيب ما ظهر إلا لحكمة عظيمة، حتى يحفظ الخبر ويحفظ بحفظه الدين.
إذًا فأمور الغيب التي لم يدل عليها العلم الحسي لا يصح نفيها إلا بدليل، ومن فساد الرأي ومن التعالم أن ينفي النافي ما لم يعلمه دون دليل، وقد ذمّ الله
(1) المرجع السابق ص 521.
الكفار بذلك فقال -تعالى-: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 39]، وإنما الأمر: هل هناك دليل آخر؟ فكيف وهناك أعظم دليل، وهو الخبر الصادق، ومعلوم أن المطالب الإلهية لم يتركها الله سبحانه لعقول البشر وعلومهم، وإنما أرسل الرسل وأنزل الكتب وأقام الحجج التي لا ينكرها إلا ملحد معاند فرعوني المذهب.
فإن فرعون قد جاءه البرهان البين الذي لا شك فيه، قال -تعالى-:{وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)} [الذاريات: 38]، قال ابن كثير رحمه الله:"أي: بدليل باهر وحجة قاطعة، {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} أي: فأعرض فرعون عما جاءه به موسى من الحق المبين، استكبارًا وعنادًا"(1).
ومع ذلك جحد وأنكر، ولم يكتف بذلك، بل أحال إلى الحسّ، وقام بالتمثيل على من حوله بأسلوب سخيف، وادعى أنه سيبحث عن الرب بطُرُق حسيّة، قال -تعالى-:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39)} [القصص: 38 - 39].
وهذه حال كل جاحد ومنكر للغيب، إنه فرعوني النزعة والمذهب أو فيه خصلة من الفرعونية، فقد جاءهم الحق والبرهان والسلطان المبين، ومع ذلك ينكرون ويكذبون ويجحدون، ثم يقولون: إن أدلتنا الحسية لم تدلنا على الغيب، ومع أن أسلوب فرعون هو الأسلوب الساذج الساخر عند طلب بناء الصرح ليبحث عن الغيب، إلا أن مُلحدي العصر في اعتمادهم على صرح العلوم الحسية هو من جنس ما فعله فرعون وإن كان بأسلوب عصري فاتن، وما ذاك إلا مزيد من التلبيس، وإلا فإن البشر لا يعيشون دون غيب، والغيب يحيط بالإنسان من كل جانب، فإن كثيرًا مما كشف من عالم الصِّغَر في المادة وذرّاتِها والأحياء وخلاياها، بل الكائنات المجهرية قد كانت من الغيب عند البشر طول قرون مضت، وربما لو جاء نبي من أنبياء الله بذكرها لكذّبَهُ من في قلبه مرض، وقد يجد المنكر فرصته في التكذيب، ولقال: انظروا ماذا يقول هذا النبي! أيُعقل أن
(1) تفسير ابن كثير ص 1255.
يوجد كائنات تصْغر نملة صغيرة آلاف المرات. فوجود بعض ما يُقدّر الله خفاءَه عنا أمر ممكن، وبما أن الدليل النبوي قد جاء بذكرها فقد عرفنا وجود مثل تلك الغيبيات المخفية عنا، وليس لنا إلا التسليم بها، وعدم العبث بتأويلٍ يخرجها عن مدلولها أو التكذيب بها، ومثل ذلك -مع المثل السابق- لو لم تحتمل عقول بعض الناس وجود كائنات مجهرية بذاك الصغر، فكذب بها أو أوّلها بحجة استحالة وجودها، بينما هي اليوم مما يُسلّم بها الناس. وقد سبق في المبحث الأول أنه ما إن ظهر التكذيب بالغيب في القرون الأخيرة في الفكر الغربي حتى جاءت الأجهزة الحديثة التي تساعدنا على رؤية الكائنات المجهرية مما يدفع العاقل على التواضع، وعلى إدراك ضآلة ما نعرفه مما حولنا، وعندما سأل بعضهم تعنتا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمرٍ من الغيب، جاءهم الجواب بضآلة ما عند الإنسان من علم، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85]، فالغيب كبير، وما عند الإنسان من علم هو قليل، فلا يغترّ بذلك. قال ابن كثير في تفسيره: "وقوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} ؛ أي: من شأنه، ومما استأثر بعلمه دونكم؛ ولهذا قال:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} ؛ أي: وما أطلعكم من علمه إلا على القليل، فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى.
والمعنى: أن علمكم في علم الله قليل، وهذا الذي تسألون عنه من أمر الروح مما استأثر به تعالى، ولم يطلعكم عليه، كما أنه لم يطلعكم إلا على القليل من علمه تعالى. وسيأتي إن شاء الله في قصة موسى والخضر: أن الخضر نظر إلى عصفور وقع على حافة السفينة، فنقر في البحر نقرة، أي: شرب منه بمنقاره، فقال: يا موسى، ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر. أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا قال تبارك وتعالى:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} " (1)، وقد قال -تعالى-:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)} [الكهف: 109]، وقال -تعالى-:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)} [لقمان: 27].
(1) تفسير ابن كثير ص 790 - 791.
أمثلة من الانحراف في هذا النوع: في باب الإيمان بالملائكة والجن، وفي باب الوحي:
ومن بين الأمثلة التي تناسب هذا الباب مما وقع فيه انحراف المتغربين: باب الإيمان بالملائكة والجن، وباب الإيمان بالوحي، ومع وجود اختلاف بينهما إلا أنهما يشتركان في كونهما من الغيب الذي لا يمكن التدليل عليه بالحس، فمصدر معرفته تقتصر على الوحي، فإن النوع الأول يتعلق بعالمين من مخلوقات الله: الملائكة والجن، أما الثاني فيتعلق يحدث غيبي هو الوحي، يبدأ من الرب سبحانه ثم يتصل بأعظم الملائكة وهو جبريل عليه السلام ثم بالنبي عليه الصلاة والسلام، وهي الصورة الغالبة للوحي، فهذان البابان العظيمان من أبواب العقيدة الإِسلامية وقع فيهما انحراف باسم العلم عند المتغربين، أبدأها بـ:
باب الإيمان بالملائكة والجن:
يدخل في الغيب الإيمان بالملائكة والإيمان بالجن، فإن من بين مخلوقات الله ثلاثة لهم شأن في التصور الإِسلامي، وهم: الملائكة والإنس والجن، وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم"(1).
أما الملائكة فهم خلْق كريم من مخلوقات الله، والإيمان بالملائكة ركن عظيم من أركان الإيمان، وأصل من أصول العقيدة الإِسلامية، قال -تعالى-:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)} [البقرة: 285]، وقال -تعالى-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)} [النساء: 136]، وقد ورد الحديث عنهم كثيرًا في القرآن مما يدل علي عظم هذا الأصل ومكانته في العقيدة الإِسلامية وفي التصور الإِسلامي، وقد ذكر وصفهم وعبادتهم وأعمالهم وغير ذلك (2).
(1) صحيح مسلم برقم (2996) في باب أحاديث متفرقة من كتاب الزهد والرقائق.
(2)
انظر حول هذا الباب مثلًا كتاب: عالم الملائكة الأبرار، د. عمر الأشقر.
أما الجن فهم خلق آخر من خلق الله، خلقهم الله من نار، وهم مكلفون مثل البشر، فمنهم من كفر مثل إبليس وأتباعه، ومنهم من آمن، وقد جاء في ذكرهم وذكر إبليس آيات كثيرة (1)، قال -تعالى-:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)} [الكهف: 50]، وقال -تعالى-:{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)} [الأحقاف: 29]، وقال -تعالى-:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56]، وقد جاء فيهم سورة من سور القرآن، قال -تعالى- في أولها:{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1)} [الجن: 1]، وغيرها من الآيات.
وما من بابٍ من أبواب الغيب إلا ووقع الانحراف فيه ممن هجر مشكاة النبوة، وغَلُظ عنده الحسّ، فإن في الغيب ابتلاء للبشر، ومن عادة الكثير نفي ما لا يحسون به وربما تكذيبه، فمن حكّم عقله القاصر أو حسّه الغليظ في مثل هذه الأبواب وقع في مزالق عظيمة، ولذا كان من وصف المؤمنين أنهم يؤمنون بالغيب، قال -تعالى-:{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [البقرة:1 - 3]، فقد جاءهم أنبياء صادقون مُصَدّقون، وأوحى الله إليهم من علم الغيب، ومنهم رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، قال -تعالى-:{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)} [آل عمران: 44]، وقال تعالى-:{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)} [هود: 49]، وقال- تعالى-:{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)} [يوسف: 102]، وكل ما جاء من الغيب المطلق عن طريق الأنبياء هو من الغيب الذي لم يكن للبشر أن يصلوا إليه من دون الأنبياء.
وقد اتسع أمر التكذيب في زمننا المعاصر، لاسيّما داخل التيارات الفكرية المتغربة العلمانية، فمنهم من حكّم عقله وحسّه في مثل هذه الأبواب فكذّب بأمر
(1) انظر حول هذا الباب مثلًا كتاب: عالم الجن والشياطين، د. عمر الأشقر.
الملائكة والجن وسخر ممن يؤمن بها، ومما زاد البلاء أن بعض الإِسلاميين من أمثال العصرانيين قاموا بتأويل ما ورد من ذكر الملائكة والجن بما يخرجهم عن كونهم خلقًا من خلق الله (1)، ومن دلالات ذلك حجم الضغط الذي تضغط به الأفكار المنحرفة على الناس في الأزمان الأخيرة مما دفع بمثل هؤلاء إلى التساهل في أبواب الغيب بتأويلها وتخريجها مخارج تبعدها عن حقيقتها الواردة في الوحي.
وقد كان لسيد قطب وقفات مهمة حول هذا الباب، لاسيّما أنه قد عاصر طائفتين، طائفة تؤول الغيب وطائفة تُكذّب به وتنكره، وكل ذلك بحجة العقلانية والعلمية، ومما كتب عن منكري الملائكة:"والإيمان بملائكة الله طرف من الإيمان بالغيب،. . . . وهو يخرج الإنسان من نطاق الحواس المضروب على الحيوان؛ ويطلقه يتلقى المعرفة مما وراء هذا النطاق الحيواني؛ وبذلك يعلن "إنسانيته" بخصائصها المميزة .. ذلك بينما هو يلبي فطرة الإنسان وشوقه إلى المجاهيل التي لا تحيط بها حواسه، ولكنه يحس وجودها بفطرته. فإذا لم تلب هذه الأشواق الفطرية بحقائق الغيب -كما منحها الله له- اشتطت وراء الأساطير والخرافات لتشبع هذه الجوعة؛ أو أصيب الكيان الإنساني بالخلخلة والاضطراب.
والإيمان بالملائكة: إيمان بحقيقة غيبية، لا سبيل للإدراك البشري أن يعرفها بذاته، بوسائله الحسية والعقلية المهيأة له .. بينما كيانه مفطور على الشوق إلى معرفة شيء من تلك الحقائق الغيبية. ومن ثم شاءت رحمة الله بالإنسان -وهو فاطره وهو العلم بتكوينه وأشواقه وما يصلح له ويصلحه- أن يمده بطرف من الحقائق الغيبية هذه، ويعينه على تمثلها -ولو كانت أدواته الذاتية قاصرة عن الوصول إليها- وبذلك يريحه من العناء ومن تبديد الطاقة في محاولة الوصول إلى تلك الحقائق التي لا يصلح كيانه وفطرته بدون معرفتها، ولا يطمئن بَالُه ولا يقر قراره قبل الحصول عليها! بدليل أن الذين أرادوا أن يتمردوا على فطرتهم، فينفوا
(1) انظر حول رأيهم المشتبه في الملائكة: منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، فهد الرومي ص 616 وما بعدها، وانظر حول تأويلاتهم لشأن الجن: المرجع السابق ص 631 وما بعدها، وانظر: عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة، د. عبد الكريم عبيدات ص 115 وما بعدها.
حقائق الغيب من حياتهم، استبدت ببعضهم خرافات وأوهام مضحكة؛ أو اضطربت عقولهم وأعصابهم وامتلأت بالعقد والانحرافات!
وفضلًا على ذلك كله فإن الإيمان بحقيقة الملائكة -شأنه شأن الإيمان بالحقائق الغيبية المستيقنة التي جاءت من عند الله- يوسع آفاق الشعور الإنساني بالوجود، فلا تنكمش صورة الكون في تصور المؤمن حتى تقتصر على ما تدركه حواسه -وهو ضئيل- كما أنه يونس قلبه بهذه الأرواح المؤمنة من حوله؛ تشاركه إيمانه بربه، وتستغفر له، وتكون في عونه على الخير -بإذن الله -وهو شعور لطيف ندي مؤنس ولا شك. ثم هنالك المعرفة: المعرفة بهذه الحقيقة وهي في ذاتها فضل يمنحه الله للمؤمنين به وبملائكته. ." (1).
ويقول عن عالم الجن والمنكرين له في أثناء تفسير سورة الجن: "وبينما كانت الأوهام والأساطير تغمر قلوب الناس ومشاعرهم وتصوراتهم عن الجن في القديم، وما تزال .. نجد في الصف الآخر اليوم منكرين لوجود الجن أصلًا، يصفون أي حديث عن هذا الخلق المغيب بأنّه حديث خرافة .. وبين الإغراق في الوهم، والإغراق في الإنكار، يقرر الإِسلام حقيقة الجن، ويصحح التصورات العامة عنهم، ويحرر القلوب من خوفها وخضوعها لسلطانهم الموهوم:
فالجن لهم حقيقة موجودة فعلًا وهم كما يصفون أنفسهم هنا: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)} . . . ." ثم تحدث عن حقيقتهم كما وردت في هذه السورة وفي غيرها من سور القرآن التي تعطي "صورة عن ذلك الخلق المغيب، تثبت وجوده، وتحدد الكثير من خصائصه؛ وفي الوقت ذاته تكشف الأوهام والأساطير، العالقة بالأذهان عن ذلك الخلق، وتدع تصور المسلم عنه واضحًا دقيقًا متحررًا من الوهم والخرافة، ومن التعسف في الإنكار الجامح كذلك!
وقد تكفلت هذه السورة بتصحيح ما كان مشركو العرب وغيرهم يظنونه عن قدرة الجن ودورهم في هذا الكون. أما الذين ينكرون وجود هذا الخلق إطلاقًا، فلا أدري علام يبنون هذا الإنكار، بصيغة الجزم والقطع، والسخرية من الاعتقاد بوجوده، وتسميته خرافة!
(1) في ظلال القرآن 1/ 341 - 342.
ألأنهم عرفوا كل ما في هذا الكون من خلائق فلم يجدوا الجن من بينها؟! إن أحدًا من العلماء لا يزعم هذا حتى اليوم. وإن في هذه الأرض وحدها من الخلائق الحية لكثيرًا مما يكشف وجوده يومًا بعد يوم، ولم يقل أحد: إن سلسلة الكشوف للأحياء في الأرض وقفت أو ستقف في يوم من الأيام!
ألأنهم عرفوا كل القوى المكنونة في هذا الكون فلم يجدوا الجن من بينها؟! إن أحدًا لا يدعي هذه الدعوى. فهناك قوى مكنونة تكشف كل يوم؛ وهي كانت مجهولة بالأمس. والعلماء جادون في التعرف إلى القوى الكونية، وهم يعلنون في تواضع قادتهم إليه كشوفهم العلمية ذاتها، أنهم يقفون على حافة المجهول في هذا الكون، وأنهم لم يكادوا يبدؤون بعد!
ألأنهم رأوا كل القوى التي استخدموها، فلم يروا الجن من بينها؟! ولا هذه.
فإنهم يتحدثون عن الكهرب بوصفه حقيقة علمية منذ توصلوا إلى تحطيم الذرة. ولكن أحدًا منهم لم ير الكهرب قط. وليس في معاملهم من الأجهزة ما يفرزون به كهربًا من هذه الكهارب التي يتحدثون عنها!
ففيم إذن هذا الجزم بنفي وجود الجن؟ ومعلومات البشر عن هذا الكون وقواه وسكانه من الضآلة بحيث لا تسمح لإنسان يحترم عقله أن يجزم بشيء؟
ألأن هذا الخلق المسمى الجن تعلقت به خرافات شتى وأساطير كثيرة؟ إن طريقنا في هذه الحالة هو إبطال هذه الخرافات والأساطير كما صنع القرآن الكريم، لا التبجح بنفي وجود هذا الخلق من الأساس، بلا حجة ولا دليل! ومثل هذا الغيب ينبغي تلقي نبئه من المصدر الوحيد الموثوق بصحته، وعدم معارضة هذا المصدر بتصورات سابقة لم تستمد منه. فما يقوله هو كلمة الفصل في مثل هذا الموضوع" (1).
وحول هذا الباب الغيبي من خلق آدم وما حدث من إبليس والملائكة وبقية القصة الغيبية التي وردت في سورة البقرة يقول سيد قطب: "وبعد .. مرة أخرى .. فأين كان هذا الذي كان؟ وما الجنة التي عاش فيها آدم وزوجه حينا
(1) في ظلال القرآن 6/ 3721 - 3723.
من الزمان؟ ومن هم الملائكة؟ ومن هو إبليس؟ .. كيف قال الله تعالى لهم؟ وكيف أجابوه؟. . . .
هذا وأمثاله في القرآن الكريم غيب من الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه؛ وعلم بحكمته أن لا جدوى للبشر في معرفة كنهه وطبيعته، فلم يهب لهم القدرة على إدراكه والإحاطة به، بالأداة التي وهبهم إياها لخلافة الأرض، وليس من مستلزمات الخلافة أن نطلع على هذا الغيب. وبقدر ما سخر الله للإنسان من النواميس الكونية وعرّفه بأسرارها، بقدر ما حجب عنه أسرار الغيب، فيما لا جدوى له في معرفته. وما يزال الإنسان مثلًا على الرغم من كل ما فتح له من الأسرار الكونية يجهل ما وراء اللحظة الحاضرة جهلًا مطلقًا، ولا يملك بأي أداة من أدوات المعرفة المتاحة له أن يعرف ماذا سيحدث له بعد لحظة، وهل النفس الذي خرج من فمه عائد أم هو آخر أنفاسه؟ وهذا مثل من الغيب المحجوب عن البشر؛ لأنه لا يدخل في مقتضيات الخلافة، بل ربما كان معوِّقًا لها لو كشف للإنسان عنه! وهنالك ألوان من مثل هذه الأسرار المحجوبة عن الإنسان، في طي الغيب الذي لا يعلمه إلا الله.
ومن ثم لم يعد للعقل البشري أن يخوض فيه؛ لأنه لا يملك الوسيلة للوصول إلى شيء من أمره. وكل جهد يبذل في هذه المحاولة هو جهد ضائع، ذاهب سدى، دون ثمرة أو جدوى.
وإذا كان العقل البشري لم يوهب الوسيلة للاطلاع على هذا الغيب المحجوب؛ فليس سبيله إذن أن يتبجح فينكر .. فالإنكار حكم يحتاج إلى المعرفة. والمعرفة هنا ليست من طبيعة العقل، وليست في طوق وسائله، ولا هي ضرورية له في وظيفته!
إن الاستسلام للوهم والخرافة شديد الضرر بالغ الخطورة، ولكن أضر منه وأخطر، التنكر للمجهول كله وإنكاره، واستبعاد الغيب لمجرد عدم القدرة على الإحاطة به .. إنها تكون نكسة إلى عالم الحيوان الذي يعيش في المحسوس وحده، ولا ينفذ من أسواره إلى الوجود الطليق.
فلندع هذا الغيب إذن لصاحبه، وحسبنا ما يقص لنا عنه، بالقدر الذي يصلح لنا في حياتنا، ويصلح سرائرنا ومعاشنا. ولنأخذ من القصة ما تشير إليه من حقائق كونية وإنسانية، ومن تصور للوجود وارتباطاته، ومن إيحاء بطبيعة
الإنسان وقيمه وموازينه .. فذلك وحده أنفع للبشرية وأهدى" (1).
أمثلة على الانحراف حول الملائكة والجن:
يقدم الدكتور -"غيبة"- تأويله الخاص للملائكة والجن بما يتفق مع العلم من جهة، وبما يحقق هدف الدين من جهة أخرى، ولكن يظهر في النهاية أنه ينفي هذين الأمرين بحجة عدم موافقتها للعلم والعقل، فيقول عن تأويله إنه:"يتفق مع المعقول عن طريق الاستنتاج من النصوص المقدسة ذاتها، من غير تزييف أو تحريف، بل مع الاحترام الكامل لنصوص الدين الحنيف، إنما بالخروج عن التفسير الحرفي أو المادي واللجوء إلى التأويل العقلي الذي يتفق مع مقاصد الشرع ومراميه، ويتجنب الوقوع في فخ اللامعقول ومآخذه"(2).
إن هذه دعوى لا حقيقة لها كما سنرى، فإن البارز هو "التزييف والتحريف وعدم الاحترام لهذه النصوص حول هذه المغيبات" وبُعده عن الذي جاء به الأنبياء عليهم السلام، حيث سيطرح فهمه من النصوص الذي يتفق بحسب رأيه "مع علم النفس وعلم الطبيعة"، فكأن علم النفس يناسب تفسير الجوانب الغيبية بصورة نفسية، أما الطبيعية فهي أداة رفض لعالم الغيب عمومًا، والاكتفاء بالنظر للقوانين التي كشفها علماء الطبيعة (3)، وبهذا يصل إلى نفي حقيقة الملائكة وحقيقة الشيطان والجن، فجانب الطبيعة أداة لرفض هذا الغيب؛ لأنه في نظرهم لا حقيقة إلا لها، فقد أعماهم المحسوس وأغراهم وفتنهم عن حقيقة عالم الغيب، ومن أجله أُوّلت الملائكة والجن إلى معنى نفسي أو رمزي، فالمعنى النفسي للملائكة "الإلهامات الحاملة للأفكار والميول الخيرة" في الإنسان، والرمزي "هو ميول البدن إلى مصيره الطبيعي، كالموت، وميول الطبيعة إلى الحركة كهبوب الرياح وهطول الثلج والأمطار. فهي صلة الوصل بين القوى الطبيعية المحرّكة "الأسباب العلمية"، والقوى الطبيعية المنُفذة "كالرياح والأمطار"، وأمثلتها الملائكة عزرائيل وميكائيل وإسرافيل. فهذه الأسماء رموز لتلك القوى الطبيعية المحرّكة للأنواء. والملائكة في جميع الأحوال تُعبّر عن قوى ذاتية خيّرة في
(1) في ظلال القرآن 1/ 59.
(2)
هكذا تكلم العقل، د. حيدر غيبة ص 256.
(3)
انظر: المرجع السابق ص 253.
الإنسان، نفسية وبدنية، ومثلها على سبيل الاستعارة في الطبيعة. هذا هو الفهم العقلي للملائكة، وهو لا يطرح أي إشكالية؛ لأنه يتفق مع علم النفس وعلم الطبيعة. ." (1)، وفي المقابل يكون الشيطان ممثلًا لنوازع النفس الأمارة بالسوء، فوجوده بهذه الصفة معنوي، ومن قبيل وسوسة النفس، وكذا حال الجن (2).
ومن الصور التغريبية المغالية في إنكارهما تحت ذريعة معارضة العلم في الظاهر -إنما ماركسية في العمق- نجد صادق العظم، ومن ذلك قوله:"هل يفترض في المسلم في هذا العصر أن يعتقد بوجود كائنات مثل الجن والملائكة وإبليس، وهاروت وماروت، ويأجوج ومأجوج، وجودًا حقيقيًا "غير مرئي أحيانًا" باعتبارها مذكورة كلها في القرآن، أم يحق له أن يعتبرها كائنات أسطورية مثلها مثل آلهة اليونان وعروس البحر والغول والعنقاء؟ يا حبذا لو عالج الموفقون بين الإسلام والعلم مثل هذه القضايا المحددة. . . ."(3).
يجعل منها "العظم" قضايا لا يقبلها العلم، وأدلة على التعارض بين الدين والعلم، بينما كل عاقل يعلم عدم وجود معارضة هنا؛ لأن كل ما في الأمر أن نوعًا من العلم لا يستطيع إثباتها، وليس كل العلم، فهذا -إذا تركنا جانبًا مشكلة مرض القلب- من الاختزال الفاسد لمفهوم العلم على نوع واحد، وهو الحسي، بينما العلم أوسع من ذلك، وأعلاه العلم النبوي، وليس المقصود هنا المناقشة والرد، فمثل هذا الصنف يكفي بيان التلاعبات التي يقدمونها، فهم يقصدون فقط إثارة الشبه والتلبيس على الخلق، لاسيّما عندما يصل التبجح والإنكار لمثل هذا الحدّ، فيضع ما يتفق الناس على أنه أسطورة مقابل ما يتفق أغلب الناس ممن عندهم كتاب على أنه حقيقة.
يتفق النموذجان بإنكار حقيقة الملائكة والجن بالاستناد للعلم، إلا أن الأول يؤوّلهما والثاني يُكّذب بهما، ويقف حسن حنفي في كتاباته نفس الموقف من هذا الباب العظيم، فهو يراها تلفظ بألفاظ لا يوجد شاهد حسي عليها، فيطالب بإلغائها (4)، وفي هذا السياق يأتي إنكار الوحي أو تأويله للسبب نفسه.
(1) المرجع السابق ص 252 - 253.
(2)
انظر: المرجع السابق، حول الشيطان ص 255، وحول الجن ص 257.
(3)
نقد الفكر الديني، د. صادق العظم ص 26.
(4)
انظر: التراث والتجديد ص 121 ص 126.
في باب الوحي:
من بين القضايا العقدية المهمة الإيمان بالوحي، فهو الصلة بين السماء والأرض، فهو الطريق لمعرفة دين الله، فالوحي هو إعلام الله من اصطفاه من عباده وهم أنبياؤه بما يريد أن يبلغه إليهم من شرع أو كتاب بواسطة أو غير واسطة (1).
وقد ورد في آيات كثيرة، قال -تعالى-:{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 4]، وقال -تعالى-:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)} [النساء: 163]، وقال -تعالى-:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)} [الشورى: 7].
وقد جاء وصف صوره في قوله -تعالى-: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)} [الشورى: 51].
وقد سأل الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم عن الوحي، ففي صحيح البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله -صلي الله عليه وسلم - كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشدّه عليّ فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلًا فيكلمني فأعي ما يقول". قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقًا (2).
ويُعدّ الوحي قضية غيبية لا يستطيع العقل إدراك حقيقتها وكنهها، وما نعلمه أن جبريل أخذ من الله ما يوصله لأنبيائه، وهم أوصلوه للناس، يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله: "هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون هو كلام الله، الذي نزل به الروح الأمين على محمَّد صلى الله عليه وسلم، خاتم النبيين والمرسلين، وأن جبريل سمعه
(1) انظر: الرسل والرسالات، د. عمر الأشقر ص 61.
(2)
صحيح البخاري برقم (2) من كتاب بدأ الوحي، ومسلم برقم (2333) كتاب الفضائل باب عَرَق النبي صلى الله عليه وسلم. . . .
من الله، والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل، والمسلمون سمعوه من النبي - صلي الله عليه وسلم -، كما قال -تعالى-:{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وقال: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} " (1)، ولكن إدراك حقيقة الكيفية التي وقع بها ذلك الأمر من الغيب، وليس له طريق إلا الوحي.
وقد عُرفت في تاريخ الفكر الإِسلامي صور من إنكار الوحي، لاسيّما تلك الدعوى القائمة على تحويله إلى ظاهرة بشرية، مثل قول بعض المتفلسفة عن القرآن بأنه:"فيض فاض من العقل الفعال على قلب بشر زاكي النفس طاهر، متميز عن النوع الإنساني بثلاث خصائص: قوة الإدراك وسرعته، لينال من العلم أعظم مما يناله غيره! وقوة النفس، ليؤثر بها في هيولى العالم بقلب صورة إلى صورة!. وقوة التخييل، ليخيل بها القوى العقلية في أشكال محسوسة، وهي الملائكة عندهم! وليس في الخارج ذات منفصلة تصعد وتنزل وتذهب وتجيء وترى وتخاطب الرسول، وإنما ذلك عندهم أمور ذهنية لا وجود لها في الأعيان"(2)، وبهذا يُغفلون كون القرآن من كلام الله، وأحالوه للعقل الفعال، وأنكروا الملك الذي تكفل بإيصال الوحي، وجعلوا الوحي صورة من صور التجلي البشري ولاسيّما ممن زكت نفوسهم، وليس وحيًا من رب العالمين، فتحول الوحي معهم إلى صورة أخرى لا علاقة لها بما جاء بيانه على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم.
أمثلة على الانحراف في الوحي:
لم تبتعد الانحرافات المعاصرة عن ذلك كثيرًا، فجوهر الانحراف عندهم واحد، ولكن المعاصرين يلتحفون بدعوى العلمية، لاسيّما ميدان العلوم الاجتماعية واللغوية الحديثة، وُيعد الوحي عند متطرفي المتغربين من الأوهام، فـ "شبلي شميل" مثلًا "يعتبر أن كثيرًا من مفردات القاموس الديني تنهل من ينابيع الخيال والأوهام، فالوحي والبعث والخلود والثواب والعقاب الأخرويات وعالم الروح وعلة العلل. . . . كلها مفاهيم ذات مصدر غير مادي. ومن ثمّ فهي تنتمي إلى عالم الأحلام والأوهام. وهو يعتبر أن الاستسلام إلى أباطيل هذا العالم كان
(1) الفتاوي 12/ 582.
(2)
شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز 2/ 402 - 403.
وما يزال مجلبة لشر كبير في الاجتماع البشري. وهو شر يمكن اجتنابه بالتفكير العلمي المستند إلى حقائق الطبيعة والواقع" (1)، فالعلم عند هذه الطائفة هو المادية، حيث اختزلت العلم في هذا الباب ثم أنكرت كل ما ليس بمادي ومحسوس، وليس لهم من دليل سوى جهلهم بالوحي.
ومن بين أكثر المفكرين انحرافًا في هذا الباب وأكثرهم كتابة فيه، نجد الدكتور محمَّد أركون، ويعود السبب في ذلك إلى أن مشروعه الفكري يقوم على نقد العقل الإسلامي، وهو يرى بأن هذا العقل يرتكز أساسًا على الوحي، ولذا فلابد من وضع الوحي ذاته في صلب المشروع النقدي، وقد استخدم في ذلك منهجيات مختلفة، لغوية وتاريخية وعلمية وفلسفية، وهو يزعم أنه يقدم بذلك دراسة علمية عن الوحي، ولكن هذه الدراسة تصل في نهايتها إلى التكذيب بالوحي، ويكفي ذلك دليلًا على بطلان هذه العلمية.
يعرض في البداية التصور الإِسلامي عن الوحي في نقاط متسلسلة: تبدأ بالإيمان بالله، وهذا الإله قد أوحى إلى البشر من خلال رسول، وقد جمع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن، وهذا القرآن كامل وشامل، ويحوي الحقيقة (2). . . .، ويأخذ منه ذاك العرض مكانة خاصة، ويعرضه وكأنه اكتشاف كبير، مع أن كل مسلم حتى طلاب المدارس يعرفون مثل هذا الخط ويؤمنون به. إلا أن الجديد عنده، أن هذا الخط بينما يؤمن به الناس، فإنه فيما يظهر من كلامه لا يؤمن به، بل إن من هدف دراساته: نقضه والخروج عليه، بحيث يضع خطًا آخر (3)، يلغي فيه الغيب، فيُقصي منه الله، والمَلَك، والوحي، ثم يلغي منه الرسول الذي استقبل الوحي، ثم يلغي المصحف الذي تواتر عند الأمة أنه كلام الله، ويكتفي بدعاوى منها: الانطلاق من الإنسان وجعله محور الاهتمام، في نوع من التبعية لدعوى المذهب الإنساني، الذي يريد الاهتمام بالإنسان بعد أن كانت القرون الوسطى تهتم بالإله كما يقولون، ومثل هذه الدعوى الإلحادية
(1) الفلسفة النشوئية .. ، د. محمود المسلماني ص 183.
(2)
يتكرر عرضه لهذا الخط في أكثرُ من كتاب من كتبه، منها: القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني ص 19، 121، وانظر: الإِسلام، الأخلاق والسياسة ص 183، وانظر. أين هو الفكر الإِسلامي؟ ص 162.
(3)
انظر: القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني ص 123.
التي عرفها الغرب، لم تحقق هدفها؛ حيث انحط معها الإنسان في دركات، مما دفع بفلاسفة معاصرين أن يتكلموا على موت الإنسان، وما ذاك إلا بالخلل الكبير الذي أقام تعارضًا بين الإيمان بالله والعناية بالإيمان وبين العناية بالإنسان، بينما الحق أنه كلما زادت عناية الناس بالإيمان الحق حفظت كرامة الإنسان وظهرت سعادته.
يحيل أركون في عمله الجديد مع الوحي على مناهج كثيرة فيقول: "إنّ ظاهرة الوحي لم تعد مسألة تخصّ علماء اللاهوت والتيولوجيا فحسب، وإنما هي أصبحت" تخص المؤرخ، وعالم اللسانيات، والدلالات، وعالم الاجتماع، وعالم النفس، ورجل القانون، وعالم الإنتربولوجيا (1).
مما نجده من ميدان العلوم التي يتابعها هذا البحث ميدان العلوم الاجتماعية، لاسيّما علم النفس والاجتماع والإنتربولوجيا، وقد استعان بها أركون من أجل دراسة الوحي، ومن بين ما تطرحه مثل هذه العلوم قبول الوحي في صورها المعاصرة باعتباره ممثلًا للبعد الأسطوري، وهو بعد لم تعد الدراسات الاجتماعية المعاصرة تستهين به، بل تجده مهمًا للإنسان كأهمية العقل، فالإنسان لا يعيش بالعقل وحده، بل بالوجدان أيضًا، ولا يعبر الوحي هنا عن حقائق موضوعية وإنما هو تعبير مجازي أخّاذ ومؤثر، وعن ذلك يقول مترجم "أركون" حول موقف المسلمين من قرآنهم:". . . . وبالتالي فلا يمكن أن يحتوي على معرفة خيالية أو قصصية بالمعنى المثالي للكلمة. ولكن الدراسة الألسنية المتأنية للقرآن تكشف عن امتلائه بالمجازات الرائعة التي تخلب العقول. والمجاز هو أداة المعرفة الخيالية أو الشعرية أو القصصية. ولكن المسلم التقليدي ينكر وجوده؛ لأنه يقرأ القرآن قراءة حرفية ويرفض أن يحتوي كتاب الله على أي لغة مجازية أو شعرية. وهذا موقف لاهوتي وليس موقفًا علميًا أو ألسنيًا"(2)، ويعيد "أركون" الفضل في إعادة التوازن بين "الجانب الأسطوري
(1) انظر: الفكر الإِسلامي نقد واجتهاد، د. محمد أركون ص 194، وانظر: الإِسلام، أوروبا، الغرب، د. محمد أركون ص 196، كلاهما من ترجمة هاشم صالح.
(2)
معارك من أجل الأنسنة. . . .، محمد أركون ص 293، ومن كلام المترجم هاشم صالح في الحاشية.
المجازي" وبين "الجانب الوضعي العقلي العلمي" إلى الإنتربولوجيا الثقافية (1).
يُميّز "أركون" مشروعه بالتعامل المباشر مع الأصل، مع الوحي، مع القرآن، وهو وإن كان ينتقد المنهج الاستشراقي إلا أنه ينتقد فقط توقفهم على العمل الفللوجي والتاريخي، بينما هو يأخذ مادتهم ويسير بها لخطوات أكثر انحرافًا، فمن جعل عمدته المادة الاستشراقية فقد أسس نشاطه على شفَا جُرُفٍ هار، فيزيد على تلك المادة الاستشراقية اللغوية والتاريخية تطبيقات من ميدان العلوم الاجتماعية ويلحقها بنقد فلسفي، ولكن كل ذلك لن يتم إلا بعد تحويل الوحي لمعنى جديد من اختراع أركون حتى يتقبل منهجياته، فقد عرض الوحي كما صوره القرآن من خلال آيتي [الشورى: 51 - 52]، ولكنه لا يقبله، فأدخل أدواته المنهجية لتحويله إلى صورة بشرية لا علاقة لها بالوحي (2)، فهو الذي سيحدد صورة الوحي كما يريد حتى يتوافق مع منهجيته؛ لأن الوحي كما هو لا يتقبل مثل ذلك العبث باسم المناهج العلمية، وذلك بتحويله إلى ظاهرة لغوية وثقافية، فيصف بحثه حول الوحي:"وهذا البحث، فيما يحاول تجنب كل التحديدات الدوغمائية واللاهوتية الموروثة، ويجعل ممكنًا فهم الوحي بصفته ظاهرة لغوية وثقافية قبل أن يكون عبارة عن تركيبات تيولوجية أو لاهوتية"(3)، فإذا حول الوحي لظاهرة لغوية وثقافية؛ أي: بصريح العبارة: إلى ظاهرة بشرية، يقول مترجمه عنها:"أركون يعتبر الوحي ظاهرة مثله في ذلك مثل الظواهر الطبيعية كسقوط المطر، أو هبوب الرياح أو أية ظاهرة أخرى. . . ."(4)، عندها يمكن دراسته بالمناهج العلمية المختلفة واللغوية، ويوصل ذلك لنتائج خطيرة منها:
"فإنه يمكننا القول بوجود وحي في كل مرة تظهر فيها لغة جديدة، وتجيء لكي تعدّل جذريًا من نظرة الإنسان عن وضعه. . . . إن الوحي يعني حدوث معنى جديد في الفضاء الداخلي للإنسان. ."(5).
(1) انظر: المرجع السابق ص 294.
(2)
الفكر الإِسلامي. . . . ص 78 - 79.
(3)
المرجع السابق ص 78.
(4)
القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني ص 98 من الهامش.
(5)
الفكر الإِسلامي. . . . ص 83.
كما أن "تحديدنا الخاص الذي نقدّمه عن الوحي يمتاز بخصيصة فريدة، هو أنه يستوعب بوذا وكونفوشيوس والحكماء الأفارقة، وكل الأصوات الكبرى التي جسّدت التجربة الجماعية لفئة بشرية ما، من أجل إدخالها في قدرٍ تاريخي جديد وإغناء التجربة البشرية عن الإلهي. إنه يستوعب كل ذلك ولا يقتصر فقط على أديان الوحي التوحيدي"(1).
هكذا تُوصِل منهجية "أركون" العلمية في باب الوحي إلى إنكار الوحي، العلمية هنا حول الوحي تعني: إنكاره، وذلك أن المناهج العلمية لا يمكنها في الحقيقة التعامل المناسب مع الغيب، مناهج البشر الحسية لا تنطبق إلا على المجالات المحسوسة، وأمور الغيب ليست محسوسة، ومن هنا محاولة "أركون" في تحويل الوحي لفكرة محسوسة أو التكذيب بحقيقته الغيبية وتحويله لمجاز وأساطير حتى يمكن تطبيق المنهجيات عليه. قد يرفع المتغربون سبهم للإسلاميين بعدم تطبيق المنهجيات العلمية على الوحي، والحقيقة أنهم من أكثر الناس تحمسًا للعلوم، كيف لا وهم يشعرون بكثرة الحثّ الشرعي على العلم والعلمية، ولكن ليس من العلم تطبيق المنهج على مادة لا تناسبه، وعندما تُقحم مناهج علمية على أبواب لا تناسبها يأتي الخلل.
عرض الدكتور "غيبة" تصورًا جيدًا عن الوحي في بادئ الأمر ما لبث أن انحرف في آخره، حيث بدأ بسؤال: ما "هي حقيقة الوحي والأنبياء والرسل على ضوء ما يُصَدِّق العقل؟ "(2)، ثم استعرض ما ورد في الوحي عن الوحي، ولكنه أساء في تفسيره بعد ذلك لمفهوم الوحي، حيث انطلق من مفهوم الإلهام، الذي يُعدّ مصدر الإبداع عند الإنسان بحسب كلامه، ثم نظر في أهم انبثاقات الإلهام في الشعر، "وليس الشعر هو الإنتاج الوحيد للإلهام. بل كان ولا يزال هناك تواصل دائم بين بعض أصحاب النفوس الذكية، الشفافة، وبين المُثُل الإنسانية من حقيقة وخير وجمال"، وهي في حق الأنبياء أولى، فوحي الأنبياء هو نوع عالٍ من هذا الإلهام، وليس وحيًا بالمعنى الوارد في الكتاب والسنة، وذلك أنه بحسب تصوره تستحيل حقيقة الاتصال بين الرب سبحانه وبين أنبيائه وذاك أشبه
(1) الفكر الإِسلامي. . . . ص 84.
(2)
هكذا تكلم العقل .. ، د. حيدر غيبة ص 89.
بالاتصال بين عالم الإنسان وعالم النبات إن لم يكن أعصى على التصور والإدراك (1)، وهذا المسار لا يختلف عن مفهوم الأسطورة ودورها في الفكر البشري بحسب العرض الأركوني السابق.
تأتي الماركسية في تقليعات جديدة، لاسيّما بعد ارتباطها بالدراسات اللغوية الحديثة، وينطلق تصور أحدهم عن الموحى به باعتباره نصًا من جهة، ومن جهة له واقعه المادي، ولذا يتم التعامل معه من خلال هذا البعد "النص والواقع"، فالواقع المادي عند الماركسية التقليدية هو المكون للبنى الفوقية مثل الدين والثقافة، ومع الماركسية المطَورة هو المكون للنص، وهنا يأتي ما هو أبعد من ذلك؛ فالوحي ذاته من الواقع، وكذا النبوة، ويمكن تفسيرها من خلال الواقع ذاته، وبهذا لا يكون مفارقًا للواقع ولا يكون فيه أي غيب (2)، فهذه الرؤية هي من المسار الأركوني نفسه، وإن كانت تركز على الدراسات اللغوية.
تتفق الأمثلة السابقة على نفي الوحي، وتحرص على تحويله لظاهرة بشرية، ثم منهم الغلاة الصرحاء الذين يعتبرونه وهمًا يمكن التخلص منه بالعلم، مثل "شبلي شميل"، ومنهم من يحوله إلى أسطورة بالمفهوم الذي تطرحه العلوم الاجتماعية عن الأسطورة، لاسيّما من جهة حاجة الإنسان إلى نوع من الأسطورة، فالوحي وإن لم يكن له حقيقة دينية ثابتة فهو كنوع من الأسطورة له أهميته ودلالاته، وحقيقة القول هو التكذيب بالوحي.
وممن انحرف في باب الوحي وأنكر مرجعيته تحت دعوى العقلانية والعلمية "د. لويس عوض"، وقد نُقل عنه قوله عن الكتب السماوية:"هي أشعار بعضها جيد وبعضها رديء"(3)، وفي حديثه عن كتاب "طه حسين -في الشعر الجاهلي" زعم أن منهج طه حسين هو المنهج العلمي وأن العقل الذي فيه هو العقل العلمي، بينما العقل المعارض له ليس سوى وجدان ديني، ويرى "لويس" قيمة كتاب "حسين" بأنها كانت في المنهج القائل: "إن الدليل النقلي وحده لا
(1) انظر: هكذا تكلم العقل ص 97.
(2)
انظر: التفسير الماركسي للإسلام .. ، د. محمَّد عمارة ص 56، وانظر: الفصل الأول والثاني من الباب الأول من كتاب مفهوم النص. . . .، د. نصر أبو زيد ص 31 - 74.
(3)
لويس عوض -الأسطورة والحقيقة، د. حلمي القاعود ص 61.
يكفي، وإن عنعنة القدماء عن القدماء أو المحدثين عن القدماء لا تكفي، بل ينبغي أن يمتحن كل شيء بالدليل العقلي وبالدليل الاستقرائي" (1)، ومما امتدحه "لويس" أيضًا في كتاب طه حسين: رفضه صحة قصة إبراهيم وإسماعيل وبناء الكعبة، فهي ليست حقيقة تاريخية، زاعمًا أن رفض "طه حسين" كان "وليد العقلانية والمنهج العلمي" (2).
بمثل هذه الروح الماركسية المتغربة يتكلم لويس عن القرآن ومرجعية الوحي وكأنها مرجعية خرافية أسطورية، وما كأنه الحق من رب العالمين، بينما يتكلم عن الفكر البشري القابل للصواب والخطأ والمستغل من قبل أعداء الدين وكأنه حق مطلق، ويكثرون من مصطلحات "المنهج العلمي" و"العقل العلمي" بينما لا علاقة لها بالعلم.
أختم بمثال معاصر في هذا الباب ألا وهو "د. حسن حنفي":
توسع أهل التغرب في استخدام المنهجيات الغربية مع الوحي، إما لنقده والتكذيب به، أو لتحويله عن مراده إلى أبواب تتسع لاستخدامات المتغرب وإسقاط أفكاره على الوحي.
وممن بدّل مفهوم الوحي ليتسع لمقولاته الدكتور حسن حنفي، فهو ممن اطلَّع على آخر المنهجيات وعَرَف كثيرًا منها، وقد ذُكر بعضها في فقرة سابقة، ومن هذه المنهجيات ما أسماه "الشعور"، وهو مصطلح غامض لم يحدد له معنى، رغم كثرة ترديده له، وقد استخدم هذا المفهوم الغامض في التلاعب بموضوع الوحي. وعندما نبحث عن معنى محدد للشعور ونبحث عن ما يقابله من تطبيقات حتى نتأكد من سلامة العمل، فلا نجد إلا الغموض، ولكن النتائج واضحة، وهي متمثلة في تبديل الوحي.
لقد عرفنا فيما سبق مفهوم الوحي الديني كما ورد في الكتاب والسنة، وعند مقارنتها بما يذهب إليه حسن حنفي نجد حجم التبديل والتحريف.
يقول: "نصوص الوحي نشأت في الشعور، إما في الشعور العام الشامل
(1) ثقافتنا في مفترق الطرق ص 152 نقلًا عن تلميذه غالي شكري في كتابه: النهضة والسقوط .. ص 251.
(2)
أوراق العمر ص 464 نقلًا عن: لويس عوض -الأسطورة والحقيقة، د. حلمي القاعود ص 58.
وهو ذات الله أو في الشعور المرسل إليه والمعلن فيه، وهو شعور الرسول أو شعور المتلقي للرسالة، وهو شعور الإنسان العادي الذي قد يشعر بأزمة فينادي على حل ثم يأتي الوحي مصدقًا لما طلب".
ويقول: "نصوص الوحي ليست كتابًا أنزل مرة واحدة مفروضًا من عقل إلهي ليتقبله جميع البشر، بل مجموعة من الحلول لبعض المشكلات اليومية التي تزخر بها حياة الفرد والجماعة. . . ."(1).
ويقول: "عندما نتحدث عن الوحي كمقصد من الله إلى الإنسان فإننا لا نستعمل لفظة "الله" للدلالة على شخص أو ذات أو قدرة مشخصة أو غيرها بل نتحدث عن واقعة الوحي ذاتها. ولفظة "الله" ليس إلا لفظًا عرفيًا استعمله الناس للدلالة على معنى عام، ويمكن استعماله مبدئيًا نظرًا لسهولة استخدامه في إيصال المعاني. . . ."(2).
هذه الشواهد المختارة من بين عدد كبير من النصوص مليئة أولًا بألفاظ سيئة لا يصح إطلاقها في أبواب العقائد، وكل فقرة منها قد تحتاج لوقفة، ولكن ذلك ليس المراد، وإنما المراد أخذ تصور عن الروح العلمية والمنهجية التي يطبقها حنفي على الوحي، وأبعادها الخطيرة، ومما نجد هنا:
• إلغاء المفهوم الحقيقي لمعنى الوحي الوارد في الكتاب والسنة، وتحويله إلى معاني غامضة.
• إهمال مصدر الوحي، وهو الرب سبحانه، وهو بهذا الإهمال يلغي مفهوم الوحي تمامًا.
• بعد تعديل مفهوم الوحي عن معناه الحقيقي وإغفال مصدره، حوّله إلى معطى للشعور، إنه انبثاق من الشعور الفردي والجماعي، أو هو بعبارات الماديين معطى تاريخي، ظهر في الأرض من الناس واستجابة لحاجاتهم، وهذا ما يؤكده مبحث أسباب النزول (3)، وإذا كان الأمر كذلك، فلا بأس من تحويل معناه ليتناسب مع الحاجات الجديدة.
(1) التراث والتجديد. . . .، حسن حنفي ص 136.
(2)
من العقيدة إلى الثورة 2/ 606.
(3)
انظر: التراث والتجديد، حسن حنفي ص 151.