المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌صور الدعاوى التغريبية: - النظريات العلمية الحديثة مسيرتها الفكرية وأسلوب الفكر التغريبي العربي في التعامل معها دراسة نقدية - جـ ٢

[حسن الأسمري]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثاني التأثر المنهجي في الفكر التغريبي بالانحراف المصاحب للعلم الحديث

- ‌الفصل الأول التأثر المنهجي في مصدر التلقي وطرق الاستدلال

- ‌المبحث الأول التأثر المنهجي في مصدر التلقي

- ‌مصدر العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية:

- ‌المصدر في العلوم الاجتماعية:

- ‌أسباب الانحراف في المصدر:

- ‌1 - التبعية للفكر الغربي:

- ‌2 - ظروف الصراع وأحواله:

- ‌مكانة الوحي في التصور الإِسلامي وصور إقصائه كمصدر للعلم عند المتغربين:

- ‌1 - مذهب غلاة المتغربين ودعوتهم لإقصاء الوحي:

- ‌2 - مذهب التوفيقيين من المتغربين ودعوتهم لإقصائه كمصدر للمعرفة:

- ‌مناقشة الملفقين:

- ‌3 - القول بجعل النظريات العلمية في مقام النص الشرعي وتقديمها عليه:

- ‌المبحث الثاني التأثر المنهجي في منهج الاستدلال

- ‌مشكلة الموضوعية:

- ‌استبعاد جانب القيم بحجة الموضوعية:

- ‌الموضوعية وعلاقتها بالحقيقة:

- ‌نموذج موسع للتلاعب المنهجي:

- ‌أ- حسن حنفي:

- ‌ب - محمَّد أركون:

- ‌الفصل الثاني التأثر المنهجي في طريقة التعامل مع القضايا الغيبية الاعتقادية

- ‌المبحث الأول التأثر المنهجي في طريقة النظر للغيبيات

- ‌معنى الغيب في التصور الإِسلامي:

- ‌[مسألة] وللغيب أقسام:

- ‌ارتباط الانحراف في الغيب بالانحراف في الربوبية:

- ‌من أصول الانحراف في الغيب:

- ‌المثال الأول: لويس عوض:

- ‌المثال الثاني: هشام شرابي:

- ‌المثال الثالث: حسن حنفي:

- ‌المثال الرابع: محمَّد أركون:

- ‌المبحث الثاني أمثلة للتأثر المنهجي وبيان خطورتها الاعتقادية

- ‌القسم الأول: موضوعات عمَدية يُدّعى عدم إمكانية إثباتها علميًا:

- ‌القسم الثاني: دعوى وجود رأي علمي آخر حول بعض الغيبيات دون شرط المعارضة:

- ‌القسم الثالث: دعوى مخالفة العلم لأبواب من الغيبيات

- ‌الفصل الثالث التأثر المنهجي في طريقة التعامل مع القضايا الشرعية العملية

- ‌المبحث الأول التأثر المنهجي في طريقة النظر للشريعة

- ‌المراد بالشريعة:

- ‌الغيب مع الطبيعيات والشريعة مع الاجتماعيات:

- ‌أصول منهجية تغريبية للنطر في الشريعة تدعي العلمية:

- ‌أصل الأصول: تعميم الظواهر الاجتماعية على الدين الحق:

- ‌الأصل الثاني: التطور:

- ‌الأصل الثالث: علمية وعلمنة العلوم الاجتماعية ودعوى قدرتها أن تسدّ مسدّ الدين:

- ‌الأصل الرابع: النسبية:

- ‌المبحث الثاني أمثلة للتأثر المنهجي وبيان خطورتها

- ‌الأول: في باب الأخلاق الإِسلامية:

- ‌أولًا: تعريف الخلق:

- ‌ثانيًا: المشكلة الخلقية في العالم المعاصر ولاسيّما في الغرب:

- ‌تاريخ الفكر الأخلاقي في الغرب:

- ‌الإطار العلماني للأخلاق الجديدة:

- ‌النظريات الأخلاقية الجديدة:

- ‌ثالثًا: تحليل ونقد للنظريات الجديدة:

- ‌رابعًا: نماذج من الأخلاقيات المتغربة تحت غطاء العلمية:

- ‌النموذج الأول:

- ‌النموذج الثاني: من علم النفس:

- ‌النموذج الثالث: الموقف الوضعي:

- ‌النموذج الرابع: أخلاقيات العلم الجديدة:

- ‌النموذج الخامس: الرؤية المادية والماركسية:

- ‌الثاني: في باب العمل بالأدوية الشرعية للأمراض الجسدية أو النفسية:

- ‌الأمر بالتداوي في الإِسلام:

- ‌الإطار العلماني وأثره في مجال التداوي الجسدي والنفسي:

- ‌أثر الأسس الفلسفية للممارسة الطبية الحديثة:

- ‌في الجانب النفسي:

- ‌بعض مشكلات الطرح التغريبي حول المجال الطبي والتداوي:

- ‌أين هي المشكلات في هذا الباب

- ‌نموذج عن الإشكال التغريبي في هذا الباب:

- ‌الثالث: في باب حكم التعامل بالربا:

- ‌القسم الأول: مدخل:

- ‌القسم الثاني: الإطار الاجتماعي العام للتحول الاقتصادي الغربي:

- ‌القسم الثالث: الأصول النظرية العلمية للاقتصاد الحديث:

- ‌الرابع: في باب حجاب المرأة المسلمة:

- ‌الباب الثالث صور لدعاوى باطلة ونظريات منحرفة ظهرت في الفكر التغريبي حول الدين والعلم وخطورتها

- ‌الفصل الأول صور لدعاوى أظهرها الاتجاه التغريبي باسم العلم الحديث

- ‌المبحث الأول دعوى أهمية علمنة العلم ورفض التأصيل الإِسلامي مظاهرها وخطرها

- ‌تعريف العلمانية:

- ‌وقفتان حول المصطلح: "تاريخية المصطلح، وعلاقته بالعلم

- ‌المبحث الثاني دعوى التعارض بين الدين والعلم الحديث

- ‌الفرق بين دعوى التعارض التراثية والدعاوى الحديثة:

- ‌صور الدعاوى التغريبية:

- ‌أصول عامة حول دعوى التعارض بين الدين والعلم:

- ‌مناقشة الدعوى:

- ‌أولًا: أهمية رفع التعميم والإجمال:

- ‌ثانيًا: ما المقدم عند التعارض

- ‌ثالثًا: "موضوعات الغيب وموضوعات الشهادة - الأكثر إشكالًا

- ‌رابعًا: ملابسات الدعوى التاريخية والأيدلوجية:

- ‌خامسًا: التفسير العلمي للنصوص الدينية:

- ‌المبحث الثالث دعوى كفاية العلم الحديث لحاجة الإنسان وشموليته بدلًا عن الدين

- ‌الشمولية في الإِسلام وحاجة الناس إليه فوق كل حاجة:

- ‌مناقشة دعوى كفاية العلم وشموليته:

- ‌نماذج من الانحراف التغريبي حول هذا الباب:

- ‌النموذج الأول:

- ‌النموذج الثاني:

- ‌النموذج الثالث:

- ‌النموذج الرابع:

- ‌النموذج الخامس:

- ‌النموذج السادس:

- ‌الفصل الثاني صور من تأثر الفكر التغريبي بنظريات علمية منحرفة حول مفهوم الدين

- ‌التمهيد

- ‌المبحث الأول التأثر بنظرية داروين التطورية من علم الأحياء حول الدين

- ‌ظهور الدارونية العربية:

- ‌من البحث في أصل الحياة إلى المادية الإلحادية:

- ‌المبحث الثاني التأثر بنظريات من علم النفس حول الدين

- ‌صراع النظريات النفسية ودلالاتها في الميدان الفكري:

- ‌دخول علم النفس للثقافة العربية والمواقف تجاهه:

- ‌نظرية فرويد النفسية ولاسيّما ما له علاقة منها بالدين:

- ‌المبحث الثالث التأثر بنظريات من علم الاجتماع حول الدين

- ‌علم الاجتماع بين العلمية والأيدلوجيا:

- ‌كيف ينظر علم الاجتماع للدين

- ‌المتغربون وعلاقتهم بالمدارس الاجتماعية العلمانية:

- ‌علم الاجتماع الديني:

- ‌الخاتمة

- ‌الفهارس

- ‌ملحق مفهرس للألفاظ الغريبة والمصطلحات والطوائف والفرق والمذاهب والتراجم مع التعريف بها

- ‌أولًا: قائمة الألفاظ الغريبة والمصطلحات الواردة في ثنايا البحث

- ‌ثانيًا: قائمة بالطوائف والفرق والمذاهب الواردة في البحث

- ‌ثالثًا: قائمة المراجع والمصادر

- ‌نبذة تعريفية الإدارة العامة للأوقاف

الفصل: ‌صور الدعاوى التغريبية:

في المناقشة حول هذه الدعوى، فإن جاء أصحاب الدعوى بزعم أن العقل يعارض النقل، فيُبطل أولًا المعارض العقلي، ثم نرتقي درجة في بيان أن العقل الصريح يوافق النقل، وليس مقصد العلماء حاجتنا إلى إثبات صحة النقل بشيء خارج عنه، فإن التسليم والاطمئنان والثقة بالوحي لا يعلو عليها بشيء، وإنما كان ذلك من أسباب التنزّل مع الخصم لبيان خطئه وبيان أن ما معه من دليل ليس له، بل عليه. فإذا أتينا إلى العصور الحديثة فقد نجد بعض التيارات الفكرية المتغربة لا تُقرُّ أصلًا بتلك الأمور العقلية التراثية (1) ولكنهم يعرضون المستجدات في الميدان، ولاسيّما في ميدان البحث وهو ما له صله بالعلم، فيكون الردّ بإثبات أن العلم الحقيقي النافع الواضح لا يمكنه بحال معارضة الدين، وهذا ما وصل إليه أهل العلوم أنفسهم في مرحلة ما بعد الغرور العلمي والوضعي كما سيأتي بإذن الله.

وإذا كان النوع الثالث والرابع هما المساحة التي يتحرك فيها الباحث المعاصر، فلا يعني هذا إمكانية الحركة دون الرجوع لشيخ الإسلام ابن تيمية، فإنه حتى من سلك طريقة أهل الكلام أو الفلسفة من الإسلاميين المعاصرين لا يجدون بُدًّا من العودة إلى هذا الجهد الضخم، إنه جهد من المنزلة والقوة والحجة والبيان ما يجعله أساس كل باحث في هذه المشكلة الخطيرة -مشكلة دعوى التعارض، إن الأداة النقدية هي التي نحاول استيعابها، أما الأمثلة والتطبيقات فهي التي تتغير، والمطلوب منا نحن الباحثين إنشاء قواعدنا الصلبة وتأسيسها بالاعتماد على ما أبدعه هذا الإمام الكبير، ثم نتحرك بذلك في ميادين عصرنا بما ينفع البحث العلمي. لهذا أحاول قدر المستطاع تأسيس ما يمكن من أدوات من خلال هذا العَلَم الإمام وأطبق ذلك على مشكلة البحث والله الموفق.

‌صور الدعاوى التغريبية:

تُثار هذه الدعوى منذ مئة وخمسين سنة تقريبًا، ولكنها لم توضع في صياغة واضحة كما وضعها مثلًا أهل الكلام في تاريخنا الإسلامي وإنما أُبقيت ملتبسة في صياغتها، تُرمى دون أن تحقق، وقد يكون لهم فائدة في ذلك؛ فإنها إن بقيت

(1) كان المثال الذي مثّل به شيخ الإسلام على هذا النوع (صفة العلو) وقد أخذ ذلك ما يقرب من مجلدين من كتاب الدرء، انظر: المرجع السابق 2/ 859 وما بعدها.

ص: 1214

بالتباسها سرى تأثيرها وأدّت وظيفتها المبتغاة؛ ذلك أن التحليل لدعوى المتغربين حول التعارض لا يجدها نتيجة أزمة روحية للباحث أو معرفية، وإنما يصل إلى أنها أداة تُرفع لمآرب أخرى. فقد يوجد فيهم من يلتبس عليه الحق ويظن بأن هناك تعارضًا بين الدين والعلم، ويُصدّق بدعاوى المبطلين ويسير في ركابها، إلا أن مجموعة من المتغربين هم منخرطون في تيارات فكرية علمانية معادية للدين، ويفرحون بأية أداة أو فكرة أو مفهوم أو دعوى ضد الدين، ولا أفضل عندهم من استخدام العلم الحديث، وهنا الفرق بين الأزمة الروحية والفعل الأيدلوجي. فإذا كانت الدعوى لم تخرج -أو لم يُرَد لها أن تخرج- في صياغة دقيقة وواضحة، فلابد لنا من التحليل لهذه الدعوى، فالنقد التحليلي هو الأنسب لمثل هذا النوع من الأمور الملتبسة، وهو الذي يكشف في النهاية حقيقة الدعوى فيوصلنا إلى ما يمكن وضعه في باب التعارض وما لا يمكن، ثم رفع الإشكال وكشف الخطأ أو الهوى.

عُرفت دعوى التعارض بين العلم داخل أوروبا، واشتهرت بعد الصراع الكبير الذي تولّد عن إعلان نظرية الفلك الحديثة، ثم تحولت الدعوى إلى ما هو أوسع مع بروز تيارات فكرية علمانية، ولاسيّما الوضعي منها والمادي، وفي تلك الخصومة وفي ذروتها جاء احتكاك المسلمين بهم، فنقلها طائفة صغيرة إلى الصحافة وتركّز الأمر على بعض النظريات، الفلك والتطور، وكان الأمر أخف حتى جاء الاستعمار البغيض للعالم الإسلامي، فنشأت في ظلّه تيارات فكرية علمانية كان أشدّها إلحادًا تلك التيارات اليسارية التي انقلبت مع ضعف الاتحاد السوفيتي سابقًا إلى تيارات حداثية أو ليبرالية، فكانت الدعوى أوسع من التحرك في مجال العلوم البحتة بل كانت على مستوى المذاهب الفكرية، فإذا حللنا هذه الدعوى -وهو تحليل يعتمد على النظر في تشكلها لأكثر من مئة عام- يمكننا إعادتها إلى الصور الآتية:

1 -

دعوى التعارض بين موضوعات دينية وموضوعات علمية.

2 -

دعوى التعارض على مستوى الإطار العام: الديني والعلمي.

3 -

دعوى التعارض على مستوى المنهج بين الدين والعلم.

4 -

دعوى التعارض على مستوى الأمر الشرعي والنشاط العلمي.

ص: 1215

ففي الصورة الأولى: يأتي مثلًا دعوى التعارض في مسائل الفلك، وأبرزها نظرية الفلك الحديثة حول ترتيب المجموعة الشمسية وصورة حركتها، وهي صورة أقرب لتوهم التعارض بين موضوعات جزئية؛ أي: موضوع محدد، وهذا النوع هو أقوى ما يمكن أن يقع فيه الالتباس والاشتباه ولكن مسائله قليلة.

أما الصورة الثانية: التي على مستوى الإطار، فهذه برزت مع المذاهب الفكرية وكانت أكثر وضوحًا فيها، ولم يكن خروجها من ميدان أهل العلوم بصورة واضحة، حيث يرى أصحاب هذه التيارات أن الإطار العلمي يختلف عن الإطار الديني، إنهما متعارضان تمامًا ولا يلتقيان في مستوى الحقائق، فالدين يخاطب القلب والوجدان بينما العلم يخاطب الحواس والعقل، الدين مثل الآداب والفنون أقرب للعاطفة والعلم لا علاقة له بذلك، ثم هم آراء بعد ذلك حول أهميته: فمنهم من يرى أنه مهم مثل الأدب والفنون والأساطير لحاجة الوجدان له، ومنهم من يراه وهمًا خطيرًا لابد من التخلص منه، وأبرز صورة للطرفين في المتغربين العرب هما:"الوضعيون واليساريون".

الصورة الثالثة: هي جزء من الصورة السابقة ولأهميتها أفردت، وهي التعارض على مستوى "المنهج"، ويُركز هنا عادة على المعيار الحسي والتجريبي للعلم مقارنة بالجانب التسليمي للدين؛ لاعتماده على الغيب، فكل ما ليس بمحسوس أو لا يمكن التحقق منه فهو يتعارض مع العلم عندهم؛ لأن العلم لم يدل عليه، فجعلوا عدم دلالة المنهج العلمي عليه دلاله على عدم علميته، وبهذا فهو يتعارض مع العلم، مع أنه لا يعني عدم دلالة الدليل المعين على مسألة هو عدم صحتها أو عدم وجودها بإطلاق، فلا تلازم هنا، حيث قد يوجد دليل آخر يثبته، فالمعتبر هنا هو هل يوجد دليل يدل عليه أم لا، فالأدلة تتنوع: منها العقلي الاستنباطي ومنها العلمي التجريبي الاستقرائي ومنها الخبر المتواتر.

أما الصورة الرابعة: فهي أضعفها حجة وإن كانت أكثر الصور حضورًا، وهي القول بوجود تعارض بين الأمر الشرعي "الدين" والنشاط العلمي، فهذا إن وجد في مسائل فلا يُسمى في الحقيقة تعارضًا بين حقائق وإنما هو معارضة لأمر الله سبحانه وشرعه، وهو أمر من الناحية التصورية مُسلّم به في كل الأمم: حيث نجد لكل أمة ثقافة ومعايير قيمية تحدد مسار النشاطات، وربما تكون في صلب القوانين، فلا يسمى هذا تعارضًا، ولكن أهل التغريب يحرصون على جعله

ص: 1216

من التعارض، فهو إن لم يكن تعارضًا على مستوى الخبر فهو تعارض على مستوى الأمر الشرعي، ولله الخلق والأمر، فلا يمكن وجود مسألة علمية خبرية تتعارض مع ما أخبر الله به، ولا يمكن وجود مسألة عملية علمية تتعارض مع أمر الله سبحانه.

ومن الأمثلة على الثاني ما تأتي به النشاطات العلمية في ميدان العلوم الاجتماعية أو حتى في مجال العلوم الطبيعية، ومن أمثلتها الحاضرة موقف الشرع من الاستنساخ أو تغيير الجنس أو حتى تحديد نوع الجنين، ومثل ما يقال من تعارض بين علم الاقتصاد والدين أو علم السياسة والدين أو علم النفس والدين أو علم الاجتماع والدين وهكذا مما يرتبط بالجانب الشرعي من الدين، فقد يُحرم الله سبحانه أمورًا مثل الربا، ويأتي علم الاقتصاد ويدعي ضرورته للنمو الاقتصادي، ثم يقولون: إن هناك تعارضًا بين الدين والعلم، علم الاقتصاد يريد التقدم للبشر والنمو وهذا يتحقق بالربا بينما الدين على عكس ذلك، فهذه دعوى باطلة، وهي معارضة لأمر الله سبحانه، ولكن أهل التغريب يدخلونها ضمن التعارض بين الدين والعلم، ويقولون: انظر لمجتمع يقوم على العلم، فهم في الاقتصاد يرجعون لعلماء الاقتصاد وفي السياسة إلى علمائها وفي الاجتماع إلى علمائه، وهكذا، بينما الناس عندنا يرجعون إلى الدين، والحقيقة أن الرجوع عندنا أيضًا يكون في كل بابه إلى علمائه، فيكون عندنا علماء للاقتصاد، ينمو بالأمم والمجتمعات، فالجميع يعود إلى العلماء ولكن الاختلاف هو في الإطار الموجه، فهناك من يجعل إطاره علمانيًا وهناك من يجعله دينيًا.

تمثل الصور الأربع لدعوى التعارض بين الدين والعلم نموذجًا لتحليل الدعوى، تحليلها إلى عناصرها الأساسية، لا أقصد منه الحصر الدقيق بقدر ما أهتم بتحليل يساعدني على تصور الموضوع ومناقشة إشكالاته، فتكون الصور الأربع أنسب لي في بحثي، وهي التعارض على مستوى "الموضوعات" أو "الإطار" أو "المنهج" أو "النشاط".

وإذا كانت الصور الأربع تحلل صور التعارض فإنها لم تحدد بوضوح الموقف الذي سلكوه بعد ذلك، فالموقف مثلًا في التاريخ الإسلامي قد عُرف عند طوائف في قانون التأويل وذلك بتقديم العقل أولًا، أما النقل فيؤول أو يفوّض.

ص: 1217

ولكن الوضع هنا يختلف؛ لأنه لا يوجد شيء في الدين إلا تركوه وذهبوا إلى الغرب يستقون منه كل تصوراتهم الجديدة مكانه، ورغم فساد القانون عند المتقدمين، إلا أنهم أحسن حالًا من المعاصرين، فالمسائل عند المتقدمين محدودة على الأقل في أبواب، أما مع المتأخرين ولاسيّما في الصور الثلاث:"الإطار - المنهج - النشاط" فما يبقى شيء في الدين إلا يُنتهك؛ لهذا جاء الموقف التغريبي في الدعوة إلى علمنة الحياة، يريدون إدارة الحياة بما أخذوه من الغرب، ويبقى الدين للشأن الشخصي الفردي، الفرد هو وما يريد، أما الحياة بما فيها جانب العلوم فتترك لتقليد الغرب، قطعًا يصعب على بعضهم القول بتقليد الغرب، سيقولون مكانها عبارات جميلة مثل:"الإبداع والنشاط العقلي والعلمي"، ثم لا تجدهم إلا على موائد المذاهب الغربية، لا أحد فيهم يريد الإبداع والتفكير والاختراع والعقل والعلم في ضوء الإسلام وهديه وإنما في هدي مذاهب فكرية علمانية، وضعية أو مادية أو غيرها من المذاهب الغربية. يحصرون الحل في رفع التعارض بإبعاد الإسلام عن الحياة وجعله شأنًا شخصيًا ويستبدلون به ما يستطيعون نقله من الفكر الغربي، وفي ذلك انحطاط فكري لا مثيل له في تاريخنا الإسلامي، فإن الانحرافات القديمة كانت تحرص على إبقاء الإسلام رغم ما تُحدثه من تشويهات له بواسطة مبضع التأويل، ولكنهم لم يصلوا إلى درجة إقصائه بعيدًا عن حياتنا بمثل ما حصل في هذا الغلو التغريبي.

أول مواجهة لهذه الدعوى بصورتها التغريبية كانت من قبل الاتجاه الإسلامي التوفيقي، ولاسيّما مع أبرز رموزه الشيخ "جمال الدين الأفغاني" والشيخ "محمَّد عبده"، حيث استند الأفغاني إلى الطريقة الفلسفية في التوفيق بينما استند محمَّد عبده إلى الطريقة الكلامية، وهناك مجموعة تأثروا به، فكانوا أقرب إلى التوازن من شيخيهما في أبواب من أمثال الشيخ "حسين الجسر" في الشام أو "محمَّد رشيد رضا" السوري في مصر أو الشيخ "ابن عاشور" في تونس أو "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين" أو الشيخ "الحجوي" في المغرب (1)،

(1) هناك دراسات حديثة تذكر في الجملة تأثر علماء المغرب بالدعوة السلفية رغم عدم تركهم للمذهب الأشعري، انظر مثلًا: الخطاب الإصلاحي في المغرب. . . .، عبد الإله بلقزيز ص 50 وما بعدها، وانظر: العقل والنقل في الفكر الإصلاحي المغربي .. ، حسن الحجوي ص 160 وما بعدها. =

ص: 1218

وغيرهم من العلماء الأفاضل، ممن أعجب أو تأثر بدعوة الأفغاني وعبده ومع ذلك أفادهم اطلاعهم على تراث ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من أهل السنة في اعتدال موقفهم.

هذا الاتجاه الكبير قام بأعمال كبيرة في القرن الرابع عشر، إلا أن العلاقة بين الدين والعلم وما يثيره أهل التغريب من دعاوى حول هذا الباب قد أخذت باهتمامهم وشكلت جزءًا من نشاطهم، فحرصوا على معالجتها ورفع الالتباس الذي فيها، ولهم في ذلك جهد عظيم لا ينكره أحد، فقد عاشوا فترة الاستعمار ونشاط تيارات التغريب، فواجهوا تلك الحملة الرهيبة واجتهدوا، فأصابوا وأخطئوا، يختلفون في ذلك، كل بحسب الظروف التي تُحيط به بحسب الإمكانيات العلمية والمعرفية التي يمتلكها.

غلب عليهم استثمار قانون أهل الكلام، لقد وجدوه آلة مناسبة لمواجهة المشكلة الجديدة، فكما واجه هذا القانون العقلَ قديمًا يمكنه مواجهة العلم حديثًا، مع الاجتهاد في التأويل عند الحاجة أو التفويض والتسليم عند عدم الاستطاعة، مع الاعتقاد أن للنص معنى لم تدركه عقولنا. مع أن هناك تعديلات تقع في التطبيق أجدها والعلم عند الله من التأثر بما اطلعوا عليه من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، فتجد عند بعضهم الاحتياط في إبداء الرأي، وتجد العناية بصحيح السنة، وتجد محاولة تجاوز بعض الأصول العقدية الكلامية أو الصوفية التي تؤثر في التصور الصحيح للدين وعلاقته بالحقائق العقلية أو العلمية، وهي ميدان بحث واسع لا يتسع له المقام (1).

= وقد صرح الشيخ "محمَّد بن الحسن الحجوي" بأنه وجد بعد سنتين من كتابته في الموضوع كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية، وفيه يقول:"ولقد وجدته مجموعًا واسعًا في مجلدات، ولكنه نحى غير المنحى الذي انتحيته. . . . وقد توافقنا والحمد لله في المبدأ الذي هو موافقة المعقول للمنقول غير أنه سلك طريق ابن خلدون في تقديم المنقول بل زاد هو ولو ظنيًا، فكأنه نقض مبرمه، وتنبغي مراجعة كتابه ومقابلته مع هذه الرسالة، فرب ساقية أنفع من بحر. . . ."، انظر: التعاضد المتين بين العقل والعلم والدين، له ص 92 هامش 2، بتحقيق د. محمَّد عزوز، وكتعليق لابد منه: فإن شيخ الإسلام ابن تيمية سلك طريقة السلف، فلا علاقة له بابن خلدون، وابن خلدون بعيد عن ابن تيمية، كما أن شيخ الإسلام كما سيأتي لم يقدم الظني.

(1)

انظر: شيئًا من ذلك في المبحث الثاني من الفصل الخامس من الباب الأول.

ص: 1219