الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني صور من تأثر الفكر التغريبي بنظريات علمية منحرفة حول مفهوم الدين
التمهيد
يعد الدين من أهم ما يميز المجتمعات البشرية عبر تاريخها الطويل، ولا يوجد مجتمع دون دين، إما دين الحق أو أديان الباطل. وقد كان كل مجتمع يدين بدين، ثم يطرأ عليه ما يحرف ذلك الدين أو ما يزيله ليحل مكانه دينٌ جديدٌ، وسار الأمر في الغالب على الاعتراف بعدم إمكانية العيش دون دين؛ لذا لم تنجح أي طائفة تبنت إلغاء الدين في الفكر القديم، حتى وقع ما وقع من أحداث تاريخية خطيرة داخل القارة الأوروبية أسهصت في إيجاد تيار قوي نجح مع الأيام وزاد أتباعه، حيث يرى أن الدين عبارة عن وهم وقعت فيه البشرية ولابد من التخلص منه، ثم بدأت رموز ذلك التيار كل يدلي بدلوه في أصل هذا الوهم وسبل التخلص منه، فتعددت آراؤهم في ذلك لحد التعارض والتناقض، إلا أن ما يجمعهم في الغالب هو عدم وجود دين حقيقي ذي صفة موضوعية خارجية إلا في أوهام الناس، وأن كل عناصر الدين الكبرى وأصوله من الإقرار
بوجود إله ووجود عالم غيبي ووجود عالم أخروي فضلًا عن وجود النبوات وما أنزل على الرسل كله في زعمهم من الوهم.
ولا شك أن الأديان المؤولة أو المبتدعة هي من أوهام الناس وثمار عقولهم القاصرة المجانبة للهدي السماوي، فهي مما ينطبق عليه الكثير من تلك المقولات، إلا أنها لا تقف عند هذا الحد؛ وإنما تتجاوز ذلك إلى نفي الوجود الموضوعي الحقيقي للدين بأصوله، ومن ثم نفي الوجود الحقيقي للدين المنزل. ربما لو وقفت تلك الحركة الفكرية في نقدها لمفهوم الدين عند ما يبتدعه الناس وتخترعه المجتمعات؛ لكان فيها ما ينفع المنغرسين في الوهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ولكنها قفزت من نقد الوهم إلى نقد الحق والتكذيب به، فضلوا وأضلوا وسببوا للبشرية انحرافًا خطيرًا بما سنوه من سنة سيئة فتبعهم عليها الكثير ممن تأثر بهم.
إذا استعيد ما سبق الحديث عنه من الصراع الكبير بين الكنيسة والحركة العلمية والفكرية الحديثة، وما نتج عن ذلك من بروز تيارات مناهضة للكنيسة ومن ثم مناهضة للدين، ونجاح هذه التيارات في الانتشار والاتساع بسبب تذمر الناس من أفعال الكنيسة ونشاط التيارات في دعوتها، إذا استُحضر كل ذلك وما تبعه من أمور؛ فإن أغلب رواد تلك التيارات لم يكونوا ضد فكرة الدين كما هم ضد الكنيسة، بل كانت لهم كتابات لاهوتية وميتافيزيقية ذات إقرار بمسلمات دينية من نوعٍ ما، حتى جاء الانعطاف مع أصحاب الدين الطبيعي الذين رفضوا أصل النبوة وأقرّوا فقط بوجود الرب سبحانه ليفتحوا المجال لرافضي الدين ولدعاة الإلحاد (1) من أمثال من يطلق عليهم "اليسار الهيجلي" أو "المتحررون الهيجليون" أو ما شابه ذلك من مصطلحات، يهمنا مدلولها القائم على الإلحاد وإنكار الدين، وكان أبرزهم وأشهرهم الفيلسوف الألماني "فيورباخ".
لقد تفرغ "فيورباخ" لدراسة الدين ولكن من منظور إلحادي، وأخرج دراساته في ذلك، ثم أصبح في الغرب مرجعية للملحدين في الموقف من الدين، يقول باحث معجب به "د. أحمد عطية": "لا يوجد أحد من الفلاسفة المحدثين
(1) انظر: تيارات الفكر الفلسفي. . . .، كريسون ص 153 - 175.
قد شغل نفسه بمشكلة اللاهوت مثلما فعل فيورباخ" (1). ورؤيته تتلخص في أن ""الأنثروبولوجي هو سر [حقيقة] اللاهوت"؛ أي: أن جوهر وحقيقة الدين ومعناه الباطني العميق هو الجوهر الإنساني" (2)، ففي رؤيته بأن ما يُعتَقد بأنه الله ليس سوى الإنسان، حيث قام الإنسان بإسقاط صفاته على الإله (3)، ويقوم الإلحاد الفلسفي الفيورباخي بعد ذلك في دعوى تخليص الإنسان من هذا الوهم.
وقد نجد بعد ذلك من العرب من يرى أن عمل "فيورباخ" يُعدّ من مجال البحث العلمي في الدين، وأنه يتجاوز الفهم الضيق للدين بحسب زعمه، ففلسفة "فيورباخ" "تؤسس لكثير من العلوم التي تهتم بتحليل الدين من قبل: تاريخ الأديان، ومقارنة الأديان، وعلم الاجتماع الديني، وعلم النفس الديني، وفلسفة الدين التي تعد أوسع هذه العلوم في النظر إلى الدين، وتلك كانت أساس أبحاث فيورباخ" (4)، ومن أجل ذلك يقول: "نذرت جهدي من الآن من أجل تقديمه إلى الثقافة العربية" (5).
لقد أخرجت الرؤية الفيورباخية إطارًا جديدًا يدخل فيه كل الأنشطة التي ترى الدين هو في حقيقته نابع من الأرض، ولا يشترط بعد ذلك العودة لفيورباخ نفسه بقدر ما تكون العودة للإطار بعد أن تعمم في الثقافة العلمانية.
ولكن "فيورباخ" بقي محسوبًا على الفلسفة، وهي في الأغلب ذات واقع معارض للدين مما يجعل الناس لا يكترثون لدعوته، لولا أن دعوته قد تحملها المنتسبون لميدان العلم ولاسيّما العلوم الاجتماعية، حيث شكلت رؤيته مناخًا وإطارًا ورؤية لمن بعده، فالبعض يصرح في اعترافه منها، والبعض الآخر يتحرك في ذلك الإطار دون أن يعلن انتسابه لفيورباخ.
(1) أصل الدين، فيورباخ، دراسة وترجمة، د. أحمد عطية ص 9 من الدراسة، وانظر له أيضًا: الإنسان في فلسفة فيورباخ ص 185، وانظر: مبادئ فلسفة المستقبل، لودفيغ فويرباخ، من مقدمة إلياس مرقص ص 42.
(2)
انظر: أصل الدين ص 10، من المقدمة.
(3)
انظر: المرجع السابق ص 21 - 23.
(4)
انظر: الإنسان في فلسفة فيورباخ ص 220 - 222 والنص ص 220، انظر: المرجع السابق، أصل الدين ص 12.
(5)
الإنسان في فلسفة فيورباخ ص 4.
وفي هذا الإطار الفيورباخي برزت نظريات تدّعي انتماءها للعلم ولكنها فيورباخية في حقيقتها، وذلك في موقفها من الدين، وأهمها -ولاسيّما تلك التي عُرِفَ لها صدى في الفكر التغريبي- ثلاث وهي:"المذهب الداروني"، و"مدرسة التحليل النفسي الفرويدية"، و"علم الاجتماع" ولاسيّما الماركسي منه.
يتناول هذا الفصل الحديث عن امتداد هذا المفهوم الفيورباخي عن الدين إلى ميادين مختلفة من ميادين العلوم، وقد يختفي اسم فيورباخ ولكن يبقى المفهوم سائدًا في أعمال مجموعة من الملحدين الذين اشتهروا بالنشاط في العلوم الاجتماعية والطبيعية، وجعلوا تصوره عن الدين هو الصورة أو الإطار الذي يفهمون به الدين.