الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرد من جهة، وبين صيانة قيم المجتمع من جهة أخرى، فإن التشريع يقف عاجزًا ولا يجد أولو الأمر مناصًا -حتى لو كانوا علمانيين- من طلب العون من الدين" (1).
2 -
وتأتي ثانيًا من الإصرار على البقاء في ظل الظواهر المادية دون ربطها بمدبر الأمور سبحانه، فمع انفصال العلم عن الدين وقع الانحراف في باب الربوبية بحيث تنسب كل الأحداث لأسبابها الطبيعية مع إغفال تام لما وراء ذلك، ومن ثم إحالة المريض مثلًا في اعتماده على السبب المادي وعدم النظر فيما وراء ذلك، فيقطعون الصلة بين المريض وبين ربه حتى في أشدّ حالات الإنسان ضعفًا وفقرًا واحتياجه لعون الله سبحانه، ولا يعني هذا التنكر للأسباب التي وضعها الله في الأدوية، بل إن حديث التداوي يرشد لذلك بصراحة تامة، وهكذا يجتمع في التصور الإِسلامي قوله تعالى {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)} [الشعراء: 80] مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء".
3 -
وتأتي ثالثًا من رفض الأسباب المعنوية للأمراض، لاسيّما في رفض ما كسبت أيدي الناس، وهو أوسع في مجال النفس، فهناك رفض لما ورد من أسباب صرّح بها الدين عن المرض النفسي لاسيّما الذنوب بكل أشكالها أو الأثر الذي يأتي من قبل السحر والحسد، ومن ثم إنكار العلاج النبوي لهذه الأمراض، لاسيّما: العلاج بالرقية، والدعاء، والصدقة، وغيرها، وذاك يرتبط برفضهم للتصور الديني عن النفس والروح وعلاقة ذلك بالطاعات والمعاصي وعلاقة النفس بالجن وبالابتلاء وبغيرها من الأمور التي جاء الدين بذكرها وبيان الحق فيها، وهذه أمور لا يستطيع البشر إدراك حقيقتها بأدواتهم البشرية، ومن ثمّ فهم في حاجة لمصدر آخر يعرفهم بها.
نموذج عن الإشكال التغريبي في هذا الباب:
النموذج الأول: يمكن ذكر مثال عن طلب علاج المشكلات النفسية كالقلق، وهي حالة انتابت الإنسان المعاصر، وهي تجد علاجها في الطب النبوي في ظل التصور الإِسلامي القائم على تحقيق الصلة الإيمانية العميقة بالله
(1) المرجع السابق ص 109.
سبحانه (1)، ولكن التيارات التغريبية لا تتحمس لمثل هذا العلاج، وعندما تبحث عن العلاج في العلم الحديث تبالغ هذه التيارات في الاحتفاء بالجوانب اللادينية منه والإلحادية لاسيّما المثال الذي يُذكر هنا:
لقد كوّن "غالي شكري" الماركسي خليطًا مميزًا من العلاج النفسي لظاهرة القلق أثناء دراسته لفكر أستاذه "سلامة موسى" يجمع بين التماسه الثناء لمواقف أستاذه سلامة موسى الفرويدية - الدارونية وبين مواقفه الماركسية التي يقدمها كبديل أفضل لمعالجة القلق، فأستاذه يميل لفرويد مع خليط من الدارونية الاجتماعية بينما يذهب "غالي" إلى الماركسية، وبهذا يَعرض هنا رأيين للعلاج النفسي التغريبي بشكل مختصر كما عرضها غالي شكري.
يستعرض "غالي شكري" الماركسي علاج القلق من خلال دراسته لسلامة موسى الذي تقلب بين علماء النفس الغربيين، مثل "فرويد" و"بافلوف" و"واطسن"، حيث كان سلامة موسى أول حياته أقرب لفرويد بخلاف تلميذه "غالي" حيث كان لماركسيته متحمسًا لبافلوف (2)، وقد "أثبت بافلوف أن "ما يحدد أساسًا شعور الإنسان ليس جهازه العضوي وظروفه البيولوجية، كما يعتقد الماديون السطحيون ورجال التحليل النفسي، بل ما يحدده على عكس ذلك المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان والمعرفة التي يحصل عليها منه، فالظروف الاجتماعية للحياة هي المنظم الحقيقي للحياة العضوية والذهنية". وبذلك أكد بافلوف ما تقوله الماركسية بأنه ليس شعور الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل إن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد شعورهم"(3).
وقد قدم "سلامة موسى" كتابه: "محاولات سيكلوجية" كمحاولة علمية نفسية لدراسة المجتمع وعوامل تغيره، ويقابل في أثناء الدراسة مجتمعًا بعواطف حائرة، كالقلق والخوف، والفراغ، واليأس. ومع معالجات سلامة الفرويدية الدارونية، فإن غالي يحولها للماركسية فيقول: "وعدم الاستقرار النفسي، هو
(1) انظر: العلاج النفسي لدى ابن القيم، أ. أحمد المطيلي ص 7 وما بعدها من أبحاث ندوة علم النفس، المعهد العالمي للفكر الإِسلامي.
(2)
انظر: سلامة موسى وأزمة الضمير العربي، د. غالي شكري ص 178.
(3)
المرجع السابق ص 179.
الدلالة الأولى لعدم الاستقرار الاقتصادي" (1)، فالقلق "الذي اختلفت المدارس النفسية البرجوازية في تفسير نشأته ليس "توترًا غريزيًا" كما يقول فرويد، وليس "ضعفًا عامًا في الجهاز العصبي أو خطأ في التركيب العضوي كاختلال في الأوعية الدموية أو في القلب" كما تقول المدارس السلوكية. إن القلق -كما يرى هندرسون وجيلزيا- "هو خلاصة المواقف الإحباطية" المعوقة، كالحالة الاقتصادية، والفشل في الحب أو الزواج أو العمل، أو أسلوب التربية الخاطئ.
والحق أن هذه الأشياء جميعها هي وجوه مختلفة للتكوين الاقتصادي الواحد" (2)، فيكون علاجها الماركسي كما هو المعتاد بتبني الماركسية التي تغير هذا الاقتصاد الذي يسبب القلق. أما "سلامة موسى" فيميل لـ"فرويد" أكثر ويجمع معه بعض أصول الدارونية الاجتماعية، فشارك في بعض الهيئات الاجتماعية لمعالجة صور من هذا القلق النابع عن الأزمة الجنسية، ورأى تحت تأثير فرويد تخفيف الفصل بين الجنسين وتيسير الاختلاط، "ففي المجتمع العلمي يعيش الذكور مع الإناث منذ ميلادهم إلى وفاتهم، لا ينفصل جنس عن الآخر؛ لأن هذا الوضع الطبيعي الذي تصرخ به الطبيعة. والمجتمع الذي يعارض الطبيعة مجتمع فاسد. وهو لن يستطيع أن يهزمها؛ لأن الطبيعة ترد اللطمة، فيكون من الانفصال بين الجنسين تلك الشذوذات الجنسية التي شاعت في أمم شرقية عديدة، بل قد يكون الجنون. . . ." (3).
وكتعليق مختصر لابد من التفريق بين علم النفس الصحيح والنافع والمتطور يومًا بعد يوم على أيدي العلماء وبين المشكلات التي أحاطت به بسبب العلمنة والمادية والإلحاد في البيئة الغربية أو بسبب التغريب في البيئة الإِسلامية، فالمتغربون يتخذون من مشكلات هذا العلم أداة لمهاجمة الدين مباشرة، أو بصورة غير مباشرة بجر المشكلات النفسية هنا إلى مجال علاجي لا علاقة له بالعلاج، مثل ربط المشكلات النفسية بالجنس مع الفرويديين المتغربين. ومن ثمّ الدعوة للاختلاط كما سبق تصور "موسى" للمجتمع العلمي الطبيعي، فإن الشذوذ والقلق هو أكثر وضوحًا في المجتمعات الغربية التي تبنت
(1) انظر: المرجع السابق ص 181.
(2)
المرجع السابق ص 182.
(3)
المرجع السابق ص 183.
هذا العلاج، ومن ذاك العاقل الذي ينكر حجم الشذوذ في بيئات ساد فيها التعري والاختلاط؟ ولهذا يتحول العلاج مع الماركسي شكري إلى علاج اقتصادي، فسبب القلق يعود بحسب الرؤية الماركسية إلى الاقتصاد، ولذا يكون العلاج أيضًا بتغيير طبقي يعالج الوضع الاقتصادي الذي تسبب بهذا المرض، وهكذا ينتقلون من مرض لمرض وهم يحسبون أنهم يتبعون أفضل العلوم الطبية النفسية في معالجة القلق، ومع ذلك لم يظهر أثر نافع لذلك، وقد رأينا شهادات لعلماء النفس المعالجين -مثل يونغ- أن المشكلة ترتبط حقيقة بفقد الدين في المجتمع الحديث.
النموذج الثاني: يمثل النموذج الثاني مشكلة عدم التفريق بين الأنواع الثلاثة من العلاج: العلاج النبوي والعلاج العلمي والعلاج السحري، فنقصد بالنبوي ما جاء ذكره في الطب النبوي مرفوعًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والعلاج العلمي ما قام على المنهج العلمي التجريبي التطبيقي، والسحري ما قام على الخرافة والاحتيال والاستعانة بالجن، ويعد كتاب "د. عبد المحسن صالح""الإنسان الحائر بين العلم والخرافة" من الكتب الجيدة التي تحارب الجانب الخرافي والسحري، وهو أمر من صلب المنهج الإِسلامي الذي شدّد في النهي عن هذا النوع، لاسيّما إذا خالطه السحر، وهو بهذا يدفع المسلم نحو النافع له من علاج ديني أو دنيوي صحيح، ولكن قد يختلط الأمر على بعض من لا يحيط علمًا بالتصور الإِسلامي، وبسبب نفوره من السحر والخرافة يشتط فيقيس ما جاء به الشرع بمثل هذا النوع، ويتعمق عند بعضهم عندما يظن أن ما جاء به الدين هو ما يحصل من مدّعي الولاية من علاجات ينسبونها للدين، مع أن حالهم بعيدة عن ذلك؛ فقد تلبسوا بالبدع والمفاسد التي نهى عنها الدين، فتكون هذه الأحوال مدعاة لشطط آخرين في نبذ العلاج الديني.
ففي أثناء حديثه عن التعاويذ المحرمة يدمج معها قضايا هي من الرقية الشرعية الصحيحة، ومن ذلك:"يقوم الطب الخرافي في أحيان كثيرة على تعاويذ وأحجبة، ووضع يد الشيخ المداوي على موقع الجزء المريض مع تمتمة ودعوات قد تكون غير واضحة، ولا مفهومة"(1)، ويقول بعد ذلك: "ومن الغريب حقًا أن
(1) الإنسان الحائر بين العلم والخرافة، د. عبد المحسن صالح ص 78.
كثيرًا من المتعلمين والمثقفين "ودعك من العوام"، لا يزالوا يعتقدون حتى الآن في أن بعض الأمراض النفسية والعصبية تنشأ أساسًا من مس الجن أو العفريت للإنسان، أو أنه يتقمص جسده،. . . ." (1)، ومع خلطه بين الرقية الشرعية وغير الشرعية يقع في إشكال آخر، حيث يظهر من كلامه إنكاره للمسّ وأثره في الأمراض النفسية مع ثبوته بنصوص شرعية.
وبقدر ما نؤكد منع الإِسلام من التداوي السحري أو الخرافي أو المحرم نثبت ما جاء إثباته في الطب النبوي من أبواب العلاج الشرعية التي دلنا عليها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، والعجيب أن العالم اليوم يعود للأدوية الطبيعية مع أن الطب النبوي قد جاء بالكثير منها (2)، ويعودون للشرق الأقصى (3) ويتقبلون أدويته بديلًا عن أدوية الحضارة المعقدة ومع ذلك يتركون ما أرشد له الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحة وحفظ النفس والعقل وغيرها من أمور الوقاية العلاجية.
وبعد، فإن الطب وإن كان من علوم الدنيا إلا أن له أصولًا ترتبط بالتصور الإِسلامي، وما كانت هناك مشكلات في الزمن الماضي حول هذا الباب باستثناء نوعين من التداوي، وهما التداوي بحرام أو التداوي بالسحر، ومع ظاهرة العلمنة للعلوم دخل أثرها إلى الطب أيضًا، ومن ذلك ما دخل باب التداوي من المشكلات تحت مسمى العلمية، وهي غالبًا إما بنفي ما لم يحيطوا به علمًا، من مثل نفي الرقى الشرعية والأدوية النبوية، أو بفتح الباب لأدوية محرمة جديدة تحت مسمى العلمية مثل بعض صور العلاج النفسي. وقد شارك المتغربون في هذا الباب، فصرنا نقرأ ونسمع عن مشكلات الكبت ودورها في العُصاب والعلاج لها يكون بإزالة الكبت بطرق ابتدعوها، وإذا بها في حقيقة أمرها ترتبط بتصور إلحادي. ومن هنا جاء خطر التعامل مع الطب المُعَلْمَن دون جهد في التنقية لاسيّما في باب الطب النفسي. نترك هذا المثال وننتقل إلى مثال جديد من الانحراف التغريبي في باب الشريعة.
(1) المرجع السابق ص 81.
(2)
انظر: الأسس الإبستمولوجية لتاريخ الطب العربي. رؤية معرفية في تاريخ الحضارات، د. خالد حربي ص 147.
(3)
انظر: في فلسفة الطب ص 46.