الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حقيقة الغيب، وكل ما عداها احتمالات. وإن هنالك حتمية واحدة هي وقوع ما يقضي به الله ويجري به قدره.
وقدر الله غيب لا يعلمه إلا هو. وإن هنالك -مع هذا وذلك- سننًا للكون ثابتة، يملك الإنسان أن يتعرف إليها، ويستعين بها في خلافة الأرض، مع ترك الباب مفتوحًا لقدر الله النافذ، وغيب الله المجهول .. وهذا قوام الأمر كله .. {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} " (1).
من أصول الانحراف في الغيب:
ويمكن إجمال الأصول التي يقع فيها الانحراف في الغيب من ثلاثة جوانب، تحوي شبكة معقدة من المفاهيم والمصطلحات للانحراف في الغيب باسم العلم، وقد تحرك من خلالها المتغربون، إما تأثرًا بها أو استغلالًا لها، بعض هذه الأصول يرتبط بالعالم المحسوس، وبعضها بطريقة النظر، وبعضها يتعلق بنصوص الغيب.
فمن بينها في الجانب الأول: مفهوم الطبيعة والصدفة الذي قُدس عند الماديين (2)، وأصبحت مفهومًا يوازي باعترافهم ما يعتقده المؤمنون بربهم، لقد وضعوا الطبيعة والصدفة مكان الإله الخالق المدبر القدير القوي الفعال لما يريد، الطبيعة بقوانينها وقواها تُدبر أمرها وتُحدث عجائبها، وتسير وفق حتمية صلبة لا مجال فيها للجواز والإمكان، وهي تملأ الوجود، ممتدة في المكان والزمان، ولهذا من وجد منهم معترفًا بوجود الرب تجده يقول بوحدة الوجود، وقد أُقصي مع مثل هذا الفهم للطبيعة كل أمور الغيب، فما لم يوجد في الطبيعة فلا حقيقة له. وقد ارتبط بهذا التكذيب بالغيب، فبعد اكتشاف الطبيعة لم يعد هناك مجال للإقرار بالغيب.
(1) في ظلال القرآن، سيد قطب 2/ 1120 - 1121.
(2)
حول مفهوم "الطبيعة" انظر: المعجم الفلسفي، د. جميل صليبا 2/ 17، وانظر: الموسوعة الفلسفية العربية 1/ 1020، وانظر: نفس المرجع قسم الاصطلاحات والمفاهيم ص 560، وحول مفهوم "الصدفة" انظر: الموسوعة الفلسفية العربية 1/ 23 وفيه عرض للعلاقة بين مفهوم الآلية والمصادفة، وفي المرجع نفسه قسم (الاصطلاحات والمفاهيم) ذكر أن الصدفة رغم تعارضها مع مبدأ الحتمية الطبيعية إلا أنها تفسر ما لا يمكن تفسيره علميًا ص 533 حول مصطلح "صدفة"، وانظر: أفي الله شك ص 114.
ومن بينها في الجانب الثاني: مفهوم العلمية الضيقة الحسية (1)، فالعلم هو الحسي التجريبي، ومن ثمّ فكل حديث عن غيب أو ما ورائيات فهو غير علمي، وقد برز ذلك بقوة مع التيارات العلموية الوضعية التي صاحبت التطورات العلمية التجريبية في الغرب، وقد سادت في الفكر الغربي وتأثر بذلك المتغربون وقلدوا تيارات الفكر الغربية، فاستهانوا بالغيب بحجة عدم علميته.
ومن بينها في الجانب الثالث: مفهوم الأسطورة، فقد دخل بقوة ميدان العلوم الاجتماعية، وقد أخذ به المتغربون بوصفه مفهومًا يمكن تطبيقه على الغيبيات، فقد كان علم الأساطير يهتم بدراسة الأساطير التي ملأَت الثقافات الوثنية القديمة، ولكن الملاحدة قد وجدوا فيها أداة مناسبة للطعن في الدين، وظهرت من خلال الدراسات المقارنة، فيجمعون كل ما يجدون حول أصل الإنسان، ويخرجون من ذلك بأن ما وجد عند أهل الكتاب له شبه في ديانات غير كتابية، فيصلون من ذلك إلى أن هذا القاسم المشترك دليل على الأسطورة، وهو ميدان واسع يهمنا منه زعمهم أن كل الغيبيات تدخل في الأساطير، وأنه مع تقدم العلوم الطبيعية تبدأ المعرفة الأسطورية في الاختفاء، ومنها الدين، ولكن حدث لمفهوم الأسطورة تطورات في ميدان العلوم الاجتماعية، ومن أهمها محاولة تجاوز القول الذي ارتبط بالتيار الوضعي الذي يرمي الأسطورة في عالم الخرافة، وأصبح الرأي الجديد يرى بأن الأسطورة وإن لم تكن صحيحة وذات واقع موضوعي، إلا أنها مهمة للإنسان، فلا يمكن نفي الأسطورة كما تخيل التيار الوضعي العلموي. ولكن يتفق الطرفان على عدم وجود حقيقة لها، ولكن العلمويين يرفضونها بينما المعاصرون يعترفون بوجود أثر مهم لها، وعدم إمكانية استبعادها، فالإنسان لا يعيش بالعقل فقط، بل بالأسطورة أيضًا.
وقد عُرف عند المتغربين التكذيب بالغيب، أو التشكيك فيه، أو تأويله تحت دعوى أسطوريته، فمع انتشار الفكر الماركسي والأبحاث التاريخية من جهة وبعض العلوم الاجتماعية دخل مصطلح الأسطورة أداةً للتكذيب بالغيب (2)، وهو
(1) انظر: المعجم الفلسفي، د. جميل صليبا، (المذهب الحسي) 1/ 470، وانظر: الموسوعة الفلسفية العربية 1/ 510.
(2)
حول معنى "الأسطورة" وعلمها، انظر: معجم الفلسفة، د. جميل صليبا 1/ 79، وانظر: الموسوعة الفلسفية العربية، (الاصطلاحات والمفاهيم) ص 67.
بارز في باب العلوم الاجتماعية المعاصرة، فيذكر أحد المدافعين عن العلمنة دخول هذا المصطلح في الستينات وهي فترة عرف فيها انتشار الفكر اليساري والحداثي فيقول:"فجاء النظر في التراث على اعتبار أنه من أمور الماضي التي ولّت ولا مكان لها في الثقافة العقلية للعصر. واستتبع هذا النظر إلى المفاهيم الإِسلامية العقائدية، كالألوهية والعوالم الروحانية والجن والعفاريت، وأخبار العصور الفائتة، على أنها أساطير -وأصبح ممكنًا النظر إلى قصة إبليس، مثلًا، على أنها قصة مأساوية، تقارب التراجيديا الإغريقية- دونما علاقة بواقع معين. . . . وجاءت أخبار إبراهيم وهود وصالح وغيرهم أخبارًا منسوبة إلى أنبياء ذات أصول عبرية وسومرية وبابلية موظفة في سبيل المشروع السياسي المحمدي. . . ." وغيرها من الأمثلة التي جمعها العظمة عن الرافعين لمفهوم الأسطورة (1).
ولا يمكن عند أصحاب الأسطورة دراسة التراث دون الاعتماد على مفهوم الأسطورة، حتى الإِسلام، فمع وجود من يقول بأن الإِسلام قد أحدث قطيعة مع الأساطير، فإنه مع منظري الأسطورة غير مسلم به، ويضرب "سيد القمني" أمثلة على ذلك تجعل من الإِسلام مثله مثل غيره فيه أساطير، ومما ذكره "حادثة الإسراء والمعراج. . . . هل نرفضها بمنطق رفض اللامعقول؟ أم نبقي عليها بمنطق الإيمان؟. . . . ثم كيف نصنف دابة البراق -التي حملت الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى القدس- تصنيفًا علميًا يضعها ضمن فصيلتها الحية. . . ."(2)، وقد انطلق في كتابه مقارنًا بين الأساطير، وبين الكثير مما جاء ذكره في الوحي من أخبار الغيب.
وقد نجد في كتابات عربية متغربة أسلوبًا ملتويًا، فهم ينقدون قضايا غيبية
(1) العلمانية من منظور مختلف، د. عزيز العظمة ص 272 وما بعدها، وانظر: مضمون الأسطورة في الفكر العربي، د. خليل أحمد ص 30 كنموذج من دارسي الأسطورة، ومن بين المتحمسين لها نجد صادق العظم في كتابه: نقد الفكر الديني ص 58، وانظر كلام الدكتور محمَّد عمارة حول أحد المتبنين لهذا المفهوم من الماركسيين المعاصرين في كتابه: التفسير الماركسي للإسلام ص 58. أما كلمة التراجيديا فهي: (أعمال درامية، شعرية أو نثرية، تتحرك فيها الأحداث باتجاه خاتمة مشئومة أو تتضمن كارثة وبخاصة في المسرح، اشتهرت مع الإغريق)، انظر: التراجيديا والفلسفة، والتر كاوفمان، ترجمة كامل يوسف ص 9، من كلام المترجم.
(2)
انظر: الأسطورة والتراث، سيد القمني ص 22.