الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نخوض مجال القيم والغايات الإنسانية، وهو مجال يهم البشر جميعًا، لا العلماء وحدهم. . . . وإنما الواجب أن يشارك فيه المفكرون والأدباء والفنانون والفلاسفة، وكل من يهمه مصير الإنسانية ويفكر في هذا المصير بنزاهة وتجرد" (1)، ثم النتيجة بأنه لو "وصل عالمنا إلى المرحلة التي يكون فيها لهؤلاء العلماء مع الفلاسفة والأدباء والفنانين والمفكرين والاجتماعيين والأخلاقيين، كلمتهم المسموعة، لأمكنه أن يوازن بين تقدمه العلمي وتنظيماته الاجتماعية، وأن يحقق للبشرية ذلك الرخاء، وتلك الحياة الغنية -ماديًا ومعنويًا- التي يستطيع العلم "بقدراته الحالية" أن يحققها لنا. . . ." (2).
لا تختلف فكرة المعالجة تلك التي قدّمها "سلامة موسى" عن "ولز"، ومما يلاحظ بأن الكاتب قد أعطى مكانة مميزة للعلم، ولا مانع من ذلك، ولكنه في الوقت نفسه يرفض إدخال الدين كمجال يجلب التوازن ويحقق السعادة والطمأنينة، وإن شيئًا من التوازن لا يمنع من إدخال الدين وعلمائه في قائمة الفنانين والأدباء والمفكرين، فليسوا نَكِرة حتى يتم استبعادهم لولا هذا المرض العلماني الذي يدافع عنه الكاتب في نشاطه. فإذا تجاوزنا ما سبق فإن هذه النظرة يعيبها اختزال حياة الإنسان في النواحي الحيوانية من حياته، والوقوف فقط مع تلك الحاجات وفي حدود الدنيا فقط، وتغفل عن الآخرة، وعن ما هو أعلى من ذلك: وهو الحاجة للإيمان بالله والصلة به والشعور به وعبادته، وهذه لا يستطيع العلم الدنيوي ولا ذاك الفريق المقترح أن يحققها، ولذا تبقى الحياة القلقة النكدة، ويبقى دمار الأرض ما لم يربط الحل بالدين.
النموذج الثالث:
وكان الدكتور "زكي نجيب محمود" يسير في هذا الاتجاه بسبب انتمائه لمذاهب "الوضعية"، الذي يرى بأن العلم وحده يكفينا، ولكنه منذ أول الستينات بدأ يُدخل الوجدان كحاجة إنسانية، فظهر في كتابه:"الشرق الفنان" مساحة للوجدان في بناء الحضارة (3).
(1) المرجع السابق ص 285.
(2)
المرجع السابق ص 287.
(3)
انظر: الفكر الديني عند زكي نجيب محمود، د. منى أبو زيد ص 236.
ومع ذلك تبقى الرؤية العامة لهذا المفكر متأثرة بدعوى شمولية العلم وقدرته على تغطية كل المساحات أو أغلبها، حيث بقي جانب النظام في الحياة موكولًا للعلم، بينما الجانب الوجداني يمكن أن يدخل فيه الدين مع غيره من الأمور الوجدانية، وواصل الثبات على الدعوة للعلمانية وإنْ بصورة أقلّ حدّة من سابقيه (1)، فحصر دور الدين في تقديم "المبادئ الأساسية التي نسلك على هداها، والتي من شأنها أن تبلور لنا رؤية خاصة، وموقفًا معينًا من الكون والحياة بصفة عامة"(2)، فهو يُضيق من شمولية الدين ويوسع من شمولية العلم، ومع كل هذه التحولات لهذا الكاتب نحو تخفيف غلوّه الوضعي فقد بقي معه من آثارها أن بقي العلم الحديث هو المقدم، والعودة للدين تكون عند الحاجة.
أعطى للعلم مطلق ثقته وأعطى للدين مساحة ضيقة تتبع الوجدان، وحاصل الحال أن الحياة تُركت للعلم وأبقى جزءًا ضئيلًا للدين، ويكون دور الدين -في المرحلة المتأخرة من فكره- مع هذه الحضارة المادية التي تطغى على حياتنا المعاصرة هو إعطاء القيم، بينما حقيقته أوسع من ذلك، إنه يشمل الإنسان كله، قال -تعالى-:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)} [الأنعام: 162]، ذكر "السيوطي" في "الدر المنثور":"عن أبي موسى رضي الله عنه قال: وددت أن كل مسلم يقرأ هذه الآية مع ما يقرأ من كتاب الله"(3). وقال "الثعالبي" في تفسيره: "وفي إعلان النبي - صلي الله عليه وسلم - بهذه المقالة ما يلزم المؤمنين التأسي به؛ حتى يلتزموا في جميع أعمالهم قصد وجه الله عز وجل"(4). فالمحيا يكون بكل ما فيه لله سبحانه، إما أنه لله؛ أي: لوجهه سبحانه، أو أنه لله؛ أي: ملك لله (5)، وبهذا يكون الدين شاملًا لحياة الإنسان؛ لأن الإنسان هو ملك لله وعليه تبعًا لذلك أن يعيش وفق دينه الذي أمره به.
قد يلحظ الباحث التقلبات حول العلاقة بالدين مع التيار التغريبي المهتم بالعلم وفلسفته، فمع الجيل الأول كانت هناك أوهام بزوال الدين وتوحد العلم
(1) انظر: المرجع السابق ص 13 وما بعدها.
(2)
قيم من التراث، د. زكي نجيب محمود ص 331.
(3)
الدر المنثور. . . .، السيوطي 6/ 306.
(4)
تفسير الثعالبي 1/ 523.
(5)
انظر: زاد المسير، ابن الجوزي 3/ 123.