الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالساحة. ثم ظهرت مشكلات فأحيلت مع جيل لاحق إلى العلم ذاته، ولكن إلى شق آخر منه، بحيث يولّد المشكلات ويعالجها في الوقت نفسه ولكنه لم ينجح في ذلك. فظهر مع جيل معاصر إعادة الحديث عن دورٍ ما للدين، وإن كان دورًا ضيقًا وهامشيًا، ولا يُستغرب ذلك، فتمكن العلمنة والتغريب والشُبَه من القلوب مع ما ينازع عقلاءَهم من مشكلات يرون الدين هو الأقدر على حلها، تجعلهم بمثل هذا الاضطراب والحيرة في علاقتهم بالدين، ولكن هناك مؤشر آخر له أهميته: أن الدين ذاته يفرض نفسه بقوة ولا يمكن حتى مع المتغربين أن يتم تجاهله تمامًا، والخطورة هنا أن ينساق بعض الناس خلف المجالات التي يريد المتغربون جعلها للدين، بينما الدين أوسع من ذلك، فليس أخذ الدين من أجل الترقيع وإكمال ثغرات وحل مشكلات، وإنما أخذ الدين يكون بحق وبقوة، والاستمساك به والاعتصام به يكون أصلًا وغيره فرع عنه وتابع له.
النموذج الرابع:
يصعب القول بأن العلم الحديث -لوحده- فيه كفاية وأنه يشمل حاجات البشرية، ولهذا نجد المتغربين يضيفون له الثقافة التي نشأ فيها، والحضارة التي ظهرت معه، وهي هنا الثقافة والحضارة الغربية، فإذا كان العلم الحديث قد نشأ في الغرب فلنأخذه ولنأخذ ما حوله كما يقولون. يتحول العلم هنا إلى ذريعة لجلب الحضارة الغربية بكل مكوناتها لتكون بديلًا عن هويتنا وثقافتنا التي يريدون منا تركها، هذا بارز في دعاة التغريب والعلمنة من غير المهتمين بالعلم ذاته وإنما همهم الفكر والأدب الفن والثقافة الغربية، ويجعلون العلم وسيلة لذلك الهدف، ويتذرعون بمصطلح الكونية والشمولية والعالمية للثقافة الغربية.
من بين أبرز من أصّل لهذا المصطلح "الكونية""عزيز العظمة"، فهو يروج للعلمانية تحت دعوى "الكونية"، ويستند إليه لتبرير انسياق التيار التغريبي نحو أخذ كل ما في الغرب، وأن كل ثقافتنا مصيرها الفناء لتترك الباب خلفها لكونية غريبة لا محالة، وهو البديل عندهم لثقافتنا وحضارتنا وديننا. إن الغرب الحديث بكل ما فيه هو مصير العالم كله، وتاريخ الغرب هو التاريخ الكوني الذي يبتلع كل التواريخ "فالتاريخ الكوني هو تاريخ طبيعي ينتظم كل التواريخ ويصحح
اعوجاج كل تاريخ مفوت بابتلاعه في كونيته الناجزة" (1). وقد داهمتنا -بحسب كلامه- هذه الثقافة الكونية الجديدة من القرن الثالث عشر/ التاسع عشر وما بعده، وأصبحت هي ثقافتنا الرسمية الجديدة التي تأسست على الثقافة والعلوم الأوروبية بينما انزوت ثقافتنا الدينية على هامشها (2).
وأبرز من طبق هذه الثقافة الكونية هو "كمال أتاتورك"، ولذا تُعدّ التجربة الكمالية العنيفة والغاشمة نموذجًا مميزًا عند هذا المتغرب، فألغى أتاتورك الخلافة ومؤسساتها الدينية في مجال التشريع "في زمان لا يحتمل الغيب والمفاهيم اللاتاريخية" كما يقول، وأبعد المؤسسة الدينية عن مجال التربية والثقافة مجاراة لوجهة تاريخية كونية لا تحتمل الدين وغيبياته أسسًا مقبولة للمعرفة والعلم، لقد "جاءت العلمانية الكمالية انخراطًا تامًا في الزمانية العالمية. . . . واستطاعت الانخراط في الكونية"، وأن مجتمعنا العربي كان له توجه عالمي ومشروع تحديثي كوني حضاري أعاقته المؤسسة الدينية بمؤازرة سياسية (3).
الحقيقة أن العلم الحديث يضيق هنا لدرجة الاختفاء لصالح مذاهب إلحادية، بما في ذلك الإلحاد الماركسي الذي يعدّه نقدًا كونيًا ينطبق على الإِسلام؛ لأنه لا يخرج عن طبائع الأديان (4)، وهكذا يتخذ العلم ونظرياته غطاءً لهذا الاغتراب الرهيب والتبعية العمياء في صورة افتخارية عجيبة، مفادها أن المتغرب إنما هو أداة نافعة في كونية عالمية عقلانية.
ويسير في المسار نفسه كاتب آخر هو الدكتور "عبد الرزاق عيد"، يُكثر من التركيز على الكونية كتعبير عن الثقافة الغربية التي يحق لها أن تحكم العالم، وكل من وقف ضدها فهو يقف ضد "العقل الكوني الحديث"(5)، وهو "العقل الكوني المحض" الذي بلغ "الحقيقة العقلية المجردة"، وفيه نجد الحقيقة وليس
(1) العلمانية من منظور مختلف، د. عزيز العظمة ص 280.
(2)
انظر: المرجع السابق ص 143، وانظر: كثرة ترديده لهذا المصطلح مثلًا ص 174، 193، 197، 267، 281، وغيرها.
(3)
انظر: المرجع السابق ص 140، بتصرف.
(4)
انظر: المرجع السابق ص 276.
(5)
انظر: سدنة هياكل الوهم. . . .، د. عبد الرزاق عيد ص 9.
الحقيقي، فالحقيقة مدارها العقل الكوني المحض، أما الحقيقي فمداره العقل القومي المحكوم بتراثه (1). . . .، وهذا "العقل الكوني الحديث يعتبر نظريات الثلاثة "داروين - ماركس - فرويد" مكونات لابد منها لنظام العقل، لكي ينتمي الإنسان لزمنه وعصره الراهن، فلا يمكن للعقل أن يمارس ذاته بشكل عقلاني -وليس خرافيا وسحريًا- إذا لم يكن قد تشرّب الرؤية الثلاثية هذه للكون والطبيعة والمجتمع والنفس، رغم أن الثلاثة يتعرضون للنقد الدائب والمستمر لا لإثبات حقيقة نظرياتهم أو بطلانها، بل لإدخال هذه الحقائق في السيرورة النسبية للمعرفة، حيث العقل الحديث لا يؤمن بحقيقة نهائية معطاة وإلى الأبد. . . . وإذا كانت الرؤية المعرفية لهؤلاء الثلاثة تلتقي مع الرؤية المادية العلمية الموضوعية لسيرورة الكون، مما يجعلها متناقضة مع العقائد الذاتية والمشاعر الدينية، إلا أن صياغة هؤلاء لأسس الفكر الكوني الحديث وتشبع العقل الغربي بنظرياتهم، لم يقض على الإيمان في هذه المجتمعات. . . ."(2).
من تناقضات هذا الكاتب -د. عيد- أن جعل الحقيقة المرتبطة بالدين "قومية" مع أن دين الإِسلام دين عام وللبشر جميعًا، أما الحقيقة المرتبطة بفكر أوروبا فهي "مطلقة" مع أنه محكوم فعلًا بواقعه، وإن كان يعود ليجعل المطلق نسبيًا، فهو يعترف بأن ماركس وداروين وفرويد ينالهم النقد لجعل أفكارهم نسبية. مع العلم أن النقد الذي تتعرض له نظريات الثلاثة ليس لإدخالها في سيرورة نسبية، فهذا إن وجد، فمن تيارات متعصبة للعلمانية، ولكن هناك تيارات أخرى تنتقدهم باسم العلم مُبيّنة بطلان مجموعة أساسية من أفكار هؤلاء، ولا شك بأن الطرف الأخير أفضل خدمة للفكر الحديث؛ وذلك أن إزالة الأخطاء والأمراض أو الاعتراف بخطئها أفضل من دمجها في سيرورة الفكر.
والذي يهم الآن التركيز عليه هو هذا التحامل على ثقافتنا وتراثنا وهويتنا، الذي لا يصدر حتى من بعض أعدائنا، في مقابل تعصبٍ لا يقوم به حتى عقلاء المفكرين الغربيين، وهي حالة من الاغتراب المدهش يتفاعل مع التمركز الغربي ليولد لنا فكرًا مريضًا، فكما أن المركزية الغربية ترى عبر دعاتها أن ثقافتهم هي
(1) المرجع السابق ص 16.
(2)
المرجع السابق ص 19.
الممثل لنهاية التاريخ وقمة التطور العقلي، فإنها تلقى في المقابل من المتغربين من يتمثل هذا المرض الأيدلوجي، ويكون من أقوى الدعاة له في بيئتنا. وهي حالة مدهشة فعلًا، حيث يزعم كونية الآخر ويدعو لإلغاء ذاتيتنا، وتصوير الدين وكأنه خرافة أو سحر أو مشاعر، أما "ماركس" و"داروين" و"فرويد" فبعيدون عن ذلك.
قد يأتي أحد الغربيين باكتشاف معرفي مهم مما يُقْدره الله عليه، ويناسب هذا الاكتشاف أن يُعمم بحيث يكون أحد المكتشفات في دائرة العلم، وهذا لا يعارضه عاقل، ولكن لا يوجد عاقل أيضًا يجعل من فكر ذلك المكتشف ونظرياته صورة كونية، وإلا فهذا يعني جعل نظرية "ماركس" و"فرويد" حول الدين باعتباره وهمًا وخطرًا -ولابُدّ من التخلص منه إما بالعلاج النفسي مع "فرويد" أو الثورة والصراع الطبقي مع "ماركس"- ذات صورة كونية يجب استيعابها.
والخلاصة أن دعاة الكونية وافتراض شمولية ثقافة الغرب العلمانية يعيشون حالة اغتراب خطيرة، تضيع فيها الفواصل والفروق، ويختلط الأمر، ويصبح المغترب مهمومًا في استيعاب ثقافة الآخرين ونشرها، دون امتلاك معايير الاختيار النافع من الفكر العالمي، ودون امتلاك الهوية المميزة. ونجد في المقابل بعض العقلاء العرب -إن كانت لهم توجهات فكرية غربية- يهاجمون هذه العملية، من دعاوى لكونية النظريات والعلوم دون الوعي بحقيقة الفوارق، وفي ذلك يقول "د. علي الكنز":"وبالفعل فإن علاقتنا بالنظريات الغربية، كأية علاقة وضعية براغماتية "ذرائعية" لا يمكن أن تؤدي إلا إلى النتائج التي توصلت إليها النظريات الغربية قد نتجت عن علاقتها بالعاملين التاليين: خصوصية مجتمعاتها وقضاياها الاجتماعية والتاريخية، من ناحية، والحقل المعرفي الذي نمت بداخله وطورت قضاياها النظرية المحددة. يكمن خطأ علماء الاجتماع العرب -في نظرنا- في اعتقادهم أنه من الممكن استيراد نظريات الغرب بغض النظر عن ارتباطها بهذين العاملين. خطأ فادح يمكن اعتباره "التباسًا تاريخيًا" حقيقيًا"(1)، وهذه المقولة صحيحة حتى في ميدان العلوم الأخرى.
(1) نحو علم اجتماع عربي ص 100 - 101، نقلًا عن علماء الاجتماع وموقفهم من الإِسلام ص 31.