الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"وأما الدليل الذي يكون عقليًا أو سمعيًا من غير أن يكون شرعيًا: فقد يكون راجحًا تارة ومرجوحًا أخرى.
كما أنه قد يكون دليلًا صحيحًا تارة، ويكون شبهة فاسدة أخرى.
فما جاءت به الرسل عن الله تعالى إخبارًا أو أمرًا لا يجوز أن يعارض بشيء من الأشياء، أما ما يقوله الناس فقد يعارض بنظيره، إذ قد يكون حقًا تارة وباطلًا أخرى، وهذا مما لا ريب فيه، لكن من الناس من يدخل في الأدلة الشرعية ما ليس منها، كما أن منهم من يُخرج منها ما هو داخل فيها، والكلام هنا على جنس الأدلة، لا على أعيانها" (1). ونواصل الانتفاع بهذا النص المهم لابن تيمية رحمه الله من جهة الكلام عن جنس الأدلة، فالموصل للحق منها هو الوحي، وهو الدليل الشرعي، ومنه ما هو عقلي، ومنه ما هو سمعي لا يعلم إلا بمجرد خبر الصادق، فإن اعترض معاند وقال: كيف لي التحقق من "السمعي"؟ كان جوابه: إن الدليل الشرعي العقلي الذي جادل المعاندين بالمعقول والمحسوس، وثبت عند أهل العقل الصحيح والحس والسليم أنه الحق من ربهم، فآمنوا بالخبر الذي لا يمكن لعقل أو حس أن يعلمه؛ لأنه من علم الغيب المحض، فهو وإن كان من الغيب المحض إلا أنه قد ثبت بطريق الخبر الصادق. كما أنه يوجد أدلة غير شرعية، سواء كانت عقلية أو حسية أو خبريه، وهذه بحسب أحوالها حتى في الأمور الدينية، فقد تكون صحيحة تارة وقد تكون شبهة فاسدة أخرى، ولهذا كان الحق في أمور الدين الاكتفاء في معرفته بالدليل الشرعي. فيكون الدليل الشرعي (الخبري العقلي) للدين، ويكون الاستنباط للأمور الرياضية، ويكون التجريب والاستقراء للأمور الحسية، وتكون جميع العلوم تنطلق نحو تحقيق الأمر الرباني ولا تتعارض مع التصور الإِسلامي.
3 - القول بجعل النظريات العلمية في مقام النص الشرعي وتقديمها عليه:
تمتلئ الكتابات التغريبية التي تدّعي صلتها بمذاهب علمية أنها تعتمد العلمَ وتجعله مصدرها في العلم، فيكفي أنه علم يخضع للتحقق ويستطيع كل الناس التأكد منه. ولا شك أن الناس عندهم ثقة بالعلم، يكفي أن يأتي من يقول: هذه
(1) انظر: المرجع السابق -الدرء-1/ 200.
من العلم حتى تجد الاحترام لقوله والثقة في مقولته، وذلك أن المسلم يحترم العلم، ففي دينه من الحثّ على العلم وتعظيمه ووضع الأجور عليه وتمييز أهله ما يجعل في وعي أغلب المسلمين مثل هذه المنزلة للعلم. وربما لهذا السبب يجدها أهل التغريب أسلوبًا مناسبًا للتضليل؛ لأننا إذا بحثنا عن محتوى ما يزعمون علميته إذا هي نظريات علمية حولها التباس شديد أو اختلاف كبير، ويجعلون هذا النوع مقدمًا على الوحي بحجة انتمائه للعلم، ثم يجعلون مكونات النظرية دليلًا على بطلان المصادر الدينية أو التشكيك فيها. إذا نظرنا إلى الجيل التغريبي الأول نجد العلم عندهم هو في النهاية النظرية الدارونية بعد تعميمها على جميع التصورات والنشاطات، والعلم والعمل، الماضي والحاضر والمستقبل، الدين والدنيا والآخرة، وكل شيء، إذًا فبديل النص الشرعي هو النظرية الدارونية، أصبحت الدارونية هي دينهم وهي مصدرهم في الوقت نفسه، فإذا تجاوزنا مسألة "التبعية"، ومسألة "الصراع"، ووقفنا مع الجانب المعرفي فقط، فإننا نقف مع موقف متهافت لا وزن له، أكتفي بأمرين يوضحان ذلك:
الأول: التعميم غير العلمي لنظرية علمية.
ظهرت تعميمات فلسفية لنظريات علمية مع التيارات العلمانية الغربية، سواء كانت النظريات ذات مكونات صلبة أو لم تكن، وقع تعميم لنظريه نيوتن وداروين مع الماديين، أو ما حدث في القرن الرابع عشر/ العشرين من تعميم فلسفي للنظرية النسبية لأينشتين أو نظرية فرويد النفسية أو حتى تعميم النظرية اللغوية لسوسير لتصبح نظامًا فلسفيًا يحوي عوالم كثيرة. ثم أصبحت هذه التعميمات مذاهب مشهورة داخل الفكر الغربي، وبدأت عبر نَقَلتها تنتشر في بلاد المسلمين.
بينما النظرية العلمية هي جزئية تدل على قضية جزئية مهما اتسع مجال تفسيرها، والانتقال من الجزئي إلى الكلي لاسيّما بتحولها إلى نظام فلسفي لا يعد علمًا، بل فلسفة، والأمور الكلية والمذاهب الفلسفية لا يمكن إلحاقها بالعلم؛ لأن شروط قبولها تختلف عن شروط قبول العلم؛ أي: أن المذهب الداروني لا صلة له بالعلم إلا من خلال التعميم لنظرية علمية، وإذا كانت النظرية ذاتها لم تُقبل بكل مكوناتها، ولم تصح بكل عناصرها فكيف يصح التعميم الفلسفي بالاعتماد عليها؟ فضلًا عن أن أي تعميم فلسفي إنما هو تأمل ذاتي، لا يدخل كما سبق تحت شروط التحقق العلمي.
والنتيجة: أنهم يدّعون تقديم العلم، بينما ما يقدمونه هو مذهب فلسفي أو اجتهاد فكري شخصي "الدارونية مثلًا التي دعا إليها العرب المتغربون هي تعميمات "بوخنر" أو "سبنسر"". فيكون حالهم دائرًا بين أمرين: إما الجهل أو التجاهل، وهما أمران واردان ملتصقان بتيار التغريب، فالمقلد جاهل يحاول التعلم ولكنه كان فريسة علم لا ينفع، والمتجاهل هدفه إخفاء نواياه عن طريق تلبيس المذاهب الفلسفية لباس العلم.
الثاني: تقديم الظني في أحسن أحواله على اليقيني.
يعيش الغرب في تنبيه ويركض لاهثًا يبحث عن مصدر منذ أن فقد الوحي، لم يعد يثق في الدين ومصدريته ومع ذلك لم يجد المصدر الذي يجد فيه كل ما يحتاجه ولاسيّما في عالم الغيب والروح، فبقي بسبب علمانيته ووضعيته أسير مصادر لا تتحمل ما حُمّلت من أثقال؛ لأن لها حدودها. ومع ذلك فقد نجد ما يفسر اكتفاءهم بمصادرهم وتقديمها على الدين، مع أنهم غير متفقين على جعل العلم المصدر الوحيد.
ولكن هل يصح من الجاهل بالشيء، أو الذي لا يمكنه التحقق من دعواها، أن يعلن وضع النظريات العلمية في مقام النصوص الشرعية؟
دعوى تقديم تلك النظريات العلمية على النصوص الشرعية فضلًا عن القول بالاستبدال دعوى لا تصح أخلاقيًا أو عقليًا -وهذا من باب التنزل في المجادلة-، كيف؟
لقد ركّز أهل التغريب على النظريات التي هي موطن خلاف حتى داخل الإطار العلمي، وأهملوا الحقائق العلمية والموضوعات العلمية النافعة البيّن نفعها، وهو يكشف أن في الأمر ما وراءه، فهذا يكشف الجانب الأيديولوجي والأخلاقي، ومع ذلك نكتفي بالبعد المعرفي في الموضوع، فيقال بأن هذه الدعوى لا تصح على سبيل التقليد فقط، فلابد أن يتمكن المسلمون -عبر فريق منهم ممن يوثق به- من أساليب التحقق من النظرية، فالنظرية هي في النهاية نتيجة ملاحظة وتجارب وحسابات وافتراضات، وكلها تحتاج إلى امتلاك أدواتها.
فإذا أخذنا النموذج المقدم باسم العلم عند الجيل التغريبي الأول، وهو النظرية الدارونية نجد أن دعاتها من العرب لا يملكون أي أداة تؤهلهم للتحقق سوى ثقتهم في المتبَعين، ونضرب على ذلك أمثلة:
هل عند هؤلاء الحد الكافي من علم الأحافير؟
هل عند هؤلاء الحد الكافي من علم الأرض؟
هل عندهم الحد الكافي من علم الأحياء؟
هل عندهم الحد الكافي من الاستيعاب النقدي للنظريات الاقتصادية والاجتماع والتاريخية؟
هل عندهم الحد الكافي من علم الوراثة؟
هل عندهم منهجية قوية بأدواتها المعرفية والفكرية للتحقق من النظريات؟
هل عندهم أخيرًا الأجهزة الدقيقة التي تساعدنا في إجراء التجارب المرتبطة بالأحافير وأعمارها أو الأرض وطبقاتها ومكوناتها أو الأحياء وأعضائهم وغير ذلك؟ (1).
والنظرية الدارونية ترجع في جزئياتها إلى كل هذه الأبعاد، إما من جهة البناء أو من جهة التحقق، ويبقى حال من لا يملك كل هذه الأمور -أو المهم منها- وكان مقتنعًا بإمكانياتهم في البحث العلمي، فيقبل ما يمكنه قبوله منها في حدود النافع له منها، دون أن تتجاوز حدودها من كونها نظرية علمية ضمن علم الحياة. أما أن تُرفع إلى مصاف النصوص الشرعية بحيث نبدأ في التفكير: هل هي توافق النصوص أم تخالفها -فضلًا عن القول بتقديمها أو بالاستبدال- فهذا لا يقوله إلا من في قلبه مرض.
والاتجاه الإِسلامي كما أسلفنا مرارًا يُقرّ بمصدرية العلم فيما يناسبه، والجانب الحسي منه هو في الأساس من خلق الله سبحانه، والنصوص الشرعية هي من كلامه سبحانه، ذاك من آياته الكونية وهذه آياته الشرعية، وآيات الله الكونية والشرعية هي من مصادر المعرفة، فكلٌ من عند الله، وإذا كان الكل من
(1) ذكر د. زغلول النجار استدلالهم بثمانية علوم، انظر: الإِسلام والعلم التجريبي، د. يوسف السويدي ص 42، وقد استعرض الدكتور محفوظ عزام سبعة علوم استنبط منها نظرية التطور في كتابه نظرية التطور. . . . ص 179، وذكر علي الشحات أكثر من ذلك، انظر كتابه: نظرية التطور بين العلم والدين ص 51 وما بعدها، حيث ذكر تسعة، وهناك من ركّز على أهمها مثل محمَّد كولن في كتابه: حقيقة الخلق ونظرية التطور مع دراسة نقدية لها ص 30 وما بعدها، والمقصود أن أصحاب النظرية لهم استدلالات كثيرة.
عند الله فلا يصح قول الاستبدال أو التقديم، فالمقدم مطلقًا هو الوحي، فبه نعرف آيات الله الكونية من الحق العقلي أو الحسي، من الاستنباط أو الاستقراء. والنتيجة: كيف يصح بعد هذا أن يقال بجعل العلم هو المصدر الوحيد للمعرفة وبالقول بتقديمه على النصوص الشرعية، وعلى الوحي؟ والقول هذا فقط من باب التنزل مع الخصم حتى يفهم كل مطلع أن حقيقة أمرهم هو الدعاوى.