المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌علم الاجتماع بين العلمية والأيدلوجيا: - النظريات العلمية الحديثة مسيرتها الفكرية وأسلوب الفكر التغريبي العربي في التعامل معها دراسة نقدية - جـ ٢

[حسن الأسمري]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثاني التأثر المنهجي في الفكر التغريبي بالانحراف المصاحب للعلم الحديث

- ‌الفصل الأول التأثر المنهجي في مصدر التلقي وطرق الاستدلال

- ‌المبحث الأول التأثر المنهجي في مصدر التلقي

- ‌مصدر العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية:

- ‌المصدر في العلوم الاجتماعية:

- ‌أسباب الانحراف في المصدر:

- ‌1 - التبعية للفكر الغربي:

- ‌2 - ظروف الصراع وأحواله:

- ‌مكانة الوحي في التصور الإِسلامي وصور إقصائه كمصدر للعلم عند المتغربين:

- ‌1 - مذهب غلاة المتغربين ودعوتهم لإقصاء الوحي:

- ‌2 - مذهب التوفيقيين من المتغربين ودعوتهم لإقصائه كمصدر للمعرفة:

- ‌مناقشة الملفقين:

- ‌3 - القول بجعل النظريات العلمية في مقام النص الشرعي وتقديمها عليه:

- ‌المبحث الثاني التأثر المنهجي في منهج الاستدلال

- ‌مشكلة الموضوعية:

- ‌استبعاد جانب القيم بحجة الموضوعية:

- ‌الموضوعية وعلاقتها بالحقيقة:

- ‌نموذج موسع للتلاعب المنهجي:

- ‌أ- حسن حنفي:

- ‌ب - محمَّد أركون:

- ‌الفصل الثاني التأثر المنهجي في طريقة التعامل مع القضايا الغيبية الاعتقادية

- ‌المبحث الأول التأثر المنهجي في طريقة النظر للغيبيات

- ‌معنى الغيب في التصور الإِسلامي:

- ‌[مسألة] وللغيب أقسام:

- ‌ارتباط الانحراف في الغيب بالانحراف في الربوبية:

- ‌من أصول الانحراف في الغيب:

- ‌المثال الأول: لويس عوض:

- ‌المثال الثاني: هشام شرابي:

- ‌المثال الثالث: حسن حنفي:

- ‌المثال الرابع: محمَّد أركون:

- ‌المبحث الثاني أمثلة للتأثر المنهجي وبيان خطورتها الاعتقادية

- ‌القسم الأول: موضوعات عمَدية يُدّعى عدم إمكانية إثباتها علميًا:

- ‌القسم الثاني: دعوى وجود رأي علمي آخر حول بعض الغيبيات دون شرط المعارضة:

- ‌القسم الثالث: دعوى مخالفة العلم لأبواب من الغيبيات

- ‌الفصل الثالث التأثر المنهجي في طريقة التعامل مع القضايا الشرعية العملية

- ‌المبحث الأول التأثر المنهجي في طريقة النظر للشريعة

- ‌المراد بالشريعة:

- ‌الغيب مع الطبيعيات والشريعة مع الاجتماعيات:

- ‌أصول منهجية تغريبية للنطر في الشريعة تدعي العلمية:

- ‌أصل الأصول: تعميم الظواهر الاجتماعية على الدين الحق:

- ‌الأصل الثاني: التطور:

- ‌الأصل الثالث: علمية وعلمنة العلوم الاجتماعية ودعوى قدرتها أن تسدّ مسدّ الدين:

- ‌الأصل الرابع: النسبية:

- ‌المبحث الثاني أمثلة للتأثر المنهجي وبيان خطورتها

- ‌الأول: في باب الأخلاق الإِسلامية:

- ‌أولًا: تعريف الخلق:

- ‌ثانيًا: المشكلة الخلقية في العالم المعاصر ولاسيّما في الغرب:

- ‌تاريخ الفكر الأخلاقي في الغرب:

- ‌الإطار العلماني للأخلاق الجديدة:

- ‌النظريات الأخلاقية الجديدة:

- ‌ثالثًا: تحليل ونقد للنظريات الجديدة:

- ‌رابعًا: نماذج من الأخلاقيات المتغربة تحت غطاء العلمية:

- ‌النموذج الأول:

- ‌النموذج الثاني: من علم النفس:

- ‌النموذج الثالث: الموقف الوضعي:

- ‌النموذج الرابع: أخلاقيات العلم الجديدة:

- ‌النموذج الخامس: الرؤية المادية والماركسية:

- ‌الثاني: في باب العمل بالأدوية الشرعية للأمراض الجسدية أو النفسية:

- ‌الأمر بالتداوي في الإِسلام:

- ‌الإطار العلماني وأثره في مجال التداوي الجسدي والنفسي:

- ‌أثر الأسس الفلسفية للممارسة الطبية الحديثة:

- ‌في الجانب النفسي:

- ‌بعض مشكلات الطرح التغريبي حول المجال الطبي والتداوي:

- ‌أين هي المشكلات في هذا الباب

- ‌نموذج عن الإشكال التغريبي في هذا الباب:

- ‌الثالث: في باب حكم التعامل بالربا:

- ‌القسم الأول: مدخل:

- ‌القسم الثاني: الإطار الاجتماعي العام للتحول الاقتصادي الغربي:

- ‌القسم الثالث: الأصول النظرية العلمية للاقتصاد الحديث:

- ‌الرابع: في باب حجاب المرأة المسلمة:

- ‌الباب الثالث صور لدعاوى باطلة ونظريات منحرفة ظهرت في الفكر التغريبي حول الدين والعلم وخطورتها

- ‌الفصل الأول صور لدعاوى أظهرها الاتجاه التغريبي باسم العلم الحديث

- ‌المبحث الأول دعوى أهمية علمنة العلم ورفض التأصيل الإِسلامي مظاهرها وخطرها

- ‌تعريف العلمانية:

- ‌وقفتان حول المصطلح: "تاريخية المصطلح، وعلاقته بالعلم

- ‌المبحث الثاني دعوى التعارض بين الدين والعلم الحديث

- ‌الفرق بين دعوى التعارض التراثية والدعاوى الحديثة:

- ‌صور الدعاوى التغريبية:

- ‌أصول عامة حول دعوى التعارض بين الدين والعلم:

- ‌مناقشة الدعوى:

- ‌أولًا: أهمية رفع التعميم والإجمال:

- ‌ثانيًا: ما المقدم عند التعارض

- ‌ثالثًا: "موضوعات الغيب وموضوعات الشهادة - الأكثر إشكالًا

- ‌رابعًا: ملابسات الدعوى التاريخية والأيدلوجية:

- ‌خامسًا: التفسير العلمي للنصوص الدينية:

- ‌المبحث الثالث دعوى كفاية العلم الحديث لحاجة الإنسان وشموليته بدلًا عن الدين

- ‌الشمولية في الإِسلام وحاجة الناس إليه فوق كل حاجة:

- ‌مناقشة دعوى كفاية العلم وشموليته:

- ‌نماذج من الانحراف التغريبي حول هذا الباب:

- ‌النموذج الأول:

- ‌النموذج الثاني:

- ‌النموذج الثالث:

- ‌النموذج الرابع:

- ‌النموذج الخامس:

- ‌النموذج السادس:

- ‌الفصل الثاني صور من تأثر الفكر التغريبي بنظريات علمية منحرفة حول مفهوم الدين

- ‌التمهيد

- ‌المبحث الأول التأثر بنظرية داروين التطورية من علم الأحياء حول الدين

- ‌ظهور الدارونية العربية:

- ‌من البحث في أصل الحياة إلى المادية الإلحادية:

- ‌المبحث الثاني التأثر بنظريات من علم النفس حول الدين

- ‌صراع النظريات النفسية ودلالاتها في الميدان الفكري:

- ‌دخول علم النفس للثقافة العربية والمواقف تجاهه:

- ‌نظرية فرويد النفسية ولاسيّما ما له علاقة منها بالدين:

- ‌المبحث الثالث التأثر بنظريات من علم الاجتماع حول الدين

- ‌علم الاجتماع بين العلمية والأيدلوجيا:

- ‌كيف ينظر علم الاجتماع للدين

- ‌المتغربون وعلاقتهم بالمدارس الاجتماعية العلمانية:

- ‌علم الاجتماع الديني:

- ‌الخاتمة

- ‌الفهارس

- ‌ملحق مفهرس للألفاظ الغريبة والمصطلحات والطوائف والفرق والمذاهب والتراجم مع التعريف بها

- ‌أولًا: قائمة الألفاظ الغريبة والمصطلحات الواردة في ثنايا البحث

- ‌ثانيًا: قائمة بالطوائف والفرق والمذاهب الواردة في البحث

- ‌ثالثًا: قائمة المراجع والمصادر

- ‌نبذة تعريفية الإدارة العامة للأوقاف

الفصل: ‌علم الاجتماع بين العلمية والأيدلوجيا:

‌المبحث الثالث التأثر بنظريات من علم الاجتماع حول الدين

يهتم علم الاجتماع بدراسة المجتمع، ورغم وجود اهتمام بدراسة المجتمعات في أغلب الحضارات البشرية إلا أنه لم يحدث له الاستقلال الفعلي إلا في العصر الحديث، وتعد مقدمة "ابن خلدون" أوضح ما كتب في هذا الباب بشكل مستقل، ومع ذلك لم يعقبها ما يأخذ بهذا العلم إلى ذراه، حتى جاءت التحولات الكبيرة داخل أوروبا وازدادت اتساعًا مع الثورة الصناعية التي أسهمت في إعادة تركيب خارطة المجتمع الأوروبي، مما حفز في ولادة علم الاجتماع الذي يهتم بدراسة المجتمع.

وبما أن علم الاجتماع يدرس المجتمع؛ فإن أي مجتمع يعرف الدين والتدين، ولا يكاد يوجد مجتمع دون دين أو دون وجود للنشاط الديني بداخله، ولهذا كان الدين من بين ما يتهم به علم الاجتماع. وبما أن العلم الحديث يرتبط بمنهج خاص ويعتمد بشكل كبير على إنتاج النظريات؛ فإن علم الاجتماع قد أنتج الكثير من النظريات حول الدين.

‌علم الاجتماع بين العلمية والأيدلوجيا:

على الرغم من أن علمية العلم توحي بالموضوعية والبحث عن الحقيقة،

ص: 1351

إلا أن الأمر على خلاف ذلك، ولاسيّما في ميدان شائك مثل علم الاجتماع ولاسيّما عندما يتعلق الأمر بالدين، فمن سوء حظ هذا العلم أن ارتبط ظهوره بفترة نزاع شديدة مع الدين، كما أنه ارتبط بمجموعة مفكرين كان موقفهم من الدين هو الإلحاد، مما يجعل هذا العلم المهم يتلوث في رؤيته ومنهجه ونظرياته بموقف عدائي ضدّ الدين.

اتسع الاهتمام بعلم الاجتماع في الغرب، وأصبح يدرس في الجامعات، وظهرت له مدارس ومذاهب، وأصبح غابة كبيرة فيها المهم والخطير، والدخول إليها محفوف بالمخاطر رغم المنافع الموجودة فيها، ومع بداية نهضتنا المعاصرة وانطلاقتنا نحو الاهتمام بالعلوم والمعارف؛ جاء علم الاجتماع في قائمة هذه العلوم المطلوبة، معتمدين في ذلك وبصورة كبيرة على النموذج الموجود في الغرب، وغلب على كل جهة من بلاد المسلمين التأثر بالمذهب الموجود في البلد الذي ابتعث إليه طلاب تلك الجهة، فنشأ عندنا علم اجتماع يعاني من تبعات نشأته الأوروبية، فتأثر الكثير بنظرياته ومناهجه، إلا أن أسوأ فئة تعاملت مع هذا العلم هي الفئة المتغربة التي وجدت فيه أداة جيدة للتعامل السلبي مع الدين، ولاسيّما إن كانوا من غير المسلمين، أو ممن اتبع مذاهب فكرية غربية ملحدة، كما هو الحال مع الماركسيين مثلًا.

ليس هدف البحث التقليل من قيمة علم الاجتماع، بل هو علم مهم إذا أحسنت أمتنا عبر المتخصصين فيه من إنشائه على قواعد سليمة، وإنما الهدف هو التحذير من الوقوع في أيدلوجيات ارتبطت به، هدفها إقصاء الدين وتكوين مجتمع دون دين أو لا يهتم بالدين، ولا شك أن الوقوف مع المتلاعبين بهذا العلم هو من خدمة هذا العلم، بحيث يُزال عنه ما ليس علمًا، ويقدم بصورة تتوافق مع هوية الأمة، ويكون عندها أقدر على الدراسة العلمية للمجتمع.

صحيح أنه أصبح لدينا الآن علم اجتماع في الجامعات والمدارس، وأصبح من مكونات مجالنا الثقافي والفكري والعلمي، وهناك علماء ومتخصصون فيه وله جمعياته ومجلّاته ومجالات نشاطه المختلفة؛ ولكنه في الغالب ما زال يعاني من التغرب، وينتمي إلى هوية أخرى أو حضارة أخرى ومجتمعات أخرى، وكأننا فتحنا أقسامًا لعلم الاجتماع الغربي بمدارسه المختلفة دون أن يكون لنا أي خصوصية في مجتمعنا، وإن كان الفرع ليس كالأصل.

ص: 1352

وهذا الاغتراب يدفع المهتمين بالعلم إلى دراسة مجتمعنا وظواهره وفق تلك القوالب الغربية التي تتوافق مع بيئاتهم، بما في ذلك دراسة الدين. ونجد شجاعة من أحدهم في الاعتراف بهذا المأزق الحضاري رغم فشله في طرح البدائل وهو "عبد الباسط عبد المعطي" رئيس الجمعية العربية لعلم الاجتماع، حيث يقول عن صورة العلم في المجتمع العربي:"فجاء في معظم منتجه مغتربًا عن فضائه الاجتماعي والسياسي، وعن المرحلة التاريخية للمجتمع العربي. فاستغرق المشتغلون به في ما عرفوه عن الغرب -بحسب قدراتهم ووعيهم- وبما تم إغراؤهم بمعرفته، كما ساعدت أوضاع الحرية الفكرية والسياسية، والمؤسسات التعليمية والعلمية في تجدد حالة الاغتراب، بالنقل عن الآخرين، وفي الوقت نفسه تعميق القطيعة المعرفية مع تراث الفكر الاجتماعي العربي. وكان من بين مظاهر الاغتراب وأماراته، أن أضحى التابع أكثر محافظة من متبوعه، فقدِّر أن ينشغل الباحثون بالمشكلات الجزئية والطارئة، وبمهام الترجمة والتدريس أكثر من غيرها من الأدوار"(1)، وهذا في علم الاجتماع عمومًا ثم يأتي ما هو أشد إشكالًا وهو جانبه الديني، فيقول:"في هذا السياق بمستوياته، أتى اهتمام علم الاجتماع في الوطن العربي بالدين، فكان التركيز على النقل عن المكتبة الغربية، وبخاصة أعمال إميل دوركايم وماكس فيبر وليفي بريل. ولدى دراسة الظواهر الدينية اهتم بالديانات الوضعية الأرضية كالهندوكية، والكونفوشيوسية على سبيل المثال. وحتى من حاول الاقتراب من التراث الإسلامي، عني أكثر بتأويل بعض النصوص، وهو تأويل على العموم "مر" بمصفاة "الفكر الغربي". وظل حال دراسة "علم الاجتماعي الديني" ضمن مقررات "مساقات" علم الاجتماع في الكليات والمعاهد العربية، على النحو المذكور في الغالب من الحالات"(2)، ثم ذكر بعدها تحولات آخر القرن العشرين التي دفعت المشتغلين بعلم الاجتماع إلى مناشط أخرى. وقد ذكر باحث آخر عن تيارين برزا واهتما بالمجال الديني ولكنهما يفتقدان النظرية الاجتماعية في تفسير الدين، وعند بحثهم عن نظرية فلا تتعدى كتاباتهم "دوركايم"، تنتقي منه

(1) الدين في المجتمع العربي ص 9.

(2)

المرجع السابق ص 10.

ص: 1353

المقولات والفرضيات التي تودها (1)، بما يوحي عن عجز حتى في توسيع دائرة بحثهم لأكثر من مفكر أو مذهب واكتفائهم بعالم اجتماعي واحد.

هذا الاعتراف بالتبعية للمدارس الاجتماعية الغربية، ربما هو شعور بالأزمة، وربما هو من آثار اليقظة التي أحدثها بعض المفكرين الإسلاميين، مما جعل المغرقين في التبعية يبحثون أزمتهم ويعون بها، ولا شك في أهمية هذا الوعي لولا أن بدائلهم لا تتفق وهوية الأمة ومكانها، وقد رصد الباحث الإسلامي "محمد أمزيان" أزمتهم واغترابهم وحاول استخلاص أسبابها من اعترافاتهم وكتاباتهم ومن ذلك: ولادة علم الاجتماع برعاية استعمارية فكان من الطبيعي خضوع هذا العلم للتوجيه الاستعماري، قابل ذلك جهل المنخرطين فيه بذاتهم وهوياتهم وإن كان ذلك لا يطول مع التأثير السلبي للرواد المتغربين الذي أخضعوا البحوث الاجتماعية لما تأثروا به في أثناء دراستهم في الجامعات الغربية (2).

أخطر صور التغرّب عند المتغربين الاجتماعيين هي في استبعاد الإسلام والوحي كمصدر للمعرفة، فالدين عندهم يدرس وفق قوالب لمجموعة من الملحدين والعلمانيين أو المستشرقين وتعتبر قوالبهم هي المصدر، ويُدلَّس على الناس بكونها علمية مع أنها لا علاقة لها بالعلم، وفي ذلك يقول أحدهم: "ولا يخفى أن العالم الاجتماعي لا يستطيع أن يسلم بالوحي والرسل في نظرياته لسببين:

1 -

لأن هذا الحل يوحي به الكسل إلينا، ونستطيع أن نفسر به كل ما في الكون، بدون أن نتقدم قيد شعرة في معرفة أسراره وقوانينه.

2 -

لأن بعض الديانات تخلو من الوحي والرسل، كديانة الطوطم مثلًا" (3).

وليس الغريب وجود من لا يُسلم بالوحي والرسل، ولكن العجيب ما

(1) هو "حيدر إبراهيم"، المرجع السابق ص 50.

(2)

انظر: منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، محمد أمزيان ص 204 - 207، وانظر: الفكر العربي في معركة النهضة، د. أنور عبد الملك ص 69 وما بعدها.

(3)

نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني .. ، د. يوسف شلحت ص 91.

ص: 1354

يذكرونه من تعليلات على أنها أسباب جوهرية في رفض التسليم للوحي من مثل السببين السابقين، مما يكشف بأن سبب تركهم الاعتماد على الوحي ليس لأسباب حقيقية بقدر ما هو البحث عن مبرر للهروب من الوحي وابعاده كمصدر (1)، فإذا زعزع هذا المصدر أصبح الباب مفتوحًا للغرْف من المكتبة الغربية ولاسيّما تلك التي ترتبط بعداء مع الدين.

عندما يتجه التيار التغريبي إلى المكتبة الغربية؛ تظن أنه يتجه إلى ركن متين، بينما هو يستقي من علم ولد في مجتمع متأزم وبقي العلم في أزمته بحسب اعترافات رواده ومبدعيه، فهو يعيش أزمة على مستوى النظريات وعلى مستوى المنهج وفي أرض الواقع، ويحسن تكرير التنبيه بأن هذا الكلام لا يهدف إلى التقليل من قيمة علم الاجتماع بقدر ما يهدف إلى تحمل مسؤوليتنا الحضارية في ترك السلبية القاتلة والتقليد الأعمى، وأن نشارك في وضع هذا العلم على قدميه من خلال تقريبه من هويتنا وتأصيله وفق أصولنا. فهو بسبب ارتباط تأسيسه بالظروف الأوروبية بقي شاردًا من الدين محاربًا له إلا فيما ندر، وعلينا على عكس ما يقوم به المتغربون إعادته لوضعه الصحيح والنافع.

إذًا، كان علم الاجتماع نتيجة أزمة، ونتيجة تحولات كبرى في القارة الأوروبية من أيام "سان سيمون" إلى تلميذه "كونت". وهناك محاولات للتفكير ببديل عن الدين الذي انهار في أوروبا الحديثة (2)، ومن الملفت للنظر أنه مع نهايات القرن الثالث عشر/ التاسع عشر وأغلب الرابع عشر/ العشرين، وكبار منظري هذا العلم هم من اليهود، وربما أزمتهم أكثر كثافة داخل المجتمع الأوروبي (3) مما جعله علمًا محمَّلًا بتلك الأثقال، يقول "أحمد خضر": "إن الأنشطة الفكرية والنظريات الكبرى لعلماء الاجتماع تمت في أثناء أزمات سياسية

(1) انظر: علماء الاجتماع وموقفهم من الإسلام، الفصل الثالث عشر (فهم الإسلام عبر المكتبة الغربية) ص 197، وانظر: فيه أيضًا ص 18 - 19، وانظر: منهج البحث الاجتماعي .. ، أمزيان ص 94، ثمّ الفصل الثاني من الباب الثالث:(ضرورة اعتبار الوحي ضمن المصادر المعرفية لعلم الاجتماع) ص 165، مع التحفظ على قوله:(ضمن).

(2)

انظر: الفصل الأول والثاني من الباب الأول.

(3)

انظر: الفصل الثاني من الباب الأول.

ص: 1355

واقتصادية كانت المجتمعات الغربية تمر بها، وكان على علماء الاجتماع أن يقدموا لمجتمعاتهم صياغة فكرية تمكنهم من تخطي هذه الأزمات" (1)، ولكن وبعد سنين من ظهوره برزت مراجعات يعقبها اعترافات مخيبة للآمال، ومن أقربها ما حدث في الاجتماع السنوي لعلماء الاجتماع الأمريكان سنة (1979 م)، واعترافهم بأن أغلب نظريات العلم تعاني أزمة، فـ "لا الماركسية ولا البنيوية ولا الدوركايمية ولا الغيبرية تتمتع الآن بسمعة طيبة. إن الأحلام العريضة التي فتحتها أمامنا لم تتحقق إلا جزئيًا وبصفة هشة. . . . إنه لم يبق أحد ينتظر من كبرى النظريات أن تساهم بصفة إيجابية في القفز بالبحوث الاجتماعية" (2)، ثم تحدث المؤتمر عن انتهاء "الوضعية" الكلاسيكية وإفلاس "الوضعية المحدثة"، ثم ما تعرضت له "الوظيفية" بعدهما من ضربات قاصمة، وأن قضايا "الوظيفية" قضايا باطلة، وأنها لا تقل إلحادًا عن النظرية "الماركسية". ومثل ذلك عن "الظاهراتية" و"التفاعلية" و"الرمزية" و"البنائية" و"الوظيفية"، فهي أقرب للتقاليع من قدرتها على الصلة بالمجتمع المعاش، وسقطت "الوظيفية" ولم تنجح النظرية "الصراعية" المعارضة لها (3)، وهكذا تسير النظريات في صراع مع بعضها دون الوصول إلى علم معياري حقيقي.

كما أن عناوين الكتب للبارزين في هذا الميدان بعد السبعينات تعبر عن هذه الأزمة، مثل:"أزمة علم الاجتماع الغربي القادمة"، الذي ذكر مجموعة عوامل تقود هذا العلم إلى أزمة، وكتاب:"تأملات جذرية وأصل العلوم الإنسانية" ليؤكد صاحبه أن أزمة العلوم الاجتماعية أصبحت واقعًا حقيقيًا مع غياب التشخيص لهذه الأزمة، هناك شكوى دون حل، وكتاب:"أمجاد ومآسي العلوم الاجتماعية"، فيرى صاحبه بأنها ليست في أزمة فقط بل هي أقرب إلى لفظ أنفاسها الأخيرة، ويقول:"ولعل الوقت قد حان للاعتراف بأن العلوم الاجتماعية لم تمدنا حتى الآن إلا بزاد معرفي خيالي"، ومثلها كتاب:"الأساطير المؤسسة للعلوم الاجتماعية"، فـ"يشير المؤلف إلى أن هذه العلوم لم تستطع

(1) علماء الاجتماع وموقفهم من الإسلام، أحمد خضر ص 43.

(2)

المرجع السابق ص 121.

(3)

انظر: المرجع السابق ص 121 - 122، وحول كل هذه المدارس التي ذكرها يمكن التعرف عليها في: النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، إبيان كريب.

ص: 1356

الالتزام بالموضوعية ولا تحقيق معرفة موضوعية كما يدعي أصحابها منذ ما يقرب من ثلاثة قرون. وعلى هذا فهي تشبه في وظائفها الاجتماعية وظائف الديانات رغم أنها لا تقر بذلك" (1)، ولا شك أنه إذا كان على هذه الحال في مواطن إبداعه فإن أزمته ستكون مضاعفة عند المقلدين.

ومن الطريف أن المكتبة الغربية جريئة في طرح النقد حول إبداعاتها رغم أثر ذلك على النفس بينما نجد صعوبة ذلك في المكتبة العربية، فلو كتب أحد البارزين شيئًا حول ضرورة الاعتراف بأزمة علم الاجتماع في الفكر العربي والجامعات العربية لهوجم وانتقص من أمره، بينما نجد العرض الأكاديمي الناقد في الغرب ويصاحبه العرض المبسط للجمهور الذي يعترف بأزمة العلم، ومن ذلك كتاب صدر سنة (1999 م) بعنوان "أقدم لك علم الاجتماع"، حيث نجد في خاتمته:"إن النظريات الراسخة التي انطلق منها علم الاجتماع في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر ومفاهيم العلوم العقلانية الإيجابية والموضوعية والحيادية، كل ذلك يبدو الآن سخيفًا ومعوقًا وبعيدًا عن الواقع. ويجب أن يكون واضحًا أن علم الاجتماع هو نتاج عصره، وهو يعكس أفكار اهتمامات تلك الجماعات التي تحكم العصر. ."(2)، ثم يتساءل الكاتب: أيعني ذلك موت علم الاجتماع؟ "لقد مات علم الاجتماع كنظرية شاملة، أو كمجموعة من المفاهيم التي تحاول أن تجد تفسيرًا لكل شيء في مجتمع بعينه. أما من حيث كونه نبضًا يسعى لتطوير رؤية نقدية تحاول أن تفهم مما يجعل المجتمع الإنساني ممكنًا، وأن تفهم أن الفرد مخلوق متغير دائمًا؛ فإن علم الاجتماع ما زال على قيد الحياة. ."(3)، وهو بالصورة الثانية يكون أقرب للفلسفة ويبعد بذلك عن الصورة الوضعية المعهودة. وما يهمنا أن مثل هذه الاعترافات، فضلًا عن اعترافات أقسى تذكر امتلاء هذا العلم بأفكار مزيفة (4)، تدفعنا إلى اتخاذ موقف إيجابي من هذا العلم يتجاوز حالة السلبية والاغتراب ويتمثل في خوض غمار التأصيل الإسلامي، كما

(1) انظر: إشكالية التحيز .. ، ملامح التحيز والموضوعية .. ، د. محمود الذوادي ص 26 - 28.

(2)

أقدم لك علم الاجتماع، ريشارد وصاحبه ص 181، ترجمة حمدي الجابري.

(3)

المرجع السابق ص 182.

(4)

انظر: علماء الاجتماع وموقفهم من الإسلام ص 127 - 140.

ص: 1357