الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والواجبات، وبين الروح والمادة، وبين الدنيا والآخرة، وإقامة القسط بين الناس جميعًا، وجلب المصالح والخيرات، ودرء المفاسد والشرور، بقدر الإمكان- قد أودعها الله مرونة عجيبة جعلتها تتسع لمواجهة كل طريق، ومعالجة كل جديد، بغير عنت ولا إرهاق" (1).
وحتى تقوم الشريعة بتحقيق ذلك فقد قامت على أسس عظيمة، وتميزت بخصائص تجعلها قادرة -في كل زمان وفي كل مكان وفي كل مجتمع مؤمن بها- على تحقيق الخير للناس، وبهذا يعلم الفرق بين شريعة مصدرها السماء وبين ظواهر اجتماعية مصدرها الأرض. وهذا الأصل هو الأصل الذي تفرعت عنه بقية الأصول المنهجية المنحرفة في نظرتها لشرع رب العالمين، ومنها أصل التطور.
الأصل الثاني: التطور:
من أبرز التحولات في باب العلوم الاجتماعية عنايتها بدراسة الدين، ولكن بعد فصله عن الوحي، وتحويله لظاهرة اجتماعية أو نفسية، ويُدرس كعلم من علوم الإنسان الأرضية التي لا علاقة لها بالسماء، وتدرس على نحو تطوري، من الأدنى إلى الأعلى أو من حال إلى حال، والتطور مذهب قديم "غير أنه لم يصبح مذهبًا علميًا إلا في العصور الأخيرة"(2)، وقد "اكتسب التفكير التطوري مكانة هامة في العلوم الاجتماعية والثقافة، سواء في القرن التاسع عشر أو أوائل القرن الحالي، وبالرغم من فقدانه لشيء من شعبيته بين الحربين العالميتين إلا أنه أعيد إحياؤه أخيرًا. . . ."(3).
وحتى يؤكدوا فرضياتهم ذهبوا إلى ديانات وثنية مع فئات أمية ومتخلفة تعيش بعيدًا عن المدن والمجتمعات المدنية، مثل غابات أفريقيا وصحاريها أو في غابات أمريكا الجنوبية أو في بيئات قاحلة من أستراليا، حيث وجدوا
(1) عوامل السعة والمرونة في الشريعة الإِسلامية، د. يوسف القرضاوي ص 71، ضمن كتاب وجوب تطبيق الشريعة الإِسلامية والشبهات التي تثار حول تطبيقها.
(2)
انظر: المعجم الفلسفي، د. جميل صليبا 1/ 295، وانظر: مفاتيح العلوم الإنسانية، د. خليل أحمد ص 115.
(3)
انظر: الموسوعة الفلسفية العربية 1/ 339، مادة (التطورية) لعبد الباقي هرماسي.
تكوينات اجتماعية بشرية معزولة عن العالم، وتعيش في دائرتها الخاصة، لها نظامها الديني والاجتماعي والعملي والقيمي، ومما درسوه بعناية أحوالها الدينية، وجعلوا هذا الجانب صورة عن بدايات الدين وتشكيلاته العملية، فإننا لو عدنا للماضي وإلى بدايات الإنسان الأولى فلن نجد بحسب زعمهم أفضل من هذه الصورة التي بين أيدينا لتمثيلها، ويجعلونها نقطة البداية لنشوء الشرائع، باعتبار أن النظام الاجتماعي لهذه النماذج هو الصورة الأولى لكل أمور الإنسان العملية، ومنه انطلقت عملية تطور بطيئة ومعقدة حتى وصلت الحال إلى ما هي عليه من شرائع وأخلاق وقيم وأنظمة ترتبط بالدين (1)، وتجد الاجتماعيين بمختلف مدارسهم عند دراسة أصل أي ظاهرة يعودون لمثل هذا النموذج باعتباره النواة الأولى البسيطة كحال أول خلية بسيطة وجدت في الأرض ثم تطورت حتى وصلت لقمتها في الإنسان، ومثل ذلك كل ظواهر حياة الإنسان المختلفة.
لقد تعززت هذه الرؤية الجديدة مع ظهور نظرية داروين التطورية، ولاسيّما مع توسيعها لمجال الدراسات الاجتماعية والإنسانية، وأصبح مفهوم التطور عنصرًا مهمًا لأي دراسة علمية (2). وقد يجد هؤلاء الباحثون في تاريخ البشرية ما يغريهم بتعميم مفهوم التطور على باب الشرائع والقيم وغيرها، فإن صورَهُ بارزةٌ في الجوانب الدنيوية، من حالة بسيطة وساذجة إلى أمور عجيبة ومدهشة، وذلك عبر مئات السنين، فيُلحقون الدين بذلك، ولاسيّما أنه يوجد نوع من الدين يسير مع هذه الفرضية، وهو الدين المبتدع، فالدين من الوجهة الإِسلامية ضرورة فطرية، ولا يعيش مجتمع دون دين، ولكن يقع الانحراف عن عبادة الله إلى عبادة غير الله، أو من عبادة الله على طريقة الأنبياء إلى عبادته ببدع من اختراع البشر، وقد يظهر في الدين المبتدع مثل هذا التطور، بل إن الباحث في الفرق الدينية المختلفة يجد مثل هذه التطورات قد لحقت بها عبر الزمن، حيث تبدأ البدعة بأصل واحد وساذج ودون أن تملك أدلة وحججًا، ثم تتلبس بأحوال تتطور
(1) قارن بالموسوعة الفلسفية العربية، الاصطلاحات والمفاهيم، مادة (تطور) ص 271.
(2)
سبق ذكر الكثير عن ذلك في الباب الأول، وسيكون له مزيد دراسة في المبحث الأول، من الفصل الثاني، من الباب الثالث، وانظر: أفي الله شك؟ د. حمد المرزوقي ص 97 - 109.
خلالها لتصل إلى درجة في غاية التعقيد وفي غاية التنوع والتكثر.
ومع غياب منهج التفريق بين المختلفات، ولاسيّما مع فقد ميزان الحق والعدل -الوحي- ومع إغراء القفز لتعميمات غير سليمة بسبب بعض المشتبهات؛ جعلوا الدين الحق -عقيدة وشريعة- مثل غيره، وألحقوه بسلم التطور، بعد تحويله لظاهرة اجتماعية تكتسب صفات أي ظاهرة بخصائصها وقت سكونها ووقت تحولها.
ويعارض التصور الإِسلامي هذا التعميم، ففي التصور الإِسلامي هناك الدين الحق -عقيدة وشريعة- الذي يتسم بالثبات والكمال والمثالية مع ما فيه من يسر ومرونة لجانب المتغيرات من حياة البشر (1)، فقد بعث الله أنبياءَه ورسله بالدين منذ أن وجد البشر على هذه الأرض، ثابت في أصوله ويقع التغير في شرائع الأنبياء، حتى جاء كمالها بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيكون كمال الدين بالعودة إلى تلك الصورة التي حققها الرسول، ويكون النقص والتغير والفساد بكل صورة من صور الابتعاد عنها بالتحريف أو الهجر أو التكذيب. وكما أن في الطبيعة من عناصر الثبات التي لم تتغير كل هذه القرون؛ فكذلك دين الله سبحانه هو ثابت في حقيقته كل هذه القرون، فهما من عند الله، الطبيعة من خلقه والدين من أمره وإخباره، ويتغير ما ابتدعه الناس، أما الدين الحق فلا تَغيُّر فيه، قال -تعالى-:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 48 - 50].
قال ابن كثير حول قوله -تعالى-: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} : "ثم هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان، باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من
(1) انظر: التطور والثبات في حياة البشر، محمَّد قطب، وانظر: الثوابت والمتغيرات. . . .، صلاح الصاوي.
الشرائع المختلفة في الأحكام، المتفقة في التوحيد، كما ثبت في صحيح البخاري، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات، ديننا واحد". يعني بذلك التوحيد، الذي بعث الله به كل رسول أرسله، وضمّنه كل كتاب أنزله، كما قال -تعالى-:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [الأنبياء: 25]. وقال -تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} الآية [النحل: 36]. وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي، فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حرامًا ثم يحل في الشريعة الأخرى، وبالعكس، وقد يكون خفيفًا فيزاد في الشدة في هذه دون هذه؛ وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة البالغة، والحجة الدامغة.
قال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة: قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} يقول: سبيلًا وسنة، والسنن مختلفة: هي في التوراة شريعة، وفي الإنجيل شريعة، وفي الفرقان شريعة، يحل الله فيها ما يشاء، ويحرم ما يشاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، والدين الذي لا يقبل الله غيره: التوحيد والإخلاص لله، الذي جاءت به الرسل"، إلى أن قال: "هذا خطاب لجميع الأمم، وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة التي لو شاء لجمع الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة، لا ينسخ شيء منها. ولكنه تعالى شرع لكل رسول شرْعة على حدَة، ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده، حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة، وجعله خاتم الأنبياء كلهم، ولهذا قال -تعالى-:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} ؛ أي: أنه تعالى شرع الشرائع مختلفة، ليختبر عباده فيما شرع لهم، ويثيبهم أو يعاقبهم على طاعته ومعصيته بما فعلوه أو عزموا عليه من ذلك كله" (1).
وقال القرطبي: "ومعنى الآية أنه جعل التوراة لأهلها، والإنجيل لأهله، والقرآن لأهله، وهذا في الشرائع والعبادات، والأصل التوحيد لا اختلاف فيه". وقال أيضًا في تفسير قوله -تعالى-: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا
(1) تفسير ابن كثير ص 418، وحديث أبي هريرة في البخاري برقم (3442)، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} .
تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)} [الجاثية: 18]: "ولا خلاف أن الله تعالى لم يغاير بين الشرائع في التوحيد والمكارم والمصالح، وإنما خالف بينما في الفروع حسبما علمه سبحانه"(1).
وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية: "وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد؛ الأنبياء إخوة لعلات، وإن أولى الناس بابن مريم لأنا، إنه ليس بيني وبينه نبي"، فالدين واحد، وإنما تنوعت شرائعهم ومناهجهم كما قال -تعالى-: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}. فالرسل متفقون في الدين الجامع للأصول الاعتقادية والعملية، فالاعتقادية كالإيمان بالله وبرسله وباليوم الآخر، والعملية كالأعمال العامة المذكورة في الأنعام والأعراف وسورة بني إسرائيل كقوله -تعالى-: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلي آخر الآيات الثلاث. وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} إلي آخر الوصايا. وقوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)}. فهذه الأمور هي من الدين الذي اتفقت عليه الشرائع كعامة ما في السور المكية فإن السور المكية تضمنت الأصول التي اتفقت عليها رسل الله؛ إذ كان الخطاب فيها يتضمن الدعوة لمن لا يقر بأصل الرسالة"(2).
وليس في هذا التغير في الشرائع دليل لأصحاب مقولة الظواهر الاجتماعية، فإن تغيير الشرائع في دين الأنبياء يكون من رب العالمين، فينسخ الله ما شاء سبحانه ويثبت ما شاء، أما أصحاب الظواهر الاجتماعية فيصدق كلامهم على الأديان المحرفة والأديان المخترعة وعلى البدع، فالتحريف والابتداع والاختراع هو من عمل البشر، وتنسب هذه الأديان لهم، قال -تعالى-: {لَكُمْ
(1) تفسير القرطبي، الأول 6/ 211، والثاني، 16/ 164.
(2)
الفتاوى، 15/ 159 - 160، وحديث أبي هريرة عند البخاري برقم (3442) كتاب حديث الأنبياء باب قوله تعالى:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} . وانظر له أيضًا كلامًا مهمًا حول هذا الموضوع في الفتاوى: فصل في توحد الملة وتعدد الشرائع وتنوعها وتوحد الدين الملي دون الشرعي وما في ذلك من إقرار ونسخ وجريان ذلك في أهل الشريعة الواحدة. . . .، وتسمى (قاعدة في توحيد الملة وتعدد الشرائع)، 19/ 106 وما بعدها.