الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحد الفرويديين الغربيين في تأسيس دين فلسفي علمي جديد (1).
النموذج الثالث: الموقف الوضعي:
من الدلالات التي يحملها مفهوم "الوضعية" أنها العلمية، وهي فلسفة ارتبطت بالعلم الحديث، ولها دعاوى كثيرة عن علميتها، ومن ذلك تعظيمها للعلم وانطلاقها منه وجعلها العلم مقياسًا لما يقبل أو يرفض، وقد جعلت الأخلاق والقيم واحدة من تلك المرفوضات بحجة عدم علميتها، فالعبارات الأخلاقية كلمات فارغة من المعنى، فلا تكون علمية.
وقد وجدت "الوضعية" في الفكر العربي من تحمس لها، في صورتها البارزة في القرن "14 هـ/ 20 م" كـ"الوضعية المنطقية" و"فلسفة التحليل" وهم من ورثاء الاتجاه التجريبي الحسي والوضعي، ومن بين من تأثر بها المفكر "زكي نجيب محمود"، فأخرج كتابًا عنها يحمل دلالاته بعنوان "نحو فلسفة علمية" ليؤكد علمية الاتجاه الذي سلكه.
ومع أن لهذا المفكر تحولات في مساره الفكري أرّخها في سيرته "قصة عقل" و"قصة نفس"، وأشهرها تلك التي أعلنها في كتابه:"تجديد الفكر العربي" بأنه واحد من ألوف المثقفين العرب الذين فُتحت عيونهم على فكر أوروبي -حتى سبقت إلى خواطرهم بأنه الفكر الذي لا فكر سواه- ثم أصابته صحوة قلقة جعلته يعود للتراث ويزدرد منه بسرعة وينظر لمشكلة الفكر العربي من منظور جديد (2). ومع ذلك فقد بقيت الوضعية بآثارها ترسم له الطريق، والجديد في موقفه هو تخفيف لغة الغلو الوضعي الذي عُرف به بعد تبنيه الوضعية، وجهده في رفع لواء التوفيق بينها وبين التراث، وهذا التوفيق اضطره لإجراء تحويلات في بعض أفكاره، وإلا فآثار الوضعية عميقة وبارزة في التصور والمنهج حتى في كتبه الأخيرة، وهي بارزة في موضوع الأخلاق والقيم.
نجد في دراسة حديثة عن فكره -ومتعاطفة مع هذا المفكر- تتبعها لموقفه من الأخلاق، وتذكر أن له تصورًا قديمًا للأخلاق ارتبط بالنموذج العقلي العلمي الغربي، وفيه يؤكد نسبية الأخلاق، ونفيها من مجال العلم، مع نقده الشديد
(1) انظر: الإنسان المعاصر في التحليل النفسي الفرويدي ص 102.
(2)
انظر: مقدمة كتابه: تجديد الفكر العربي ص 5 - 6.
لنموذج الأخلاق الذي يعتمد على سلطة خارجية، والذي يجعلنا عبيدًا لأخلاق تنبع من سلطة خارجة عن أنفسنا (1). ثم تأتي الدراسة إلى مرحلة التحول وفيها "أنه قد عاد في كتابته الأخيرة، في مرحلة الأصالة والمعاصرة، وتراجع بعض الشيء عن هذا الموقف، وكانت العلة وراء هذا التغير هو ظهور عامل الوجدان والدين والثقافة كعوامل مؤثرة في رؤيته الحضارية، إلى جانب عامل العلم. فرأى أن هناك قيمًا نسبية يجب تغيرها دائمًا وفق تغير الحياة، وهناك بجانبها قيم أخرى ثابتة"(2)، وهي لفتة مهمة في البحث السابق حول محدودية التغير. إلا أن أحد المهتمين بالدراسات الأخلاقية يؤكد عدم وجود تغير في فكر زكي نجيب، وأنه ظل مفكرًا وضعيًا على مستوى المنهج (3).
نبحث الآن عن موقفه من الأخلاق تحت تأثير العلمية المدّعاة، وننظر لحقيقتها قبل التحول وبعده، فقبل التحول نجد فقرة ختامية في كتابه:"نحو فلسفة علمية" بعنوان "نسبية الأخلاق"، فكما أن النظريات العلمية الحديثة تقول بالنسبية في مجال الطبيعة فكذا الأمر في عالم القيم الجمالية والأخلاق، "وكشف التحليل المنطقي للأحكام الدالة على قِيَم أنها ليست من المعرفة إطلاقًا، فضلًا عن أن توصف بما يوصف به أدق أنواع المعرفة من اليقين"(4)، وفي كتاب آخر يقول عنه:"الغاية الرئيسية من هذا الكتاب هي بيان أن العبارات الميتافيزيقية خلو من المعنى، مع تحديد "الميتافيزيقا" بأنها البحث في أشياء لا تقع تحت الحس، لا فعلًا ولا إمكانًا؛ لأنها أشياء بحكم تعريفها لا يمكن أن تُدرك بحاسة من الحواس"، ومثّل على ذلك بالخير والجمال فقال:"فإننا نرى العبارات التي تتحدث عن هاتين القيمتين في الأشياء -قيمة الخير وقيمة الجمال- خالية من المعنى، ولا تصلح أن تكون علمًا ولا جزءًا من علم"(5).
يضيق معيار الحس الأساسي في العلوم الطبيعية عندما يتجاوز الطبيعة إلى
(1) انظر: الفكر الديني عند زكي نجيب محمود، د. منى أبو زيد ص 217 - 218.
(2)
المرجع السابق ص 220 - 221، وتغميق النص من الباحث.
(3)
انظر: النظرية العامة للقيمة: دراسة للقيم في الفكر المعاصر، د. أحمد عطية ص 345 - 346.
(4)
انظر: نحو فلسفة علمية، د. زكي محمود ص 359.
(5)
موقف من الميتافيزيقا، د. زكي محمود ص 110.
المجالات الدينية أو العقلية، فكل ما لا يُحسّ من العبارات يُعدّ خاليًا من المعنى، فمعيار علمية العبارة هو الإحساس بها، وإلا فهي غير علمية؛ أي: خالية من المعنى، ومع صراحته في الحسية فهو يرفض أي مصدر غير الحس بما في ذلك الدين، إما بالسكوت أو بإهمال الكلام عنه، هناك امتناع عن الذهاب للدين كمصدر يضفي المعنى والقيمة والقبول لتلك العبارات. وهذا الطريق يغلب على المتأثرين بالوضعية عمومًا، حيث ربطت العلمية بالحسية وجعلت مقياس العبارات العلمية هو الحسية، وذلك بسبب ما رأوه من نجاح المنهج التجريبي الحسي وقيام نهضة علمية مادية حسية عليه، فعمم ذلك حتى على غير الماديات.
وليست المسألة في صواب استدلالاته اللاحقة، فهي قد تصح لمن سلّم له بأصل منطلقه القائم على عدم وجود مصدر غير الحس لمعرفة المعاني وصحتها ونفعها، ولذا فالأصل إيقافه في أول الطريق قبل أن يُركبنا معه قطاره ويسير بنا في سكة ذات مسار واحد لا تسمح إلا بقطار واحد، فنقف أول الطريق ونبين أن القيم والأخلاق تجد ما يرفعها من مجال الانطباعات الذاتية والأحكام النسبية بواسطة مصدر آخر غير الحس، وهو عندنا الوحي.
من بين ما يقدمه من استدلالات لإثبات دعواه: تمييزه بين عملين للغة، أحدهما تعبيري منصرف إلى إخراج ما يشعر به القائل داخل نفسه، كشعور ذاتي خاص به، والثاني تصويري يصف شيئًا خارج ذات القائل، فالمعيار في الثاني الحس وتكون بذلك علمية إن صدقها الحس، بخلاف الأولى التي لا مقياس لها، وهو يرى تبعًا لطائفة من الأخلاقيين أن العبارات الأخلاقية هي من النوع الأول، ولذا فهي ليست مما يصلح للمجال العلمي (1)، فهذا الاستدلال إنما يستقيم مع من يسلم له بعدم وجود مصدر آخر للمعرفة، أعلى وأوثق وهو الوحي، على أن هؤلاء لا يعترفون حتى باستدلالات العقل الصحيحة ما لم يصدقها الحس، وهم حتى في جانب الاستدلالات الفلسفية لاسيّما في مجال معيارهم المشهور معيار القابلية للتصديق قد تلقوا نقدًا من مدارس فلسفية تهتم بفلسفة العلم كاهتمام الوضعيين، فلم يتقبلوا هذا المعيار الذي أتت به المنطقية، وبيّنوا حتى في دائرة البحث المنهجي: حدوده وأهمية
(1) انظر: موقف من الميتافيزيقا ص 112 - 114.
إجراء تعديلات منهجية عليه (1).
ولكن هل وقع تغيّر لمفكر الوضعية؟ ربما حدث تغير، ولكنه بحسب الدراسة السابقة قد "تراجع بعض الشيء"، ومن ذلك الدور الذي يعطيه "زكي" في هذه المرحلة للتراث والدين والحضارة الإِسلامية، ومن بين الكتابات التي جاءت في هذه المرحلة وربما هو أشهرها للمؤلف كتابه:"تجديد الفكر العربي"، ونجد فيه:". . من غير المقبول عندنا، أن يقال: إن الأخلاق مدارها -في نهاية الأمر- منفعة تعود على الناس؛ لأننا نرى أن الفضيلة هي جزاء نفسها، أرادها لنا الله، وعقلناها، فالفعل عندنا يُعد فاضلًا في ذاته بغض النظر عن نتائجه؛ أي: ضارة بصاحب الفعل أم نافعة له، وبعبارة أخرى، فإننا نقيم الأخلاق على أساس الفائدة،. . . ."(2)، ويقول في موضع آخر من هذا الكتاب:"وفرّعنا (3) كذلك نظرة في الأخلاق، تجعل أساسها أداء الواجب، كما يفرضه الوحي أو يمليه الضمير، بغض النظر عن الفائدة العائدة من أدائه"، وأن هذه الثنائية تضمن الجمع بين العلم وكرامة الإنسان، تلك الكرامة التي فقدها الغربيون مع تقدمهم العلمي (4)، فـ"العلم والقيم كلاهما -في أوروبا وأمريكا- ينبت من الأرض، كلاهما ينشد القوة والمنفعة، وأما الثنائية المقترحة فتجعل العلم ثابتًا ينبثق من الأرض وظواهرها، وتجعل القيم غيثًا ينزل من السماء ووحيها، العلم نسبي يتغير مع التقدم، والقيم مطلقة تشخص إليها الأبصار، فهي ثابتة من حيث الأسس وإن تغيرت من حيث التطبيق بتغير الظروف"(5)، ثم يُذكّر بموقفه القديم حول نسبية القيم ولا يرى أنه بَعُد عنها كثيرًا، ذلك أن ثبات القيم في إطارها العام لا ينفي تغير مضمونها بحسب تفصيلات العيش في عصر من العصور (6).
هل نحن أمام موقف صريح أم أننا أمام موقف متذبذب؟ هل يوجد تحول
(1) يعد نقد "كارل بوبر" الأبرز في هذا المجال، انظر مثلًا: مقدمة د. ماهر عبد القادر المرفقة بترجمة كتاب منطق الكشف العلمي لبوبر ص 11 - 47.
(2)
تجديد الفكر العربي ص 277.
(3)
أي: على مبدأ الثنائية الذي أخذ به في المرحلة الجديدة.
(4)
انظر: المرجع السابق ص 283 - 284، وما بين القوسين ص 283.
(5)
تجديد الفكر العربي ص 285.
(6)
انظر: المرجع السابق ص 285.
حقيقي؟ قد نجد ما يرفع إشكال هذه العبارات القلقة في موقف آخر لهذا المفكر هو موقفه من العلمانية (1)، فهو من دعاتها البارزين، ومعلوم أن المفهوم العلماني يتضمن تصورًا عن الحياة يخالف تمامًا التصور الإِسلامي بما في ذلك الجانب الأخلاقي، كما أن المفاهيم الضيقة التي جعلها "زكي" لكل من "الدين" و"العلم" و"القيم" تزيد من بيان موقفه الحقيقي، فالدين يتحول إلى وجدان لا يملك المعرفة اليقينية الموضوعية، والعلم يضيق ليكون هو المحسوس فقط، وتبعًا لذلك يضيق مفهوم القيم.
عند مقارنته بين الأخلاق عندنا القائمة على الوحي والأخلاق في الغرب قال: "هذا لا يعني البتة أن الإنسان الغربي يفتقر إلى مبادئ الأخلاق. ومن الرعونة أن يتصور بعضنا أن حضارة الغرب لا شأن لها بالأخلاق، وأننا وحدنا الموكلون بها. والأحرى أن أخلاقهم لا تختلف عن أخلاقنا لكنهم لا يعتقدون مثلنا أن مصدرها الوحي، وأنها بالتالي، لا يمكن أن تتغير، إنها في نظرهم، نوع من الفروض العلمية تمامًا"(2)، وسيظهر أن مسألة التغير ذات صلة بنسبية الأخلاق التي هي امتداد لتأثره بالوضعية، وهي موجودة هنا تلميحًا، وهي صريحة في الطريقة التوفيقية التي يقترحها لقبول التغير في المجال الأخلاقي مع الثبات على المبادئ، وبهذا نضمن الجمع بحسب رأيه بين تراثنا وعصر العلم الذي محور عليه دعوته، وهي تتجلى هنا في أن ما نأخذه من تراثنا هو اللفظ بينما نأخذ من العصر المحتوى، وبهذا يحافظ المسلم على تراثه وعلى مكتسبات العصر (3)، وهي نظرة متغربة في جوهرها وإن تلبست بلباس التوفيق، فإن الدين حقيقته في المعاني التي يحملها بألفاظها الشرعية، أما هذا العمل فهو نوع من التأويل الكلامي وربما الباطني المشهور في تراثنا وتراث غيرنا، وكان الأقرب عكس المعادلة رغم ما فيها من مشكلات، وهو أخذ القوالب النافعة والتنظيمات المنهجية الجيدة وملؤُها بمحتوى إسلامي، وإن كانت حتى هذه محفوفة بمخاطر كسابقتها، ولكنها الأقرب بمنطق العقل في المحافظة على التراث والهوية.
(1) انظر: الفصل الأول من الباب الثالث من هذا البحث، فهناك وقفة خاصة مع هذه المواقف العلمانية.
(2)
تجديد الفكر العربي ص 112.
(3)
انظر: المرجع السابق ص 254.