الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لهذا يغلب عليهم دراسة الدين دون أن يصلوا منه إلى إثبات وجود موضوعي لدين موحى به، فهذا ما يرفضونه غالبًا، وأشد من ذلك فهم غالبًا لا يعترفون بأصل الدين وهو الإيمان بالله سبحانه، ثم مع كثرة الدراسات في هذا الميدان فُتحت أقسام خاصة في علم النفس تحت مسمى "علم النفس الديني" فرعًا من فروع علم النفس، يجمع في الغالب كل مباحثهم حول الدين.
وعندما وقع الاحتكاك بالغرب وطُلب ما عندهم من علوم، برزت طائفة تنقل من ميادين علم النفس مهملة كل تراثنا الإسلامي في هذا الميدان، مكتفية بما تلقوه عن الغرب إلا في حالات نادرة، وتأثر بعضهم بنظريات حول الدين ظهرت في هذا العلم، وأصبحت تمثل موقف المتغرب من الدين أو يعرضها على أنها صورة من صور العلم التي تفسر لنا الدين.
بالرجوع إلى المكتبة العربية المتغربة نجد الماركسيين يعلون من بافلوف وكشوفاته في ميدان علم النفس، بينما نجد فترة الابتعاث لأمريكا قد أثرت في طلابها وحولتهم إلى بحوث "وليم جيمس" في "التجربة الدينية"، إلا أن الطائفة الأبرز والأشهر هي التي ارتبطت بـ "فرويد" و"مدرسة التحليل النفسي"، حيث وجد في الإطار الفكري شعبية ربما لا يشعر بها أهل التخصص في علم النفس بسبب استغراقهم في دائرة علم النفس وعدم نظرهم في حركة الفكر والأدب والفن، وهي الزاوية التي تهتم بها هذه الدراسة في ميدان المذاهب الفكرية.
وبسبب هذا الحضور الكبير لـ"فرويد" و"مدرسة التحليل النفسي" التي أسسها؛ فستكون هي النموذج الواضح لهذا المبحث، ولاسيّما أن له موقفًا واضحًا من الدين والألوهية سعى هؤلاء المتغربون إلى نشره بصورة أو بأخرى.
نظرية فرويد النفسية ولاسيّما ما له علاقة منها بالدين:
نبدأ بمعرفة مذهب "فرويد" في الدين، حيث بحث ذلك في "الطوطم والتابو"، و"موسى والتوحيد"، و"قلق الحضارة"، و"مستقبل وهم"، إلا أن أهمها بحسب أحد أتباعه المهمين "أريك فروم" هو "مستقبل وهم" وقد قدم خلاصة لذلك في كتابه:"الدين والتحليل النفسي"، واختصرها في النقاط التالية:
• ينبع الدين من عجز الإنسان في مواجهة قوتين "قوة الطبيعة في الخارج، وقوة الغريزة في داخل نفسه".
• لم يكن الإنسان في مرحلة مبكرة من حياته بقادر على استخدام عقله في التصدي لهاتين القوتين، فتقوم قوى وجدانية بالتعامل مع القوتين بالكبت، وينمي الإنسان بهذه العملية ما أسماه بـ "الوهم"؛ أي: الوهم بالدين والألوهية.
• يكون الوهم هنا هو الدين، أي: طاعة إله، ومادة هذا الوهم تكونت في طفولة الإنسان، فالطفل عندما يواجه قوى خطرة يشعر بأن أباه يحميه، فعند أبيه قوة وحكمة، وحتى يكسب حب أبيه، ومن ثمّ حمايته؛ فعليه بطاعة أوامره واجتناب نواهيه.
• ونفس هذا الأمر يقع للكبير عندما يواجه قوة لا يستطيع السيطرة عليها أو فهمها، فهو يسترجع ذاك الوهم الطفولي، ويصوره في صورة دين، ويوجد إلهًا مكان الأب، قويًّا وحكيمًا، وحتى يكسب حبه وحمايته فعليه بطاعة أوامره واجتناب نواهيه.
• في وقتٍ ما من طفولة البشرية نبع هذا الدين ونبع الإيمان بإله، وحسب نظريته فإن المستقبل يعني اختفاء الدين؛ لأن الإنسان أصبح قويًا وقادرًا على استخدام عقله، وبهذا فإنه بحسب المفهوم الفيورباخي يستعيد القوة والحكمة من الإله ويجعلها لنفسه؛ لأنه لا وجود إلا لهذا الإنسان والعالم المادي من حوله.
• يزعم فرويد أن هذه الحقيقة التي وصل إليها تختلف عن أفكار فلسفية شبيهة قالها فلاسفة؛ لأنها بزعمه نابعة من تأمله في مرضاه وتحليل أحلامهم، إلا أنه يزيد درجة على من سبقه، فلا يكتفي بقوله: إن الدين وهم؛ بل هو خطر يجب التخلص منه، فهو يعتبره مرضًا عصابيًا (1).
• إذا كان الدين وما يرتبط به مرضًا عصابيًا فإن ذلك يعني الرجوع إلى منبعه، ومنبعه هو عقدة أوديب، وكما يقول أحد رموز مدرسة التحليل النفسي من العرب "العقدة الأوديبية، عقدة الخصاء، تمثلان المحور الأساسي الذي يدور حوله كل تحليل نفسي. فمن هذه العقدة تتفرع الأعراض العصابية. . . ."، وهي
(1) انظر: الدين والتحليل النفسي، أريك فروم ص 15 - 18، وكتاب مستقبل وهم، ترجمه جورج طرابيشي للعربية، وانظر: طريقة التحليل النفسي والعقيدة الفرويدية، رولان .. ، الفصل السابع ص 373 وما بعدها، وانظر: فكر فرويد، إدغار .. ، القسم الثالث ولاسيّما ص 111 وما بعدها.
بحسب رأيه قد "أذهلت الأدباء، والأطباء، والمفكرين، وخلقت تمزقًا في دائرة المحللين النفسيين. . . ."(1).
• تعمل العقدة الأوديبية في العقل الباطن أو في اللاشعور، وتصبح الأصل لتفسير كل الظواهر، أول دين برز عنها هو "الديانة الطوطمية"، ويعرفها أحد الفرويديين العرب الدكتور "فيصل عباس": ففي زمن سحيق كان الإنسان يعيش ضمن عشيرة بدائية تخضع لنظام أبوي، يستأثر بالنساء ويطرد أبناءه عندما يكبرون إن رغبوا في النساء، عندها اجتمعوا على قتل أبيهم، فقتلوه والتهموه، وأصبحت الوليمة الطوطمية تذكارًا بهذا الفعل، وكان قتله هو الخطيئة الأولى. إلا أنهم شعروا بالذنب والألم؛ فهم من جهة يحبونه بسبب قوته، ويكرهونه بسبب منعه لهم من إشباع رغباتهم، فظهر الندم الذي هو شعور بالذنب. ولكن بعد قتل الأب تعاون الأخوة، ومن ذلك تكوَّن المجتمع، فإنهم بعد اتفاقهم على قتل الأب وقع اختلافهم حول اقتسام النساء، وعالجوا ذلك بإيجاد تحريم زنا المحارم، فيكون الزواج خارجيًا ومن خلاله نشأت العائلة، وبهذا يكبتون رغبتهم نحو نساء الأب (2).
• أعقب ذلك اختراع "الديانة الطوطمية" التي هي الصيغة الأولى للدين، نشأت "عن شعور الأبناء بذنبهم، كمحاولة ترمي إلى تهدئة هذا الشعور ولمرضاة الأب من خلال الطاعة المستدركة. وأن جميع الأديان اللاحقة تتبدى على أنها محاولات حل نفس المشكلة. . . . وهذه المحاولات تبقى جميعها ردود فعل على الحدث العظيم الذي بدأت به الحضارة والذي ما زال منذ ذلك العهد يقض مضاجع البشرية"، إلى أن قال:"وتحول الأب البدائي القتيل إلى صورة إله"(3).
• تصبح عقدة أوديب تلك التي تكونت عند الطفل هي منبع الوهم الديني، وهي التي غذت تلك الحادثة وحولت الندم إلى دين وله إله، وحسب الفرويدي
(1) انظر: التحليل النفسي للرجولة والأنوثة .. ، د. عدنان حب الله ص 102، وقد شرح العقدة عند المدرسة بصورة موسعة ص 102 - 185، وانظر مختصرها في:(الأنا والهو)، فرويد ص 53 وما بعدها.
(2)
انظر: الإنسان المعاصر في التحليل النفسي، د. فيصل عباس ص 145 - 149.
(3)
المرجع السابق ص 153 - 154.
العربي السابق يقول: "يذهب فرويد إلى أن عقدة أوديب. . . . أو علاقة الإنسان بأبويه هي في أساس نشأة المجتمع والأخلاق والدين"، وينسب إليها أهمية بالغة في نشأتها، ويذهب إلى أن هذه العقدة هي "أهم تراث فطري ورثه الإنسان منذ الأزمنة الغابرة عن المجتمع البدائي"(1).
• قد توجد شروحات عربية مختلفة لنظرته حول الدين، إلا أنها ترجع في الغالب إلى هذا المبدأ، الدين وهم والألوهية وهم، والدين مرض أو عصاب جماعي، والتحليل النفسي عندهم يخلصنا من هذا المرض كتخليصه لبقية الأمراض العصابية. ولا شك أن قصة هذه العقدة تذكرنا بـ "الإسرائيليات" التي دخلت على المسلمين في تاريخهم القديم، وفرويد ممن غاص في تلك الإسرائيليات (2)، وجمع إليها أساطير أخرى درسها، ثم خرج منها بمثل هذا المركب الذي يجتهد أتباعه العرب في إدخاله إلى ثقافتنا، ولو أدخلوه على أنه من الإسرائيليات لهان الأمر، ولكنهم يدخلونه على أنه من العلم، وأنه أداة علمية يمكن الاستفادة منها في تفسير الدين وفهمه، وفي توضيح نشأته وتكونه وبيان أصله، وهذا ما تكشفه الفقرات القادمة.
المثال الأول:
بدأت المرحلة الأولى لإقحام "فرويد" في الفكر العربي عبر العميل الحضاري كما يسميه محمد عمارة (3)، أو الرسول العلمي كما يسميه المعجبون به وهو "سلامة موسى"، الرمز التغريبي المشهور، حيث كتب المقالات، وأخرج كتابين أو أكثر في ميدان علم النفس، هي أقرب إلى التفلسف حول هذا العلم مع نشر بعض المفاهيم التي تلبي العمل التغريبي عنده.
نجد في مقدمة كتابه "أسرار النفس" ما يلي: "كان موضوع هذا الكتاب جديدًا في اللغة العربية إلى قبل ثلاثين سنة. وهو في اللغات الأوروبية حديث العهد، يقوم بزعامته فرويد، العالم النمسوي، يعاضده يونغ وأدلر. . . .، ولكن
(1) انظر: المرجع السابق ص 158.
(2)
انظر: الفصل الثاني من الباب الأول من هذا البحث.
(3)
انظر: سلامة موسى، اجتهاد خاطئ أم عمالة حضارية، د. محمد عمارة، وانظر: قراءة في فكر التبعية، محمد جلال ص 21 - 90.
فضل الاختراع والابتكار لفرويد وحده" (1). وفي نوع من المبالغة ومن الاعتداد بهذا التقليد يقول في خاتمة المقدمة: "واعتقادي أن القارئ إذا قرأ هذا الكتاب بترتيب فصوله، بدون تقديم فصل على آخر، أمكنه في النهاية أن يعرف سريرة نفسه، ويقف على ميوله، ويفسر أحلامه، ويعالج أمراضه النفسية" (2). فانظر كيف يتحول قارئ كتيب صحفي إلى شخص يُدرك كل هذا الأمر ويصبح طبيبًا لأمراض نفسه، وهو أمر قد لا يدّعيه أمهر المتخصصين في هذا العلم.
ويستسلم لآراء "فرويد"، وتصبح أحكامًا قطعية عنده، ففي حديثه عن "العقل الكامن - اللاوعي" يقول:"فقد أثبتت الأبحاث أنه هو الذي يقرر عقائدنا الدينية والسياسية، ويكوِّن الأخلاق والأمزجة للناس، ويعمل لرقيهم أو انحطاطهم"(3). وفي السياق نفسه، وفي كتابه:"دراسات سيكولوجية" يستلهم فرويد وإن كان مع بعض التحفظ، حيث أعلن أنه قد لا يُسلّم بكل ما قاله فرويد، ومع ذلك يقول:"وأحب أن أصف مؤلفات فرويد بأنها فلسفة، بل هي أحيانًا فن أكثر مما هي علم: ذلك أني أحس أنها أنارت بصيرتي أو زادتها. ."، ثم عرف بأهم أفكار فرويد (4)، وهنا يتحول من علم إلى مجال آخر.
وفي دراسة موسعة لأحد تلامذته خصص فصلًا عن دور "سلامة موسى" في علم النفس، وأخذ عليه أنه جلس أسيرًا لفرويد ولم تصله فتوحات بافلوف، ولاسيّما أن سلامة موسى مال في آخر حياته إلى الماركسية، ولكنه لم يكمل تشرب كل أفكارها، وذكر كيف أصبح سلامة موسى يكتب مقالاته وكتبه من منظور علم النفس الفرويدي: الكبت، الأسرة، الزواج، العلاقات الجنسية، الأخلاق (5)، وغيرها.
إن ميل "سلامة موسى" للإلحاد وانغماسه في الأحزاب الشيوعية يفسر
(1) سلامة موسى وأزمة الضمير العربي، د. غالي شكري ص 176، وهناك جهد للرفع من شأنه وكتابات متتابعة عنه من قبل المتغربين انظر بعضها في: المرجع السابق، قراءة في فكر التبعية.
(2)
انظر: أسرار النفس، سلامة موسى ص 5.
(3)
أسرار النفس ص 9 ..
(4)
انظر: دراسات سيكولوجية، سلامة موسى ص 6 - 10.
(5)
انظر: سلامة موسى وأزمة الضمير العربي ص 178 - 188.
إعجابه بكل شخصية غربية ذات موقف حاد من الدين. إن عرض فرويد ليس عرضًا لعلم النفس وإنما هو عرض لأداة يمكن استخدامها في هدم الدين، وهو أمر يُصرّح به أفضل تلامذته.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، أما وقد عُرِّف به فسيأتي دور المنبهرين والتلامذة، إلا أن المزعج أن تجد من المتخصصين في علم النفس من ترجم كتبه دون أن يتكلم بشيء على حقيقة المُترجَم له، وكأن الأمانة والموضوعية تشترط كل هذا البرود، ومع ذلك فهناك أيضًا من فرح بمادة فرويد وترجمها وهو يتوقع منها أثرًا على أمتنا.
المثال الثاني:
أخرجت دار "الشروق" سلسلة لفرويد تحت عنوان: "مكتبة التحليل النفسي والعلاج النفسي" بإشراف الدكتور "محمد نجاتي"، وهو دكتور له نشاطه المميز في حقل علم النفس ومع ذلك فقد ترجم مجموعة من كتب فرويد (1) وأغفل أي حديث عن موقفه الخطير من الدين وأثر ذلك على هذه النفس التي يدرسها، صحيح أنه لم يترجم كتبه سيئة الذكر؛ إلا أنه ترجم كتبه التي تؤسس لنظريته، وفيها مباحث كثيرة هي مدخل لمواقفه الخطيرة من الدين، ومع ذلك لا يوجد أي تعليق.
في المقابل قام "جورج طرابيشي" بترجمة القسم الآخر من كتبه، وأعلن في مقدمة بعضها فرويديته الصريحة، ففي مقدمته لترجمة كتاب فرويد "مستقبل وهم"، وهو أبرز كتاب أفصح فيه فرويد عن موقفه الإلحادي وإنكاره لوجود الرب سبحانه، ورأيه الشاذ نحو الدين، ثم نجد المترجم يذكر بأن هذا الكتاب مع كتابين آخرين "قلق الحضارة" و"موسى والتوحيد" قد ظلّت أسيرة الظل، فلم تترجم للعربية، "وليس عسيرًا أن ندرك سر ذلك الإحجام إذا أدركنا أن الكتب الثلاثة المشار إليها اتخذت من الدين وصلته بالحضارة ومصائره في المستقبل موضوعًا مركزيًا لها"، ثم قال: "والحق أن نظرية التحليل النفسي بمجملها قوبلت في البداية، لاقتحامها عالم الجنس المحرم، بعداءٍ شديد آنًا، وبتحفظ وتشكيك
(1) منها: (الأنا والهو)، (معالم التحليل النفسي)، (الكف والعرض والقلق)، (ثلاث رسائل في نظرية الجنس).
آنًا آخر، من قبل "كلاب حراسة" الأيديولوجيا الرجعية والمحافظة في أوروبا أولًا، ثم في العالم" (1). فانظر إلى هذا العمى الأيدلوجي والتبعية العجيبة كيف تقود صاحبها إلى الدفاع عن نظرية خطيرة في بعدها الديني والأخلاقي، ومع ذلك يدافع عنها وكأنه يدافع عن وحي من السماء لا عن نظرية أطلقها ملحد ورعتها مجموعة من اليهود، حتى ذلك النصراني "يونغ" الذي احتواه، لم يستطع التواصل معه ومع مجموعته، فتركهم (2) ليؤسس نظرية تخفف البعد الإلحادي والتفسير الجنسي عند فرويد.
المثال الثالث:
من أخطر عمليات التأثر نقل نظريات فرويد إلى مجال الإسلام ذاته من قبل من يظن أنه يحسن عملًا للإسلام، ويريد بيان سبق الإسلام إلى مثل هذه المفاهيم، لو كان النقل إلى ميدان علم النفس باللغة العربية لبقي في الأمر متسع من النقاش، لكن أن يرتقي بتلك النظرية الإلحادية في جوهرها لتطبق على الإسلام فهذا من الغلو في التأثر، وقد أطلق عليها أحد الباحثين المميزين في مجال علم النفس بعملية الإسقاط (3)، إسقاط الإسلام على مفاهيم علم النفس الفرويدي، وذكر لذلك نموذجين: نموذج محسوب على أهل السنة، وآخر محسوب على الشيعة.
فالباحث الأول هو "عزت الطويل" الذي حاول الربط بين القرآن الكريم ونظرية فرويد، وهو يريد بذلك التوفيق بين الإسلام وعلم النفس، وقد رد عليه عالم النفس المشهور "مالك البدري" (4). وأما الباحث الثاني الشيعي فهو "محمود البستاني" في كتابه:"دراسات في علم النفس الإسلامي"، حيث يحاول التوفيق بين مقولات لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وبين نظرية فرويد (5).
(1) انظر: مقدمة "جورج طرابيشي" لكتاب فرويد (مستقبل وهم) ص 5.
(2)
انظر: الفصل الثاني من الباب الأول من هذا البحث.
(3)
هو الأستاذ الدكتور "فؤاد أبو حطب" في بحثه (نحو وجهة إسلامية لعلم النفس)، في كتاب "أبحاث ندوة علم النفس" للمعهد العالمي للفكر الإسلامي ص 173.
(4)
انظر: المرجع السابق ص 173 - 174.
(5)
انظر: المرجع السابق ص 184 - 185.
يشكل "المنهج الإسقاطي" خدمة للاتجاه التغريبي عندما نُدخِل نظرية ذات جوهر علماني إلحادي في منظومة دينية إسلامية، وهو يمثل صورة من الضعف أمام الوافد الغربي، والأصل من باحث مسلم أن يقف الموقف النقدي من نظريات ذات جوهر إلحادي وعلماني مهما كانت المنافع الأخرى التي في بعض فصولها، ومهما كانت الإنجازات التي حققتها في ميدان علم النفس، ولاسيّما إذا جاء التعامل مع أعز ما يملك الإنسان ويحياه، وهو المعتقد والدين والقيم. والحقيقة أن هذه الأبحاث المهزوزة قد ضعف شأنها مع بروز نخبة من الأكاديميين المميزين في علم النفس يسعون إلى تأصيله أو توجيهه إسلاميًا.
المثال الرابع:
اقتحمت -أو أُقحمت- نظرية فرويد حول الدين الكتابات العربية في "علم الاجتماع الديني"، فأغلب كتب علم الاجتماع الديني التي كتبها الاجتماعيون العرب خصصت فقرة لفرويد ورؤيته السيكولوجية، والغالب أن ذلك بسبب كونها استنساخًا لكتابات غربية، فهي تسير خلفها حذو القذة بالقذة، مع أن أصحابها يزعمون التأليف المستقل، ولكن في الحقيقة لا نجد حقيقة الاستقلال المعرفي فيما يكتبونه، ومن ذلك إدراجهم لرؤية فرويد، وكأنها تستحق هذه المكانة لدرجة أننا لا نجد أي تعليق حولها، وكأنها من المسلمات العلمية، مع أنها ذات جوهر إلحادي يتعارض تمامًا مع الدين.
يذكر "يوسف شلحت" في أثناء حديثه حول نشأة الدين وتطوره بأن "النظريات في الديانة تكاد تكون على نوعين: إما اجتماعية محضة، وإما نفسية محضة. . . . الفئة الأولى تكتفي بالحدث الديني العام، مهملة العواطف التي تتنازع المؤمن، إذ بالثانية تتخذ من العاطفة الدينية الخاصة دعامة لتشييد صرح الديانة"(1)، ثم يتكلم في مبحث طويل على النظرية النفسية التي يحاول دمجها بأخرى من الاجتماع ليخرج برؤية زاعمًا أنها له. وتبدأ النفسية كالعادة من حالة الطفل، قياس حال الإنسانية أول ظهورها بهذا الطفل، ولأنه لا يمكن وجود وثائق عن تلك الحالة الأولى منذ ملايين السنين، فإن الافتراض عندهم بأن
(1) نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني .. ، د. يوسف شلحت ص 140.
القبائل الوحشية في أستراليا وأمريكا وأفريقيا هي صورة من حالة الإنسانية أول وجودها، ودراسة نفسيتهم تعطينا صورة تقريبية لحالة الإنسان الأول. الطفل يرى في والده القوة والعلم والحكمة، ثم تدريجيًا يرفعها عن أبيه إلى إله مفارق للعالم (1). ولم أحب التوسع في ذكر ما قاله؛ لأنه قريب من الخلاصة التي ذكرها فرويد. ومن الواضح أن هؤلاء المتغربين حصروا أنفسهم في بيان الدين بالاتجاهين الاجتماعي أو النفسي، وأقفلوا الباب أمام ما جاء به الوحي بحجة عدم خضوعه للأسلوب العلمي (2).
ومن الأمثلة على ذلك ما نجده عند الدكتور "محمد بيومي"، ففي فقرة بعنوان "فرويد: الدين كبديل للإحباطات النفسية" يقول: "ويمكن مقارنة فكرة ماركس التفاؤلية للمستقبل بنظرية فرويد التشاؤمية للدين"، ثم يذكر بأن أفكار فرويد منها ما هو مستمد من كتابات عصره في ميادين أخرى، إلا أن "ما هو جدير بالفحص هنا هو أن فرويد قد طور نظرية من أفكار استمدت أصلًا من ملاحظاته في عيادته النفسية" (3)، ثم ذكر نظريته التي تبدأ بالطفل ونمو "عقدة أوديب"، وكيف أنها أساس الاعتقاد في الإله (4). وأهم ما وجهه من اعتراض هو ما نقله عن المصدر الذي أخذ عنه مذهب فرويد، وهو أن تعميماته مستمدة أصلًا من عدد محدود من الشخصيات ثم يعممها على الإنسانية (5).
وقريبًا منه نجد عند باحث آخر في علم الاجتماع الديني "د. زيدان عبد الباقي"، ففي فصل "النظريات النفسية والاجتماع الديني" ذكر بعضها، ومنها نظرية فرويد، وقد عرضها باختصار كما هي دون أي تعليق، وكأنه يحق لها الدخول ضمن النظريات المهمة في الموضوع (6).
وفي السياق نفسه عرضها "فراس السواح"، وكان اعتراضه الوحيد عليها بأنها "إرجاعية"؛ أي: تُرجع سبب ظهور الدين إلى سبب غير الدين، وتجعل
(1) انظر: المرجع السابق ص 140 - 167.
(2)
سيأتي الحديث عن الاجتماعي في المبحث الثالث.
(3)
علم الاجتماع الديني، د. محمد بيومي ص 284 - 285.
(4)
انظر: المرجع السابق ص 285 - 287.
(5)
انظر: المرجع السابق ص 189 - 190.
(6)
انظر: علم الاجتماع الديني، د. زيدان عبد الباقي ص 144 - 145.
مصدره سيكولوجي/ نفسي، بينما يرى أن الدين حقيقته في ذاته، نأخذه دون الرجوع إلى غيره (1).
قد يعتذر الاجتماعيون بعدم تخصصهم في علم النفس فيكتفون بذكر رأي فرويد؛ إلا أنهم في الحقيقة يعرضون كل الآراء الشاذة في الدين من كل الاتجاهات دون أي تحليل أو نقد، وستأتي في المبحث الثالث. وقد يجد بعضهم في مفهوم الموضوعية عذرًا لكسله عن التحليل والنقد، والموضوعية لا تعني كسل الباحث عن التدخل عند الحاجة إلى التدخل، ولاسيّما في ميدان تأسيس العلوم، فإن هؤلاء بكتاباتهم يؤسسون لعلم الاجتماع الديني، ويضعون القواعد لهذا العلم في الفكر العربي، وهنا لابد من ترك زيف الموضوعية الذي يغطون به كسلهم أو هواهم، ولسنا نطلب منهم الشيء المستحيل، فمن عجز منهم عن النقد فعليه على الأقل نقل وجهات النظر المختلفة حول هذا المفكر أو ذاك، فإن فرويد على سبيل المثال ونظريته قد تحمس لها قوم ونقدها آخرون، فليعرضوا مثل هذه الآراء الناقدة حتى لا يقع انطباع عند الطلاب الدارسين والباحثين في هذه الكتب بأن نظرية فرويد نظرية معتبرة في الفكر العلمي.
المثال الخامس:
ظهرت موضوعات دينية في علم النفس، مما هيأ لوجود مجال حول علم النفس الديني، ومثْله في علم الاجتماع حيث ظهر علم الاجتماع الديني، وعندما يقال:"علم نفس ديني" فلا يعني ذلك علمية هذا العلم، وإنما يعني أنها بحوث تطرح داخل ميدان علم النفس؛ لأن علم النفس ذاته ما زال يعاني مشكلته العلمية وتنوع مذاهبه وتعارضها وهو أكثر في مسائل كبيرة مثل الدين والقيم والتوجيه وغيرها.
وقد تفرح عندما تجد كتابًا جماعيًا لمجموعة متخصصين في علم النفس حول "علم النفس الديني" مثل كتاب: "علم النفس الديني" لسبعة أساتذة في هذا الميدان (2)، ثم تتفاجأ أنهم في أهم موضوعاته وهو: تحديد المفهوم بهذا القسم
(1) انظر: دين الإنسان .. ، فراس السواح ص 326.
(2)
على رأسهم الدكتور "رشاد موسى" والكتاب حديث نسبيًا، طبع سنة (1413 هـ - 1993 م).
وتحديد منهجه؛ ينقلون وجهة نظر واحدة حولها شبهات أو على الأقل تبقى نظرة أحادية، وفي الوقت نفسه تجد تغلغل المفاهيم العلمانية حول الدين بحيث يصبح علم النفس أداة لصبغ تلك المفاهيم بالعلمية.
ومن ذلك ما نجده في مقدمة هذا العمل الجماعي بأن علم النفس الديني "لا يحبذ "أسلمة" العلوم الإنسانية النفسية أو صبغتها بالمسيحية أو اليهودية، ولكن الهدف من هذا الكتاب في المقام الأول، وضع أساسيات لعلم النفس الديني من وجهة نظر دينية (1) بغض النظر عن تنوع وجهات النظر هذه سواء كانت إسلامية أو مسيحية أو يهودية"(2). وقد يظن الباحث في كلامهم بوجود معايير موضوعية في هذا الميدان أو اجتهادهم في تحقيقها إلا أن البديل المطروح هو "علمنة العلوم الإنسانية"، فهذه العلوم في صورتها الغربية نشأت في إطار علماني بل أحيانا إلحادي، وهذا الإطار ولاسيّما عند دراسته للدين لا يمكن أن يكون علميًا، وهذا هو الخلل الكبير الذي يخترق هؤلاء، فهم يعترضون على التأصيل الإسلامي حتى في موضوعات تمس الدين، ومع ذلك يحيلون إلى بديل أيدلوجي علماني أو إلحادي.
ونجد في مقدمة الكتاب عرضًا لرغبة المقدم في فتح هذا القسم في جامعاتنا بعد أن شاهده في جامعات الغرب وهو يُعدّ لدراساته العليا، ثم ذكر الكتابات المختلفة في الموضوع، وطول هذه الرغبة عنده (3)، والأصل أن يصحب هذا الهم الطويل جهد مماثل بحيث يُخرج لنا صاحبه ما يدل فعلًا على أكاديمية الباحث وما يدل على صحة هذا الهم الطويل، ولكننا لا نجد شيئًا يدل على هذه الاعترافات. وأكتفي بأهم "فصلين" في هذا الكتاب من إعداد صاحب الآمال السابقة، وهما الفصل الأول والثاني حول ماهية هذا القسم وحول منهجه، لنرى أن الهمّ الكبير لم يصاحبه عمل حقيقي.
يعرف الفصل الأول بـ"علم النفس الديني"، حيث بدأ بتعريف هذا القسم كما هو السائد في الغرب، ثم قام في النهاية بالإسقاط. وما يهمنا هو تحديد
(1) كأن الأنسب للسياق (علمية) مكان (دينية).
(2)
علم النفس الديني، د. رشاد موسى وآخرون ص 8.
(3)
انظر: المرجع السابق ص 5 - 7.
هذا العلم وماهيته، إذ نجد أن مادة هذا القسم الأساسية هي نقل حرفي لما كتبه "سيريل بيرت" الإنجليزي في كتابه:"علم النفس الديني"، وهذا الاكتفاء بكتاب واحد وليس حتى بعالم؛ لا يتوافق مع الدراسة الأكاديمية من جهة، والهم المعلن عنه من جهة أخرى في تأسيس فرع جديد لعلم النفس.
ومن الأفكار التي يطرحها مسألة البحث عن أساس الدين النفسي: "يستطيع الباحث النفسي دراسة الدين ليس من أجل البرهنة على مصداقيته أو عدمه؛ بل لأنه مرتبط بانفعالات وإدراكات الإنسان، وربما من أولى المشكلات التي يقابلها الباحث النفسي الديني هي في كيفية نشأة الدين وتطوره ونموه، لذا فإنه يحاول النفاذ إلى البواكير الأولى للدين. ولقد افترض الباحثون أن التصورات الدينية الأولى عند الإنسان الأول انبثقت من اعتقاده في الأرواح. . . ."، ثم تحدث عن التعليل النفسي لوجود عقائد من عصر ما قبل التاريخ ومع ذلك ما زالت توجد في ديانات راقية بأن الغرائز لم تتغير بين عهد البربرية وعهد ما بعدها، كما أن الدين مدين بميلاده إلى بعض الغرائز الغامضة (1)، ثم يتحدث عن نشأة الدين رابطًا ذلك بحالة الطفل واعتقاده في أبيه إلى أن يصل للاعتقاد بالدين (2)، فالدين في مثل هذا التصور النفسي حالة طفولية.
قد لا يشعر صاحب الكتاب بتناقض ما يعرضه؛ فإن الباحث الغربي وإن لم يهتم بالمصداقية والمطابقة والحقيقة فلأن حديثه عن نشأة الدين وتطوره تكفي في الموضوع، كما أن حديثه عن أثر غرائزي غامض زيادة في العماية، والتفريق بين ديانات ما قبل التاريخ وديانات راقية، كلها توصلنا إلى نتيجة واحدة: أن الدين ظاهرة نفسية لا علاقة لها بدينٍ موضوعي وبوحي وألوهية، فما يرتبط بالانفعالات والغرائز الغامضة لا علاقة له بالصحة والمصداقية؛ لأنه -عندهم- حدثٌ نفسي فقط، وأغلب المشتغلين في ميدان علم النفس في الغرب من المتأثرين بالإطار الفيورباخي حول الدين؛ لهذا لم يعد يشغلهم البحث عن الدين الحق؛ لأنه في نظرهم لا وجود له، وإنما البحث ينحصر في هذا الدين
(1) انظر: علم النفس الديني ص 13، وانظر كلام "سيريل بيرت" في: علم النفس الديني ص 9، ترجمة سمير عبده.
(2)
انظر: المرجع السابق ص 13 - 14، وهو عند "بيرت" ص 13 - 16.
الوهمي، كيف نشأ؟ وكيف تطور؟ وكيف يعيشه الإنسان ويحياه؟. وعندما ينزلق باحث مسلم إلى هذه المشكلة؛ فهو يخدم هدفهم، وهو يحسب أنه يحسن صنعًا، وأنه ملتزم بالعلمية والموضوعية والحياد بينما هو قد أصبح موظفًا في الدعوة للعلمانية ومذاهبها المختلفة.
ومع أن تحليل الباحث لماهية الدين لا تبتعد عن الطرح الفرويدي تبعًا لـ"بيرت" إلا بإبعاده "عقدة أوديب"؛ إلا أنه أيضًا خصص فقرة لفرويد، فلا يمكن لعلم النفس الديني في صورته العربية أن تكتمل إلا بذكر مذهب فرويد دون أي تعليق. والمزعج أنه نقل من حاشية ذكرها مترجم كتاب بيرت، حيث قام الباحث برفعها من حاشية الكتاب المُترجَم إلى متن الفصل الأول بنصها دون أي إشارة (1). ولكن هناك شيء لم ينقله الباحث عن مترجم كتاب "بيرت"، وهو في مقدمة الترجمة أن مجلة إنكليزية خصصت دراسة عن "بيرت" سنة (1978 م)"مدعية أنه أفّاق اعتمد على التزييف في معظم ما أخرجه للعالم على أنه حقائق علمية لا يطالها الغبار. . . ."(2).
ويواصل الإشكال حضوره في الفصل الثاني: "منهج البحث العلمي في علم النفس الديني" من جهة الارتباط بمرجع واحد وإسقاط النموذج الإسلامي عليه، دون ظهور أي روح نقدية أو انتباه لمشاكل المناهج التي ارتبطت بالبيئة الغربية بإطارها العلماني، حيث جعل عمدته هنا "جون ديوي"(3).
عُرض في الفقرات السابقة صورٌ من التأثر الفرويدي: فهناك من يُعرِّف بفرويد كعالم نفس ويعرف بأفكاره، وهناك من يترجم كتبه على أنها جزء مهم في حقل علم النفس، وهناك من يدرج نظريته كأداة لفهم الدين في علمَي:"النفس الديني" و"الاجتماع الديني"، وأختم هذه الصور بفقرتين عن دراسات فكرية تجعل من النظرية الفرويدية حول الدين والألوهية منطلقًا لها، ونركّز على المتشبعين بفرويد والتحليل النفسي.
(1) انظر: علم النفس الديني ص 15، وهو في حاشية كتاب "بيرت" للمترجم ص 18.
(2)
علم النفس الديني، سيريل بيرت، من مقدمة المترجم ص 7.
(3)
انظر: المرجع السابق ص 27 وما بعدها، وقد سبق الحديث عن مشكلة المنهج في الفصل الأول من الباب الثاني.
المثال السادس:
أنشأ أتباع مدرسة التحليل النفسي مركزًا لهم باسم "المركز العربي للأبحاث النفسية والتحليلية"، وعقدوا مؤتمرهم الأول في وقت قريب (2004 م) من خلال جامعة القديس يوسف، واستفادوا بحسب ورقة اللجنة التحضيرية من الانتشار التدريجي للتحليل النفسي في البلاد العربية (1)، موضحين أهمية "خطاب التحليل النفسي" في ثلاثة مجالات: المجال العلاجي الذي يتميز عن غيره منذ اكتشافه عن طريق فرويد "باعتماد سبل الكشف عن المكبوت"، وقد بين التحليل النفسي بأنه وإن كانت الحقيقة المكبوتة مصدرًا للمعاناة النفسية فلها في النهاية فضيلة الشفاء. والمجال الثاني هو المجال اللغوي ولاسيّما بعد أعمال "جاك لاكان". والمجال الثالث هو المجال الاجتماعي فـ"التحليل النفسي لا يقتصر على العلاج النفسي، إنما بفضل منهجيته يفتح آفاق الفكر المغلقة على العديد من القضايا العالقة في مجتمعنا، والتي كانت سببًا في تخلفه وبصورة خاصة حرية التعبير وارتباطها بالديمقراطية. ناهيك عن إرث السلفية التي لم تطلْها التطورات الفكرية الحديثة، فأبقت المجتمع العربي في مشاكل الحاضرة، كل هذه الأمور تجعل من الخطاب التحليلي حاجة علاجية وتنويرية للفكر العربي، أشبه بعصر الأنوار الأوروبي"(2). فهؤلاء يتجاوزون عرض فرويد إلى توظيفه علاجيًا ولغويًا واجتماعيًا، ونأخذ مثلًا على المستوى الفكري من مؤتمرهم الأول وهو من بحث "كريم جبالي""بني الجماعات وقمعها"، ونتذكر هنا أهم معالم نظرية فرويد حول مركزية الجنس في نظريته، وقصة تكوّن "عقدة أوديب"، والأمراض "العصابية" النابعة عنها، ومنها وهم الدين.
وصاحب البحث يعتمد على فرويد في تصوره حول الجنس وأثره في ظهور الجماعة ثم الدين، أختصر ما ورد عنده: الغريزة الجنسية هي الأساس، كان الإنسان في أول حياته يسير على أربع مثل الحيوانات، فيكون المثير للغريزة في هذه المرحلة هو الرائحة، ومع تطور الإنسان نحو وضعية الوقوف التي تسهل عليه رؤية الأعضاء التناسلية، ومع كثرة رؤيته لها ازدادت الإثارة الجنسية وارتبط
(1) انظر: أعمال المؤتمر الأول للمحللين النفسيين العرب (فكرة النفس عند العرب وموقعها في التحليل النفسي) ص 11.
(2)
انظر: المرجع السابق ص 11 - 13.
بذلك تكوين العائلة، وارتبط بالعائلة ظهور المجتمع. كانت الممارسة الجنسية قبل تكوين العائلة مفتوحة بخلاف الوضع بعد ظهور العائلة إذ منعت العلاقة المفتوحة باستثناء التي تؤدي إلى الإنجاب. وفائض الطاقة الجنسية يصرف نحو الطاقة الاقتصادية وبناء الحضارة. وتلك الجماعة التي ارتبطت بظهور العائلة تتشكل من نظام رمزي "ديانات - أساطير. ."، وظهر هذا النظام من خلال قواعد الزواج وإدارة النشاط الجنسي .. ويستدعي هذا النظام وجود "إله" خيالي (1).
يشترك هذا الباحث مع غيره في المعادلة الفرويدية: البحث عن قصة متخيلة وقعت للإنسانية أول ظهورها على الأرض، الغريزة الجنسية المحركة، تكوين نظم وعلاقات، وتختم باختراع الدين والإله، هذه المعادلة تجدها عند كل باحث فرويدي في أية قضية يدرسها، وهي مساحة كبيرة يمكن وضع مئات الأمثلة مع المقلدين والمستعبدين لفرويد.
المثال السابع:
يرتبط هشام شرابي بالفكر الاجتماعي الحديث ويغرف من مقولاته دون مراعاة للأصول الإسلامية، مثل فرويد وماركس والمدرسة الاجتماعية الوضعية، وهذه وقفة مختصرة مع أخذه ببعض المقولات النفسية الفرويدية والاعتماد عليها من أجل زعزعة الثقافة الإسلامية دون شرط التصريح في كل موقف.
نجد فرويد في مذكرات شرابي وفي كتابته حاضرًا بقوة وكأنه رمز لا يمكن الاستغناء عنه، فهو يعيب مثلًا على الجامعة الأمريكية في بيروت أنها لم تعطه شيئًا عن فرويد، مع أننا "لو قرأنا فرويد لاكتشفنا بأن ما يدفع الإنسان ويسيره في سلوكه وتفكيره ليست القيم والمثل العليا، التي كان يتحدث عنها أساتذتنا ويبشرون بها، بل قوى ودوافع داخلية تنزع في أعماق النفس وتستخدم العقل الواعي وسيلة من وسائلها"(2).
وفي هذا غلو فرويدي من هشام، وقد سبق بأن الإنسان فعلًا قد يتحكم به الهوى ويسيره وهو يحسب أنه يحسن صنعًا، ويظن أن ما يوجهه هو مثل وقيم
(1) انظر: المرجع السابق، القسم الثاني منه ص 137.
(2)
الجمر والرماد ص 34، وانظر: ص 44، وانظر: مقدمات لدراسة المجتمع العربي، هشام شرابي ص 47.
عظيمة، بينما هي أهواء خفية وعلنية، ولكن هذا لا يعني إلغاء دور القيم والمثل العليا عن دورها في توجيه الإنسان وبخاصة دور الإسلام والتدين الحق والإيمان الصحيح والعميق في حركة المؤمن، ومثل هذا الكلام لفرويد لا جديد فيه، والجديد الذي لم يذكره هشام وهي المنظومة المعقدة التي ذكرها فرويد والتي سبق عرضها وهي التي لا يسلم له بها علميًا فضلًا عن أن يسلم له بها دينيًّا.
ومما يهمنا في هذا الباب استخدام هشام شرابي لبعض مقولات فرويد في جوانب يريد منها هدم الثقافة الإسلامية وذلك بعد خلطها بغيرها مما هو صحيح وفاسد في المجتمع العربي، وقد اتخذ من مصطلح "البطركية" الذي هو النظام الأبوي الذي يسيطر فيها الرجل على الأسرة والمجتمع والثقافة وصفًا لوضع المجتمع العربي، فهو مجتمع بطركي، وحتى يتقدم فلابد من التخلص من هذا الوضع البطركي.
ومن بين الأدوات التي ينقد بها هذا المجتمع خالطًا فيه الدين بغيره أداة من أدوات التحليل النفسي في موضوع أثير عند فرويد ومدرسة التحليل النفسي وهو الجنس، فمن مشكلات المجتمع البطركي مشكلته مع الجنس، فهو موضوع تحيطه العائلة بالغموض والسرية والخوف مما يولد عند المراهق عقدًا نفسية، وذلك بسبب الكبت الجنسي الذي مارسته الأسرة والمجتمع.
ثم ينتقل لخطورة الكبت حسب رأي مدرسة التحليل النفسي فيقول: "لقد أثبت علم النفس أن الكبت الجنسي يقتل روح التمرد في الفرد ويخضعه لإرادة الأب وللسلطة الاجتماعية التي يمثلها هذا الأخير. وهذا الإخضاع يؤدي بدوره إلى عوارض نفسية مختلفة منها ضعف القدرة على التساؤل الحر والتفكير المستقل؛ أي: إلى التشتت العقلي بشكل عام"(1).
نجد أن التعامل مع قضايانا لا يدخل فيها الدين من قريب أو من بعيد وذلك بحجة العلمية والعقلانية، فمفهوم الكبت الجنسي يحتاج إلى تحليل ثم إلى وزن بميزان الشرع والنظر في حقيقة الموقف الإسلامي هل هو كابت للجنس كما وقع مثلًا من الرهبانية النصرانية التي ولد هذا المفهوم في ظلّها، أم أنه موجه للغرائز ومشبع لها بصورة منظمة بعيدة عن الانفلات الذي يراد تعميمه من خلال
(1) مقدمات لدراسة المجتمع العربي، هشام شرابي ص 109.
هذه المفاهيم العلمانية، هذه الأمور لا تعني شيئًا كثيرًا عند المفكر المتغرب ولاسيما من شخص يريد فتح باب المتعة الجسدية التي اعترف كثير منها كان قد اقترفه بنفسه في مذكراته. والمهم هنا أن شرابي أراد الاستفادة من أدوات لدراسة المجتمع الإسلامي الذي يدين بالإسلام ويرجع الناس إليه حتى وإن وقع انحرافات هنا وهناك، ولكن حتى يبتعد عن مشكلة التصادم مع الإسلامي وضع مصطلحه الخاص به، واستخدم عددًا من الأدوات لدراسته.
المثال الثامن:
وأختتم هذه النماذج الفرويدية الفكرية بدراسة فرويدية حديثة بعنوان:
"الإنسان المعاصر في التحليل النفسي" للدكتور فيصل عباس، حيث عرض صاحبها "فرويد" وكأن بيده الحل السحري لفهم الإنسان وفهم مشكلاتنا ومعالجة تخلفنا والانتقال بنا إلى القوة والمجتمع الإنساني المميز، وإلى الطمأنينة والسعادة، ويغطي ذلك بانهزامية كبيرة أمام "العقل الغربي" الذي كال عليه من الثناء والمدح ما يُفهم منه عجز العقل المعارض له (1)، ومن هذا العقل جاء "فرويد"، وجاء بحثه عن فرويد في وقت -كما يزعم- يشهد إقبالًا واسعًا على دراسة أعماله (2)، "ومما لا ريب فيه أن التحليل النفسي أدى إلى البحث عن صورة جديدة للوجود، وللإنسان في الوجود. وشكّل حافزًا للشروع بتأسيس خطاب فلسفي جديد ملقح باكتشافات فرويد، فلم يعد بوسع المفكر أن يمارس التفكير وكأن فرويد لم يوجد"(3). وقد شرح بتوسع مذهب "فرويد" دون ظهور أي حس نقدي، ومع إشارته إلى كثرة الدراسات حوله، إلا أنه اختار ما يمدح فرويد وترك عشرات الدراسات التي تنقد "فرويد" بما فيها دراسات للفرويديين، وإن استعان بشيء منها؛ فمن أجل توضيح فكرة من أفكار فرويد دون المساس الجوهري بها.
إن بروز مثل هذه الحالة في وقتٍ نُقد فيه فرويد نقدًا جذريًا ليُعد مشكلة فكرية عميقة في الحقل التغريبي العربي، على الأقل في الفرويديين منهم، وبما
(1) انظر: الإنسان المعاصر في التحليل النفسي الفرويدي، د. فيصل عباس ص 26 - 27.
(2)
انظر: المرجع السابق ص 30.
(3)
المرجع السابق ص 19.
أن البحث يركز على تأثرهم بموقفه من الدين؛ فأكتفي برصد صورة هذا التأثر، وهو لا يختلف عما سبق إلا بتوسعه وتوضيحه ما لم يوضح.
"لقد حاول فرويد، من وجهة نظر التحليل النفسي، تفسير نشوء الدين والشعائر الدينية، وتعليل دور الدين في تطور الحضارة، والخدمات التي يؤديها للناس"، ثم قال موضحًا ميزة عمل فرويد:"ترجع أهمية فرويد إلى طرح تصوراته النفسانية .. القائلة بأن الدين .. ومعتقداته، ومحرماته ورمزيته، لا يفعل سوا التعبير، على المستوى النفسي، عن الجزع والقلق اللذين تولدهما عقد كل فرد؛ ولاسيّما قلق الإنسان أمام نزواته الخاصة وأمام قوى الطبيعة المعادية. . . ."(1)، وهو لا يغفل عن تصور أبعد عند فرويد "يرفض فرويد بذلك كل المسلمات القائلة بأن الدين وحيٌ منزّلٌ، أو أنه إحساس فطري لا علاقة له بعوامل مسببة من عقدة أوديب. ."، ويشرح مذهب فرويد حول الدين باعتباره وهمًا؛ بل مرضًا أو عصابًا وسواسيًا عامًا للبشرية، ينجم مثل عصاب الطفل من عقدة أوديب، وأن أسلوب التخلص من هذا الوهم، وهذا العصاب الوسواسي، عن طريق التحليل النفسي (2)، فالتحليل النفسي في النهاية هو أداة لتخليص البشرية من الدين.
ولكن هذا الباحث العربي الفرويدي له رأي آخر، فهو يختم هذا البحث بفقرة توضح حاجة الإنسان للأوهام فيقول:"يمكن القول: إن كل ما له طابع ديني إنما يدخل في فئة الأوهام. ولقد أمكن التفكير، في القرن التاسع عشر، على إعادة تأليف مثل الحضارة الغربية على أساس جذري علماني وإنساني؛ أي: غير ديني. ويرجع إلى هذا السبب، جزئيًا، كون فلاسفة القرن التاسع عشر، أخذوا يتساءلون عما إذا كان "الله قد مات"؛ وفي اعتقاد بعضهم أن الله، الرمز التقليدي للألوهية، هو ميت حقًا. إن ما يعتقدونه هو أنه ليس للألوهية أية فائدة للبشر في عصر العلم والثورة العلمية .. غير أن التاريخ بين لنا لاسيما تاريخ القرن العشرين، أن البحث عن أوهام .. ضروري بالنسبة إلى الكثيرين. . . ."(3)
(1) المرجع السابق ص 163.
(2)
انظر: المرجع السابق ص 170.
(3)
المرجع السابق ص 172 - 173.
على خلاف فرويد فإنه يرفض الدين باعتباره وهمًا مهما كلف الأمر (1).
يخلط هؤلاء بين حاجة البشرية للدين الحق، مع وجود عِصَابات في الطريق تنحرف كثير من الناس إلى أوهام دينية، وبين هذه الأوهام، فإن الله سبحانه ما بعث أنبياءه ورسله -عليهم الصلاة والسلام- إلا لتحرير الناس من هذه الأوهام وعدم السكوت عنها أو تبريرها وإخراج الناس منها إلى نور الإِسلام. وقطعًا الملحد من هؤلاء يجعل الدين الحق مثل أديان الباطل، كلها تدخل في "فئة الأوهام"، يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم وأنى لهم ذلك، فإن الله مُتمّ نوره ولو كره الكافرون.
ترفض تيارات فكرية غربية مهتمة بفلسفة العلم نظرية فرويد باعتبارها نظرية فلسفية وليست علمية، فكثير من المفاهيم التي بنى عليها صرح نظريته لا يمكن إخضاعها بصورة صحيحة ومناسبة لمناهج العلم، ولا يمكن إخضاعها لمعايير التصديق أو التكذيب أو القابلية للتحقق (2)، وهو رأي معتبر، وهو الرأي الذي يتبناه المفكر المسلم، إلا أن أصحاب هذا التيار يقعون في مشكلة أخرى، وهي أنه لا يوجد عندهم إلا معيار واحد للتحقق، هو المعيار الحسي في النهاية وإن اختلفت أفكارهم حوله، بينما المفكر المسلم معه طريق آخر للتحقق غير الحس وهو الخبر. ورغم الفائدة التي يقدمها هذا التيار الناقد لفرويد إلا أنه من المهم الانتباه لمشكلتهم الأخرى. ومع ذلك فإن مفاهيم فرويد المتعلقة بالنفس يفضل تركها لأهل علم النفس، فهو علم يسير نحو التقدم ولابد أن يصل إلى رأي مناسب حولها. إلا أن المغالطة الواضحة التي يقع فيها المتغربون هي عدم فصلهم بين الجانب الخاص بعلم النفس وبين فلسفة فرويد وفكره وأيدلوجيته وهواه، حيث تُعرض هذه الأمور وكأنها من ميدان العلم وليست من ميدان الأفكار، فما خرج من ميدان العلم فقد خرج من ميدان التحقق التجريبي المعتمد في العلوم إلى ميدان لا يمكن التحقق التجريبي منه، ويبقى الأمر إما بخبر السماء الذي نزن به صواب الأفكار وخطأها، أو يترك عند غير متبعي الإسلام للعقول،
(1) انظر: المرجع السابق ص 174.
(2)
انظر مثلًا: نقد فيلسوف العلم "بوبر" للفرويدية باعتبارها غير عملية لعدم خضوعها لمعايير التحقق العلمية، في الفكر الفلسفي المعاصر "رؤية علمية"، د. محمد قاسم ص 325.
وما ترك للعقل فلا يخضع لميزان معتبر وإنما يرجع لقناعة هذا الشخص أو ذاك أو قناعة هذه الطائفة أو تلك، وهذا هو المعهود في المذاهب الفكرية والفلسفية والأدبية والفنية، حيث تجد تنوعها في البلد الواحد في باب واحد، ومع ذلك تجد لكل مذهب أتباعه. والمذهب لا يرتبط بالحق إلا بشهادتين أو بإحداهما، شهادة الوحي وشهادة الحس، فإذا فقدهما أو فقد إحداهما فهو يذهب كل مذهب كغيره مما يرتبط بالميول والرغبات، والمسلم قد أبدله الرب سبحانه عنها بهذا الدين الحق، فهذه المذاهب لا تنفعه بشيء ما لم تكن متوافقة مع هدي الله سبحانه وتعالى.
لكن الفرويديين أو من يعرض نظرية فرويد لا يعرضها في جانبها الفكري على أنها فلسفة رجل متأثر بتاريخه الخاص والتاريخ العام من حوله وأنه خاضع لأهوائه وأيدلوجيته؛ وإنما تعرض وكأنها من المسلمات في ميدان العلم، ويزداد الأمر قبحًا عند عرض موقفه من الدين، فإن إلحاد المرء لا يجعل له قدرة على فهم الدين، إن الإلحاد أيدلوجيا خطرة على المفكر تعمي بصره عن حقائق مثل عين الشمس، يكفيه أنه أنكر الذي لا يُنكَر وجحد من لا يُجحَد سبحانه، فكيف نثق برأيه في موضوع مثل الدين أو ما يرتبط به من عقائد وشرائع وقيم وأخلاق؟! ولعل من المناسب ذكر مقالة لأحد الباحثين في فكر فرويد، حول فرويد وأتباعه، حيث ذكر عن مشكلة فرويد في كتبه أنه "لا يفصل بوضوح طريقته عن عقيدته"(1)، كما يذكر مشكلة أتباعه وأنصاره أنهم "بصورة عامة، افتقدوا ما ينبغي لهم من الاستقلال العقلي. وإذا استثنينا عددًا قليلًا جدًا من الفرويديين، فإن هؤلاء ينسخون فرويد نسخ المستعبدين له"(2)، والمشكلة في المتغربين العرب أشد وضوحًا في ظاهرة النسخ والاستعباد وأكثر إشكالًا بسبب ما ينتج عن هذا النسخ من مفاسد في تطورنا الثقافي والفكري والعلمي والحضاري.
نجد في النهاية نفس المشكلة تتكرر مع المتغربين في ميدان علم النفس تجاه الدين، فالدين كل الدين مصدره من الإنسان، وليس له علاقة بالرب سبحانه، يستوي في ذلك أديان الباطل التي منبعها الإنسان وأهواؤه مع دين الحق
(1) طريقة التحليل النفسي والعقيدة الفرويدية، رولان دالبير ص 5.
(2)
المرجع السابق ص 6.
الذي أُوحي به لأنبياء الله ورسله. والمشكلة نفسها نجدها في علم الاجتماع مع رواده المتغربين، حيث جعلوا الدين ظاهرة اجتماعية أرضية، أبدعها المجتمع، دون أن يفرقوا بين الحق والباطل، وهذا هو موضوع المبحث القادم.