الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اليهود أو ما هو أشنع، ألا وهو انتماؤهم للإلحاد والمذاهب المادية، وهؤلاء لهم حساباتهم مع الإِسلام وأهله، وهي تدفعهم إلى صرف المسلمين عن مصدرهم وهويتهم؛ فهم إن كانوا على ملتهم فلا يهمهم الإِسلام، وإن كانوا على الإلحاد فالأمر أشدّ وأخطر. ولأن المسألة هي مسألة محاربة لدين الله واستغلال العلم الحديث أداةً -بعد تشويه مناهجه أو نظرياته- فلابد من إشاعة مفاهيم تساعدهم في ذلك، مثل: قول أتباعهم: إن مثقفي النصارى واليهود أكثر انفتاحًا على الثقافة الحديثة، وأكثر قبولًا لها، وأسبق من المسلمين، دون أن نفرق بين قوم لا يخسرون شيئًا إن جعلوا أنفسهم في ذيل ثقافة الغرب، وبين من يملكون الهدى والنور ويخسرون كثيرًا بالتبعية. ومثل: وصف الثقافة الغربية بالعالمية والعلمية، فتُعطى صفة الإطلاق والثقة لشيء لا يستحق ذلك، وهو ما أصبحت تقرره فلسفة العلم المعاصرة بعد بروز نظريات الفيزياء الأخيرة، وأثرها في نزع صفة المدح المطلق أو الثقة المطلقة في العلم. مع أن المسلم لا يقلل من شأن العلم في أي باب من الأبواب العلمية، ولكن المسلم لا يعطي الإطلاق إلا للوحي.
مكانة الوحي في التصور الإِسلامي وصور إقصائه كمصدر للعلم عند المتغربين:
يقوم التصور الإِسلامي على مصدرية الوحي لأبواب الدين، الدين مصدره الكتاب والسنة، وكل مسلك غير ذلك مسلك فاسد، والبحث عن مصدر غيرهما يوصل صاحبه إلى طريق مسدود، قد يصل الناس بعقولهم أو بعلومهم إلى شيء من أمور الدين، وهذا لا يخالف فيه أحد؛ لأن الدين جاء بالحق، وقد يصل الناس إلى شيء من هذا الحق إن أحسنوا الاستدلال، ولكنهم لن يصلوا إلى الدين بكماله، كما أنه لا ضامن لهم في صحة ما وصلوا إليه، بخلاف من سلك طريقة أهل السنة فهو واثق من علمه وعمله في أبواب دينه.
ويكفي التذكير بأمرين يستحيل وصول البشر إلى شيء منهما دون الوحي وهما: الغيبيات والشرائع (1)، وأعظم أنواع الغيب الإيمان بالله سبحانه، ومعرفته بأسمائه وصفاته، وتحقيق ربوبية وعبوديته سبحانه، ثم يأتي أنواع أخرى من
(1) انظر: المعرفة في الإِسلام. مصادرها ومجالاتها، د. عبد الله القرني ص 155 وما بعدها.
الغيب كأحوال أول العالم وآخره واليوم الآخر (1).
قال -تعالى-: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} [الأنعام: 59]، وقال -تعالى-:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)} [الجن: 26، 27]، وقال -تعالى-:{يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)} [الأحزاب: 63].
والشريعة هي: الأحكام التي سنها الله لعباده على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم (2)، قال -تعالى-:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)} [الجاثية: 18]، وقال -تعالى-:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، وقال -تعالى-:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57]، وقال -تعالى-:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)} [الشورى: 10]، وقال -تعالى-:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].
فربانية المصدر -فهو وحي من عند الله- تعطي الطمأنينة لمن آمن بذلك، فبين أيديهم كلام ربهم العليم الحكيم، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة ولا يقع في خلقه أو أمره ما يعارض حكمته، فسبحانه. كما أن كمال الوحي في أبواب الدين يجعل المتبعين له ينطلقون بثقة ويُقْدمون دون حيرة أو شك، فقد كَمُل الدين وعلى المسلم الاعتصام به، أما في الدنيا فهو مكلف بعمارتها وفق هدي السماء، قال -تعالى-:{هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]، وفي كمال الدين قال -تعالى-:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وقال -تعالى-:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]، وقال -تعالى-:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)} [الأعراف: 3]، وقال
(1) انظر: العقيدة الإِسلامية وأسسها، عبد الرحمن الميداني ص 25 وما بعدها، وانظر له: صراع مع الملاحدة حتى العظم ص 33 - 37.
(2)
انظر: تاريخ التشريع ومراحله الفقهية. . . .، د. عبد الله الطريقي ص 12.
-تعالى-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام: 153]، قال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله بعد ذكره لهذه الآيات وغيرها:"ومثل هذا في القرآن كثير، مما يبين الله فيه أن كتابه مبين للدين كله، موضح لسبيل الهدى، كافٍ لمن اتّبعه، لا يحتاج معه إلى غيره، يجب اتباعه دون اتباع غيره من السبل"(1).
أما دور البشر في الأرض، فآية "هود" تُبيّنهُ وترشد إليه هو القيام بعمارتها، قال ابن كثير رحمه الله:" {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ}؛ أي: ابتدأ خلقكم منها، خلق منها أباكم آدم، {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}؛ أي: جعلكم فيها عُمّارًا تعمرونها وتستغلونها"(2).
وقال -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)} [الأنعام: 165]، قال ابن كثير رحمه الله:"أي: جعلكم تعمرون الأرض جيلًا بعد جيل، وقرنًا بعد قرن، وخلفًا بعد سلف. قاله ابن زيد وغيره، كقوله -تعالى-: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)} [الزخرف: 60]، وكقوله -تعالى-: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [النمل: 62]، وقوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، وقوله: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129]. . . ."(3).
وفي سورة النور قال -تعالى-: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)} [النور: 55].
فالإنسان مستخلف في هذه الدنيا ومطلوب منه عمارة الأرض، وقد أكرمه المولى سبحانه بهذا الوحي "الكتاب والسنة"، رباني المصدر وفيه الكمال الديني
(1) درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية 10/ 304، وانظر: العقيدة الإِسلامية وأسسها، عبد الرحمن الميداني ص 32 - 49، وانظر: مناهج البحث في العقيدة الإِسلامية .. ، د. عبد الرحمن الزنيدي ص 302 - 334.
(2)
تفسير ابن كثير ص 661.
(3)
المرجع السابق ص 502.