الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتنظارًا: تأمله بعينه" إلى أن قال: "والنظر، محركة: الفكر في الشيء تقدره وتقيسه" (1)، وعرفه صاحب "الكليات" فقال: "النظر: هو عبارة عن تقليب الحدقة نحو المرئي التماسًا لرؤيته" إلى أن قال: "والنظر: ترتيب أمور معلومة على وجه يؤدي إلى استعلام ما ليس بمعلوم. . . ." (2)، ولكنه وإن كان يتضمن الدلالة على هذين المصدرين فإنه يرشد في الوقت نفسه إلى الغايات المحمودة من هذا النظر، لاسيما في ربط النظر بموضوع الإيمان بالله، وثمار ذلك في دنيا الناس وآخرتهم، كما أنه وإن تضمن الدلالة على مصدرية العقل والحس فإنه يدل على ما هو أعلى منهما وهو الوحي، ويكفي أن هذه الأدلة في القرآن الآمرة بالنظر مصدرها القرآن؛ أي: في ما هو أعلى منها.
المصدر في العلوم الاجتماعية:
تسعى العلوم الاجتماعية (علم الاجتماع وعلم النفس وعلم الإنسان) إلى احتذاء طريقة العلوم التجريبية الطبيعية لعلها تصل إلى دقتها ونجاحها (3)، والذي يظهر أنها في جوانبها المادية تحقق نجاحًا ملحوظًا؛ لأنها مما يمكن إخضاعه للتجريب والإحصاء بخلاف الجوانب المعنوية التي فشل فيها عملهم، مما جعل بعضهم ينكر الجوانب المعنوية ويرفضها كما هو الحال مثلًا مع "المدرسة السلوكية" في علم النفس، أو يتحول إلى تقديم رؤىً عقلية لا تختلف عن مسار الجهود الفلسفية، كما هو الحال مثلًا مع مدرسة "التحليل النفسي الفرويدية"، فابتعدت الثانية عن مفهوم العلم كما يؤكد ذلك مجموعة من فلاسفة العلم المعاصرين ولاسيّما "كارل بوبر" ومن تأثر به (4). فهي تصر على المصدر الحسي أو العقلي، وترفض في الوقت نفسه أي مصدر آخر. ومثل هذا الميدان يمكن تقسيمه إلى قسمين: قسم يجد مصدره في مصادر العلوم البشرية، وذاك ما يتعلق بالجانب المادي من الإنسان والمجتمع، وقسم لابد فيه من الوحي، وهو
(1) القاموس المحيط ص 623.
(2)
الكليات، اللكنوي ص 904.
(3)
انظر: مقدمة في إسلامية المعرفة، طه العلواني ص 12، وانظر: التأصيل الإِسلامي للعلوم الاجتماعية، د. إبراهيم رجب ص 89.
(4)
انظر: منطق الكشف العلمي، كارل بوبر ص 33، من مقدمة المترجم د. ماهر عبد القادر.
الجانب المعنوي، فمهما بلغ تقدم هذه العلوم فإنها تبقى تائهة بإهمالها الوحي الذي نزل للنفس الإنسانية والمجتمع. وهذا يجعل المهمة صعبة وكبيرة على الأمة الإِسلامية المعتزة بدينها الواثقة بمصدرية الوحي الذي بين يديها، في تصحيح مسار هذه العلوم بعد أن رفضت الوحي مصدرًا للمعرفة، واكتفت بالحسي أو العقلي. ويبقى هذا موطنَ صراع بين الاتجاه الإِسلامي الذي يجتهد في الإبداع المعرفي والحضاري القائم على استخلاص النافع من هذه العلوم وإعادة الاعتبار لمنزلة الوحي في توجيهها، وبين الاتجاه التغريبي الذي يحرص على تقليد الغرب في علاقته بالوحي وحرصه على علمنة المعرفة وتفريغها من كل معنى ديني.
دعوى تغريبية: ويحسن في هذا الموطن مناقشة تلك الدعوى التغريبية التي طالما أثاروها ضد خصومهم من الاتجاهات الإِسلامية، فيقولون: إن دعاة أسلمة المعرفة يدّعون أن الدين والوحي فيهما المسائل الرياضية والطبيعية، العقلية والتجريبية، الاستنباطية والاستقرائية، فيهما مسائل الرياضة والهندسة والفيزياء والكيمياء وغيرها.
والذي يظهر أن أهل التغريب مقصدهم منها الخصومة فقط وتشويه موقف الاتجاه الإِسلامي، وهو يكشف أن الهوى هو السائد على الاتجاه التغريبي في اتخاذه لمواقفه، وأنه يُضحي بكل بعد أخلاقي للجدال والمناقشة. ومع قناعة الباحث بأن هذا هو دافعهم لمثل هذه المقولة إلا أنه من باب التنزّل مع الخصم يقال: إن دعاة التأصيل الإِسلامي للعلوم -أو أسلمة المعرفة أو التوجيه الإِسلامي أو غير ذلك- ممن يحرصون على المرجعية الإِسلامية لم يقصدوا بذلك أن يتحول القرآن والسنة إلى معادلات رياضية أو تفاعلات كيميائية، فهذه ميدانها الاستنباط العقلي والتجريب والاستقراء، ويكفي الدينَ أنه حثّ على النافع الصحيح من المعرفة ودعا إلى ربطها بما ينفع الناس في دنياهم وأخراهم، وأطّرها برؤية شمولية ربانية. ولم نعرف أحدًا من أهل العلم المعتبرين في كل التيارات الإِسلامية قد قال: إن الوحي يحوي تفاصيل المسائل الرياضية والهندسية والفيزيائية والكيميائية وغيرها، وكلامهم يرجع إلى أن الدين قد حثّ عليها ودلّ عليها، ومن ذلك حثه على تحصيل العلم النافع، أو أن الدين لا يعارض هذا العلم النافع، أو أنه يربط هذه المعارف برؤية متكاملة متعاونة: