الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول التأثر المنهجي في طريقة النظر للشريعة
المراد بالشريعة:
استعمل لفظ الشرع والشريعة باستعمالات متعددة: فأطلق على التوحيد، وأطلق على الفروع أو العمليات، وأطلق عليهما معًا، فمثال الأول: قوله -تعالى-: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)} [الشورى: 13]، ومثال الثاني: قوله -تعالى-: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)} [المائدة: 48]، ومثال الثالث: قوله -تعالى-: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)} [الجاثية: 18](1).
وقد كان "التعريف الاصطلاحي للتشريع عند أهل الصدر الأول يطابق
(1) انظر: الثبات والشمول في الشريعة الإِسلامية، د. عابد السفياني ص 50 - 54.
التشريع الاصطلاحي للفقه عندهم، إذ كل منهما يتناول الدين كله بعقائده وأحكامه وآدابه"، أما عند المتأخرين فيطابق مدلول الشريعة مدلول الفقه، إذ كل منهما يطلق على الأحكام العملية، "إلا أن بينهما فرقًا لا ينبغي أن يهمل، ذلك أن الشريعة هي الدين المنزل من عند الله، والفقه هو فهمنا لتلك الشريعة، فإذا أصبنا الحق في فهمنا كان الفقه للشريعة من هذه الحيثية، وإذا أخطأ فقهنا الحق المنزل لم يكن هذا الفهم من الشريعة، ولم يخرج عن الفقه" (1).
قال ابن القيم: " [إحاطة الأوامر الشرعية بأفعال المكلفين]. وهذه الجملة إنما تنفصل بعد تمهيد قاعدتين عظيمتين: إحداهما: أن الذكر الأمري محيط بجميع أفعال المكلفين أمرًا ونهيًا وإذنًا وعفوًا، كما أن الذكر القدري محيط بجميعها علمًا وكتابة وقدرًا، فعلمه وكتابه وقدره قد أحصى جميع أفعال عباده الواقعة تحت التكليف وغيرها، وأمره ونهيه وإباحته وعفوه قد أحاط بجميع أفعالهم التكليفية، فلا يخرج فعل من أفعالهم عن أحد الحكمين: إما الكوني، وإما الشرعي الأمري، فقد بين الله -سبحانه- على لسان رسوله بكلامه وكلام رسوله جميع ما أمره به وجميع ما نهى عنه وجميع ما أحله وجميع ما حرمه وجميع ما عفا عنه، وبهذا يكون دينه كاملًا كما قال -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}. ولكن قد يقصر فهم أكثر الناس عن فهم ما دلت عليه النصوص وعن وجه الدلالة وموقعها، وتفاوت الأمة في مراتب الفهم عن الله ورسوله لا يحصيه إلا الله، ولو كانت الأفهام متساوية لتساوت أقدام العلماء في العلم، ولما خص -سبحانه- سليمان بفهم الحكومة في الحرث، وقد أثنى عليه وعلى داود بالعلم والحكم. . . . والفرق بين الفقه والتأويل أن الفقه هو فهم المعنى المراد، والتأويل إدراك الحقيقة التي يؤول إليها المعنى التي هي أخيته وأصله، وليس كل من فقه في الدين عرف التأويل، فمعرفة التأويل يختص به الراسخون في العلم، وليس المراد به تأويل التحريف وتبديل المعنى؛ فإن الراسخين في العلم يعلمون بطلانه والله يعلم بطلانه"(2).
والشريعة في اصطلاح الفقهاء "تطلق على الأحكام التي سنها الله لعباده
(1) انظر: تاريخ الفقه الإِسلامي، د. عمر الأشقر ص 18، وقد ذكر بعض الفروق ص 18 - 20.
(2)
إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن قيم الجوزية 1/ 332.
على لسان رسول من الرسل" (1)، والشريعة الإِسلامية "ما شرعه الله لعباده من العقائد والأحكام في شؤون الحياة كلها" (2).
ينطلق التصور الإِسلامي حول الشريعة من "أن الشريعة الإِسلامية صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان"، وقد جاء ذلك في مسلمات أساسية للعقيدة الإسلامية، منها:
1 -
أن الرسول صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، وأن شريعة الإِسلام هي آخر الشرائع الإلهية إلى البشر.
2 -
مهمة الإِسلام هي إصلاح حياة البشر؛ فقد قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} [الأنفال: 24].
3 -
وأن الشريعة قد أُكملت قواعدها وأسسها، فاتضحت مقاصدها العامة، وطريقتها في الحياة ومعالمها، ومناراتها الهادية، بما جاءت به نصوصها العامة من حيث الشمول، وما بينته نصوصها الخاصة من حيث الدلالة وأسلوب التطبيق.
4 -
وأن شريعة الإِسلام ودعوته خالدتان (3).
وسيكون التركيز في هذا الباب على جانب العمليات من الدين، ومع أن هذا المبحث يركز على الجانب العملي من الشريعة؛ إلا أنه مرتبط بالجانب العقدي في باب التصور والخصائص، مما يجعل الحاجة قائمة للتوقف مع بعض الأصول التصورية.
أستذكر قبل الدخول في قضايا هذا المبحث بعض النتائج المهمة التي استفدتها من الدراسة التاريخية لظاهرة العلم الحديث، وعلاقته بالتيارات
(1) تاريخ التشريع ومراحله الفقهية. . . .، د. عبد الله الطريقي ص 12.
(2)
انظر بحث الدكتور: مناع القطان ضمن كتاب: وجوب تطبيق الشريعة الإِسلامية والشبهات التي تثار حول تطبيقها ص 188.
(3)
انظر: الشريعة الإِسلامية صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، د. مصطفى الزرقا ص 223 - 224، من كتاب وجوب تطبيق الشريعة الإِسلامية والشبهات التي تثار حول تطبيقها.