الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العلمية، وإنما نجد تناقضات فكرية عجيبة لا تستطيع إقامة نظام أخلاقي، واكتفى أكثرها بوصف الواقع الأخلاقي على أن هذه هي علمية الأخلاق؛ لابتعاد العلمية في نظرهم عما ينبغي وتركيزها على الظاهرة كما هي، وأركون ينفتح على أكثر العلوم تذبذبًا وتغيرًا واضطرابًا، وهو ميدان العلوم الاجتماعية والإنسانية، وهي مدارس فكرية وفلسفية كثيرة تخلط الصواب بالخطأ من وجهة النظر الإِسلامية، وبهذا فهو عندما يحيلنا إلى "الروح العلمية الجديدة" لا يحيل على علم معياري أو موضوعي عليه اتفاق من العقلاء، وإنما على بحر متلاطم من الشبهات والاضطرابات والتناقضات، ولكن يحرص هؤلاء على إبراز مصطلح العلمية لما يضفيه هذا الوصف من احترام للنشاط وتصديق وقبول، فمن ذاك الذي يرفض العلم أو يكذب به!!
ومن المغالطات بعد ذلك الانتقال السريع لإثبات التعارض بين أخلاق دينية قرآنية وأخلاق علمية، وكأنه قد حسم مسألة علمية الأخلاق، بينما لا نجد سوى الاضطراب، وقد سبق مرارًا أنه ليس كل نشاط في ميدان العلم يُعد علمًا، وإنما هو فاعلية علمية حتى تقيم الدليل الصحيح المقبول عندها تتصف بالعلمية، فالعلم هو ما قام عليه الدليل وليس الفاعلية ذاتها، ولا شك أن هناك نشاطًا محمومًا في ميادين العلوم للبحث في مسائل كثيرة ولكن إدخالها مجال النشاط العلمي لا يحولها إلى علمية ولا تصبح نتائجها علمية ما لم يقم الدليل على ذلك.
النموذج الخامس: الرؤية المادية والماركسية:
في كتاب "التطور والنسبية في الأخلاق" ينطلق مؤلفه في دراسته للأخلاق من منطلق ماركسي مع تلفيقات من هنا وهناك، وفي أحد العناوين نجد:"الأخلاق نسبية ولكنها ليست نسبية مطلقة"، ثم سرد نصوصًا عن غربيين يتبنون النسبية أو يعترفون بها، ثم التحول الذي حدث في الفكر الحديث، وقد ربط هذا التحول من "فكرة الإلهي والمطلق، إلى فكرة الاجتماعي والنسبي" بالنقد الكاسح الذي تعرض له الفكر القديم واليهودي والمسيحي (1).
ويعلن موقفه في تبني أخلاق علمية تقودها الاشتراكية العلمية، وأما "أولئك
(1) انظر: التطور والنسبية في الأخلاق، د. حسام الآلوسي ص 126 - 128.
الذين يتباكون على ضياع الأخلاق، بمجيء الاشتراكية والفلسفات العلمية الأرضية، إنما يتباكون على ضياع أخلاق خاصة، أخلاق تمكنهم من النهب والاستغلال والتسلط. . . . إن ما يخافونه هو أن تزول الأخلاقيات التي تمكنهم من الاستمرار في وضعهم الطبقي الممتاز على حساب الأكثرية" (1)، والحل هو في تغيير المجتمع الطبقي بتغيير الظروف المادية، فكثير من القيم والفضائل تبدو باهتة في المجتمعات الطبقية (2)، نعم يوجد بسبب التفاوت بين البشر -من غنى وفقر، ومن سلطة ونفوذ أو عدمها- صور من الاستغلال وفساد أخلاقي عند قوم، ولكن هؤلاء تحت دعوى العلمية المادية حصروا الحل في الجانب المادي وبطريقة واحدة، هي: تبديل الظروف المادية، وهنا يتم استبعاد الدين بما فيه من تصورات وتوجيهات لمثل هذه القضايا. وقد أعلنت هذه التوجهات الماركسية فشلها في العالم كلّه، ومع ذلك فقد عميت بصائر هؤلاء عن أهمية الدين لدرجة تسوية الكاتب بين أنبياء الله وبين شذاذ البشر، فنجده يقول: "إن خير ما في "المسيح" و"سقراط"، وخير ما في كل دين، ونبي من بطولة وإيمان وتحد ومحبة، موجود أيضًا عند جيفارا، والليندي، وسائر المؤمنين بقضية العدالة والحرية" (3).
ويأتي في هذا السياق كتاب "البنى الأساسية في علم الأخلاق" بوجه ماركسي ومادي، وفي عنوان ملفت "الأخلاق والعلم" يتحدث "الجبر" عن صلة الأخلاق بالدين والعلم بأسلوب تغريبي، فالأخلاق ذات وجه سلبي قاتم عندما تتصل بالدين، بخلاف علاقتها بالعلم فهي تظهر بوجه جميل. بل يُظهر أن فساد الأخلاق عائد إلى ربطها بالدين والإله بينما حُسْنها يرتبط بالإلحاد والعلمية المزعومة، وفيما يظهر أنه يعتمد في ذلك على أفكار ماركسية، فيقول: "ربطت المجتمعات المسيطرة الأخلاق بالدين. وتستند المجتمعات المسحوقة في نضالها من أجل تحررها، على النظرة العلمية للأخلاق وبربطها بالعلم. ولكي تحتفظ المجتمعات المسيطرة بسلطتها، فهي بحاجة إلى نظرة عن العالم قادرة على إعطاء
(1) المرجع السابق ص 159.
(2)
انظر: المرجع السابق ص 156.
(3)
المرجع السابق ص 159.
المجتمعات التي تستغلها بديلًا سماويًا أو على الأقل مثاليًا للبؤس الذي تسببه. . . . والعكس صحيح إذ ليست المجتمعات المسحوقة بحاجة أثناء نضالها لمثل هذه الأوهام. . . ."، وترتبط أخلاقيات المجتمعات المسحوقة بالإنسان، "الإنسان بنظرها هو مقياس كل شيء وليس الله. . . . إن ميزة العلمية الأخلاقية هي بالتأكيد الانطلاق من عالم الإنسان، محاولة إقامة عالم إنساني، باختصار هي ضد كل الأخلاق اللاهوتية"، ثم هو يربط هذا التوجه العلمي المزعوم بالمادية القديمة والحديثة، ويبدأ مع القديمة -لاسيّما ذات الموقف الإلحادي- التي كنست كما يقول: "كل الخرافات والأساطير القديمة، كما تمكننا من امتلاك نظرة علمية عن الطبيعة"، والإنسان في هذه النظرة جزء من الطبيعة (1)، ويصل لخلاصة: "حملت المادية القديمة معها الإلحاد، والنظرة العلمية عن الطبيعة، والسكينة النفسية للحصول على السعادة الأرضية، والعقلانية الأخلاقية، ولكنها كانت محدودة" (2).
ثم انتقل لبعض المقتطفات السريعة عن الفلسفة الحديثة، لاسيّما تلك التي تميل للمادية ليصل للآتي:"تقتضي المرحلة الأولى لكل علمية نبذ الأوهام الدينية والمثالية وبذلك لا يعود الإنسان قزمًا ولا خارقًا، فليقتنع بأننا جزء من الطبيعة الكاملة ونتبع نظامها"(3)، ولكنها بقيت أخلاق مادية جامدة وثابتة، حتى جاءت الدارونية فحطمت هذا الثبات (4). وبعد الاستعراض المادح لهذه المادية يختم بفقرة يتيمة يعلن فيها شيئًا من تحفظه فيقول:"وإذا كان لمختلف أشكال المادية العلمية فضلٌ في إبعاد الأخلاق عن المفاهيم غير الطبيعية والدينية، ووضع الإنسان ضمن الطبيعة؛ فإنها حملت معها أيضًا نقطة ضعف مشتركة، وهي اعتبار الإنسان شذرة من الطبيعة، خاضعة فقط لقوانين هذا أو ذاك من علومها .. "(5)، فيحصر مشكلتها في تحويلها الإنسان إلى ترس في هذه الطبيعة ويغفل عن خطورة إبعادها الإنسان عن الدين الحق وقيمه وأخلاقه وشرائعه.
(1) انظر: البنى الأساسية في علم الأخلاق، د. محمَّد الجبر ص 24 - 26.
(2)
انظر: المرجع السابق ص 26.
(3)
انظر: المرجع السابق ص 29.
(4)
انظر: المرجع السابق ص 31.
(5)
انظر: المرجع السابق ص 34.