الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذه لا يكون التعارض فيها؛ لأن ما في النصوص يتعلق بغيب لا نعرف حقيقته على وجه التفصيل ككل المغيبات. أو أنها من أمور الشهادة، وما ورد فيها من النصوص أغلبه من الظاهر أو من المشتبه الذي عادة أهل الإيمان رده إلى المحكم، والأصل فيها هو الظاهر منها، إلا أن يدل دليل قطعي على غير الظاهر، عندها يُفسر النص بأقرب معنى يجمع بين بقاء النص مع بيان المعنى المقطوع به.
وهذا يعني أنه لا يوجد تعارض حقيقي بين منقول صحيح قطعي وشيء من العلوم الحديثة الصحيحة القطعية، والله أعلم.
رابعًا: ملابسات الدعوى التاريخية والأيدلوجية:
يكشف التحليل التاريخي بأن دعوى التعارض بين الدين والعلم تاريخية؛ أي: ترتبط بالتاريخي أكثر من ارتباطها بالحقائق، إنها مشكلة تاريخية ترتبط بأحداث تاريخية من جهة وببعض المذاهب الفكرية دون غيرها من جهة أخرى، ومن بين أوضح ما يكشف ذلك وجود علماء مشهورين يرفضون دعوى التعارض.
أما الجانب التاريخي للدعوى فيرتبط أساسًا بما حدث في أوروبا مع الثورة العلمية، وما دار من صراع كبير بين أنصار أهل العلوم وبين الكنيسة الممثل السيئ للدين داخل أوروبا، ولا تجهل الأمة الإسلامية خطورة ما تحويه الكتب المقدسة بحسب زعمهم من معلومات، فإنه قد وصل إلينا بعضها في بعض كتب التفسير من الإسرائيليات مما جعلها تُمثل إشكالًا جاهد العلماء في رفعه بعد ذلك. فقد كان هناك أمور كونية ورد ذكرها في القرآن الكريم، ومن عادة النفوس تطلعها لمعرفه مثل هذه الغيبيات، وكان أهل الكتاب عندهم الشيء الكثير حولها، فأخذ بها بعض المسلمين وأدخلوها من باب الاستئناس في توضيح ما ورد به النص معتمدين على الأذن النبوي في الحديث عن بني إسرائيل (1). وقد أضافت الكنيسة في الغرب على تلك العجائب تسلطًا على المخالف مع سوء تعامل مع الناس مما جعل العقلاء ينفرون منها ويتبعون ما دلّ عليه العقل والعلم. ولم تظهر مثل هذه الصورة في بلاد المسلمين إلا في فترات الجهل
(1) انظر: مقدمة ابن خلدون 3/ 1031 - 1032، بتحقيق د. علي وافي.
الشديدة، وهي فترات لا تطول بفضل الله؛ لوجود العلماء المجددين الذين يجددون أمر الدين، ولذا لم يُعرف أن أحد المشتغلين بالطب أو الحساب أو الفلك أو غيرها قد أنكر عليه أحد شيء من علومه إنما يكون الإنكار على أبواب العقائد الباطلة وهي ليست من العلم.
وأما الجانب الأيدلوجي للدعوى فيرتبط أساسًا بما حدث في أوروبا بعد فصل الدين عن الدولة، وبروز العلمانية التي نشأ معها مذاهب إلحادية من جهة الدين، واشتهرت في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، وهؤلاء لم يكونوا يعترفون بالدين حتى يقولوا بوجود تعارض بينه وبين الدين، ومع ذلك فبسبب حربهم ضد الدين أبرزوا هذه الدعوى معتمدين على ذاكرة الأوروبيين حول الصراع القديم ومبرزين التناقضات التي لم تسلم منها علوم الكنيسة، وبرز ذلك مع اليسار الهيجلي، ولاسيّما "فيورباخ" و"ماركس" أو مع الوضعية من "سيمون" إلى تلميذه "كونت" وغيرهما (1).
فهناك أخطاء تاريخية غربية، وخطأ المتغربين العرب إطلاقها وتعميمها، وهناك مذاهب أيدلوجية غربية، وانحراف المتغربين اتباعها وتقليدها، ويحرص المتغربون على تجاهل الأمرين:"تاريخية المشكلة وأيدلوجيتها" مع أن الانتباه لهما يكشف لنا نسبية المشكلة وارتباطها إما بواقع معين أو بتيار معين.
هذا ولا تعني تاريخية المشكلة عدم وجودها، فإنه كما يقول أحد المشتغلين بفلسفة العلم:"لم تخل فترة من فترات التاريخ البشري من ظهور دعاة التناقض بين الدين والعلم"، ولكن التحليل التاريخي يكشف أن السبب يعود إما إلى أديان باطلة كما أن معسكر العلم بحسب تعبير الباحث السابق لديه:"عدم اكتراث بتوضيح موقفه أحيانًا، أو بتبادل الهجوم في أحيان أخرى، وكأن الدفاع عن العلم يقتضي الهجوم على الدين. وهذا كله موقف مغلوط كما سنرى، والمستقبل يقتضي تجاوزهما تمامًا"(2)، ولا يرجع الأمر إلى معسكر العلم فقط، بل إلى المذاهب المادية والوضعية التي جعلت خيارها العقدي هو الإلحاد، ولهذا تقف من كل موضوع ديني موقف العداء، ففي البلاد العلمانية التي تتيح
(1) انظر: الفصلين الأول والثاني من الباب الأول.
(2)
إلا العلم يا مولاي، د. أحمد شوقي ص 18.
حرية الرأي نجدها تحاول تجاهل المتدين مثل ما حدث مع "بيير دوهيم" العالم الفيزيائي المعروف وهو كاثوليكي متدين، فبعد موته لم يكمل طباعة مؤلفه المشهور في تاريخ العلم، وعلل "الكسندر كويري" مؤرخ العلم البارز السبب: في سعي المؤلف إلى التدليل على أن جذور العلم الحديث توجد في إلهيات القرون الوسطى، مما دعى الجهات العلمية ذات النفوذ إلى منع صدوره بشكل خفي (1). ونجد في جزء آخر من هذه البلدان كالاتحاد السوفيتي سابقًا بحسب دستور سنة (1936 م) بأنه يحق لكل شخص أن يتكلم أو يكتب ضد الدين كما يشاء أما الدفاع عن الدين فممنوع (2).
فمثل هذه الأيدلوجيا تؤثر في التوازن والاعتدال في البحث عن الحقيقة وتجعل من دعوى التعارض مسلمة لا رجعة عنها، ويؤثر ذلك في المحتكين بها، وعند التحقيق التاريخي والثقافي يتبدى تاريخيتها وزيفها، ومما يدل على ذلك أنه في دائرة العلوم الحديثة هناك من يرفض مثل هذه الدعوى ويرفض تحويلها إلى نزل مطلق، ولنأخذ أبرز علماء الفيزياء في العصر الحديث "نيوتن" الذي بنت عليه الأيدلوجيا المادية مذهبها في دعوى التعارض، ففي إحدى الدراسات نجد النتيجة الآتية:"وخلافًا لكثير من المفكرين اليوم، لم ير نيوتن تعارضًا بين العلم والدين، وكتب أن الكون لا يمكن أن يعمل دون وجود إله، وأنه لولا الرعاية الربانية المستمرة لتوقف الكون ثم لانهار. . . ."(3)، ويشدد "على أن الحكمة ونفاذ البصيرة لا توجدان في كتاب الطبيعة فحسب، بل في الكتب المقدسة أيضًا. . . ."، وقد كانت كتاباته حول الدين أكثر من كتاباته الأخرى (4).
وبقدر ما يكشف التحليل "لتاريخية الدعوى وأيدلوجيتها" عدم سلامة تلك الدعوى في "الموضوعات" فإنه يكشف بصورة أوضح مدى عمقها في بقية صور التعارض، في تعارض "الإطار" و"المنهج" و"العمل"، والأغلب يستندون في بقية التعارضات إلى صحة الدعوى الأولى، فعليها يقوم دعوى التعارض الكلي بين
(1) انظر: من العلم العلماني إلى العلم الديني، مهدي كلشني ص 36.
(2)
انظر: موقف الدين من العلم، د. علي باشكيل ص 23 من الحاشية.
(3)
إسحاق نيوتن والثورة العلمية، جيل كريستيانسن ص 101.
(4)
انظر: إسحاق نيوتن والثورة العلمية ص 97 - 98.