الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من البحث في أصل الحياة إلى المادية الإلحادية:
خلاصة النظرية أنه في وقت ما، خرجت الحياة من المادة أو من الطبيعة، ومع مرور ملايين السنين وعبر قانون الانتخاب الطبيعي تطورت الحياة إلى كائنات حيوانية، ومنها إلى الإنسان. وهذه هي الدارونية التقليدية. وقد جاءت معارضات داخلية مما أوجد الدارونية الجديدة، وفي بعض المعارضات أن الإنسان خلق مستقل بينما التطور قائم في بقية المخلوقات، وهي نظرية ملأت آلاف الصفحات في الأخذ والرد، وكما سبق فقد جاء من بني على هذه النظرية مذهبًا فلسفيًا، كما أن الكثير من النظريات العلمية في ميادين العلوم الاجتماعية قد تأثرت بها.
إذا أتينا إلى وجهها القبيح في الفكر العربي المتغرب، فإن هذه الفكرة قد وظفت -كما سبق- كأداة في هدم الدين، وذلك في مسارات أبرزها:
1 -
إنكار النبوة عبر التكذيب بقصة الخلق التي وردت عند أهل الكتاب وجاءت في دين الإسلام، فهم يرون أن قصة الخلق أبطلتها نظرية داروين، ومن ثم فلا ثقة في هذه النصوص الدينية.
2 -
القول بخالق غير الله سبحانه، والإله الجديد هو الطبيعة، فهي التي أوجدت أول خلية حية، وهي التي تحكمت في سير التطور، وكل ذلك دون غاية، وهنا توضع المادة كحقيقة مطلقة ذات تصرف مطلق دون غاية.
3 -
فإذا بطلت النبوات وعرف أنه لا فاعل سوى المادة؛ فالنتيجة النهائية هي عدم الحاجة للإيمان بإله، فجاءت أعلى صور الإلحاد في إنكار الرب سبحانه.
4 -
وإذا أمكن تفسير ما هو عسير كوجود الحياة، فإنه بالإمكان تفسير كيف وجد الدين من منظور داروني تطوري، فيكون الدين وهمًا وخرافة تسعى الدارونية إلى تدميره.
5 -
وإذا نزعت الدارونية الدين من قلوب أصحابها فهم في حاجة إلى دين، وسيكون الدين البديل هو التطورية وديانة الطبيعة.
لا يشترط في هذه المسارات الترتيب أو التسلسل في حركة الداروني أو في حركة الدارونية العربية، فهي تكون متداخلة في الغالب، وإنما القصد بهذا
الترتيب تقريب صورة التأثر التغريبي والعمل الأيدلوجي عند الدارونيين.
وليست هذه المجموعة ممن تحسب على "علم الأحياء"؛ فليس فيهم عالم في الأحياء، مما يكشف حقيقة الصلة أنها ليست بعلم الأحياء ونظرياته، وإنما هي بمذهب فلسفي ارتبط بأحد علماء الأحياء، ولهذا يكون التحليل لهذه الحالة على حسب الوجه الذي عُرفت به.
المثال الأول:
ينكر "شبلي شميل" قضية الخلق الإلهي، فكل الحوادث تقع في الطبيعة، ومنها ولا شيء خارج عنها (1)، والإنسان في ذلك كالحيوان من المادة الأزلية، وكل ما فيه مكتسب من الطبيعة "وهذه الحقيقة لم يبق سبيل للريب فيها اليوم، ولو أصر على إنكارها من لا يزال مفعول التعليم القديم راسخًا في ذهنه"، وتتبع هذه المادية القول بإنكار البعث، وإنكار النبوة فليس "للإنسان شرائع منزلة إلا ما أنزل جهله عليه من الخرافات والأوهام، فشرائع الإنسان من الإنسان. ."(2)، ويعلق "عزيز العظمة" مادحًا "يستصلح الشميل بذلك أكثر الأفكار تطورًا وطليعية في عصره، ويربطها بأفكار الأنوار التي يستلهم منها كتابات البارون دولباك، ويستنتجها بصورة مباشرة من إطار نشأتها في عموم النظرية التطورية دون مراوغة"(3). وفي نفس السياق جاء "سلامة موسى" بالفكرة نفسها، فهو يرى تقليدًا لماديي الغرب بأن الطين قد نبض بالحياة في وقت ما، بالخلية الأولى البدائية، ثم تطورت إلى أن جاء الإنسان في قمتها، فالحياة أصلها مادي رغم كراهية الناس لذلك (4)، وبما أنهم لا يستطيعون إيجاد دليل على نشأة الحياة من المادة فقد اكتفى بتعليل أدبي حيث قال:"وأحسن ما قيل عن الحياة بلغة الشعر التي تعتمد على أساس العلم: "إن الحياة نسيج يحوكه الضوء من الهواء" (5)، وينتج عن هذه المادية إنكار الغيبيات والدين (6).
(1) انظر: الفلسفة النشوئية. . . .، د. محمود المسلماني ص 167.
(2)
انظر: العلمانية من منظور مختلف، د. عزيز العظمة ص 183.
(3)
المرجع السابق ص 183.
(4)
انظر: سلامة موسى بين النهضة والتطوير، د. مجدي عبد الحافظ ص 40 - 41.
(5)
الإنسان قمة التطور، سلامة موسى ص 66.
(6)
انظر: سلامة موسى بين النهضة والتطوير، د. مجدي ص 84 وما بعدها.
تنطلق الدارونية العربية المتغربة من هذه النقطة الإلحادية لتتوسع في ماديتها وإلحادها، وأجد أن كثيرًا من الدراسات انخرطت في الاعتراض عليهم مستشهدة مثلًا بوجود علماء أحياء رفضوا هذه النظرية، ولكن مثل هذا الجدل سيبقى دون نهاية إذا بقي الإطار للفريقين مختلفًا، فأهل الدين يقرون بوجود الرب سبحانه وبما أنزله على أنبيائه ورسله من الوحي، وأن هذا الوحي هو الحق، بخلاف الماديين فهم لا يقرون بكل ذلك، وسيبقى علم الأحياء بين نظريات تتجاذبه، تُعارض غالبًا عقيدة الخلق للإنسان وبقية المخلوقات الحية بما أنه علم يتحرك في الإطار العلماني المادي، ومع ذلك وبسبب المنهجية العلمية ففيها أشياء صحيحة، مما يجعلها ملتبسة، لهذا قد يظهر في ناقدي النظرية من ينقدها بكل ما فيها رغم أنها نظرية مجملة فيها عناصر صحيحة وظفت توظيفًا غير صحيح، كما أنه قد يظهر من يسلم بها ويبدأ في محاولة التوفيق بينها وبين الإسلام حتى لا ينفتح المجال للملحدين، أو حتى يرى العالم توافق الإسلام مع العلم، مع أن فيها ظنيات كثيرة بشهادة فلاسفة العلم، وقد وقع في تاريخ الفكر المعاصر هذا وهذا، فكما وظف التغريبيون النظرية فيهدمون الدين بأسلوب أيدلوجي ومذهبي صرف؛ كان هناك من المسلمين من أراد التوفيق بينها وبين الإسلام دون التأكد من صحتها والتثبت عبر المتخصصين من علماء الأحياء والكيمياء والجيولوجيا والوراثة وغيرها من العلوم، بحيث يفرقون بين الحقائق العلمية والفرضيات والأفكار الفلسفية المرتبطة بها، فيكون تقريبها من التصور الإسلامي مبنيًا على علم، إذ لا تكفي النية الحسنة في هذا الباب ما لم يصاحبها العلم الصحيح (1).
وكان الأقرب والأفضل في هذا الباب -والله أعلم- أن يتفرغ الخطاب الإسلامي لنقد تلك التشوهات المرتبطة بالدارونية العربية (2)؛ لأنها الأوضح، دون الدخول في إبطال النظرية أو تصحيحها أو التوفيق بينها وبين الإسلام، كان بين أيدينا أمر في غاية الوضوح وهو الإلحاد والمادية، فكان الأجدر دفعه
(1) ممن رفضها الشيخ جمال الدين الأفغاني في كتابه "الرد على الدهريين"، وممن سعى للتوفيق بينها وبين الإسلام: إسماعيل مظهر والشيخ محمد رشيد رضا والشيخ طنطاوي جوهري والشيخ حسين الجسر وحفيده نديم. انظر الجمع التوثيقي الموسع لهذه المسألة في كتاب: أصل الإنسان بين العلم والفلسفة والدين، د. سامي عابدين.
(2)
هذا ما تميزت به كتابات محمد قطب عن الدارونية في عدد من مؤلفاته.
ومواجهته وإبطال زيفه وأنه لا علاقة له بالعلم الصحيح الثابت، وإنما هو أيدولوجيا ترتبط بفراغات خطيرة موجودة في العلم، وليس المقصود من هذا الكلام الانتقاص من شأن جهود فكرية مدهشة ناظرت الدارونيين المتغربين وخفف من غلواء المادية والإلحاد رغم الاعتراف بوجود ملحوظات على عملهم؛ وإنما المقصود الاستفادة من تجربة أصبحنا بعيدين عنها بما يكفي للتبصر في الأمر وأخذ الدروس الكافية. أما نقد النظرية في جانبها العلمي فالأولى أن يكون من مفكر مسلم متمكن من علم الأحياء وما يرتبط بها ومتخصص فيها ومشارك في ميدانها، فمثل هذا أقدر على إعطائنا الحدود الفاصلة في كل نظرية، وقادر على توصيف مكونات النظرية: ما الجانب الفرضي فيها؟ وما القوانين أو المعادلات والحسابات الصحيحة؟ وما جوانب الضعف والقوة؟ وما القطعي فيها والظني؟ وما المحدد الواضح وما العام الغائم فيها؟ عندها يكون إبداء الرأي الديني أيسر وأقوى.
لقد جعل هؤلاء الدارونيون العرب من الدارونية أداة للقول بالإلحاد ونبذ الدين، فكان الأولى الوقوف مع هذا الإلحاد ذاته قبل التعجل في التوفيق بين الإسلام والدارونية، فإن مصير الأمة ومستقبلها لم يكن مرتبطًا بتقبلنا للدارونية، فهي في مجالها العلمي نظرية أخذت شهرة كبيرة في علم الأحياء، إلا أنه عند افتراض وجود مجتمع لم يعرفها ولم يدرسها في مدارسه وحرص على العلوم النافعة؛ فإنه سيتقدم مع جهله بها، وإذا كان مصير الأمة لا يتأثر بجهلنا بتلك النظرية فإن واقع الأمة يتأثر بوجود الدارونية الملحدة كفلسفة؛ لأنها جعلت من أصولها إنكار الدين وإقامة الإلحاد، فكان الأهم من محاولات التوفيق الاجتهاد في إبطال الإلحاد الداروني.
لم يتوقف الدارونيون المتغربون عند إنكار الدين، بل تجاوزوا ذلك إلى إعلان الإلحاد، وتكون المفارقة العجيبة، حيث كان العالم الإسلامي يبحث عن علوم تجعله قويًا بإسلامه، فإذا هو -عبر الدارونيين- يلتقي بالعلم وبدعاته في وجه إلحادي، فظهرت الدعوة إلى الإلحاد باسم العلم ذاته، حيث اعتبر "العلم" هو المطلق "والإله الوحيد" عند "شميل"، ورفض أي توفيق بين العلم والدين لاعتقاده بالتناقض المطلق بينهما، مستندًا في ذلك "إلى معطيات التطورية الدارونية والأفكار العلمية الأوروبية". وأنكر وجود الرب "فالمادة هي المكون
لكل شيء، وهي أبدية أزلية، ومنها نشأت الكائنات. ."، ولا حاجة إلى الاعتقاد بوجود الرب في عصر العلم كما يرى شميل (1)، وأطلق على هذا الإلحاد مصطلح "الإلحاد العلمي" في انتساب للعلم (2)، وكما يقول أحد المعجبين بشميل: "وهكذا فالله الذي يؤمن به، أمسى مع تطور حياته واتجاهه في مسار العلم الطبيعي، ضربًا من الوهم، لا مكان له بين حقائق تفكيره" (3)، وقد استعان شميل بأفكار "بوخنر" (4). أما "سلامة موسى" فقد وجد في أحد المتأثرين بداروين "نيتشه" (5) أداةً مناسبةً في إعلان إلحاده (6)، فضلًا عن طائفة أخرى ذكرهم في كتابه: "هؤلاء علموني".
يُعد "الإلحاد" ظاهرة مرضية تصيب بعض الناس، وهو مرض معروف، ولكن الجديد فيه هو دعواه الارتباط بالعلم، وهي أيدلوجيا خطيرة؛ لأن العلم في أذهان الناس يرتبط بالحقيقة والمعرفة الصحيحة وله سمعة طيبة، فإذا جاء من يدّعي بأن العلم يقود بالضرورة إلى الإلحاد، وأن دلائله تشهد بالإلحاد، فذاك أمر خطير، ومع ذلك فإن مما يوقف ذاك التلاعب والعبث بالعلم هم العلماء أنفسهم، فقد رأينا في الفصل الأول من الباب الأول ظاهرة انقسام المجتمع العلمي في الغرب، وبروز النابذين للإلحاد في دوائر العلم المختلفة، مما يجعل الإلحاد فيروسًا خبيثًا ظهر ثم بدأ يختفي، ولولا تغلغل "الماركسية" وأذيالها المعاصرة وأشكالها المطورة داخل الغرب لربما كان حال العلم أبعد بكثير عن دائرة الإلحاد. إذًا فلا علاقة للإلحاد بالعلم وإلا لكان كل عالم حقيقي ملحدًا، إذ كيف تظهر عنده نتائج يقينية ثم يتركها ويستسلم للإيمان بوجود الخالق سبحانه. وينقص هذه الظاهرة الجديدة قيام المسلمين بواجبهم العلمي في تبليغ دين الله إلى خلقه، ومن ذلك إيصاله إلى هؤلاء العلماء البارعين في العلوم
(1) انظر: الموسوعة الفلسفية العربية 2/ 178.
(2)
انظر: المرجع السابق 2/ 562.
(3)
هو د. محمد المسلماني في كتابه الفلسفة النشوئية .. ص 167.
(4)
انظر: الموسوعة الفلسفية العربية 2/ 179.
(5)
انظر: عن دارونية نيتشه كتاب: الدارونية والإنسان .. ، د. صلاح عثمان ص 122.
(6)
انظر: سلامة موسى بين النهضة والتطور، د. مجدي عبد الحافظ ص 78، 115، وانظر: سلامة موسى وأزمة الضمير العربي ص 64، 89، 113.
المادية والاجتماعية حتى ينقلوهم من الإيمان بالله سبحانه إلى التصديق بالنبوة والإقرار بالدين الحق الذي ينجيهم.
وإذا كان الأصل عند "شميل - موسى" هو الإلحاد؛ فلا مجال للاعتراف بالدين، ولكن المجاهرة بالإلحاد قد تصرف الناس عنهم ولاسيّما من يعجب بهم، لهذا نجد عنايتهم بدراسة الدين أكثر من العناية بإبراز الإلحاد، وهدف دراسة الدين إقصاؤه عن الحياة، ومن الملاحظ أن "الغلاة" في ذلك أو من هو قريب منهم كان من النصارى "شميل - موسى - أنطون - زيدان. . . ."، وهؤلاء لا يخسرون شيئًا بتدمير الدين، على العكس فربما يكون دافعًا لمزيد من المكاسب في ظل الاستعمار والدعم الأجنبي. أصبحت الدارونية هي الإطار لفهم الدين فدرس "شميل""الموضوع الديني وفق مبادئ نظرية النشوء والارتقاء. ناظرًا إلى الدين كظاهرة اجتماعية تنطبق عليها مبادئ فلسفة النشوء شأن الظواهر الطبيعية. . . ."(1)، وتبعًا لذلك فإن العلم يرتبط بالمادة، والدين لا يدخل في العلم المادي عندها يخرج الدين من العلم إلى الأوهام، ولهذا كانت الكثير من أصول الدين "تنهل من ينابيع الخيال والأوهام، فالوحي والبعث والخلود والثواب والعقاب والأخرويات وعالم الروح وعلة العلل. . . . كلها مفاهيم ذات مصدر غير مادي. وهي بالتالي تنتمي إلى عالم الأحلام والأوهام. . . ."(2).
المثال الثاني:
وفي المسار نفسه يتحرك "سلامة موسى" فإلى "قبل نحو عشرة ملايين من السنين كنا مثل سائر القردة التي تأوي إلى الأشجار تأكل من ثمارها وحشراتها وتحتمي على غصونها"، واستفاد الإنسان من ذلك تعويد يديه على حركة جديدة غير المشي على أربع كبهيمة الأنعام وإنما للتسلق أيضًا، كما أن الخوف من النهار جعل العمل أكثر في الليل، فاجتمعت العينان في الوجه للحاجة إلى قوة النظر.
ثم لسببٍ مجهول ترك الإنسان مجاورة القرود على الأشجار وسعى في
(1) الفلسفة النشوئية .. ، المسلماني ص 181.
(2)
المرجع السابق ص 183، وانظر: العلمانية من منظور مختلف، العظمة ص 183.
الأرض والسهول والوديان، وتطور المشي على القدمين، وتحررت اليدان أكثر، مما مكنه من توظيفها في الصيد والإمساك، وهنا جاءت مرحلة الصيد، واحتجنا أكثر إلى حاستي السمع والنظر، فأوجدا الوعي -أي: الوجدان- في الإنسان، صاحب ذلك الوقوف بدل السير على أربع مما مكن الإنسان من حمل رأسه مما ساعد في نمو الدماغ، والفضل يعود إلى التطور الذي دفع القدمين للمشي وحرر اليدين فانتصب الإنسان وحمل دماغه، وبدأت الحواس تغذيه.
ومع ترك الأشجار والخروج جماعات للصيد ولدت "اللغة" بفضل التطور كحاسة للجماعة، وبدأت أدوات الكلام من رئة وحنجرة ولسان تتطور مع ذلك حتى تقوم بوظيفة الكلام، وفي مرحلة الصيد مرت سنوات طويلة ولدت فيها "خرافاته" لاستعانته على الصيد بعقائد السحر والدين، فالصيد خطر ويحتاجون إلى شيء يلهمهم الاطمئنان فكان ذلك بالتشبث بأي عقيدة.
ومع "الصيد" ظهرت رعاية بعض ما يُصاد، فظهرت رعاية القطعان، ومنها ظهر نظام القبيلة، وفيها ظهر الاعتقاد بإله. ثم جاء التحول إلى "الزراعة" فظهرت الحضارة، وظهر "الدين" الذي يجلب الطمأنينة على الزرع (1)، فجاء "الدين" في المرحلة الزراعية وإن كانت بداية أصوله من مرحلة الرعي، ويكون منبع "الدين" بحسب هذا التصور الخوف والجهل والبحث عن الطمأنينة، ويغلب على الأمثلة التي يمثلون بها ذكر الأديان الوضعية القديمة عند قدماء المصريين واليونان وغيرها، وهذه التفسيرات حتى على مستوى الأديان الوضعية هي فرضيات تنطلق من حالات حاضرة إلى الماضي البعيد جدًا، وهي موضع خلاف منهجي، إلا أن الدارونيين العرب لا ينتقلون من الحاضر إلى الماضي لدراسة أديان وضعية؛ بل ينتقلون من نتائج تلك الفرضيات حول الأديان الوضعية إلى التعميم على كل دين، ومن ذلك تعميمها على الدين الحق، فهو لا يعدو عندهم عن كونه مرحلة متطورة من تلك الأديان البدائية، وهذا "شميل" يرى بأن الدين بدأ من شعور محبة الذات بعد أن شعر بالخوف من الموت، فبحث عن شيء ينقذه ويهب له البقاء، فبدأ بعبادة آلهة لا تحصى ابتكرها خياله، ثم حصرها مع تطوره في إله واحد أقصاه عن عالم المادة والمحسوس، وتطور الدين إلى أن بلغ "مرحلة من
(1) انظر: الإنسان قمة التطور، سلامة موسى. . . . ص 6 - 16.
النضج عالية مع المسيحية والإسلام" (1). وهذا أقصى ما نجده عندهم حول الدين، وهو تصور طبيعي لمن لا يقر أصلًا بالرب سبحانه، فيكون البحث منصبًا في طريقة تطور الدين كنشاط اجتماعي أو كظاهرة اجتماعية، أنتجها المجتمع بما يتوافق مع تطوره.
لا شك أن "سلامة موسى" كان الأكثر كتابة ونشاطًا، حيث عاش فترة طويلة سمحت له بقول كل ما يريد ويبثه في المجتمع، مع الرعاية المميزة التي حصل عليها من هذا الطرف أو ذاك في فترة الاستقطاب الغربي لبعض الشخصيات المتحركة، ولهذا فإن النظر ليس إليه كشخص أو حتى كمفكر مستقل؛ وإنما كأداة تعبر عن أهداف مجموعة أكبر تتخذ من "سلامة موسى" لأكثر من خمسين سنة وسيلة لذلك التعبير، وإن كانت التيارات اليسارية قد تبنته بعد العشرينات من القرن العشرين (14 هـ) إلا أنه بقي وفيًا للدارونية أغلب حياته.
فإذا وجدنا من أحدهم ادعاء العلمية، ثم إذا به يتحول إلى عدوّ للدين، فليست المسألة مسألة شخص اقتنع بهذا الاتجاه وإنما هي أوسع من ذلك، إنها فئة قد تكون غير مقتنعة بعلمية العمل ولكنها مقتنعة بفائدته في ضرب الدين، وقد رأينا مدح ماركس لبوخنر؛ لأنه يمثل أداة جيدة في هدم الدين، وإن كان عمله بحسب ماركس غير علمي من وجهة نظره (2)، ومثله في العالم الإسلامي عندما ظهرت تلك المجموعة الحاقدة على الإسلام واتخذت من العلم إطارًا لحركتها، فإذا لم يساعدها العلم رمت به واتجهت إلى أي مفكر غربي لا يقبل الدين، وهذا مما يفسر كثرة الأدوات التي استعان بها "سلامة موسى" لضرب الدين، وهي أبعد -كما سبق- من أن تكون خيارات فردية لمشروع فكري، وإنما هو معبّر عن مصالح فئةٍ جديدةٍ رعاها الاستعمار ورأت في تحطيم الدين طريقها الوحيد لتحقيق مصالحها.
ولم تُخْف الدراسات المتعصبة لـ"سلامة موسى" ذاك الأمر، فهم يعترفون بسطحيته وسذاجته في فهم العلم الحديث (3)، إلا أنهم يرون بأن دوره الحقيقي
(1) انظر: المرجع السابق، المسلماني ص 156.
(2)
انظر: الباب الأول، الفصل الثاني.
(3)
انظر: مثلًا: دراسة د. مجدي عبد الحافظ، سلامة موسى بين النهضة والسقوط ص 83 - 84.
والمهم كان في هدم الدين، وتوظيف مثل تلك الأدوات في هذا المشروع الخبيث، فهو يعترف بأن الدارونية نزعت من قلبه العقائد الدينية، ولحاجة قلبه إلى عقيدة يطمئن إليها فقد وجدها في الدارونية (1)، وأصبح الهدف أن يحول الجماهير إلى هذه العقيدة "تأخر الشرق العربي في الأخذ بنظرية التطور وتأخرت بذلك ثقافتها. حتى إننا لا نجد إلى الآن كتابًا عربيًا مثلًا في "تطور الأديان". . . . ولا يمكن أن توجد. . . . إلا بعد أن تسلم الجماهير العربية المتعلمة بأن التطور عقيدة بل ديانة كما هو حقيقة. ."(2). يصبح "دينًا جديدًا يتخذ في قلوبنا وعقولنا قداسة الأديان السماوية"(3)، ولا يخفي باحث قريب من سلامة موسى حقده على الدين وحرصه على تحطيمه، وهو أمر يعبر به عن رأي طائفة حوله، فيقول حول انعكاس نظرية التطور على أتباعها:"لاكتشفنا أن انعكاس نظرية التطور على الحركة الفكرية المصرية (4)، هو "التفريج الكظوم"، وهو "الانتقام"، هو الثورة العارمة على الغيبيات والثقافة الدينية، هو تحويل معنى التطور إلى دين جديد"(5).
لقد أوصلت الدارونية الفلسفية أصحابها إلى نتائج عجيبة، فهي بعيدة كل البعد عن النظرية ذاتها، فالنظرية وصاحبها لم تتكلم عن الرب سبحانه ولم تتحدث عن الدين ولم تتحدث عن العقائد، صحيح أنها تحمل مفاهيم معارضة للربوبية، ولكن هذا وارد في أغلب الإنتاج الفكري المنتج في بيئة علمانية، ولكن هذا الانحراف يختلف عن تلك المبادئ التي وصلت إليها الدارونية الفلسفية، الدارونية الفلسفية هي في الحقيقة دين جديد يراد له أن يكون بديلًا عن الدين وشرائعه وعقائده وقيمه، وهذا ليس له علاقة بالنظرية في مجالها العلمي.
وهذه النتيجة توضح لنا صورة الانحراف بالعلم، وتتمثل في توظيفه
(1) سلامة موسى وأزمة الضمير العربي، د. غالي شكري ص 89.
(2)
الإنسان قمة التطور، سلامة موسى ص 23.
(3)
سلامة موسى .. ، السابق ص 110.
(4)
علينا الانتباه إلى مسألة التعميم هذه، لأن رغبة الهدم والتدمير إنما هي في الفئة المتغربة (الدارونية والماركسية) وأمثالهما.
(5)
سلامة موسى .. ، السابق ص 110، وانظر: سلامة موسى بين النهضة والتطوير، د. مجدي عبد الحافظ ص 52 - 53.
لأهداف أيدلوجية تناهض الدين وعقائده وشرائعه وقيمه. ولو كانت أداة سليمة لسلمنا بصحة توظيفها في نقد الأديان المبدلة أو المخترعة، ولكنها أداة تشوهت بسبب ارتباطها بمؤسسين ملحدين، وبسبب مرض التعميم الذي يصيب أصحاب المناهج المخترعة.
وبقدر ما نكشفُ المسافة البعيدة بين النظرية الدارونية في مجالها العملي بما فيها من أخذ ورد وبما فيها من مفاهيم تصادم الربوبية وبين الفلسفة الدارونية؛ بقدر ما نكشف أن ارتباطها مع دعاتها العرب كان هدفه الإفساد في الأرض بنشر الإلحاد وإبطال الدين، وقد جاء ذلك في ظل صراع دولي استعماري رغب المستعمر آنذاك في إضعاف الدين عنصر القوة في الأمة الإسلامية، لهذا ارتبط ظهورها بوجود الاحتلال البريطاني للهند، حيث ظهرت هناك أولًا، ثم في مصر ثانيًا بعد الاستيلاء عليها سنة (1882 م)، وهي سنة وفاة صاحب النظرية الدارونية. لم يكن بعيدًا عن عين المخططين للاستعمار أثرها في أوروبا وعلى أديانهم فيها؛ لهذا كانت أداة جيدة يُضرَب بها المسلمون وإسلامهم، ولم يكن الاستعمار في تلك المرحلة مستعدًا لأي خطأ يسمح بقوة المسلمين فهذا من الحماقة؛ إذ كيف يتفق مع هدفه في استغلال بلاد المسلمين، فكان دعم الأفكار الشاذة والسماح بوجودها وانتشارها من أفضل الأدوات الفكرية في ذلك الصراع. وبالرغم من انحسار القيادات الفكرية المتحمسة للدارونية إن لم نقل انقراضها؛ إلا أن هناك مجموعة من طلاب سلامة موسى حوّلوا تلك الأفكار والأصول الدارونية الفلسفية إلى ميدان الأدب، وكان أبرزهم في مرحلة السبعينيات الأديب المشهور "نجيب محفوظ"، وفي ذلك يقول أحد مريديه:"يبدو أن تأثير سلامة موسى في جيلنا أقوى من تأثيره في الجيل المعاصر له"، وذكر من الجيل الجديد نجيب محفوظ:"أما الجيل التالي لهؤلاء الرواد فقد أناب عنه الفنان نجيب محفوظ في تصوير الأثر العميق الذي تغيرت به أوزان جيل كامل"، إلى أن قال:"وقد احتضن سلامة موسى الأديب أو الفيلسوف الصغير وقتئذ، إذ إن نجيبًا كان متخصصًا ذلك الحين في الكتابات الفلسفية. . . ."(1)، وهذا التلميذ حفظ رسالة
(1) انظر: سلامة موسى .. ، د. غالي شكري ص 12، وذكر من طلابه -ص 72 - (لويس عوض، محمد مندور، نجيب محفوظ).
أستاذه ونشرها أدبًا روائيًا ضخمًا بدأها بأسوأ البدايات، رواية "أولاد حارتنا" فجعل أبطالها صورة مشوهة للرب سبحانه وأنبيائه والعقائد الدينية، وقد تتبع الدكتور "السيد فرج" تلك الأبعاد الدارونية وغيرها في أدب نجيب محفوظ (1) وكيف أهلته مثل هذه الأعمال إلى الإطراء العلماني من هنا وهناك وحصل على تكريم بما قدمه عبر أدبه من هدم للدين.
المثال الثالث:
يأتي في سياق النظرة القاصرة للدارونية العربية ما نجده من كاتب مشهور هو هشام شرابي، فهو يرى أن هؤلاء الدارونيين وبخاصة النصارى منهم قد قدموا البديل العلمي لقضايا كان التراث يستأثر بها، كما نجحوا في الخروج بها من دائرتها العلمية ضمن علم الأحياء إلى مجال اجتماعي وفلسفي أوسع، ويعيد الفضل لسبنسر الذي وجد فيه الدارونيون العرب والغرب قبلهم مادة جيدة لتوسيع الدارونية لتصبح مذهبًا وحياة لأتباعها، ونتيجة لكتاباته "أضحت أفكار التطور والتقدم الاجتماعي، وصراع البقاء، والبقاء للأفضل، شعارات أيدلوجية العلمية الجديدة التي تبناها التحديثيون التنويريون"(2)، ومن بين آثارها على الدارونيين العرب وبخاصة النصارى منهم فكرة الصراع الخاضع لقوانين عمياء طبيعية، فمصير الأفراد والمجتمعات لا يخضع لإرادة إلهية وإنما لإرادة عمياء تعمل بها الطبيعة، وبهذا وكما يقول شرابي أصبح الفكر المسيحي أكثر واقعية (3).
هذا نموذج من نماذج عجيبة تعرض للدارونية العربية بأسلوب مادح، مع أن ما يمدح لا يستحق المدح، فليست هذه المواقف النصرانية العربية إلا نماذج من المراهقة الفكرية والتهور الذي قد يراد به مسابقة الغير في التبعية، وهم في أحسن الأحوال قد خرجوا من ضلال ليدخلوا ضلالًا أعمق منه، بظنهم أن هذا من علامات التقدم والرقي والعقلانية والعلمية.
(1) انظر: أدب نجيب محفوظ وإشكالية الصراع بين الإسلام والتغريب، د. السيد أحمد فرح، حول أستاذية سلامة موسى. . . . ص 29 - 44، وحول أثره وأثر الدارونية، انظر: الصفحات التالية: ص 6، 147، 155 - 157، 175، 184، 266 - 268، وحول أولاد حارتنا ص 51 - 58.
(2)
انظر: المثقفون العرب والغرب، هشام شرابي ص 147 - 148.
(3)
انظر: المرجع السابق ص 162.
والخلاصة أن الدارونية العربية غالبًا قد نظرت إلى الدين على أنه نشأ في الأرض، ولا علاقة له بالسماء، وأنه لا يوجد دين سماوي جاء به الوحي، وأن الدين قد مرّ بمراحل، إلا أن مسير تطوره يتجه نحو الإلحاد ونحو فنائه، والأخطر من كل ذلك أن هذه الدعاوى تُقدم باسم العلم، وذلك بالانتساب لنظرية داروين وما ألحق بها من مذهب.
ينتقل البحث الآن إلى مجال آخر، وهو مجالٌ علمي فعلًا، إلا أن المتغربين قد انحرفوا به انحرافًا خطيرًا من جهة تصوره للدين، وهذا المجال هو علم النفس.