الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السابع: الرضاعة
الرضاع: هو مص الرضيع اللبن من ثدي المرأة في مدة الرضاع، ولما كان الطفل في مستهل حياته لا قدرة له على تناول الطعام، ولا قدرة له إلا أن يتغذى عن طريق المص، سواء كان ما يرضعه هو لبن الأم، أو غيرها من المراضع، أو كان رضاعاً صناعياً بألبانٍ صناعية، فقد أمر الله أم المولود أن ترضعه حولين كاملين، قال تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (1)؛ لأنه يعلم سبحانه وتعالى أن هذه المدة هي المثلى من جميع الوجوه: الصحية، والنفسية للطفل، وأثبتت البحوث الطبية اليوم أن مدة عامين ضرورية لنمو الطفل نمواً سليماً من الناحيتين البدنية والنفسية، ولكن نعمة الله على الجماعة المسلمة لم تنتظر بهم حتى يعلموا هذا من تجاربهم، ومما يدل على عناية الشريعة الإسلامية بغذاء الطفل أنْ منحت المرضع الحق في الفطر في رمضان، كما أوجبت عليها تناول الغذاء الذي يُؤدي إلى إدرار اللبن، الذي يحفظ حياة الطفل، ويحصل به نموه (2).
والذي خلق هذا الطفل هو أعلم بما يسره، وما يضره، وما يسعده، وما يشقيه، فقال سبحانه وتعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (3). وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا
(1) سورة البقرة، الآية:233.
(2)
الطفل في الشريعة الإسلامية (ص 70).
(3)
سورة البقرة، الآية:233.
الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (1). وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِير} (2). قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} : هذا إرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة، وهي سنتان، فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك؛ ولهذا قال:{لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} ، وذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا يحرم من الرضاعة إلا ما كان دون الحولين، فلو ارتضع المولود [من غير أمِّه] وعمره فوقهما لم يحرم (3). وقال الشوكاني في قوله تعالى:{يُرْضِعْنَ} قيل: هو خبر في معنى الأمر للدلالة على تحقق مضمونه. وقوله: {حَوْلَين كَامِلين} للدلالة على أن هذا التقرير تحقيقي لا تقريبي. وقوله: {لمنْ أَرَادَ أن يُتمَّ الرَّضاعة} وفيه دلالة على إن إرضاع الحولين ليس حتماً بل هو التمام، ويجوز الاقتصار على ما دونه (4).
واستنبط ابن كثير من تفسير آية الأحقاف، وآية لقمان، وآية البقرة: أن أقل مدة الحمل ستة أشهر وهو استنباط قوي صحيح وافقه عليه عثمان وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم (5).
(1) سورة الأحقاف، الآية:15.
(2)
سورة لقمان، الآية:14.
(3)
تفسير ابن كثير، (1/ 284).
(4)
تفسير الشوكاني آية 233 من سورة البقرة.
(5)
تفسير ابن كثير (4/ 158).
وقد ذكر ابن كثير قصة رجل تزوج امرأة من جهينة فولدت له تمام ستة أشهر، فانطلق زوجها إلى عثمان رضي الله عنه فذكر ذلك له، فبعث إليها، فلما أتي بها عثمان أمر بها فرجمت، فبلغ ذلك علياً، فقال علي لعثمان: أما تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قال: أما سمعت قول الله عز وجل: {وحَمْلُهُ وفِصَالهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} ؟ وقال: (حَوْلَينِ كَامِلينِ) فلم نجده بقي إلا ستة أشهر، فقال عثمان رضي الله عنه: والله ما فطنت بهذا، عليَّ بالمرأة فوجدوها قد فُرِغَ منها (1).
قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((إذا وَضَعَتِ المرأة لتسعة أشهر كفاه من الرضاع واحد وعشرون شهراً، وإذا وضعت لسبعة أشهر كفاه من الرضاع ثلاثة وعشرون شهراً، وإذا وضعت لستة أشهر فحولين كاملين))؛ لأن الله يقول: {وحَمْلُهُ وفِصَالهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} (2).
وإن أراد والد الطفل أو والدته فطامه فلا بد من الرضى بين الطرفين، والتشاور، فإذا اتفقا على فطامه قبل الحولين فلا جناح عليهما، ولا ينبغي انفراد أحدهما بالفصال دون الآخر، أو يستبد من غير مشاورة الآخر، وهذا فيه احتياط للطفل وإلزام للنظر في أمره، وهو من رحمة الله بعباده حيث نبَّه الوالدين وأرشدهما إلى ما يصلحهما ويصلحه.
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3293 رقم 18567) وانظر: تفسير ابن كثير (4/ 158).
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3294 رقم 18567)، وانظر: تفسير ابن كثير (4/ 158).
ولقد حافظت الشريعة على رعاية الطفل، فإن تيسر إرضاعه من أمه فبها ونعمت، وإن عدم هذا فلا جناح على والدي الطفل أن يسلماه إلى مرضعة: ذات أمانة، وشرف، ودين، إذا سلَّما وَالِدَا الطفل أجرة المرضعة، قال تعالى:{وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ} (1).
وإذا رضع الولد من غير والدته وكان الرضاع خمس رضعات فأكثر في الحولين؛ فإن الرضاع يُحرِّم ما يحرم النسب، والأصل في هذا قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَاّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللَاّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلَاّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلَاّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ الله كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (2).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يَحْرُمُ مِنَ
(1) سورة البقرة، الآية:233.
(2)
سورة النساء، الآيتان: 23 – 24.
الرّضاعِ مَا يَحرُمُ مِنَ النَّسبِ)) (1).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يَحْرُمُ مِنَ الرِّضاعَةِ ما يَحرمُ مِنَ الوِلادَةِ)) (2).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تُحْرِّمُ المصَّة والمصَّتانِ)) (3).
ولا يَحْرُم إلا من رضع خمس رضعات، قالت عائشة رضي الله عنها:((كَانَ فِيْما أُنْزلَ مِنَ القُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلومَاتٍ ثُمَّ نُسِخْنَ بخَمْسٍ مَعْلُوماتٍ، فَتُوفِّي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهُنَّ فيما يُتْلَى مِنَ القُرْآنِ)) (4).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انْظُرْنَ من إِخْوَانُكُنَّ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ)) (5).
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحرمُ مِنَ الرَّضَاعةِ إلَاّ ما فَتَقَ الأمْعاءَ في الثَّدْيِ وكانَ قَبلَ الفِطامِ)) (6).
(1) أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب الشهادة على الأنساب (رقم 2645) ومسلم، كتاب الرضاع، باب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة (رقم 1447).
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب الشهادة على الأنساب (رقم 2646) ومسلم، كتاب الرضاع، باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة (رقم 1444).
(3)
أخرجه مسلم، كتاب الرضاع، باب في المصة والمصتان (رقم 1450).
(4)
أخرجه مسلم، كتاب الرضاع، باب التحريم بخمس رضعات (رقم 1452).
(5)
أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب الشهادة على الأنساب (رقم 2647) ومسلم، كتاب الرضاع، باب إنما الرضاعة من المجاعة (رقم 1455) بلفظ:((انظرن إخوتكنَّ من الرضاعة، فإنما الرضاعة من المجاعة)).
(6)
أخرجه الترمذي، كتاب الرضاع، باب ما جاء ما ذكر أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر دون الحولين (رقم 1152)، وابن حبان (10/ 37 رقم 4224)، والنسائي في سننه الكبرى (3/ 301 رقم 5465)، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1/ 589 – 590 رقم 1152)، وفي صحيح الجامع (رقم 7633).
ولا ينبغي أن يتخذ أحد الوالدين من الطفل سبباً لمضارة الآخر {لَا تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} (1). فلا يستغل الأب عواطف الأم وحنانها ولهفتها على طفلها؛ ليهددها فيه، أو تقبل إرضاعه بلا مقابل إذا كانت أجنبية عن أب المولود، أمَّا إذا كانت الزوجية قائمة فليس لها أجرة على إرضاعه، وكذلك إذا كانت معتدة من طلاق رجعي، إذ إن النفقة تثبت لها لقيام الزوجية، وبقائها في مدة العدة، ولا تستحق أجرة أو نفقة، بسبب الرضاعة، إذ لا يحسب للمرأة نفقتان، وإن تعددت أسباب الوجود (2). ولا تستغل هي عطف الأب على ابنه وحبه له لتثقل كاهله بمطالبها، وليس للأم مضارة الأب، وإذا فعلت فللأب أن يحضر لطفله مرضعاً حين تتحقق مصلحة الطفل في هذا الرضاع
…
، على شرط أن يوفي أجرها وأن يحسن معاملتها.
وإذا توفي الأب فإن المسؤولية تنتقل إلى وارثه، وعلى الوارث مثل ذلك، فهو المكلف أن يرزق من تقوم بإرضاع الطفل ويكسوها بالمعروف والحسنى، وهكذا توالي الشريعة الإسلامية عنايتها بالطفل، وتعمل على حفظه، فلا يتعرض للضياع إن مات والده،
(1) سورة البقرة، الآية:233.
(2)
زاد المعاد (4/ 32).
فحقه وحق من تقوم بإرضاعه مكفول في جميع الحالات (1).
والشريعة تضرب المثل الأعلى في العناية بالطفل، والعمل على صيانته وحفظه، فلقد قرر الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عطاء للأطفال من بيت المال يبدأ بعد الفطام، ولما علم أن الأمهات تسارع إلى فطام أطفالهن استعجالاً لهذا العطاء، أفزعه ذلك وأقض مضجعه وحرمه النوم ولم يكد المصلون يتبينون صوته في القرآن من شدة تأثره وبكائه، فسارع بعد الصلاة بإصدار قراره بأن العطاء لكل طفل من حين ولادته، وما ذلك إلا للحفاظ على الطفولة وحمايتها، وإقناع الأمهات باستمرارهن في الإرضاع (2).
وهذا العمل الذي فعله عمر يدل على رحمته بالمؤمنين والشفقة على أطفالهم، والشريعة الإسلامية كاملة شاملة، تشمل جميع أمور الدنيا والآخرة، التي فيها سعادة للبشرية جمعاء في دنياهم وأخراهم، قال الله تعالى:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ الله الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ} (3).
*
…
*
…
*
(1) في ظلال القرآن (ص 254).
(2)
انظر: طبقات ابن سعد، 3/ 298، والرياض النضرة، 2/ 389، وانظر: الطفل في الشريعة الإسلامية.
(3)
سورة القصص، الآية:77.