الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أجرته كاملة، فيأسف النجار عند دفعه الأجرة فيقول: هذه أجرتك فهي حقك يا ولدي فإن لم تأخذها لم نأت بك فيما بعد، فيأخذها على مضض، وكان رحمه الله وعفا عنه متواضعًا يحمل حوائجه على رأسه.
هذا وقد خدمته الليالي والأيام وقدمه الملوك والحكام وبذلت له ما لا يجري على الأوهام، فرد ما زاد على الكفاية، وأبى عليه فضله ودينه أن يكون مكاثرًا، فرحمة الله عليه من إمام عبر الدنيا وما عمرها، وقل والله من كان متصفًا بصفاته من علماء زمانه.
ذكر أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وحلمه وعفوه وسعة رأيه
أما أمره ونهيه فقد كان على بصيرة يدعو إلى الله وما همه منصب ولا يراعي جانب أحد كائنًا من كان، وقد ساعدته الظروف من قبل صاحب الجلالة الملك عبد العزيز، فكان يرفع قدره وينفذ أوامره بسرعة، أضف إلى ذلك أن وافق زمانه في القضاء هدوء وسكينة وقلة مشاغبة، فكان يكفي أهل زمانه القليل أمرًا ونهيًا ولم يظهر في زمانه ما كان قد ظهر فيما بعد من كثرة الحيل وعدم الانقياد، وما ذاك إلّا لحسن نيته وخوفًا من سطوة الوالي.
فمن ذلك أنه مر عليه في الدرس أثر خلق الله ألف أمة وتكفل برزق الجميع، فأخذ يتكلم على هذا الأثر ملوحًا على المسافرين إلى بلدان الكفار فقال: خلق الله عز وجل ألف أمة، ستمائة في البحر وأربعمائة في البر وتكفل الله برزق الجميع إلى ابن أدم لا يرزق حتى يذهب الكفار ويكون حمارًا لهم، عياذًا بالله، وبكلامه هذا يشنع على الذين يذهبون إلى الكفار ويخدمونهم.
ونقل إليه بعض العامة يستعظم تكفير المسلمين، وإن فعلوا ما فعلوا، فلما جلس للتدريس والتف حواليه ما يزيد على أربعمائة ما بين متعلم ومستمع، أخذ يبين وجوب عداوة أعداء الله ويوضح تكفير الكافرين ثم قال:
غير أن أناسًا أعمى الله قلوبهم لا يكفرون الكافرين، وإذا لم يكفر من
كفره الله ورسوله فمن يقع عليه التكفير الكفر هذه الاسطوانة ويضرب بيده عليها أم كفر البهائم، وهؤلاء العمي ليسوا ببعيدين أرفع قدمك لا تطأهم، فخجل المعترض وتاب وقضى مرة على شخص، فلما كان ذات يوم لقيه في الطريق فلما حاذاه قال: أخزاك الله في الدنيا والأخرة كما خيبتني من حقي، فلحظه بعين الرحمة وقال: يا بني الله لا يخزين ولا يخزيك فذهب الرجل قد احترق من الخجل والحياء.
وبينما هو يمشي مرة وإلى جانبه أحد أحبابه مرّ من بينهما منافق ولم يسلم، وكان ذلك داعية ضلال، فلما أن ولى الرجل التفت الشيخ إلى من جانبه وقال: الله المستعان والله ما كان مثل هذا الرجل الضال له مؤلفات في ضلالته إلّا كان من الله أن يتلفها الله قبله.
وأتى إليه رجل من خاصة إخوانه، وكان في هم وغم وجعل يشكو إليه، فعال قريبه وإساءته إليه ومقاطعته منه لا من قبلك، واعلم يا بني أن الله لا يضيع أحدًا، فإن كان قد خرج من الاجتماع وفقدت مساعدته في النفقة فسيرزقك الله ويغنيك من سعته، فقال من عنده منشرح الصدر وكانت عاقبته حميدة.
وجاء إليه بعض إخوانه وقد عزم على الزواج، فطلب منه الوصية فقال:
يا بني إذا أتيت أهلك فقل لهم هذه زوجتي قد شق علي مهرها فيجب أن تتحملوا منها ما يصدر منها، وإذا خلوت بزوجتك فأوصها بحشمة أهلك وقل هؤلاء أهلي وأقربائي ويجب عليك إكرامهم، أما إذا كنت مع أهلك على زوجتك أو كنت مع زوجتك على أهلك فإنك لا تسوسهم، ويا بني يومًا ثم يومًا والأجل قريب.
فهذه نبذة من مناقبه تدلك على فضله، وكان فوق ما قيل فيه زهدًا وورعًا وتواضعًا.
وكان يرضي المجانين والمرأة والطفل على قدر عقولهم، وكم كربةٍ فرجّها برأيه، ومشكلةٍ أوضحها بالحجج والبراهين، فهو طبيب القلوب، ومن فوائده تنجلي الكروب.
أما تلامذته الذين أخذوا عنه فخلق كثير، فمنهم: الشيخ عبد الله بن عبد العزيز
ابن عبدان قاضي الزلفي، والأخ في الله ذو الأصل والتوحيد محمد بن صالح المطوع، وأخذ عنه الشيخ سليمان المشعلي، وأخذ عنه الحافظ فهد العيسى قاضي الشبيكبة، وأخذ عنه عثمان بن حمد بن مضيان قاضي أبو عريش، وأخذ عنه محمد ابن حمد بن مضيان، وأخذ عنه خلق كثير، وسيأتي في ترجمة أخيه عمر ذكر تلامذتها، ومن أشهرهم: الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم العبادي، ورجل الدين والعلم عبد الرحمن بن عبد العزيز بن عويد.
ولما توفاه الله تعالى صلى عليه المسلمون ضحى في جامع بريدة وازدحم الرجال والنساء وأقبلوا كأنهم السيل المنهمر، وقد حضر جنازته خلق كثير، ودفن في المقبرة الجنوبية، وكان الذي تولى إمامة الناس أخوه فضيلة الشيخ عمر، وحزن لموته أهل الإسلام في المشارق والمغارب، وصلى عليه بالنية في أنحاء المملكة العربية.
وقد قيل فيه مراثي كثيرة فنذكر منها قليلًا من كثير، فمنها ما رثاه به تلميذه أخونا عبد المحسن بن عبيد، وهي هذه:
أعبني جودًا بالدموع الهواطل
…
ولا تعدا وعد العذول المماطل
فسحًا لدمع العين بالله وابكيا
…
بدمع غزيرٍ عاجلٍ غير آجل
على شيخنا شمس البلاد وبدرها
…
ونجم الهدى السامي جميل الشمائل
هو الشيخ عبد الله نجل محمد
…
إمامٌ همامٌ فاضلٌ وابن فاضل
فوا أسفا من فقده وفراقه
…
فمن مثله في الخلق بين القبائل
لقد كان طودًا للعلوم وفاضلًا
…
فثلمته كبرى لدى كل عاقل
فتبًا لعينٍ لا تجود بدمعها
…
على مثل شيخ المسلمين الأماثل
لقد ريعت الأنام طرًا بموته
…
وسالت جفونٌ بالدموع الهواطل
وطارت قلوب المسلمين لفقده
…
لدى غيّبوا في القبر فرد الفضائل
فكلًا ترى يبكي وتهمي دموعه
…
لما حل فيهم من عظيم البلابل
وصلى عليه المسلمون جميعهم
…
بكل ربا نجدٍ بكل المحافل
سرى نعشه فوق الأنامل مسرعًا
…
تؤم به الأقوام نحو الجنادل
إلى الله نشكو ما دهى من مصيبة
…
وما مسنا من فادحات النوازل
فحمدًا على مر القضاء وحلواه
…
وشكرًا لمولانا على كل نازل
صبرنا وسلمنا له الأمر كله
…
على كل حالٍ في الرخا والنوازل
لقد عمنا كردبٌ شديدٌ ومفظعٌ
…
وقدنا لنا رزء وإحدى البلابل
سقى قبره ربي من الروح ديمةً
…
مع العفو والرضوان هتان هاطل
وألحقه بالسالفين على الهدى
…
على الشرعة الغرّاء بأعلى المنازل
لقد كان في الدنيا وحيد زمانه
…
يقيم منارات الهدى بالدلائل
مجالسه طابت فعادةً بحكمةٍ
…
مؤيدةً بالله عن كل باطل
عليها البهاء والنور كالشمس ساطعًا
…
مسددةً محروسةً عن غوائل
يقص علينا من رقائق وعظه
…
كما الصيب الهطال يهمي بوابل
يقرر توحيد العبادة معلنًا
…
ويشرحه بين الورى في المحافل
ويدعو إلى التوحيد لله مخلصًا
…
يريد الجزاء يوم اللقا والتعامل
يدين بقال الله قال رسوله
…
وقول ذوي التحقيق من كل فاضل
على السنة الغراء يسير بعزمة
…
ولم يثنه في الله عذل العواذل
وما صدَّه خوفٌ من الخلق أو رجا
…
لما عندهم من تالد المال عاجل
له همةٌ تأبى الدنية والردى
…
وتنأى عن الفحشاء وقرب الرذائل
كساه إليها مولاه أجمل حلةً
…
له هيبةٌ عند الملوك الأماثل
لقد كان بكاءٌ وقد كان خائفًا
…
وقد كان مأمون الأذى والغوائل
مديمًا على بذل النصيحة جهده
…
على كل حالٍ في الضحى والأصائل
وقد كان في الدنيا لنا خير مؤنسٍ
…
يرغب في الأخرى وحسن الشمائل
يقص علينا من كلام إلهنا
…
ومن سنة المختار أسنى الدلائل
يرغبنا قولًا وفعلًا بجهده
…
إلى السنة الغراء ورفض الرذائل
ويحكي لنا جل الظرائف آثرًا
…
عن العلماء العاملين الأماثل
إذا قرر التوحيد أطرب من له
…
فؤادٌ يسلم نوره كالمشاعل
له منطقٌ عذبٌ فصيحٌ مهذبٌ
…
فسبحان من قد خصه بالفضائل
وإن جاء في التزهيد أبكى بقوله
…
وزهَّد في الدنيا وإيثار آجل
وإن مازح الإخوان تقسم أنه
…
له أسوةً بالمصطفى غير ماثل
وإن أمَّ في المحراب يتلو كلام من
…
تقدس عن مثل وعن كل باطل
عرفت يقينًا فضله ومحله
…
ورتبته في الفضل بين القبائل
له خلقٌ سمحٌ جميلٌ مؤيدٌ
…
من الله لا يصغى إلى كل عاذل
له سطوةٌ بين الورى بلسانه
…
يسدده ربي بسرد الدلائل
يعامل أهل الزيغ بالبعد والقلى
…
ويرميهم شزرًا بقوس المسائل
وما قصده جاهً ولا مدحة الورى
…
وما صده ميلٌ إلى كل باطل
شمائله جمٌ فلست أعدها
…
بكل القرى تسمع بها والقبائل
كذا الحضر تلقاها بكل محلةٍ
…
كذا البدو ترويها بكل المحافل
عليه سلام الله حيًا وميتًا
…
ورحمة ربي عاجلًا غير آجل
مع العفو والغفران والفوز والرضا
…
كذا الروح والريحان يوم التعامل
ولما قضى قولي توجهت مالكي
…
سميع الدعاء مُسِدي جميع الفضائل
يلم لشمل الدين فرعًا أُصله
…
ويبقي لنا بدر القرى والقبائل
سميَّ أبي حفص فالله دره
…
لنا يشرح الغراء بغير تكاسل
يحل لإشكال المسائل جاهدًا
…
بعزمٍ وحزمٍ مبرزٍ للدلائل
لقد كان أستاذًا لنا ومعلمًا
…
يعيد دروسًا بالضحى والأصائل
ويحمي حما السمحاء عمن أرادها
…
بنقصٍ وهضمٍ من خبيثٍ وجاهل
أعز به المولى لدين محمدٍ
…
وأعلاه في الفردوس أعلى المنازل
وسدد إخوانًا لنا طاب خيمهم
…
ووفقهم فهم الهدى والمسائل
وجنبهم ربي لكلِّ مضلةٍ
…
وطهرهم من ساقطات الرذائل
وصل إلهي مع سلامٍ مضاعفٍ
…
على المصطفى والآل مع كل فاضل
بعد الحصى والرمل والقطر كله
…
وما شاء ربي دقها والجلائل
وقال الأديب الذكي صالح بن عبد العزيز العثيمين راثيًا المترجم بهذه القصيدة العظيمة، وهي من أعظم ما قيل فيه:
إلى الله في كشف الملمات أفزع
…
فليس لذا أرجو سواه وأضرع
ففي كل يومٍ للعباد رزيةٍ
…
وفي كل عامٍ في خيارنا يشرع
وأعظم بهذا الرزء وأي مصيبةٍ
…
كهذا سوى أن قيل مات المشفع
لقد مات عبد الله نجل محمدٍ
…
فتىً نحوه الأعلام للرأس ترفع
به انكسفت شمس العلوم فبعده
…
فمن نحوه في العلم يرفع أصبع
به فقد الناس الدعاة إلى الهدى
…
فمن بعده داعٍ إذا قال يسمع
به فقدوا فوق المنابر واعظًا
…
إذا يبد وعظًا في الخطابة مصقع
به فقدوا شيخًا فقيهًا مفقهًا
…
سيهجر إقناعٌ ومغني ومقنع
به فقدوا من حين تقرأ فروعهم
…
تقول له تصنيفها إذ يفرع
به فقدوا نحوًا فماضيه قد مضى
…
وفي قبره أضحى المضارع يضرع
به فقدوا شيخ الفرائض بعده
…
فمن ذا سهام الأنصباء يوزع
إذا أشكلت طرق الصواب فقوله
…
لمسترشد الفتياء في الحق مقنع
به صار روض العلم وألحق مزهرًا
…
وأرواحنا عن جهلها فيه ترتع
ربى في تقى فينًا وحسن عبادةٍ
…
وما صده مالٌ وما ضم برقع
إذا جئته جنح الدعاء وجدته
…
بمحرابه باب المهيمن يقرع
تلاوة آيات الكتاب شعاره
…
فما انفك عنها غير ماحين يركع
يلاقي بترحيبٍ وبشرٍ ورقةٍ
…
فلم تلقه إلا لذي الذل يخضع
وما نفسه يومًا أراد انتصارها
…
ولا عن ذوي الفقر اعتراه الترفع
ويمنع أهل الظلم أخذ مظالم
…
وعن ظلمهم لله قد كان يمنع
وعن ما أتى عن ربنا ورسوله
…
مشاغب أهل الزيغ قد كان يدفع
فأسيافه في البحث قاطعة الضبا
…
وجوهرها حد الصياقل يقطع
أبان عويصات المسائل كلها
…
وأوضح منها ما يسن ويشرع
إذا يتل تفسير الكتاب فقوله
…
على كل مقبولٍ وما رد يطلع
تنزه عن دنيا فلم تستفزه
…
بزخرفها أو في خداعها يخدع
وما مد عينًا نحوها إذ تبرجت
…
بلى إنه في الهجر للكل مولع
لقد نال أسباب السماء بعلمه
…
ينادي لمن رام الصعود إلّا ارجعوا
قفا أحمدًا قولًا وفعلًا فلو رأى
…
شوافعهم ذا الشيخ لم يتشفعوا
حوى العلم والعلياء والجود والتقى
…
وسار بهاتيك الفضائل مسرع
وليدًا حوى تلك الخصال جميعها
…
إلى يومنا من درها وهو يرضع
ختامٌ نقول إن أفاد نقولها
…
وإن يعزها في صدقه الكل أجمع
لقد حل في ذي العام مفقد عالمٍ
…
به الكرب للإسلام قد حل مفظع
أتيناه قصد الدرس نجني فوائدًا
…
محررةً في الدرس حين يفرعُ
فقيل لنا نجم الهداية قد هوى
…
من الأفق قوموا أيها الخلق شيعوا
فللحزنٍ للأذقان خرَّ جميعنا
…
وسالت لذاك الحزن في الخد أدمع
تنهد إبكار وصاح عجائٍّ
…
وحوقل أشياخٌ وأدهش رضع
حيارى من الأدهاش جلَّ مقالهم
…
إلهي بهذا الشيخ لا الخلق تفجع
إلهي قضيت الموت فادفع منيَّةً
…
ومن شوقنا في رد روحه نطمع
فلما تيقنا الممات من الأسى
…
عليه قلوب الناس كادت تقطع
وقمت أنادي في الطلول وأدمعي
…
تروي الثرى إذ منه واراه بلقع
سأبكيه في نطقي ودمعي وأنةٍ
…
إذا زفرت منها تكسر أضلع
أجاوب ورقاء الحمامة في البكا
…
ويغلبها صوتي أسًا حين تسجع
فلن أنس إذ حفت به جملة الورى
…
كبدرٍ به حف الكواكب طلع
ترنمت في إمداحه بحياته
…
فأطربت في إنشادها اذ أرجع
فلهفي إذا حولت تلك مراثيًا
…
أطوف بها هل ذاك في الرزء ينفع
ولهفي على فقدان شيخ ذوي النهى
…
فقد كنت حيرانًا فما ذاك أصنع
ولهفي فقد قل اصطباري فليتني
…
بردت غليلًا إن جزعت فأجزع
أعزي محاريب العلى بإمامها
…
فناظرها من فقده الدم يدمع
أعزي دروس الفقه بعد دروسها
…
فمقلتها من حزن، فقده تهمع
تنكرت الدنيا ولكن تعرفت
…
بطيب ثنا أبقاه في الخلق يسطع
وأقلامنا شقت عليه تأسفًا
…
على فقد خد الطرس كم فيه ترصع
بريدة فأبكي إن فخرك قد ثوى
…
بلحدٍ ولن يرجى لبدرك مطلع
بريدة للحزن السواد إلّا البسي
…
فعنك بذا أمر الملامة يرفع
به صرت في الأمصار تاجًا بمفرقٍ
…
فعادت تعزيك إذا التاج ينزع
جعلتي له الأحداق موضع رجله
…
فكيف سمحت أنْ ببطنك يوضع
قفوا خبِّرونا هل بنا اليوم مثله
…
وهل صار في الماضي بمثله يسمع
قفوا خبِّرونا أي شيخ مهذب
…
يقوم مقام الشيخ إن ذاك تدعوا
قفوا خبِّرونا من يشابه شيخنا
…
ومن كان من علم الهدى متضلع
قفوا خبِّرونا من يمازح طفلنا
…
سواه وجلباب الحيا متدرع
أهلنا عليها الترب آهي ولوعتي
…
فهل فيكم مثلي فتى يتوجع
أهالت عليه الترب في القبر راحتي
…
فما راحتي يدري لها اليوم موضع
تركنا علومًا في الثرى إذ ثوى به
…
وعدنا ببرقٍ خلبٍ حين يلمع
لقد مزج البحرين علمًا كذا ندى
…
فلهفي ضريح ماء بحريه يبلع
لئن نهبت أيدي المنون لجسمه
…
فذى سنة ما الموت في ذاك مبدع
فهذا طريقٌ كلنا له صائر
…
فذاك مضى قدمًا وذا ذاك يتبع
تسير قفول العالمين جميعهم
…
لذاك وللأرواح في الخلد مجمع
وإني لأرجو أن يكون مقامه
…
بعدنٍ إذا يبدو به يتشعشع
فيا ربِّ حقق ظن عبدك واقبلن
…
دعائي لذاك الشيخ فيها يمتع
وألحق محبًا قال ذاك بحبه
…
فعفوك من ذني وإن جل أوسع
لفقدان شيخي ليتني لم أكن
…
وإلا ففي لحدٍ ثوى فيه أوضع
فيا نوم عيني لا تلم بمقلتي
…
فعينٌ كعيني بالكرى ليس تهجع
ويا صبر فارحل ليس قلبي فارغًا
…
أصيب بأحزانٍ وحاشاه يقلع
ويا نار شوقي بالفراق تأججي
…
وعقربه قولي لها القلب نلسع
ويا نفس صبرًا فالتأسي لائقٌ
…
بموت الذي في كفه الماء ينبع
هو المصطفى زين النبيين أحمدٌ
…
شفيع الورى يوم الصحائف ترفع
عليه صلاة الله ما هبت الصبا
…
وما هل ودق فيه رعدٌ مقعقع
كذا الأهل والأصحاب أيضًا وتابعٌ
…
مضى على خلف وللأمر طيع
وأرخّ لشهرٍ في حبا من محرم
…
للعام طاب القبر فيه السميدع
وقد رثاه الأخ عثمان بن أحمد بن بشر، وعبد الرحمن بن عبد الكريم بن عودة بن محيميد، وقيل فيه شيء كثير من المديح أضربنا عن ذكرها لضيق الموضع، ولأن غالبها لم يتزن.
ثم إنها جاءت التعزية لأخيه وذريته وأقربائه من قبل صاحب الجلالة الملك عبد العزيز، وفي 25 من الشهر المذكور جاء الأمر السامي من قبله بتنصيب أخيه الشيخ عمر بن محمد قاضيًا في القصيم، فتولى الشيخ إمامة المسجد الجامع في بريدة واستمر في القضاء.
أما ذرية الشيخ عبد الله فكان له من الذكور محمد فقط، وكان صالحًا ناسكًا، توفى وهو شاب، وله بنات.
وممن توفى فيها من الأعيان والدنا السعيد وهذه ترجمته:
هو العارف العاقل الناسك السخي الكريم أبو عبد الرحمن عبيد بن عبد المحسين آل عبيد، ولد رحمه الله سنة 1267 هـ فنشأ في حجر والده -جدي- وكان في قلةٍ من الدنيا، ووافق ذلك حروبًا ومحنًا ومخاوف، وتوفى والده قبل زواجه لأن زواجه تأخر إلى واقعة المليداء، وكان ممن شهد الوقعة فعزم على أنه إذا رجع إلى وطنه سالمًا ليتزوجن، فتزوج وله من العمر أربعون سنة.
وكان رحمه الله حسن الكتابة، ولجودة خطه كان كاتبًا للأمير حسن بن مهنا
وقد يسير في رفقة الرجل المدعو الحصان خارص الأمير حسن، ومن زملائه في الكتابة محمد بن عيدان، كان والدنا يحدثنا أنه لم يكن في زمانهما أحسن منهما خطأ، فقدر أنه جاء أعرابي إليهما وجعل يسألهما هل يحسنان الكتابة؟ فازداد عجبهما به وكيف سولت له نفسه أن يبحث في هذا الموضوع حيث لم يدع القوس لباريها والسهم لراميها، فلما رأى الأعرابي أنهما ينكران علمه بالكتابة طلب قلمًا وورقة، ولما أن رأى القلم طلب أن يتولى هو بريه بنفسه، فأخذ سكينًا وبرى القلم مرتين وقطع في الثالثة رأسه -أعني القلم- وقال: أريد أن أكتب لكما فائدة، فكتب هذه الكلمات "الحمد لله الواحد القهار العزيز الغفار الملك الجبار" ثم ناولهما كتابته، فإذا هي آية في الحسن والجودة، وحقرا أنفسهما واستصغراها.
وكان والدنا رحمه الله جوادًا كريمًا محسنًا إلى الناس، شكورًا لنعم الله تعالى، ولقد أعطاه الله بسطةً في الرزق وسعة من المال في النصف الأخير من عمره، فكان يتمنى أن لو كان ذلك في حياة والده ليواسيه ويوسع عليه، وكان يأكل من كسب يده وعنده ثروة عظيمة، ويبذل الأموال في سبيل الخير والإحسان وصلة الأقارب، وله مقامات في الإحسان.
سمع مرة وهو جالس في دكانه رجلين يختصمان فاستمع إلى كلاهما فإذا قد اشترى أحدهما ناقة من صاحبه ولم يجد لها ثمنًا، وقد تبعه صاحبها يقول: ناقتي أو ثمنها وجعل المشتري يسائله بالله أن يصبر حتى يأتيه الله برزقٍ من عنده، فإنه لا يجد في الحال الثمن، فتعلق به صاحبها وأخذ خطامها من يده، فوقف المشتري مقهورًا لأن الناقة لها موضع عنده وما لديه قيمة لها، فقام الوالد وعد قيمتها "وكانت 130 ريالًا" فرنسيًا وجعلها في كيس وخرج يقول أين المشتري؟ خذ القيمة وادفعها إليه واذهب بناقتك، هذا وما كان يعرف البائع ولا المشتري غير أنه أحب أن يفرج عنه كربته ويبرد حرارة الطلب وحملته الأنفة العربية والمروءة الإنسانية إلى تلك الأريحية، وجادت يمينه أن تقرضه وهو لا يعرف شخصه، وكان يقول: يا ليتني سألته عن اسمه ومن أي جهةٍ كان.
وكنت أظن أن الله رد عليه قرضه بعد ثلاثة أشهر، ولما دفع الرجل إلى الوالد هدية جزاءً له على إحسانه ومعروفه ردها وأبى أن يقبلها.
ولقد أسكن أخاه وأخته في أبيات حسنة وجعل ينفق عليهما، ولما ماتا قبله طلب منا أن لا نضايق الذرية في إخراجهم من البيوت ما داموا محتاجين إلى السكنى، ولما وقعت المسغبة التي قدمنا ذكرها كان إذا خرج من بيته إلى السوق يحمل على رأسه الزبلان فيها التمر والدقيق يوزعه على من مرَّ به من الواقعين على ظهر الأرض من الجوع.
وكان يخرج إلى أصحابه وغرمائه فيحمل على دابتين طعامًا وكسوةً ولحمًا وقهوةً وسكرًا يكفي من يخرج إليه ضيافة ويزيد إلى ممر الأسبوع.
وأهدى له بعض أصحابه حمل بعير عشبًا طيبًا وجعل في أعلى الحمل جذعًا عظيمًا من الحطب الغضى، وكان يعجبه الشيء الحسن، فلما ورد عليه أعجب به وجعل ذلك الجذع فرجةً لأصحابه، ثم إنه دعا برسول المهدي وكان ابنه فناوله كسوةً لجميع عائلتهم ونصف ذبيحة كبش وقهوة وسكرًا وأرزًا وعشرة ريالات فرنسية، وكان الحمل لا يساوي خمس ذلك الجزاء.
وبعث أمير بريدة إلى فلاح يأمره أن يحمل إليه جميع ما لديه من الخضرة فإن عنده مائدة ضخمة، فقام الفلاح وحمل ما لديه على حمار قوي وأمر أكبر أبنائه أن يقصد به قصر الإمارة فتقفاه ابنه وأتى به إلى الوالد يقول هذا هدية من أبي فلان فأخذه الوالد وشدَّ على الحمار ما يطيقه من الحمل أرزاقا وكسوةً، فرجع الفتى إلى أبيه فسأله لما رأى الجزاء: قال يا بني أخزاك الله إلى من ذهبت به إليه؟ فأجابه قائلًا "عمنا عبيد" أما كنت بعثتني إليه؟ فتراجع الأب عندما رأى الأرزاق بين يديه وقال: أتدري يا بني أصبت والله في صنيعك ذلك، فقال له: يا أبت إنك غاوٍ في رأيك تريد بعثه إلى الأمير فلعله يسخطه ويستقله، وانظر الآن ما قابلك به هذا الجواد.
ودخل عليه مرةً رجل أشمط عليه سيماء الصلاح وأنا حاضر عنده في وقت المساء فسأله عن اسمه فعرفه الوالد بنفسه فقال: إني كنت البارحة نائمًا في سطح مسجد جامع بريدة فأتاني ملكان جلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال لي أحدهما: بشر عبيد بن عبد المحسن بالجنة فقال الملك الآخر بم نال ذلك،
فأجابه الملك الأول بقوله: "أفلا يكون عبدًا شكورًا" فدعا له الوالد وذكر له أنه قد تكرر رؤية ذلك قبلها، ونسأل الله أن يمن علينا وعليك بفضله.
وكنت أشاهد من أعماله وأخلاقه الطيبة ما يرجى له معه الفوز بالجنة والنجاة من النار، فقد لبث عشرين سنة لا يصلي إلا خلف الإمام في الصف الأول فلا تفوته تكبيرة الإحرام، وله عادات مستحسنة: فكان يفطر الصوام في شهر رمضان، ويطعم المعتكفين في العشر الأواخر منه، وقد يضحي بسبع ضحايا لنفسه وأقربائه، وكان مكرمًا لأنجاله وأحسن تربيتهم وقدمهم لتعلم القرآن والسنة، وإذا رأى منهم مجتهدًا فرغ باله وقد كفاهم مؤونة الدنيا، وزوج البالغين، وقام بحجهم فجزاه الله خيرًا، وكان له ذوق في شراء الكتب الدينية وتقديمها لهم ويطالع، وكان مولعًا بتلاوة القرآن ويحب الصوت الحسن وقد يجعل جائزة لمن حفظ من أبنائه القرآن عن ظهر قلب، ويحب الشعر النبطي، ويلهج بالحكمة، وكانت وفاته في آخر رمضان من هذه السنة وخلف أبناء صالحين، فمنهم: الشيخ عبد المحسن وسيأتي ذكر ترجمته، وأما الشيخ عبد الرحمن فقد توفى قبله ومرَّ شيء من ترجمته، ومنهم المؤرخ وغيرهم، وتوفى قبله عبد العزيز، وكان له خمس بنات، مات عن أربع منهن، وغالب ذريته كانوا صالحين.
وممن توفى فيها من الأعيان: سادن الكعبة "عبد القادر الشيبي، (1) وهذه ترجمته:
(1) الشيبي نسبةً إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: شيبة بن عثمان بن عبد الدار بن قصي القرشي العبدري الحجي المكي يكنى أبا عثمان وقيل أبا صفية، وأبوه عثمان بن أبي طلحة يعرف بالأوقص، قتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم أحد كافرًا، أسلم شيبة بن عثمان يوم فتح مكة وشهد حنينًا وقيل أسلم بحنين ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة بن أبي طلحة وإلى ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وقال: خذها خالدة تالدة إلى يوم القيامة يا بني أبي طلحة لا يأخذها منكم إلّا ظالم، قال ابن عبد البر: شيبة هذا هو جد بني شيبة حجة الكعبة إلى اليوم دون سائر الناس أجمعين وهو أبو صفية بنت شيبة توفى في آخر خلافة معاوية سنة 59 هـ وقيل بل توفى في أيام يزيد.
هو الشيخ عبد القادر بن علي بن محمد الشيبي، ولد سنة 1271 هـ وتولى سدانة الكعبة سنة 1335 هـ كان شهمًا همامًا وديعًا سموحًا له إقبال على الناس، محبًا للخير وجيهًا، وقد باشر عدة وظائف منها: رئاسة مجلس الشيوخ في عهد الملك الشريف الحسين بن علي، وترأس عدة مجالس في حكومة جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن، وكانت له منزلةٌ عالية لدى الملك، ومكث رئيسًا للسدنة ست عشرة سنة إلى أن توفى في اليوم العاشر من شهر رمضان في هذه السنة، وكانت وفاته بمكة المكرمة وعمره ثمانون سنة، ثم تولى بعده السدانة محمد بن محمد صالح بن أحمد بن محمد بن زين العابدين الشيبي، وذلك من الغد، والمترجم هو الذي سلَّ على عنقه سيف الإخوان البدو في واقعة الطائف.
وفيها وفاة شاعر النيل أحمد شوقي، كان من أشعر الشعراء في زمانه، وله ديوان شعر.
وفيها وفاة الدويش، وهو فيصل بن سلطان الدويش الشهم البطل الغاشم، كان في بادئ أمره من قواد الجيوش السعودية، وكان لا يهاب الموت ويلقي بإخوانه المهاجرين إلى التهلكة.
وكان صاحب الجلالة يسيره للغزوات، وقد يسير هو من تلقاء نفسه، نازل سالم بن صباح في واقعة الجهراء وشوهد منه إقدام غير أنه انخدع له، وكذلك أيضًا لما نازل محمد بن طلال في فتح حائل شوهد منه جراءة وشجاعة كسر لأجلها جيش ابن طلال غير أنه انخدع له أيضًا، ولكنه كثير التقلب، شديد الإعجاب بنفسه مع ما فيه من الغشمة والنفاق، غره غلو أهله وقومه فيه لأنهم يرونه "المنجنيق" الذي يبيد الأعداء ويفرق الجموع، ولقد رعب بشراسته وفتكه أهل العراق والكويت، وآخر ذلك ثار على الحكومة فأحاط الله به وصرعه بغيه، فالتجأ إلى أبي حنيك في العراق بعدما خذله الله تعالى، وبعدما أكد ابن سعود على بريطانيا أن تحضره بين يديه أو تسمح له بمطارته، رأت أنه لا بد من ذلك فخدعوه وأخذوه في طائرة ليبعثوا به إلى لندن فيأمن من ابن سعود، وبينما يتطلع إلى لندن إذا به أمام مخيم ابن سعود، فاعتقل في سجن الرياض إلى أن توفى في هذه السنة بعد ثلاث سنين قضاها في السجن.