الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على يقين أن كتابكم الذي وصلنا لم تحرروه إلّا مرغمن وعلمنا من فحواه أن العدو لم يضطركم إلى هذا إلا لضعفه وعجزه، إنني لم أترك مكة إلا لأمرين: أولهما: عدم القتال فيها حرمة لها، والثاني: حفظكم من مثل ما حصل في الطائف، وإني عاهدت الله على الموت في سبيلكم وإنقاذكم بعون الله فاصبروا، صبر الكرام، وقريبا إن شاء الله يكون الاجتماع بكم في حرم الله على أسر حال.
وقد شكا الأهالي إلى السلطان عبد العزيز تضييق الإخوان على الناس، وشتمهم خصوصا أهل الغطغط يخاطبون من يدخن بقولهم: يا مشركين وقد يضربون المدخن في بعض الأحيان، فطيب بالهم السلطان، ولكنه سمع من الإخوان مسوغا لذلك "يا الإمام إنهم يدخنون يشربون التتن يا عبد العزيز ولا يصلون" فأمر السلطان بالمنع من الضرب والشتم، ولما أن جعل السلطان خالد بن لؤي على شؤون الإخوان، جلس خالد أميرا في مكة، كما أنه جعل الشريف هزاعا على بدو الحجاز، وجعل كذلك حافظ وهبه بينه وبين أهالي مكة وجعل مقره في الحميدية، وفرغ ابن سعود من الشؤون الداخلية تفرغ للشؤون الخارجية.
ذكر المفاوضات بين ابن سعود ووسطاء الصلح
قد قدمنا أن الشريف حسينا قبيل سقوط الطائف عين وزير خارجيته فؤاد الخطيب سفيرا لدى حكومة إيران فبادر السفير الجديد إلى التأهب للسفر مسرورا بوظيفته هذه، وما سافر عن طريق البحر من جدة مصحوبا بكاتب سره وترجمانه ومرافقه كلها من عبيد وغيرها، ووصل إلى عمان في طريقه إلى بغداد فطهران حتى وصلته دفعة واحدة أخبار الحجاز كلها فجاءه بعد ذلك أمر من الحكومة الجديدة، حكومة علي أن يرجع إلى وظيفته السابقة، فحدثته نفسه أن يسعى في السلم بين نجد والحجاز سعيا موفقا، واتفق ببعض الأذكياء وهو أمين الريحاني فتفاوضا ثم اتفقا بالأمير عبد الله في مقر بعمان، فرغب بالتوسط بين أخيه وعظمة السلطان، ووافق لذلك برقية جاءت لفؤاد الخطيب من الملك علي لذلك الموضوع فقبل
الريحاني، وظن الأمر قد تعين عليه فسافرا إلى السويس، ثم إلى جدة في اليوم الذي هو 7 ربيع الثاني، فوجد المستر فلبي رسولا قد سبق إليها.
إن فلبي هو المستعرب الإنكليزي وقد يكون مندوبا من الحكومة البريطاية للتوسط بين الملكين، ولكن المعتمد الإنكليزي بجدة "المستر بولارد"، قد كذب ذلك بل حقق أنه متطوع بالصلح لا موفدا فأعجب الشريف عليا وساطة فلبي، قائلا: هو صديق لابن سعود وصديق لنا وقد عرض فلبي سعيه بواسطة وكيل الحكومة العربية السابق بلندن فقبلت، ثم قدم إلى جدة رسول آخر هو "طالب النقيب" الذي كان يومئذ في الأسكندرية، وطالب هذا قد مر ذكره في هذا التاريخ، ويعتبر صديقا لابن سعود، فإذا كان ابن سعود لا يقبل وساطة فلبي ولا غيره، فلا بد أن يأذن بالزيارة في الأقل لمن اجتمع به مرارًا في الكويت وفي البصرة، وكان ضيفه في القصيم، وتوسط بينه وبين الترك، وهو صديقه طالب النقيب وقد تدخل في عرض الصلح غير هؤلاء كالإمام يحيى، ووفد الهند، والسنوسي، وإمام مسقط، وإمام عمان، وسليمان الباروني، وحكومة إيران، وحكومة مصر، ذلك لأن حكومة علي لما يئست من تدخل بريطانيا رغم صلة الملك فيصل والأمير عبد الله بها عمدت إلى بعض الشخصيات المحبوبة لدى ابن سعود تناشدها الوساطة في الأمر؛ فلبى نداءها من العراق طالب النقيب ومن الشام الأديب الريحاني ومن شرق الأردن المستر فلبي، وهؤلاء منهم من جاء مدفوعًا بدافع العاطفة فقط، ومنهم من جاء موفدا رسميا من قبل حكومته أو بإيعاز من الشريف علي لأن جلهم من أولى الشخصيات البارزة في العالم، هذا وقد تم خط الدفاع حول جدة بما فيه من الاستحكامات والمتاريس والخنادق والأسلاك الشائكة والألغام، وكان على شكل هلال طوله من البحر إلى نحو ستة أميال؛ وكان الملك علي قد استعاد شيئًا من الأمل والاطمئنان بل كانت ثقته بالفوز سلمًا أو حربًا تزداد يوما فيومًا مع ازدياد الجيش النظامي وقوته لأن والده وأخاه عبد الله يبذلان له المال والهمة في الدفاع عن الحجاز قد اشترى بعض الأسلحة من الخارج كطيارات ودبابات ومدافع وذخيرة،
واجتمعت لديه قوة، وبينما صاحب الجلالة والمهابة عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل يجهز جنوده ويستعد لمهاجمة جدة وإنهاء الموضوع، إذا بكتاب القناصل في جدة يصل إليه.
من ممثل الدول "الموقعين أدناه" إلى حضرة صاحب العظمة عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود سلطان نجد الأكرم بعد تقديم واجبات الاحترام قد وصلنا كتابكم المؤرخ في 24 ربيع الثاني عدد 114 وما ذكرتموه صار معلوما لدينا، أما بخصوص الاقتراحات المتعلقة بحفظ رعايانا وتأمينهم من خطر الحرب نرى من اللازم أن نذكر عظمتكم بأن احترام رعايانا مبني على حقوق دولة متبعة في أيام الحرب فبناءًا عليه ندعوكم باسم حكوماتنا جميعها إلى احترام أشخاص رعايانا مع أموالهم وإلا تكونون مسؤولين بجميع ما يقع عليهم في أي وقت كان وفي أي مكان كان، أما بخصوص الكتاب المرسل باسم أهل جدة فنحن لا يمكننا تسليمه نظرا لقاعدة الحياد التي نتبعها والتي لا تسمح لنا بالتدخل في أي وجه كان فعليه نعيده إليكم، وفي الختام تقبلوا فائق الإحترام:
القائم بشئون القنصلية الفرنسية - وكيل قنصل جلالة شاه إيران.
معتمد وقنصل بريطانية العظمى - قنصل جنرال ملك إيطالية.
وكيل قنصل هولانده.
وجاءت أيضًا كتب رجال الصلح مع كتاب القناصل من طالب؛ وفلبي، والريحاني، أما كتاب ابن سعود الذي بعثه لأهل جدة بواسطة القناصل ورجع اليه فما كان بحاجة إلى القناصل في إبلاغهم، بل قد نشر رسميًا في جريدة أم القرى، ولقد تضجر ابن سعود من كتاب القناصل الذي كالتعجيز في تحميله المسؤولية يتغلغلون في وسط المدينة ويحملونه المسؤولية، كما تضجر أيضًا من كتب رجال السلم وقطب منها، غير أنه رأى من الأصلح أن يصدهم عن هذا الغرض، فهتف الهاتف يكلم من القشلة للحارس على الباب الشرقي لخط الدفاع؛ عاد النجاب من مكة ومعه كتب إلى القناصل، وإلى طالب والريحاني وفلبي، فكلم بالهاتف رئيس
الديوان الهاشمي بالقصر، عاد النجاب فبادروا إلى القصر وأدخلهم الحاجب غرفة الملك علي الخاصة، فاستقبلهم وزير الخارجية ودخل الملك علي معه ثلاثة كتب مختومة، فوزعها عليهم وقرأ كل واحد كتابه وأعاده، ثم اطلع بعضهم بعضًا على الكتب وهم ساكتون، وهذه صور الكتب التي بعثها السلطان (إلى الصديق العزيز المستر فلبي إذا كنتم حضرتم لمقابلتنا ومباحثتنا في بعض الشؤون الخاصة بنا، فعلى الرحب والسعة وسنسهل الطريق للاجتماع بكم خارج الحرم، أما إذا كنتم تنوون التدخل في مسائل الحجاز فلا أرى في البحث فائدة وأنه ليس من مصلحتي الخاصة ومصلحتك يا صديقينا، جعلكم وسيطا في هذه المسألة الإسلامية المختصة).
حضرة الأخ المحترم السيد طالب النقيب، لقد ذكرتم أنكم تودون مقابلتنا فنحن نرحب بكم ولكن يجب أن نعرف هل المقابلة شخصية ودية أم هي الوساطة، فإني لا أرى فائدة من ذلك وإذا كان الشريف علي يود حقن الدماء فعليه أن يتخلى عن جدة، أما إذا قبله العالم الإسلامي وانتخبه حاكمًا فمحله غير مجهول).
وقال في كتابه إلى الريحاني ذكرتم أنكم من قبل جماعة في سوريا، وأنكم تحملون كتابًا منهم إلينا وإني أرحب في كل حال بصديقنا العزيز أمين الريحاني، ولكن أحب أن ألفت نظركم إلى أمر هام وهو إذا كان البحث يتناول المسألة الحجازية فلا أرى فيه فائدة، لأن مشكلة الحجاز يجب أن يحلها المسلمون، وترك الأمر لهوى أنفسنا ليس مما تجيزه المصلحة الإسلامية ولا العربية، وفي كل حال إن توضيح الأمر وجلاءه قبل المقابلة.
هذه أجوبة السلطان، وهي عبارة عن أن لا سبيل للتوسط، فأما فلبي فتأكد أن السلطان لا يوقف في طريقه، وجعل ينتظر أول باخرة للسفر وكتب يودع السلطان، وأما طالب فبقى فيه بقية أمل حيث لا يعدم في الأقل لو الزيارة لابن سعود في مكة بحجة أنه مسلم ومتى حصلت المواجهة فهي نصف الحجة؛ وأما الريحاني فإن السلطان قد ترك له الباب مفتوحًا، ولما طلب النقيب الزيارة ملحًا بإسراع لأنه مضطر أن يعود إلى مصر استراب لذلك بعض أصدقاء علي
وقال أن السيد طالب النقيب خصم الملك فيصل أخي علي وصديق لابن سعود فلا يستغرب أن يتفقا عليهما.
وقد كتب الريحاني كتابًا إلى السلطان، يقول إن لصديقي حسين العويني التاجر السوري في جدة علاقات تجارية في مكة المكرمة وهو يحضر للتجارة والزيارة فيتشرف بمقابلتكم إذا أذنتم وسينوب عني بما يغني عن البيان، فإذا أذنتم بقدومه مروا من يلاقيه إلى منتصف الطريق، وكتب الآخران ثم أرسلت الكتب إلى السلطان في 12/ 5؛ فما جاء لها من رد أسبوعا كاملًا فأرسل علي إلى رجال الصلح فحضر الثلاثة عنده في مجلسه، ولما أن حضروا افتتح الكلام قائلًا: دعوتكم لأبسط الحالة واستشيركم قد جئتم أيها الأفاضل إل جدة لخير الفريقين بل لخير العرب ويسوءني والله أن تمس كرامتكم من أجل أحد منا، أنا والله مخجول، قد مر الأسبوع ولم يجئكم الجواب من ابن سعود والرجل متحرك فهو الآن يفسد القبائل علينا ورجاله منعوا عرباتنا من إرسال الفحم كالعادة إلى جدة ونحن هنا ماسكون أنفسنا، خط الدفاع يزداد منعة كل يوم وجنودنا مستعدون للحرب والطيارات كلها أصبحت صالحة للعمل لذلك قد قررنا أن نرسل غدًا بلاغًا إلى أهل مكة بالطيارة ثم نرسل سرب الطيارات لرمي القنابل في الأبطح عل ذلك يوصلنا إلى نتيجة فاصلة وقد دعوتكم لأستشيركم في المسألة، فقال طالب النقيب أولًا فهل قنابلكم صالحة هل أنتم متأكدون أنها تنفجر فإذا كانت قديمة ولا تنفجر تعود بالضرر عليكم فلا يخشى العدو بعدئذ الطيارات يجب أن تجربوها قبل أن تقدموا على العمل، ثم تكلم فلبي قائلًا: من رأيي يا جلالة الملك أن تنتظروا إلى أن يجيء الجواب ومثل هذا العمل الحربي قبل ذلك في الأقل لا يأتي بفائدة، كذلك أشار الريحاني بأن رمي القنابل بالأبطح يشوه سمعة الأشراف في العالم وتنشره الجرائد المعادية بالقلم العريض فاقتنع علي أنه دام على فكرته أن الطيارات تخرج ابن سعود من مكة وتحمله على الفصل في الأمر فطلبوا منه تأجيل العمل ثلاثة أيام
فأجاب الطلب.
والذي حمل الملك عليًا على هذا الغرور كأنه آنس من جواب ابن سعود للريحاني لينًا، فلما كان في 25 من جمادى الأولى صباحًا قدم النجاب يحمل الأجوبة من السلطان فيها لفلبي الدعاء بالسفر الميمون بأمان الله وللأخ طالب أن مكة في حال من الاضطراب لا تجوز معها المخاطرة براحته وستصلكم وأنتم في مصر أخبارنا الطيبة إن شاء الله، وفيها للريحاني قد سمحت لصديقكم حسين العويني بالقدوم إلينا فزودوه بكل ما لديكم من الكتب والأفكار والأراء وإننا نرجوا أن يحسن نقل أفكار صديقنا أمين الريحاني وإني أشكرك على تجشمك المشاق الجسيمة في خدمة العرب وفي سبيل قضيتهم فسر ذلك جميع القادة والوزراء والملك عليًا والجند وإن كانوا لا يرغبون السلم واستبشروا فكتب الريحاني مع صديقه مذكرة خاصة من ضمنها بعض آرائه وقال في آخرها فإن كنت مصيبًا فمولاي وصديقي عبد العزيز لا يتبع غير الصواب وإن كنت مخطئًا فحبي وإخلاصي يشفعان بما قد يعد نقصًا في علمي أما إذا كان فيما قدمته مزيج من الخطأ والصواب فأنا أول من يرغب في التمحيص وإني أقبل الحقيقة من السوقة فكيف لا أقبلها من الملوك، أعلموني يا طويل العمر إذا كنت مخطئًا واسمحوا لي إذا كنت مصيبًا، وزود ذلك بخطاب من وجهاء المسلمين في بيروت.
ولما تجهز العويني أحرم وأشفقوا عليه من البرد خصوصًا إذ كان سفره بليل وأبى أن يذهب إلا محرمًا يقول لوجه الله وللقضية العربية وأعطى رفيقه الريحاني ساعة الوداع غلافًا مختومًا فقال إذا لم أرجع يا أمين فهذا الغلاف لأمي في بيروت فخيف عليه من الطوارق، وكان أديبًا عربيًا صريح الكلمة صادق اللهجة صلب العود، وودع الملك وركب بغلته يصحبه خادمه ورفيقاه، هذا ولم تكن الطريق آمنة فقد لقي في قهوة بحرة المهجورة حينما ألجأهم المبيت بها نصف الليل جثة أعرابي قد سال دمه على الأرض وفرغ منه فاستولى عليهم الذعر فقام ومن معه وأدلجوا مسرعين فوصلوا من الغد وقت الظهر إلى المخيم السلطاني بالشهداء، وكان قد نقل من الأبطح إلى الشهداء فاجتمع مع السلطان ورجع في ظرف ثلاثة أيام ذهابًا وإيابًا.